الفصل الثاني

(١) وَساوِسُ الْحُزنِ

ومَضَتِ الْأَيَّامُ بَطِيئَةً ثَقِيلَةَ الْخُطَى، لِأَنَّ أَيَّامَ الشَّقاءِ تَمُرُّ — لِطُولِها — كأَنَّها سَنَواتٌ، وأيَّامَ السَّعادةِ تَمُرُّ مُسْرِعَةً كأَنَّما هِيَ لَحَظاتٌ.

وتَرَقَّبَتِ الزَّوْجُ أَنْ يَعودَ إليْها زَوْجُها أوْ يُرْسِلَ إليْها رسولًا من قِبَلِهِ، فَلَمْ تَظْفَرْ مِنْ ذلكَ بِطائِلٍ. فَساوَرتْها (بادَرَتْها وأسْرَعَتْ إليْها) الْهُمومُ والْهَوَاجِسُ، وخَشِيَتْ أنْ يَكونَ مَريضًا، أوْ نادمًا علَى تَسَرُّعِهِ في الزَّواجِ، وإلَّا فما بالُهُ لَمْ يَفِ بِوَعْدِهِ لَها!

ولَمَّا طالتْ غَيْبَتُهُ شاركَها والِدُها قَلَقَها على زَوْجِها وقال لها: «إنَّ واجِبَ الزَّوْجِ يَحْتِمُ عَلَيْكِ أَنْ تَفِي لِزَوْجِكَ حتَّى تَبْرَئِي مِنَ التَّقْصِيرِ في أداءِ هذا الواجِبِ. ولَوْلا أنَّني لا أسْتَطِيعُ مُبارحةَ الصَّوْمَعَةِ، لَذَهَبْتُ مَعكِ إلَى قَصْرِهِ.»

(٢) رِحْلَة «ساكُنْتالا»

فَلَمْ تَجْرُؤْ عَلَى مُخالَفَةِ أبيها. عَلى أنَّ قَلْبَها كانَ يُحَدِّثُها بِشَرٍّ كَبيرٍ: أَلَمْ يَقُلْ لَها زَوْجُها: «انْتَظِرِيني حتَّى أعُودَ إليْكِ بَعْدَ أيَّامٍ قَلِيلَةٍ.» فما بالُها تَذْهَبُ إِلَيْهِ ولا تَنْتَظِرُ. وَما بالُها تَنْتَظِرُهُ فلا يَعُودُ إليْها؟

فَوَدَّعَتْ والدَها، ورَحَلَتْ خِلالَ تِلْكَ الْغابَةِ الْواسِعَةِ — أَوَّلَ مَرَّةٍ في حَياتِها — قاصِدَةً قَصْرَ الْمَلِكِ، فَبَلَغَتْهُ بَعْدَ أيَّامٍ.

(٣) لِقاءُ الزَّوْجَيْنِ

والْتَمَسَتِ الْإِذْنَ بِالْمُثولِ (الْوُقُوفِ) بَيْنَ يَدَيْهِ، لِأنَّها تَحْمِلُ إِلَيْهِ أنْباءً خَطيرَةً. فَلَمَّا دَخَلَتْ أَسْرَعَتْ دَقَّاتُ قَلْبِها حِينَ رَأتْهُ جالِسًا عَلَى عَرْشِهِ، ولَمَحَتْ وَجْهَهُ مِنْ خِلالِ خِمارِها (قِناعِها) الْكَثِيفِ، فَسَأَلَها «دَشْيَنْتا» مُتَرَفِّقًا: «ماذا تُريدينَ؟» فَتَهَلَّلَ وَجْهُها فَرَحًا وأَمَلًا، حينَ سَمِعَتْ صَوْتَهُ. وطَوَّحَتْ بِخِمارِها إلى الْخَلْفِ، لِتُظْهِرَ له وجْهَها، ثمَّ قالَتْ: «لا تَعْجَبْ مِنْ مَجِيئِي إلَيْكَ — يا مَوْلايَ — فَقَدِ اضْطُرِرْتُ إلَى الْبَحْثِ عَنْكَ، حينَ تَأَخَّرْتَ فِي إنْجازِ وَعْدِكَ.»

(٤) دَهْشَةُ الْمَلِكِ

فاسْتَوْلَى الذُّهولُ (النِّسْيانُ) عَلَى «دَشْيَنْتا» وصاحَ مُتَحَيِّرًا: «أَيُّ وَعدٍ يا فَتاةُ؟ مَنْ أنْتِ؟ وَماذا تَعْنِينَ؟»

فَقالَتْ لَهُ مُتَحَسِّرَةً: «واهٍ يا دَشْيَنْتا! أَتَسْخَرُ مِنِّي؟ أَنَسِيتَ زَوْجَكَ الَّتِي تَرَكْتَها فِي الْغابَةِ؟» فاشْتَدَّتْ حَيْرَةُ «دَشْيَنْتا» وقالَ لَها: «أَيَّ زَوْجٍ تَعْنِينَ، وَأَنا لَمْ أَرَكِ قَبْلَ هذا الْيَوْمِ قَطُّ؟»

(٥) حَيْرَةُ «ساكُنْتالا»

فاشْتَدَّتْ حَيْرَةُ «ساكُنْتالا»، وَلَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تُصَدِّقَ ما تَسْمَعُهُ أُذُناها. وَحَدَّثَتْ نَفْسَها بِصَوْتٍ خافِتٍ (مُنْخَفِضٍ): «لَقَدْ خِفْتُ أَنْ يَكُوْنَ قَدْ نَدِمَ عَلَى زَواجِهِ السَّريعِ، ولكِنْ لَمْ أَتَوَقَّعْ أَنْ يَجْرُؤَ عَلَى إِنْكارِي.»

وأَرادَتِ الْفَتاةُ أَنْ تَتَمادَى فِي مُناقَشَتِها، فَقَاطَعَها الْمَلِكُ قائِلًا: «ما أظُنُّ هذِهِ الْفَتاةَ إِلَّا مَعْتُوهةً أَوْ مُخادِعَةً!»

فَلَمَّا يَئِسَتِ الْفَتاةُ مِنْهُ خَرَجَتْ باكِيَةً، هائِمَةً عَلَى وَجْهِها (مُتَحَيِّرَةً لا تَدْرِي أَيْنَ تَتَوَجَّهُ).

(٦) سِرُّ النِّسْيانِ

لا شَكَّ فِي أَنَّكَ دَهِشْتَ — كما دَهِشَتِ الْفَتاةُ النَّاسِكَةُ — مِنْ قَسْوَةِ ذَلِكَ الْمَلكِ ومَكْرِهِ، وَإِصْرارِهِ عَلَى إِنْكارِ «ساكُنْتالا»! عَلَى أَنَّ الْملِكَ — «دَشْيَنْتا» لَمْ يَكُنْ ماكِرًا ولا مُتَجاهِلًا، بَلْ كانَ صادقًا، يَقولُ ما يَعْتَقِدُ.

فهُوَ قَدْ نَسِيَ «ساكُنْتالا» نِسْيانًا تامًّا. وكانتْ لَعْنَةُ الْحَكيمِ السَّاحِرِ سَبَبًا في شَقاءِ النَّاسِكَةِ التَّاعِسَةِ. وقَدْ أَفْقَدَها الْخاتَمَ الْمَسْحورَ الَّذِي أَهْداهُ إلَيْها الْمَلِكُ، فاسْتَوْلَى النِّسْيانُ عَلَى ذاكِرَتِهِ، حتَّى عَجَزَ عَنْ تَذَكُّرِها وهِيَ ماثِلَةٌ (واقِفَةٌ) أَمامَهُ. ولَمْ يَكُنْ في وُسْعِ أَحَدٍ — مِنَ الْإِنْسِ وَلا مِنَ الْجِنِّ — أَنْ يَغْلِبَ السَّاحِرَ عَلَى أَمْرِهِ.

ولَقَدْ نَدِمَ الْملِكُ «دَشْيَنْتا» عَلَى غِلْظَتهِ مَعَ الفَتاةِ، ووَدَّ لَوْ تَلَطَّفَ في مُعامَلَتِها، بِرَغْمَ جَهْلِهِ إيَّاها، لِأَنَّهُ أَيْقَنَ أَنَّ هُناكَ سِرًّا مَحْجُوبًا، لَمْ يَتَبَيَّنْهُ — فيما بَعْدُ — إِلَّا بِمُصادَفَةٍ عَجِيبَةٍ.

(٧) خاتَمُ الذِّكْرَى

مَرَّتْ سَنَواتٌ عَلَى ذلِكَ الْحادِثِ الْمُؤْلِمِ، ثُمَّ ماتَ السَّاحِرُ الْهِنْدِيُّ، فارْتَفَعَ الْشَّقاءُ، وزالَتِ اللَّعْنَةُ وَظَفِرَ أَحدُ الصَّيَّادينَ بِسَمَكةٍ جَمِيلَةٍ اصْطادَها مِنَ النَّهْر.

فَلَمَّا شقَّها رَأَى — في جَوْفِها — خاتَمًا ذَهَبِيَّا، مَنْقُوشًا عَلَيْهِ اسْمُ الْمَلِكِ «دَشْيَنْتا». فَأَسْرَعَ بهِ إلى مَلِيكِه، ولَمْ يَكَدْ يَراهُ حَتَّى قَطَبَ حاجِبَيه، وقالَ مُتَحَيِّرًا: «هذا خاتَمِي بلا شَكٍّ، فَكَيْفَ فَقَدْتُهُ؟»

ثم وضَعَ الْخاتَمَ في إِصْبَعِه، فَخُيِّلَ إِلَيْه أَنَّ سُحُبًا تَرْتَفِعُ، بَعْدَ أَنْ كانَتْ مُخَيِّمَةً عَلَى ذاكِرَتِهِ. فَصَحا مِنْ ذهوله، وكادَ قَلْبُهُ يَتَمَزَّقُ إِشْفاقًا عَلَى النَّاسِكةِ التَّاعِسَةِ.

واعْتَزَمَ البَحْثَ عَنْها في كُلِّ مَكانٍ، وشَكَرَ لِلصَّيَّادِ هَدِيَّتَهُ النَّفيسَةَ وَأَجْزَلَ لَهُ مُكافأَتَهُ.

ثُمّ أَعَدَّ عُدَّتَهُ لِرَحيلٍ طويلٍ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤