حديث عن الشباب والثقافة١

كان الحافز لي إلى كتابة هذا المقال موضوعًا كتبتْه فتاةٌ فرنسية في السابعة عشرة من عمرها، لا تزال طالبة بالمرحلة الثانوية؛ فقد دأبت مجلة «ألفيجارو الأدبية» على نشر أفضل موضوعات الإنشاء (أو التعبير) التي يكتبها طلبة البكالوريا الفرنسية (الثانوية العامة)، وكان العدد الذي وقع في يدي من هذه المجلة يضم ثلاثة موضوعات لطلابٍ يمتحنون في مجموعات مختلفة، كان الموضوع الأول بعنوان: «هل يمكن أن نقبل — بلا تحفُّظ — الرأيَ القائل إن العمل مصدرُ الثروة؟» والثاني: «هل يكفي أن يكون لدى المرء منهجٌ لكي يجري بحثًا علميًّا؟» والثالث: «هل نحن أدواتٌ في يد التاريخ أم نحن صانعوه؟»

ولقد كان النضج والتعمُّق الذي عالج به شبانٌ في مرحلة المراهقة موضوعاتٍ معقدة كهذه أمرًا يدعو إلى الدهشة حقًّا؛ فقد كانت كتابتهم على مستوى المفكرين الكبار، بحيث يستحيل أن يُبْدِيَ المرء نحوهم إعجابًا نسبيًّا، يأخذ فيه أعمارهم الصغيرة بعين الاعتبار، ويَعُدُّهم متفوقين بالقياس إلى الشباب في مثل سنِّهم، بل إن المرء لا يملِك إلا أن يُعْجَبَ بعمق الثقافة ودقة التفكير والتخيُّل ناسيًا تمامًا أنه إزاء مراهقين صغار.

وسيجد القارئ في الجزء الأخير من هذا المقال ترجمةً كاملة لثالث هذه الموضوعات، أقدمها مهداة إلى شبابنا الذين نضع أملنا في المستقبل بين أيديهم، ولكنني لا أود أن أعرض عليهم هذه الترجمة إلا بعد أن أقف معهم، ومع كلِّ مَن تهمُّه قضايا الفكر والثقافة والشباب في بلادنا؛ لنناقش بهدوء بعض المشكلات التي أثارتها في ذهني قراءة هذه الموضوعات.

•••

لقد دأب جيل الكبار في بلادنا على اتهام الشباب بالتقصير في التزوُّد بالعلم والثقافة، وربما كان قدْرٌ كبيرٌ من هذا الاتهام راجعًا إلى رغبة الكبار في تمجيد جيلهم والإشادة بفضله، لا بدافع الاستعلاء فحسب، بل بدافع التشبث بالماضي الذي يعني بالنسبة إليهم أكثر مما يعني الحاضر، ورغبة في الدفاع عن النفس والتمسُّك بأهداب الزمن الذي ينقضي رغمًا عنهم، ولا يَكُفُّ عن الإفلات من قبضة يدهم.

وأنا من المؤمنين بأن الشباب في كل بلد هو على ما يريده الكبار أن يكون، إنهم أبناء جيل الكبار، والآباء — في معظم الأحيان — هم المسئولون عما يلحق بأبنائهم، وكما أن من الأمور المثيرة للسخرية أن يعيب الأب على طفله الصغير — الذي لم تُتَحْ له بعدُ فرصة الاندماج في أي عالم سوى عالم أسرته المباشرة — تفوُّهَه بألفاظٍ غير لائقة، أو اكتساب عادات سلوكية قبيحة؛ لأن هذه العادات وتلك الألفاظ لم تُسْتَمَد — في واقع الأمر — إلا من الآباء أنفسهم، فكذلك يكون من قبيل الظلم والعجز عن فهْم الأمور أن يعيب الجيل الأقدم على الجيل الأحدث أمورًا لا يمكن أن يكون الجيل الأحدث قد اختارها لنفسه، بل لا بُدَّ أنه تلقاها على هذا النحو ممن في يدهم مقاليد أموره.

فقبل أن نُصْدِرَ أيَّ حكم على موقف الشباب من العلم ومن الثقافة الجادة، ينبغي علينا — نحن الكبار — أن نسائل أنفسنا، هل وفَّرنا لأبنائنا الجو الذي يكفل إقبالهم على المعرفة وسعيهم إلى توسيع آفاق عقولهم؟ هل أنشأنا لهم المدارس الكافية؟ هل قدمنا إليهم برامج تعليمية تساعد على إثارة حب العلم في النفوس؟ هل عَهِدْنا بهذه البرامج إلى معلمين أكفاء يفهمون التعليم على أنه زيادة قدرة العقول على فهم الأمور لا حشوها بمعلومات فجة؟ هل زوَّدنا مدارسهم بمكتبات كافية، ونمَّينا فيهم حب القراءة والاطلاع؟ هل استطعنا أن نفصل بين الرغبة في التعلم والرغبة في التخلص من ذلك الشبح المخيف؛ شبح الامتحان؟ هل تقوم وسائل الإعلام لدينا بدورها في نشر الثقافة وتشجيع الأجيال الجديدة على أخذ أمور حياتها مأخذ الجِد؟ وربما كان الأهم من ذلك كله، هل استطعنا — نحن الكبار — أن نخلِّص أنفسنا من السطحية والجري وراء المصالح، وأن نضرب لأبنائنا مثلًا صالحًا في احترام العلم والثقافة؟

تلك بعض الأسئلة التي لا بُدَّ أن تؤدي الإجابةُ عنها إلى تذكير كلِّ مَنْ يوجه الاتهام إلى الشباب بكلمة المسيح: مَنْ كان منكم بلا خطيئة فليرمِها بحجر! فنحن في واقع الأمر ندين أنفسنا كلما اتهمنا شبابنا بالتقصير في طلب العلم والثقافة، ولن يكون لهذا الاتهام أساسٌ إلا لو كان جيل الكبار قد أدَّى بالفعل واجبه كاملًا نحو الجيل الذي سيحمل الأمانة من بعده.

على أنني لا أملك — برغم كل هذه العوامل — إلا أن أقرر بعض الحقائق، وأعقد بعض المقارنات، يدفعني إلى ذلك اعتباران: أولهما أن في استطاعة المرء أن يقوم بمهمة التشخيص، ويعدِّد العيوب وينبِّه إليها، دون أن تقترن بذلك التشخيص إدانةٌ أو يترتب عليه لوم للشباب أنفسهم؛ فمع الاعتراف الكامل بمسئولية المجتمع ككل — تحت قيادة جيل الكبار — عن جوانب النقص التي يعاني منها الشباب، ينبغي التنبيه بكل قوة إلى هذه الجوانب، وتبديد ذلك الوهم الكبير الذي يجعلنا ميالين دائمًا إلى تصوير أمورنا كما لو كانت على خيرِ ما يُرام.

أما السبب الثاني والأهم فهو أن من وراء كل حتمية في المجال الإنساني قدْرًا معيَّنًا من التلقائية والاستقلال عن التحديد الدقيق، وحين نطبِّق هذا الحكم على مجال الشباب، نجد أن لدى الشباب — من الوجهة النظرية — القدرةَ على التحرر من القيود التي فرضتها عليهم أخطاء الكبار، أو على تجاوز الوضع الذي وجدوا أنفسهم فيه، وذلك في حدود معيَّنة على الأقل، هذا القدْر من التلقائية هو الذي يتحقق به التقدُّم، وهو الذي يجعل كل جيل يضيف جديدًا إلى الجيل الذي سبقه بالرغم من تحكم هذا الجيل السابق في مصيره، وباسم هذه التلقائية ينبغي أن يتحمَّل الشباب نصيبهم من المسئولية عن تكوين أنفسهم، مع اعترافنا الكامل بأن الكبار لم يتحملوا القدْر الخاص بهم من هذه المسئولية تحمُّلًا كاملًا.

ولقد كان الشباب أنفسهم هم الذين طالبوا بهذه المسئولية، واعترفوا بوجود هذا القدْر من التلقائية في سلوكهم، حين أكَّدوا — في مجتمعات كثيرة — أن الكبار لم يعودوا يصلحون لإدارة دِفَّة هذا العالم الذي يسير على حافة الهاوية، وحين فرضوا — بتصرفاتهم العملية — مفهومَ «الفجوة بين الأجيال» على باحثي العلوم الاجتماعية، وجعلوا منه إطارًا أساسيًّا تُفْهَم من خلاله العلاقةُ بين جيل الشباب وجيل الكبار في العالم المعاصر، هذه «الفجوة» إن دلت على شيء فإنما تدل على أن الجيل الجديد يشعر بقدْر متزايد من الاستقلال عن الجيل القديم، ولا يقبل أن يعتبر نفسه مجرد «ضحية» لأخطاء الجيل السابق، أي إنه لا يقبل الاعتراف بالحتمية التي يتحكم بموجبها القديم في الجديد، ويؤكد أن لديه قدرةً — تتزايد جيلًا بعد جيل — على أن يشكل حياته بنفسه، ويأخذ مقاليد أموره بين يديه، على الرغم من أن الكبار هم الذين يتخذون القرارات الحاسمة المتعلقة به، وهم الذين يملكون سلطة تنفيذها.

في ضوء هذه التلقائية وهذه المسئولية التي هي مطلب أساسي للشباب أنفسهم، يحق لنا أن نحاسب شبابنا على ما يبذلون من جهودٍ في الميدان الثقافي ونحن آمنون من أن يوجَّه إلينا ذلك الاعتراض الصارخ:

«وما ذنْبنا نحن إذا كنتم أنتم — أيها الكبار — المتحكمون في مصيرنا؟»

لعل أوضح مظاهر ثقافة الشباب في أيامنا هذه، تلك الظاهرة التي أحب أن أطلق عليها اسم «العطاء قبل الأخذ»، وإنَّا لنعلم جميعًا أن هذه صفةٌ محمودة في مجال العلاقات الإنسانية، لا سيما وأنها هي بعينها شيمة كلِّ مَن يتصف بالكرم والسخاء، ولكن مثل هذا الكرم ينقلب إلى شيء مذموم في الميدان الثقافي؛ إذ إنه يعني أن يقدِّم الإنسان إلى الآخرين زادًا ثقافيًّا في الوقت الذي يكون فيه هو ذاته ما زال محتاجًا أشد الاحتياج إلى مثل هذا الزاد.

وفي اعتقادي أن مَنْ له صلةٌ بميدان النشر — سواء أكان ذلك نشر الكتب أم المقالات — هو أقدرُ الناس على أن يلمس هذه الصفة في الأجيال الجديدة من المثقفين؛ ففي حالات عديدة — ولا أقول في كل الحالات بالطبع — يجد المرء لدى هذه الأجيال ميلًا طاغيًا إلى التعجل بتقديمِ إنتاجٍ هو أبعدُ ما يكون عن النضج، ولا مفر عندئذٍ من أن تترتب على هذا التعجل الشديد آفاتٌ كلٌّ منها أخطرُ وأفدحُ من الأخرى.

فهناك فئة كاملة من المثقفين تكاد صلتها الوحيدة بالثقافة العالمية أن تقتصر على قراءة تلك الترجمات الشوهاء المبتورة المتخلفة التي يُغرِق بها الأسواقَ ناشرون لا يعبئون في عملهم بشيءٍ سوى الربح — والربح وحدَه — في عواصمَ عربيةٍ معروفة، وكثير من أفراد هذه الفئة يتسابقون إلى النشر وهم لا يملكون من حطام الدنيا إلا فتات من المعلومات صيغت بأسلوب عجيب كاد أن يصبح — في أيامنا هذه — لغةً قائمة بذاتها، لها مصطلحاتها وتركيباتها وتعبيراتها المحفوظة المتداولة، وهكذا لم يَعُد من المستغرب في أيامنا هذه أن نجد كاتبًا يتحدث عن شكسبير وهو لم يقرأ له عملًا واحدًا قراءةً كاملةً في لغته الأصيلة، أو تجد مجموعاتٍ من المثقفين يعالجون كلَّ مشكلات العالم من وجهة نظرٍ ماركسية وهم لم يقرءوا في حياتهم نصًّا واحدًا لماركس بلغة أجنبية تُرْجِمَت إليها أعماله ترجمة علمية أمينة، أما هيجل وسارتر فالكل يتكلم عنهما، بل ويكتب عنهما، ولكن مَنْ قرأ لهما نصوصًا أصلية لا يُعَدُّون على الأصابع، وأصبح من الشائع في الجو الثقافي أن يتكلم الناس بجرأة شديدة عن أهم الشخصيات وأخطر المشكلات دون أن يكون لديهم أي إلمام بها إلا عن طريق مصادر الدرجة الثالثة التي أصبحت — بفضل الأسلوب المشوه والفهم المبتور — ثالثةً مخفضة، والأخطر من ذلك أن أحدًا لم يَعُد يرى في ذلك أمرًا مستغربًا، بل أصبح شيئًا مقبولًا يكاد يرقى إلى مرتبة المسلَّمات.

ومن الطبيعي أن تؤدي سطحية الثقافة من ناحية، والرغبة الملحَّة في النشر من ناحية أخرى، إلى انتشار صفاتٍ مذمومة كان المفروض أن يترفَّع عنها الشباب وهم في مرحلة المثاليات والمبادئ الرفيعة، فأمثلة الاقتباس المفرط غير المشروع من أعمال الغير مألوفة وشائعة، وأمثلةُ التحزُّب والتكتل وتبادل المصالح أصبحت لا تقل انتشارًا في عالم الشباب عنها في عالم الكبار، ووجه الخطورة في هذا أن الكبار الذين تَشِيع بينهم هذه الآفات بدأ الكثير منهم حياته بدايةً تتسم بقدْر غير قليل من التمسُّك بالمبادئ، ثم انزلقوا تدريجيًّا وبفعل ظروف معقدة، حتى وصلوا إلى ما هم عليه، أما إذا كانت نقطة البداية عند الشاب الناشئ هي ذاتها نقطة النهاية عند الشيخ اليائس المستسلم، فعندئذٍ يحق للمرء أن ينظر إلى المستقبل نظرة قاتمة.

ولكن ما دمتُ قد أخذتُ على عاتقي أن أقوم بمهمة التشخيص، فلا بد لي من أن أحاول البحث عن أسبابٍ لهذه الظواهر التي قد يميل البعض — ممن يفتقرون إلى الأسلوب العلمي في التفكير — إلى النظر إليها على أنها نتيجةُ انحلال أخلاقي عام أو انصراف عن التمسُّك بأهداب الفضيلة … إلخ. ولكي تكون هذه الأسباب مقنعةً فلا بد أن تكون موضوعية قدْر الإمكان.

أول هذه الأسباب — في رأيي — زيادةُ الطلب على العرض في ميدان الثقافة؛ فقد أُتيحت لأبناء هذا الجيل فرصٌ — في ميدان الثقافة — تزيد بكثير عن تلك التي كانت متاحة لكل الأجيال السابقة؛ فهناك — إلى جانب الصحافة — حاجةٌ متزايدة إلى الإنتاج الثقافي في ميدان التأليف بكافة أنواعه، وفي ميدان الترجمة وفي المجلات المتخصصة؛ نتيجة لاتساع قاعدة القراء وظهور جمهور جديد يحتاج إلى إنتاج ثقافي لا ينقطع، وقد أتاحت الإذاعة والتليفزيون فرصًا جديدة أمام المثقفين؛ إذ إن ساعات إرسال المواد الثقافية — وإن كانت من حيث النسبة العامة لا زالت قليلة بالقياس إلى مواد الترفيه غير الثقافي — قد زادت زيادةً كبيرة، وهي تمثل طلبًا يوميًّا ملحًّا يحتاج إلى إنتاج دائم، كل هذه المجالات الجديدة أدَّت إلى ظهور تلك الفصيلة الجديدة من المثقفين، أولئك الذين يضعون في حقيبتهم شتَّى أنواع المنتجات الثقافية الرائجة، من مقالات مثيرة إلى أحاديث خاطفة إلى ندوات جذابة … إلخ، ويدورون بها من جريدةٍ إلى استوديو إلى مؤسسة للنشر، يعرضون عليها آخر عينات بضاعتهم المرغوبة المطلوبة، ولا يفوتهم أن يُلمِّحوا — من حين لآخر — إلى ما يمكنهم أداؤه للآخرين من خدمات مماثلة لو قبلوا شراء شيء مما تحمله الحقيبة.

ويرتبط بذلك ارتباطًا وثيقًا ظاهرةٌ مقابلةٌ نشهدها جميعًا في عالم الكبار، ولا يكاد المرء يعرف لها تعليلًا، وأعني بها «قصر العمر الثقافي»؛ ذلك لأن المثقفين الذين تجاوزوا مرحلةَ الشباب لا يدوم اهتمامهم بالإنتاج الثقافي إلا أمدًا قصيرًا، وفي كثير من الحالات تنقطع الأنفاس وينضب المعِين بمجرد بلوغ منصب مرموق — علميًّا كان أو إداريًّا — ويعيش المثقف الكبير (سنًّا) على ذكرى فترة ماضية في حياته، كان فيها إنسانًا جادًّا ينتظر له الجميعُ مستقبلًا باهرًا، ويظل يرتزق بفضل هذه الشهرة طَوال حياته، مثل هذا الانسحاب المبكر من ميدان العمل الثقافي الجاد يخلق فراغًا لا بد أن يشغله أناسٌ لم يبلغوا بعدُ مرحلةَ النضج العقلي الكافي، ويفتح الباب على مصراعيه أمام المتعجلين الذين يقدِّمون إلى الناس ثمارَ إنتاجهم وهي لم تزل فجة.

وأخيرًا فربما كانت القدوة السيئة من أقوى أسباب هذا الاندفاع المحموم إلى تقديم ثقافةٍ تفتقر إلى النضج؛ ذلك لأن الشباب يجدون في المجتمع — من آنٍ لآخر — نماذجَ صارخة لأناس تمكَّنوا — بأساليبَ متباينةٍ لا تشترك إلا في شيء واحد، هو أنها لا تتصل من قريب أو بعيد بعلمهم أو ثقافتهم — من إحراز نجاح صاروخي في دويِّه وفي سرعته، ولا مفر من أن يؤدي تأثُّر الشباب بهذه النماذج إلى أن يرسخ في أذهانهم الاعتقادُ بأن التعمق والجدية هما أسوأ وأبطأ وسائل النجاح، ومن ثَم فإنهم يؤثرون العمل على اكتساب شهرة سطحية أو مسطحة، ويتدربون في الوقت ذاته على ممارسة الأساليب الأخرى التي يرون بأعينهم أنها حققت لغيرهم أبهرَ النجاح.

والنتيجة — بعد هذا كله — هو أن نموذج الشاب الرزين، الذي يعكف على أخذ الثقافة قبل أن يفكر في إعطائها، والذي يزيد من تعميق فكره قبل أن يخطُر بباله نشرُ شيء من إنتاجه على الناس، والذي يفضِّل أن يظل مجهولًا بدلًا من أن يُحرِز بين الناس شهرة كاذبة، هذا النموذج كاد أن يختفي اختفاءً تامًّا، وكاد أصحابه أن يصبحوا — بين الشباب — نوعًا أوشك على الانقراض.

•••

إن أي مجتمع لا يستطيع أن يأمل في مستقبل مزدهر إلا إذا كانت أجياله الشابة تؤدي رسالتها كاملة في التزود بالثقافة قبل أن تفكر في تزويد الآخرين بها، وإذا كنتُ في بعض أجزاء هذا المقال قد وصفتُ شبابنا بعباراتٍ ربما بدت في نظر البعض قاسية، فما ذلك إلا لأني آمل في الكثير. ومع اعترافي الكامل بمسئولية الكبار عن كثير من مظاهر القصور في حياة الشباب الثقافية، فإني أُومن بأن لدى الشباب قدرةً على تخطي العقبات التي وضعها الكبار — مختارين أو مرغمين — في طريقهم، بل إنني لأُومن بأن استغلال الشباب لقدرتهم هذه لن يتيح لهم مراجعة نظرتهم إلى الثقافة فحسب، بل سيمكنهم من أن يفرضوا إرادتهم — في حدود مطالبهم المشروعة — على الكبار أيضًا، فلو اجتمعت كلمة الشباب على طلب أي نوع من الثقافة الجادة، فما أظن أن الكبار سيملكون عندئذٍ أن يرفضوا لهم مثل هذا الطلب، ولو اجتمعت كلمةُ الشباب على رفض التزييف الذي يُقدَّم إليهم في رداءٍ زاهٍ برَّاق — كالترفيه الكاذب الذي يغويهم ويشغلهم عما هو جاد من الأمور، في وقت هم فيه أحْوَج ما يكونون إلى التفكير الموضوعي المركز (وأعني به عروضَ كرة القدم التي يبدو أنها ستطل برأسها من جديد)، أقول إنه لو اجتمعت كلمة الشباب على رفض مثل هذا الإغراء المزيف لما جرؤ الكبار على فرضها عليهم.

إن موضوعًا قصيرًا كتبتْه فتاة فرنسية في السابعة عشرة من عمرها، قد أثار في ذهني خواطرَ لا حصر لها عن موقف شبابنا من الثقافة، وأنا لا أزعم على الإطلاق أن المقارنة جائزة أو مشرعة بين حالة واحدة كهذه — قد تكون استثنائية تمامًا — وبين أحوال الجموع الكبيرة من شباب بلدٍ لا يزال يعاني كثيرًا من مظاهر التخلُّف، ولكن تقديم النماذج الصالحة أمرٌ مفيد على الدوام.

وأحسَب أن هذا النموذج كفيلٌ بإقناع شبابنا بأن صورة الشاب الأوروبي ليست صورة الشعر المتهدل والملابس الغريبة والعادات المتحدية للعرف الأخلاقي فحسب، بل هي أيضًا — ومن وراء هذا كله، بل قبل هذا كله — صورةُ الجدية في طلب العلم والتعمُّق في تحليل المجتمع الذي يعيش فيه الإنسان، وهو أيضًا كفيل بإقناع فتياتنا بأن المرأة — حتى في بلاد الأناقة والتألُّق والمساحيق المبتكرة والحب المتحرِّر من القيود — تستطيع أن تكون — إلى جانب هذا كله — إنسانةً مثقفة واعية بما يجري حولها في العالم، وبدور الإنسان في صنع التاريخ.

هل نحن أدوات في يد التاريخ، أم نحن صانعوه؟

  • كاتبة الموضوع: تيريز بريزاك.
  • السن: ١٧ سنة.
  • المدرسة: ليسيه فنلون.

لو نظرنا إلى أنفسنا على أننا «أدواتٌ في يد التاريخ» لكان معنَى ذلك أننا نجعل من التاريخ فكرة، وتجريدًا مستقلًّا عن تحققه، وبالتالي شيئًا لا يمكن التأثير فيه، أي إننا إما نجعل منه تسلسلًا من الحتميات التي تماثل في ثباتها قوانين الجاذبية الكونية، وإما نجعل منه — على عكس ذلك — تعاقبًا لمصادفاتٍ ليس للإنسان أي سلطان عليها، وفي هذا إغفال لحقيقةٍ لا شك فيها، وهي أن التاريخ لا يوجد إلا لأن هناك بشرًا يصنعونه ويفكرون فيه.

إن من الواضح أن علم التاريخ علمٌ إنساني، ولكنه ما دام علمًا فلا بُدَّ أيضًا أن تكون هناك روابطُ سببيةٌ وقوانين عامة في المسار التاريخي، وعلى ذلك فليس التاريخ مجرد تراكم سطحي «لمصائرَ عظيمة» أو لأفعالٍ فردية، أي إن القول بأن الإنسان صانع التاريخ لا يقدم تفسيرًا واضحًا للمسار الكلي للتاريخ؛ فمن الواجب إذن إيضاح الدور الحقيقي للبشر بالنسبة إلى التاريخ ومعرفة ما إذا كنا نحن الذين نصنع التاريخ، أم أنه هو الذي يحركنا.

إن التاريخ هو عملية تغيير الطبيعة والمجتمع عن طريق فاعلية البشر؛ ففي كل لحظة إذن يكون التاريخ ناتجًا عن ملايين الأفعال الفردية التي توجد لها أسباب ولها غايات متباينة، بل متناقضة في كثيرٍ من الأحيان، ومن ثَم فهي أفعال يستحيل التعرُّف عليها في محصلتها النهائية، مع أن هذه المحصلة لم تتكوَّن إلا منها. ولكن إذا كان السبب الرئيسي لكل هذه الأفعال هو الصراع من أجل الحياة ضد القوى المعادية في الطبيعة، أو الصراع من أجل مصالح فردية متباينة، فمن الواضح أن لها أساسًا مشتركًا، يتمثل في حالة الثروات المتراكمة، وحالة الأساليب التكنيكية والمعارف في عصرٍ معيَّن، وفي الظروف السياسية والثقافية والصراعات والعادات الموروثة من العصور الماضية؛ ذلك لأنه إذا كانت هذه العواملُ كلها نتاجًا للإنسان، فإنها مع ذلك توجد خارجه، ووجود هذه العوامل الموضوعية جميعها يتحكم في مسار التاريخ في أية لحظة بعينها.

وصحيح أن مجموع هذه الشروط هو نتاج لتراكم عمل البشر ولتفاعلهم بعضهم مع البعض، غير أن الروابط التي تربطها بأسبابها وتربطها بعضها ببعض، لمَّا كانت أَعْقَد من أن تظل روابط واعية، فإنها تصبح بالفعل معرضةً للتجاهل والإغفال، وهكذا لا يكون التاريخ حصيلة الفعل الواعي للبشر، بل حصيلة الحالة الموضوعية للعالم الذي يمارس البشر فعْلَهم عليه؛ ذلك لأنه لا يوجد أي إصرارٍ واعٍ يتدخل في محصلة هذه الأفعال الفردية، التي هي أصل كل تغيير أولي، وهكذا يبدو للبشر أن مسار تاريخهم الخاص غريبٌ عنهم؛ لأن الناس يكونون بالفعل عاجزين — على المستوى الفردي — أمام التاريخ، إن لم يرتكزوا على تلك الحقيقة الواقعية التي تتحكم فيهم بقدْر ما تكون قد اكتسبت وجودًا مستقلًّا ودينامية مستقلة («من المستحيل إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء» من المستحيل العودة إلى العصور الوسطى).

وعلى ذلك فإن الناس يَبْدُون كما لو كانوا أدواتٍ في يد التاريخ، ولكنهم يبدون أيضًا كما لو كانوا صانعيه، أعني صانعين غيرَ واعين عندما يكون فعلهم مقتصرًا على المساهمة الفردية في الحياة الاجتماعية (كالعمل والقراءة والدراسة والانتخاب)، أو صانعين واعين — على ما يبدو — حين يكون الأمر متعلقًا بأفرادٍ يقومون بدور «تاريخي» (نابليون أو هتلر)، ولكنهم في الواقع يكونون عندئذٍ أيضًا معتمدين على التاريخ «الموضوعي»، ما داموا لا يكونون — في أية لحظة بعينها — سادةً للتاريخ ومتحكمين فيه إلا لأن الناس لا يمكنهم أن يستعيدوا السيطرة على التاريخ بصورةٍ واعية، ولا يظلون سادة له إلا بقدْر ما يمتثل الناس لرغبات الجماعات المسيطرة في تلك اللحظة، وهذه الجماعات لا تكون هي ذاتها مسيطرة إلا لأسبابٍ مادية تبدو في الظاهر عشوائية.

ولكن إذا كان التاريخ غريبًا بالنسبة إلى الفاعل الرئيسي، فمردُّ ذلك إلى أن الإنسانية ليست كلًّا متجانسًا متماسكًا؛ فمن الجلي أننا لا نستطيع أن نصبح صانعين للتاريخ إلا عن طريق الفهم الفعلي العلمي للمسار الموضوعي، وعن طريق أخذنا لهذا المسار على عاتقنا، واستيعابه في داخلنا، أي عن طريق فهْم الواقع فهمًا شاملًا؛ فليس من الممكن التأثير في كل معقَّد ومتناقض إلا عن طريق معرفة عناصره الرئيسية، ولنلاحظْ أننا عندما نتحدث عن الإنسان بوصفه صانعَ التاريخ، فلا بُدَّ أن يكون حديثنا منصبًّا على مجموع البشر، لا على جماعةٍ فوضت إليها البشريةُ أمرَها على نحوٍ ما. وعلى ذلك فمن المستحيل أن يحدث ذلك إلا عن طريق التأثير المباشر في التاريخ، أي عن طريق معرفة قوانينه، والواقع أن تلك العصور التي صنع فيها الإنسانُ تاريخه — كعصر ثورة ١٧٨٩م (الثورة الفرنسية) — تتميز بالتوافق بين اتجاهات المسار التاريخي (أي نمو الطبقة البورجوازية وتداعي السلطة الملكية) وبين وعي الناس، أما حين لا يوجد هذا التوافُق من تلقاء ذاته، فمن المستحيل خلقه إلا عن طريق الفهم العام ومعرفة هذه القوانين عن وعي.

إن من الواضح أن ما يؤدي إلى وجود فجوة بين أفعال البشر والتاريخ هو الاختلاف والتناقض بين مصالح القائمين بهذه الأفعال، والواقع أن من المستحيل أن يأخذ المجتمع على عاتقه — عن وعي — مهمةَ تنظيم تاريخه إذا كان هذا المجتمع قائمًا على الصراع الفردي من أجل العيش، وعلى ذلك فلا يمكن التأثير في التاريخ إلا بتوحيد المصالح الأساسية ككل (وهو التوحيد الذي قامت به — مثلًا — الثورة الفرنسية في عام ١٧٨٩م ضد السلطة الملكية)، وهذا التوحيد لا يأتي إلا بالعمل في نفس اتجاه المسار غير الواعي، فلا يمكن التأثير في التاريخ إلا بمعرفة قوانينه، ولا يمكن الانتفاع من هذه القوانين إلا باتباعها (وهكذا فإن قيامَ شعوبٍ كالشعب الجزائري بأخذ مستقبلها الاقتصادي في قبضة يدها، يُعَدُّ تحقيقًا واعيًا ومنظمًا لمهمة التصنيع التي تمت بصورة طبيعية أو تلقائية في البلاد الرأسمالية خلال القرن التاسع عشر).

إن التاريخ لا يوجد خارج البشر رغمًا عنهم إلا لأن ما يُطلق عليه اسم البشرية هو في واقع الأمر مجموعةٌ من القوى المتباينة المتناقضة، وبالتالي لأن التاريخ هو محصلة هذه الصراعات، وهي محصلة تتحقق على أساس التاريخ الماضي بعد أن أصبح حقيقة موضوعية «طبيعية» لا واعية على نحوٍ ما.

وبهذا القدْر يكون الإنسان أداةً في يد التاريخ، ولكنه بمعنًى أهم هو صانعه، ليس فقط لأنه هو الذي يُنتِج التاريخ، بل أيضًا لأنه يستطيع أن يتحكم فيه عن طريق إعادة السيطرة على ناتجه الذي أصبح غريبًا عنه، وذلك بفضل المعرفة والتنظيم.

فمن الواجب إذن أن ننظر إلى أنفسنا على أننا صانعو التاريخ، ما دام هذا وحدَه هو سبيلنا إلى أن نصبح صانعيه بالفعل، أي أن نقبض بكلتا يدينا على زمام تاريخنا، ونجعل تلك العملية الفعلية — عملية إنتاج البشر للتاريخ — عملية واعية لإرادتنا.

١  الفكر المعاصر، العدد ٧٧، يوليو ١٩٧١م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤