الفصل الثامن

إِهْمَالُ ثرثار

إِذَا أَهْمَلْتَ وَلَوْ فِي صَغَائِرِ الْأُمُورِ،
طَرَقَتِ الْمَتَاعِبُ بَابَكَ.

يَبْدُو أَنَّ بَعْضَ الْأَشْخَاصِ لَا يَعُونَ ذَلِكَ الدَّرْسَ أَبَدًا. فَقَدْ تَتَخَيَّلُونَ بَعْدَ كُلِّ الْمَتَاعِبِ وَالْهُمُومِ الَّتِي مَرَّ بِهَا ثرثار، أَنَّهُ سَيَكُونُ قَدْ تَعَلَّمَ الدَّرْسَ. وَبَدَا لِبُرْهَةٍ وَكَأَنَّهُ لُقِّنَ دَرْسًا. فَصَبَاحًا تِلْوَ الْآخَرِ — وَقَبْلَ اسْتِيقَاظِ أَيٍّ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ الْمُزَارِعِ براون — كَانَ يَزُورُ صَوْمَعَةَ الذُّرَةِ لَدَى الْمُزَارِعِ براون، بَاذِلًا قُصَارَى جُهْدِهِ؛ لِكَيْلَا يَرَاهُ أَحَدٌ، وَلِكَيْ يَعُودَ إِلَى بَيْتِهِ فِي الْبُسْتَانِ الْقَدِيمِ قَبْلَ أَنْ يَحِينَ وَقْتُ خُرُوجِ ابْنِ الْمُزَارِعِ براون لِمُزَاوَلَةِ أَعْمَالِهِ الصَّبَاحِيَّةِ. وَفِي الصَّوْمَعَةِ حَرَصَ أَشَدَّ الْحِرْصِ عَلَى أَلَّا يَسْرِقَ إِلَّا مِنْ حَيْثُ لَا يُمْكِنُ مُلَاحَظَةُ غِيَابِ مَا أَخَذَهُ. أَمَّا الْقَوَالِحُ الَّتِي أَكَلَ مِنْهَا الذُّرَةَ فَكَانَ يُخَبِّئُهَا فِي رُكْنٍ رَكِينٍ وَرَاءَ كَوْمَةِ الذُّرَةِ الصَّفْرَاءِ الْهَائِلَةِ. آهِ! كَمْ كَانَ دَاهِيَةً وَمَكَّارًا ذَاكَ السِّنْجَابُ الْأَحْمَرُ ثرثار، فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ.

وَلَكِنْ بَعْدَ بُرْهَةٍ — حِينَ لَمْ يَحْدُثْ شَيْءٌ — صَارَ ثرثار مُهْمِلًا؛ فَفِي أَوَّلِ الْأَمْرِ بَدَا الذَّهَابُ إِلَى صَوْمَعَةِ الذُّرَةِ أَمْرًا شَدِيدَ الْخُطُورَةِ، وَلَكِنْ بَعْدَ تَرَدُّدِهِ عَلَيْهَا، لَمْ يَبْدُ الْأَمْرُ خَطِيرًا بِالْمَرَّةِ. وَكَانَ مَا إِنْ يَدْخُلْ يَتَفَرَّغْ لِلِاسْتِمْتَاعِ بِوَقْتِهِ؛ فَكَانَ يَجْرِي فِي أَرْجَاءِ كَوْمَةِ الذُّرَةِ الصَّفْرَاءِ الْجَمِيلَةِ الْهَائِلَةِ، وَيَكْتَشِفُ فِيهَا أَحْلَى الْمَخَابِئِ. وَبِالْأَسْفَلِ فِي رُكْنٍ قَصِيٍّ صَنَعَ فِرَاشًا رَائِعًا مِنْ أَجْزَاءِ الْقِشْرِ الَّتِي لَمْ تُنْتَزَعْ مِنْ عَلَى بَعْضِ الْأَكْوَازِ. فَكَانَ ذَلِكَ إِلَى حَدٍّ بَعِيدٍ هُوَ أَلْطَفَ مَكَانٍ حَلَمَ بِهِ؛ أَيْ صَوْمَعَةُ الْمُزَارِعِ براون. وَوَصَلَ بِهِ الْأَمْرُ إِلَى حَدِّ الشُّعُورِ بِأَنَّهَا كَانَتْ مِلْكَهُ وَلَيْسَتْ مِلْكًا لِلْمُزَارِعِ براون عَلَى الْإِطْلَاقِ.

وَكُلَّمَا نَمَا ذَلِكَ الشُّعُورُ، زَادَ ثرثار إِهْمَالًا. فَكَانَتْ تَسْقُطُ مِنْهُ مِنْ حِينٍ لِآخَرَ حَبَّةُ ذُرَةٍ وَيَتَكَاسَلُ عَنِ النُّزُولِ لِالْتِقَاطِهَا، أَوْ لَا يُبَالِي بِهَا أَسَاسًا. وَكَانَ ابْنُ الْمُزَارِعِ براون — حِينَ يَأْتِي كُلَّ صَبَاحٍ لِجَلْبِ الذُّرَةِ مِنْ أَجْلِ الدَّجَاجِ — يُلَاحِظُ تِلْكَ الْحَبَّاتِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يَفْتَرِضُ أَنَّهَا سَقَطَتْ مِنَ الْأَكْوَازِ أَثْنَاءَ نَقْلِهَا. ثُمَّ كَانَ أَنْ أَسْقَطَ ثرثار ذَاتَ يَوْمٍ كُوزَ ذُرَةٍ كَانَ قَدْ أَكَلَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الذُّرَةِ. وَكَانَ يَنْوِي أَنْ يَلْتَقِطَهُ وَيُخَبِّئَهُ، كَمَا خَبَّأَ الْأَكْوَازَ الْأُخْرَى، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَرْغَبْ فِي ذَلِكَ وَقْتَئِذٍ. وَفِيمَا بَعْدُ نَسِيَ الْأَمْرَ بِرُمَّتِهِ. نَعَمْ، نَسِيَ الْأَمْرَ بِرُمَّتِهِ حَتَّى بَلَغَ بَيْتَهُ فِي الْبُسْتَانِ الْقَدِيمِ.

فَفَكَّرَ ثرثار قَائِلًا: «آهِ! حَسَنًا، لَا بَأْسَ. يُمْكِنُنِي أَنْ آتِيَ بِهِ وَأُخَبِّئَهُ صَبَاحَ غَدٍ.»

وَإِنَّ الْعُثُورَ عَلَى كُوزِ ذُرَةٍ مُلْقًى لَيْسَ بِالْأَمْرِ الْخَطِيرِ. وَكَانَ ابْنُ الْمُزَارِعِ براون يَعْلَمُ مَكَانَ كَوْمَةٍ كَامِلَةٍ مِنَ الْأَكْوَازِ. وَكَانَ يُضِيفُ إِلَى تِلْكَ الْكَوْمَةِ كُلَّ يَوْمٍ، بَعْدَ فَرْطِ مَا يَكْفِي مِنَ الذُّرَةِ لِلدَّجَاجَاتِ؛ لِذَا قَدْ يَبْدُو أَنَّهُ لَيْسَ فِي كُوزِ الذُّرَةِ مَا قَدْ يَجْعَلُهُ يَشْعُرُ بِالْقَلَقِ مِثْلَمَا شَعَرَ ذَلِكَ الصَّبَاحَ، عِنْدَمَا أَبْصَرَ الْكُوزَ الَّذِي تَرَكَهُ السِّنْجَابُ الْأَحْمَرُ ثرثار. وَلَكِنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ سَبَبٍ لِوُجُودِ كُوزِ ذُرَةٍ مَأْكُولٍ دَاخِلَ صَوْمَعَةِ الذُّرَةِ، وَفَجْأَةً بَاتَتْ حَبَّاتُ الذُّرَةِ الْمُتَنَاثِرَةُ تَحْمِلُ لَهُ مَعْنًى جَدِيدًا.

فَقَالَ مُتَعَجِّبًا: «هَا هَا! إِذَنْ فَقَدْ كَانَ ثَمَّةَ لِصٌّ هُنَا! كُنْتُ أَظُنُّنَا فِي مَأْمَنٍ مِنَ الْجِرْذَانِ وَالْفِئْرَانِ، وَلَا أَدْرِي الْآنَ كَيْفَ دَخَلَتْ؛ فَأَنَا لَا أَدْرِي — حَقًّا لَا أَدْرِي — كَيْفَ تَمَكَّنَتْ مِنْ تَسَلُّقِ الْأَرْجُلِ الْحَجَرِيَّةِ لِلصَّوْمَعَةِ. وَلَكِنْ لَا شَكَّ فِي أَنَّ كَائِنًا حَادَّ الْأَسْنَانِ كَانَ هُنَا. لَا بُدَّ أَنِّي تَرَكْتُ الْبَابَ مَفْتُوحًا بَعْضَ الْوَقْتِ، وَانْسَلَّ جُرَذٌ إِلَى الدَّاخِلِ. وَالْآنَ سَأَخْرُجُ فِي إِثْرِكَ يَا سَيِّدُ جُرَذُ أَوْ يَا سَيِّدُ فَأْرُ. لَا يُمْكِنُنَا إِبْقَاؤُكَ فِي صَوْمَعَتِنَا.»

وبَعْدَهَا دَخَلَ إِلَى الْمَنْزِلِ. وَسُرْعَانَ مَا عَادَ مُمْسِكًا مِصْيَدَةَ جِرْذَانٍ فِي يَدٍ وَمِصْيَدَةَ فِئْرَانٍ فِي الْأُخْرَى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤