بين تاريخ الفلسفة وتاريخ العلم١

ينفرد التاريخ الفلسفي بصفاتٍ تميِّزه على نحوٍ قاطع عن تاريخ أي علم آخر؛ ففي حالة أي علم ينبغي النظرُ إلى دراسة التطوُّرات السابقة لهذا العلم على أنها مرحلة ثانوية الأهمية، وربما مرحلة لا قيمةَ لها بالنسبة إلى دراسة هذا العلم ذاته، مثال ذلك أن دارس الكيمياء لا يحتاج إلى دراسة تاريخها، وبالفعل لا يعرف معظم المتخصصين في هذا العلم إلا القليل عن تاريخه، ولا يمنع ذلك من وجودِ مجموعةٍ قليلة تهتم بالأبحاث التاريخية المتعلقة بهذا العلم لذاتها، وهؤلاء يمكن أن يُعَدُّوا مؤرخين أكثرَ مما يُعَدوا كيميائيين، أما بالنسبة إلى الأغلبية الساحقة من علماء الكيمياء وباحثيها، فليست لتاريخ هذا العلم أهميةٌ إلا في أقرب تطوراته وآخرها فحسب، وبقدْرِ ما يكون الإلمام بهذه التطوُّرات الأخيرة أمرًا لا بُدَّ منه للقيام بأبحاثٍ علمية جديدة تبدأ من حيث انتهت هذه التطوُّرات، وتكمل ما تركته ناقصًا، وتَسُدُّ الثغرات التي تتكشف للعالِم في أعمال السابقين عليه والمعاصرين له.

وعلى ذلك فإن دراسة تاريخ العلوم ليست لها أهمية تُذْكَر بالنسبة إلى هذه العلوم ذاتها، ومن الممكن أن يسير العلم في طريقه على نحوٍ سليم ومثمر دون أن يُتعرَّض للبحث في تاريخه، فإذا ما بدا لأحدٍ أن يبحث في تاريخ العلم، كان ذلك البحث أقرب إلى التاريخ منه إلى العلم ذاته، واتخذ شكل دراسة منفصلة عن أبحاث ذلك العلم، وفي جميع الأحوال تكشف هذه الدراسة التاريخية عن حقيقةٍ واضحة، هي أن البدايات الأولى والمراحل المبكرة في تاريخ أي علم، ليست لها إلا أهمية ضئيلة كل الضآلة بالقياس إلى تطوراته الأخيرة، بحيث يكون من الممكن الاكتفاءُ بالصورة التي يتخذها العلم في آخرِ مراحله، وتجاهل صوره السابقة أو إنكارها.

وعلى العكس من ذلك يتسم التطوُّر الفلسفي بسماتٍ مخالفة — وربما مضادة لسمات التطوُّر العلمي — مما يؤدي إلى اتخاذ تاريخ الفلسفة طابعًا مختلفًا كلَّ الاختلاف عن تاريخ العلم؛ فتاريخ الفلسفة جزءٌ لا يتجزأ من الفلسفة ذاتها، حتى ليمكن القول إنه لا قيامَ للفلسفة بغير تاريخها؛ ذلك لأن الأفكار الفلسفية لا تُعرَض في كثير من الأحيان إلا من خلال عرض تطورها، وهذا العرض ذاته يؤلف فلسفةً بالمعنى الكامل لهذه الكلمة، وإذن فهناك ارتباطٌ لا ينفصم بين الفلسفة وتاريخها، والدافع الذي يدعونا إلى البحث في تاريخ الفلسفة هو دافع فلسفي أكثرُ منه دافع تاريخي. وليس هدف الباحث في تاريخ الفلسفة هو مجرد إكمال معلوماته العلمية، أو التوسُّع في جانب إضافي ثانوي الأهمية من جوانب بحثه، بل إن هذا الهدف يتصل أوثقَ الاتصال بصميم التفكير الفلسفي، منظورًا إليه في تطوراته الماضية.

وفضلًا عن ذلك، فالأمر في الفلسفة لا يقتصر مطلقًا على بحث تطوراتها الأخيرة أو الأحدث عهدًا، وليس في الفلسفة أي مجال لتفضيل الجديد على القديم لمجرد كونه أقرب زمنيًّا، بل إن المفاضلة الوحيدة المقبولة فيها إنما ترتكز على أساس القوة الكامنة في المذهب الفلسفي ذاته، سواء أكان هذا المذهب قريبًا أم بعيدًا، وسواء أكان ينتمي إلى التاريخ القديم أم الوسيط أم الحديث، وربما رأى بعض دارسي الفلسفة أن تطوراتها القديمة أعمقُ وأخصبُ من تطوراتها المتأخرة، أو هي على الأقل ذات قوة حية متجددة، مهما مرت عليها الأزمان، ومهما ابتعدت عنها في الماضي السحيق، وتلك صفة يستحيل أن يتصف بها التطوُّر القديم لأي علم من العلوم، وقد تجد لها نظيرًا في نظرة البعض إلى تطوُّر الفنون؛ إذ يمجِّدون فنون العصر الكلاسيكي — مثلًا — كما لو كانت هي الفترة التي يستحيل أن يقترب منها مستوى الفن في أي تطوُّر لاحق.

فالتاريخ الفلسفي كله يكوِّن حركةً دائمة التجدُّد، وكثيرًا ما نرى مراحلَ منه تتجدد وتعود إلى الحياة في عصورٍ يبدو أنها منعدمة الصلة تمامًا بالعصر الذي ظهرت فيه أول مرة؛ إذ نجد مذاهبَ تنتمي إلى صميم العصور الوسطى (كالتوماوية مثلًا) تتجدد في صميم القرن العشرين، على الرغم من الفارق الهائل في السياق الحضاري بين العصرين، ومن طول الفترة الزمنية التي انقضت بين ظهور المذهب الأصلي وبين إحيائه.

ومن جهةٍ أخرى فإن التاريخ الفلسفي يعود فيؤثر في التفلسف ذاته تأثيرًا عميقًا؛ ذلك لأن الفيلسوف لا يستطيع — في معظم الأحيان — أن يتجاهل المذاهب الفلسفية القائمة بالفعل، بل يجد لزامًا عليه أن يسوي حسابه مع التطوُّرات الماضية للفكرة التي يتناولها بالبحث، ويحدد موقفه وموقعه منها، فإما أن يتأثر بمذهبٍ من المذاهب السابقة، وإما أن ينقده ويقف منه موقفًا سلبيًّا متشككًا، وإما أن يأتي برأي جديد بعد هذا النقد، وهكذا تتحدَّد معالمُ التفلسف من خلال عملية الجذب والتنافر التي يشعر بها المفكر إزاء المذاهب السابقة، ويتميز تطوُّر الفلسفة — قبل كل شيء — بذلك الطابع الجدلي الذي يكون تاريخ الفلسفة فيه أشبهَ بمحاورة هائلة بين مذاهبَ مختلفةٍ تثور المناقشات بينها في مختلف المشكلات، وترتفع هذه المناقشات إلى مستوياتٍ أعلى كلما تراكمت الخبرات وازداد البحث عمقًا.

والحق أن وجود هذا النقاش والجدل والخلاف هو ذاته من السمات التي تميز التاريخ الفلسفي من كل أنواع التاريخ الأخرى؛ ذلك لأن التاريخ — في معناه العام — يتجنب المناقشات والخلافات قدْرَ إمكانه؛ فهو ببذل قصارى الجهد من أجل عرض الوقائع الماضية عرضًا موضوعيًّا هادئًا، لا مكانَ فيه للنزاع أو لمحاسبة الماضي، وحين يعرض المؤرخ لحادث سياسي — مثلًا — لا يصدر حكمًا باستحسانِ ما حدث أو استهجانه إلا في أحوال نادرة، وإنما يحاول عادةً أن يعيد تركيب صورة الماضي على أدقِّ نحوٍ ممكن، وينظر إليه من حيث هو بعيد ومنفصل عنه، ذلك هو طابع التاريخ بمعناه العام، أما التاريخ الفلسفي فهو في أساسه جدليٌّ خلافي، وقد يؤدي ذلك في أحيانٍ غيرِ قليلة إلى فقدان صفة الموضوعية فيه تحقيقًا لأغراض الخلاف والجدل، ويمتد هذا الجدل إلى أقدم النظريات والمذاهب الفلسفية، أي إنه لا يقتصر على المذاهب القريبة العهد كما هي الحال في الجدل العلمي، وفي كل الأحوال يحرص مؤرخ الفلسفة على الحكم على ما يعرضه من المذاهب، ومقارنة بعضها ببعض، ولا يكتفي أبدًا بالعرض الموضوعي، وإلا اتسم عمله بالنقص والتقصير.

ويمكن القول إن الانحياز في حالة عرض التاريخ الفلسفي أمرٌ مرغوب فيه في كثير من الأحيان، بينما هو من أشد عيوب البحث في حالة التاريخ الصِّرْف؛ فشخصية مؤرخ الفلسفة وطريقة تفكيره تقوم بدورٍ هام في طريقة عرضه للمذاهب الأخرى، وهو لا يحاول أن يخفي ذلك — على عكس المؤرخ العادي الذي قد تظهر شخصيته أو ميوله الخاصة أيضًا في بحثه، ولكنه يحرص على إخفائها كل الحرص، وعلى تقديم بحثه في صورٍ لا شخصية قدْرَ الإمكان — وإنما يعترف مؤرخ الفلسفة بأن نظرته إلى المذاهب الأخرى تتلوَّن باتجاهاته الخاصة في التفكير، وقد يجد في هذا الاعتراف ما يدعو إلى الزهو والمباهاة، بل إن مجموعةً من الكتب الهامة في تاريخ الفلسفة كانت مصطبغة بالطابع الفكري الخاص للمؤرخ على نحوٍ صريح، واعترف مؤلفوها دون مواربة بأنهم إنما يتأملون الفلسفة في منظورهم الخاص كما هي الحال في كتاب هيجل الضخم «محاضرات في تاريخ الفلسفة»، وكتابات هيدجر المتعدِّدة عن مختلف مراحل تاريخ الفلسفة، منذ الفجر الأول للفلسفة اليونانية حتى العصر القريب.

•••

وهكذا ظهر لنا تاريخ الفلسفة — من وجهة النظر السابقة — مرتبطًا على نحوٍ لا يقبل الانفصام بالفلسفة ذاتها، وتأكدت لنا الأهمية الكبرى لهذا التاريخ بالنسبة إلى كل تفلسف.

ومع ذلك فمن الممكن القول — من وجهة نظر أخرى — إن العنصر التاريخي لا أهميةَ له في التفلسف على الإطلاق، وعلى قدْرِ اهتمام كثير من الباحثين بتاريخ الفلسفة بوصفه أقوى تعبير عن الفكر الفلسفي ذاته، ظهر من الباحثين مَن أنكروا قيمة التاريخ في مجال الفلسفة، وقدَّموا حججًا قوية تؤيد رأيهم هذا، وهي حججٌ لو صحت لأدت بنا إلى طريق مضاد تمامًا لذلك الذي سلكناه من قبل.

فمن الظواهر الملحوظة في التطوُّر الفلسفي، أن يظهر من آنٍ لآخر مفكرٌ يبدأ بداية تبدو جديدة كلَّ الجدة، ويتجاهل التاريخ السابق وكأنه لم يكن، ووجهة نظر هؤلاء أن الفلسفة إنتاجٌ فكري مستقل، أو خلق حر، لا ينبغي له أن يتقيد بالسوابق الماضية أو يلتزم بإكمال التطوُّر السابق، ويتخذ ظهور المذاهب الفلسفية عند أصحاب هذا الرأي طابعًا أقربَ إلى الانبثاق المفاجئ منه إلى التطوُّر المتصل المنتظم، وهم يرون أن الفلسفة لا تعرف ذلك التدرُّج البطيء المعقول، الذي يترتب فيه السابق على اللاحق بانتظام، على النحو الذي نجده في العلوم الأخرى.

ولقد لاحظ الفيلسوف الألماني الكبير «كانْت» هذه الصفة في التطوُّر الفلسفي، وأشار بوضوحٍ إلى عدم انتظام هذا التطوُّر، وذلك في مقدمة الطبعة الثانية لكتابه «نقد العقل الخالص» فقال — مشيرًا إلى الميتافيزيقا وإن كان كلامه ينطبق على الفلسفة بوجهٍ عام: «على الرغم من أن الميتافيزيقا أقدَمُ من العلوم الأخرى جميعًا، وستظل باقيةً حتى لو غرقت العلوم الأخرى كلها في لجَّة من الهمجية التي لا تدع شيئًا إلا وقضت عليه، فإن الحظ لم يسعدها حتى الآن بسلوك طريق العلم المؤكد؛ ذلك لأن العقل يضطر فيها دائمًا إلى التوقف، ويتعين علينا دائمًا أن نقطع الشوط من جديد؛ إذ إن مسلكنا الأول لا يقودنا إلى الاتجاه الذي نود السير فيه. كذلك فإن باحثي الميتافيزيقا قد بلغ بهم الافتقار إلى بلوغ أي نوع من الإجماع في دعاويهم حدًّا جعل الميتافيزيقا أحقَّ بأن تُعَدَّ ساحةَ قتال، تلائم بوجه خاص أولئك الذين يريدون التدرُّب في معاركَ وهمية، وهي ساحة لم يفلح أي متسابق فيها حتى اليوم في كسبِ شبر واحد من الأرض، أو على الأقل لم يفلح في كسبه على النحو الذي يضمن له امتلاكه بصفة دائمة.»

هنا يشير «كانْت» إلى صفةٍ هامة في البحث الفلسفي، تفرِّق بينه وبين البحث العلمي تفرقةً قاطعة، ومن ثَم فهي تؤدي إلى إدراك الاختلاف بين طريقة التطوُّر التاريخي في كلا المجالين؛ فالفلسفة لا تعرف حقائقَ تامةً نهائيةً يستطيع باحثو الفلسفة أن يقولوا إنها اكتُسبت وأصبحت جزءًا لا يتجزأ من مضمون المبحث الذي يشتغلون به، أما العلم فيُبْنَى خطوة بعد خطوة على حقائقَ يمِّهد القديم فيها الطريقَ للجديد، ومن هنا فلا يمكن أن يكون فيه مجال للخلاف والنزاع والجدل إلا حول المعارف الجديدة أو القريبة العهد، أي إن طابع التكامل والاستقرار الذي تتسم به الحقائق العلمية يؤدي إلى استبعاد الجدل من تاريخها الماضي، ويركزه في التطوُّرات الأخيرة وحدَها؛ لأن هذه هي التي لم تستقر بعدُ، أو لم تتم إضافتها إلى ذخيرة هذا العلم وحصيلته المكتسبة، وهنا يظهر الفارق واضحًا بين نظرة الفلسفة والعلم إلى تاريخهما الماضي؛ ذلك لأن عدمَ وجودِ حقائقَ مستقرةٍ في الفلسفة يجعل للقديم نفس المكانة التي نعزوها إلى الجديد، ويضع مراحلَ التطوُّر كلها على قدم المساواة من حيث أهميتها في الجدل الفلسفي، ولسنا نعني هنا بالمساواة أن تكون لها كل قيمة واحدة بالنسبة إلى تفكيرنا المنطقي، بل نعني أن انتماء أي مذهب فلسفي إلى الماضي أو إلى الحاضر ليس «في ذاته» عاملًا من عوامل استبعاده أو التمسُّك به في ميدان الفلسفة، وهذا لا يمنع — بطبيعة الحال — من تفاوت مراتب المذاهب تبعًا لمدى اتساقها الداخلي، وغير ذلك من معايير التفضيل في ميدان الفلسفة.

إن العلم يتطور عن طريق التوسُّع في مجموعةٍ من الحقائق اللاشخصية التي تتسم بطابعٍ مستقر، دون أن يكون لفردية العالِم تأثيرٌ فيما يصل إليه من الحقائق؛ فحين نتأمل أي علم في تطوراته الماضية ونقارنها بصورته الراهنة، نجد أن هذه التطوُّرات تسير دائمًا في طريقها بمنطقٍ داخلي خاص بها، ومن الممكن أن نتتبَّعها دون أية إشارة إلى شخصية مكتشفيها أو خصائصهم الفردية؛ ذلك لأن هذا التطوُّر العلمي إنما هو محاولةٌ لتحقيق المزيد من الصواب فحسب، وليس معنى ذلك أن العلم لم يكن فيه أخطاء، أو أن كل عالِم يسير آليًّا في الطريق الصحيح، بل إن ما يحدث في تاريخ العلم هو أن الأخطاء تُسْتَبْعَد آليًّا، وتُزاح من الطريق الرئيسي الذي يسلكه العلم، فلا يتبقى فيه إلا الحقائق، وصحيح أن الحقيقة الجديدة تنسخ ما سبقها في كثير من الأحيان، غير أن العلم يحتفظ خلال تقدُّمه بالحقائق التي تتضمن في ذاتها قدرةً على توليدِ حقائقَ أصحَّ منها، مثال ذلك أنه حين اكتُشِفَت نظرية كبرنيكوس في الفلك، استُبْعِدَت آليًّا نظريةُ بطليموس القديمة التي كانت تجعل الأرض مركزًا للكون، كما استُبْعِدَت بطبيعة الحال نظرياتٌ خرافية أخرى متعدِّدة كانت تعلل حركات الكواكب والنجوم بقوًى خفية شبيهة بقوَى الإنسان، ومع ذلك فإن نظرية بطليموس هي التي تمثل مرحلةً من مراحلِ تاريخ العلم؛ لأنها تنطوي على إمكاناتٍ تسمح بظهور حقيقة أخرى أدقَّ منها، أما النظريات الخرافية فهي لا تمثِّل حتى مجرد مراحل قديمة في هذا التاريخ؛ لأنها لا تؤدي إلى شيء، والمهم في هذا كله أن تاريخ العلم إنما هو تاريخُ حقائقَ متدرجة أو متراكمة تؤدي كلٌّ منها إلى حقيقةٍ أدقَّ منها وأشمل.

أما لو تتبعنا التاريخ الفلسفي، لوجدناه تاريخَ محاولات لا تاريخَ حقائق؛ ذلك لأن عدم وجودِ معارفَ مكتسَبةٍ مستقرةٍ في المجال الفلسفي يجعل تاريخها منطويًا على عناصرِ الخطأ والصواب معًا، بل يكاد يقضي على أي تمييزٍ قاطع بين ما هو خطأ وما هو صواب؛ فحين نتتبع التاريخ الفلسفي لأي عصر من العصور، لا نستطيع أن نهتدي إلى طريق رئيسي واحد يسير فيه الفكر مستقرًّا واثقًا من نفسه من البداية إلى النهاية، وتُستَبعد منه على الدوام أخطاءٌ تُطرَح جانبًا لكي تختفي في غياهبِ النسيان؛ فالتاريخ الفلسفي يضم في داخله كل المحاولات، ما أصاب منها وما أخطأ، بل إنه يضمها كلها دون أن يجد معيارًا لتمييز ما هو مخطئ فيها وما هو مصيب، أو على الأصح دون أن يحاول الاهتداء إلى مثل هذا المعيار. ومجمل القول أن تقدُّم العلم يسير في خطٍّ رأسي يرتفع دوامًا إلى أعلى، على حين أن مسار الفلسفة يسير في خط أفقي يقف فيه كل مذهب إلى جوار الآخر.

وفي ضوء هذه التفرقة بين طريقتَي تطوُّر الفلسفة والعلم، نستطيع أن نحكم على نقد «كانْت» السابق لطريقة تطوُّر الفلسفة؛ فهو لم يكن يقبل إلا طريقةً واحدة، وهو قد عاب على الفلسفة عجزَها عن سلوك طريق العلم هذا، واستهدف بتفكيره ومذهبه النقدي أن يخلصها من هذا العجز، ويحقق لها تطورًا مماثلًا لتطور العلم، ولم يَدُرْ بخَلَده أن الفلسفة تستطيع أن تظل حيةً ومزدهرة، مع احتفاظها بطريقتها الخاصة في التطوُّر، تلك الطريقة التي تظل فيها النظريات والمذاهب السابقة معترفًا بها ومحتفظة بأهميتها، على الرغم من كونها تتناقض فيما بينها، ولا تتكامل أو تتواءم على أي نحو، أي إنه — بالاختصار — أصر على أن تتحول الفلسفة — في طريقة تطورها — إلى علم، برغم علمه أن الموضوعات التي تعالجها لا تنتمي إلى مجال العلم بمعناه الدقيق، أما إذا حاولت الفلسفة أن تحتفظ بأسلوبها الخاص في التطوُّر، فإن هذا يؤدي في رأيه إلى طريق مسدود لا مخرجَ لها منه، وغني عن البيان أن كل التاريخ اللاحق للفلسفة إنما كان تفنيدًا مفصلًا لرأي «كانْت» هذا؛ إذ إن الفلسفة ظلت مزدهرة، وفي الوقت ذاته ظلت مذاهبها واتجاهاتها تتعدَّد وتتشعَّب في خط أفقي مغاير تمامًا لخط التقدُّم العلمي.

•••

وعلى أساس وجهتَي النظر السابقتين نستطيع أن نقول بوجود نوع من «النقيضة» في نظرة المشتغلين بالفلسفة إلى طريقة تطوُّرها التاريخي؛ فقد رأينا أولًا أن الفلسفة لا يمكن أن تنفصل عن تاريخها، وأن التاريخ الفلسفي حي على الدوام، يكون جزءًا لا يتجزأ من موضوع الفلسفة، وينبغي أن يُحْسَب له حساب في كل محاولة جديدة للتفلسف، ورأينا ثانيًا أن من الممكن — من وجهةِ نظرٍ أخرى — القول بأن تاريخ الفلسفة لا أهمية له على الإطلاق من حيث هو تاريخ؛ فهو ليس تاريخًا منظمًا كتاريخ العلوم، بل إنه ليس تاريخًا على الإطلاق، وإنما هو محاولات لا يكاد أن يكون للعنصر الزمني فيها أدنى تأثير، ومن الممكن في أية حالة أن يختار المرء للمناقشة أيةَ مرحلة سابقة في هذا التاريخ دون تمييز، كما أنه يستطيع — كما حدث بالفعل في بعض الحالات — أن يتجاهل المراحل السابقة ويبدأ من جديد، وبهذا المعنى لا يكون للفلسفة تاريخ، أي إنها لا تتطور زمنيًّا وفقًا لمنطق محدد.

فكيف إذن يمكن حلُّ هذا الإشكال، الذي يكون فيه للتاريخ أهمية أساسية في الفلسفة، ولا تكون له — في الوقت ذاته — أهميةٌ على الإطلاق؟

نستطيع أن نقول أولًا إن هذه النقيضة إنما هي نقيضة تتمثل في كل تاريخ بوجه عام، لا في التاريخ الفلسفي وحدَه؛ فالتاريخ لا تصبح له أهمية في العلم الذي يسير تطوره بانتظام وفي مسارٍ منطقي محدَّد، على حين أن أهميته تزداد في العلم الذي لا يخضع مساره لمثل هذا الانتظام، ولنَعُدْ ثانيةً إلى مقارنة التطوُّر في علم الكيمياء بتطور الفلسفة؛ ففي التطوُّر المنتظم للكيمياء لا نحتاج إلى التاريخ؛ لأن القديم في هذا العلم موجود ضمنًا في الجديد، بحيث تغنينا معرفةُ الجديد عن القديم، فحسبنا في هذه الحالة أن نعرف آخرَ تطورات العلم لنستدل منها — بطريقةٍ منطقيةٍ إلى حدٍّ بعيد — على تطوراته السابقة، وفي هذه الحالة لا يكون لتاريخ هذا العلم قيمة في ذاته، بل يُسْتَدَل عليه بسهولة من خلال الحالة الراهنة لذلك العلم، أما في حالة الفلسفة — التي لا يخضع تطورها لمثل هذا الانتظام — فإن لكل مرحلة في التاريخ قيمتها الأساسية، ولا مفرَّ من معرفة هذه المراحل من أجل معرفة الفلسفة.

على أن التاريخ الذي يخضع لمسار منطقي هو وحدَه التاريخ بمعناه الصحيح، أي هو التاريخ الذي يكون تعاقب الزمان فيه عنصرًا أساسيًّا، ويكون للماضي فيه موقعه المحدَّد إزاء الحاضر، دون أن يكون في وُسع أحد إحلال أحدهما محل الآخر، أما التاريخ الذي لا يخضع لمسارٍ منطقي فليس تاريخًا بالمعنى الصحيح، وإنما هو سلسلة غير منتظمة من المراحل فحسب.

وهكذا تظهر النقيضة التي أشرنا إليها من قبلُ بوضوح كامل؛ فالتاريخ لا تكون له أهمية رئيسية عندما يكون لموضوعه تاريخٌ بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة، أي حين يكون تطوُّر هذا الموضوع منطقيًّا تفضي كلُّ مرحلة فيه إلى الأخرى على نحوٍ ضروري، وفي مقابل ذلك تصبح للتاريخ أهميةٌ كبرى عندما لا يكون لموضوعه تاريخٌ بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، أي حين يفتقر تطوُّر هذا الموضوع إلى منطقٍ دقيقٍ يسري من بدايته إلى نهايته.

ومما يثبت ذلك أن علم التاريخ نفسه من حيث هو علمٌ مستقل، ينصبُّ في كثير من الأحيان على حوادثَ يصعب إلى حدٍّ بعيد كشفُ التسلسل المنطقي بينها، بل يكون لكلٍّ منها قيمته في ذاته، من حيث هو ظاهرة لها موقعها الفريد في الزمان والمكان، أي إنه يتعلق عندئذٍ بحوادثَ يضعف فيها العامل «التاريخي» — بمعنى التسلسل المنطقي من القديم إلى الجديد — إلى حدٍّ بعيد، ولو كان مسار التاريخ منطقيًّا إلى حدٍّ كامل، أعني لو كان السابق يؤدي إلى اللاحق بدقة تامة، أو بتعبير آخر: لو كان مساره «تاريخيًّا» بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة، لَمَا كانت لدراسةِ التاريخ مثلُ هذه الأهمية، ولَتضاءلَ مجال هذا العلم وضاق نطاقُه إلى حدٍّ بعيد؛ لأننا عندئذٍ نستطيع أن نقرأ الماضي دون عناء على صفحة الحاضر.

•••

هذه النقيضة تفترض مقدمًا — كما هو واضح — إمكانَ وجودِ تاريخٍ يتألَّف من حوادثَ فرديةٍ لا رابطَ بينها، وتطبِّق هذا الفهْم على تطوُّر الفلسفة فتراه انتقالًا بين مذاهبَ منفصلةٍ يستقل كلٌّ منها عن الآخرين، غير أن البحث التاريخي ذاته يميل رويدًا رويدًا إلى إنكار مثل هذا الموضوع الفردي البحت للتاريخ، ويتجه على نحوٍ متزايد إلى الكشف عن عناصر الانتظام في التطوُّر التاريخي؛ ففي مجال التاريخ السياسي والاجتماعي، أخذ يختفي بالتدريج ذلك الرأي الذي يفترض أن الحوادث فرديةٌ لا تتكرر، وأن كل مرحلة قائمة بذاتها لا تؤدي إلى الأخرى، وأخذ يحل محله رأيٌ آخرُ يؤكد وجود منطق خاص للانتقال من مرحلة إلى المرحلة التالية.

وكما يطبَّق هذا الرأي على مجال السياسة والمجتمع، فإنه يطبَّق أيضًا على ميدان الفكر الفلسفي بوصفه تعبيرًا عن الحالة العقلية للإنسانية في مراحل التاريخ المتعاقبة، على أنه من المعترف به أن الاهتداء إلى منطق التطوُّر — في كل هذه المجالات الإنسانية — أمرٌ بالغ الصعوبة؛ لأن هذه المجالات شديدة التعقُّد بالقياس إلى الظواهر الطبيعية، فضلًا عن أن الكشف عن نمطٍ منتظمٍ للتطوُّر يقتضي الجمع بين فترات زمنية كبيرة واختبارها كلها من منظور واحد، ولا يتعلَّق بحوادثَ قريبةٍ من متناول أيدينا، كما هي الحال في الحوادث الطبيعية.

وإذن ففي تاريخ الفلسفة نوعٌ خاص من التعاقب المنتظم، يحتاج الكشف عنه إلى جهد كبير، ولا يمكن أن يصل في نهاية الأمر إلى نفس القدْر من الدقة الذي نجده في تاريخ العلوم، ووجود مثل هذا التعاقُب المنتظم الذي يكشف عن نفسه — في الوقت ذاته — بصعوبة شديدة، وهو الذي يخلصنا من تلك النقيضة التي أشرنا إليها من قبل؛ فللفلسفة تاريخ، ولكنه ليس تاريخًا واضحًا ضروري المسار كذلك الذي نجده في العلم، وهو في الوقت ذاته ليس تاريخًا متخبطًا يمكن أن نتأمله من أية نقطة فيه، أو يمكن أن نتصوره راجعًا القهقرى، أو نمحو منه كلَّ أثر للتطور الزمني، إنه تاريخ علينا نحن أن نكتشف عنصر الانتظام فيه، وحين نصل إلى هذا الكشف بعد مجهود شاق، لا نستطيع أن نقول إن التطوُّر الماضي كان منطقيًّا تمامًا، كما هي الحال في تطوُّر العلوم الدقيقة، إنه تاريخ يدعونا إلى دراسته، وإلى كشف عنصر النظام فيه، أو بناء هذا العنصر وخلقه من جديد، وبفضل هذه الصفة تعلو دراسة تاريخ الفلسفة على نقيضة التاريخ التي كان علينا فيها أن نختار بين تاريخٍ حقيقي — أي منطقي دقيق في مساره — لا ضرورةَ لدراسته في تفاصيله؛ لأنه يكشف عن نفسه من خلال مرحلته الحاضرة، وتاريخٍ لا يستحق هذا الاسم — لتخبطه وعدم انتظامه — هو وحدَه الذي لا نجد مفرًّا من دراسته بكلِّ ما فيه من تفاصيل؛ لأن حاضره لا ينبئ عن ماضيه.

أما طبيعة هذا النظام الذي يستطيع الذهن أن يضفيه على تطوُّر التاريخ الفلسفي من خلال دراسته لتفاصيله، والذي يحررنا بالتالي من الوقوع في براثن النقيضة السابقة، فأحسَبُ أنها موضوع له من الأهمية ما يجعله جديرًا بمقال قائم بذاته.

١  الفكر المعاصر، العدد ٤٧، يناير ١٩٦٩م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤