ما هكذا الناس في بلادي

لو سُئل أنصار «الشعر الحديث» في الإقليم المصري: من هو شاعركم الأول؟ لأجابوا — فيما أُرجِّح — هو صلاح عبد الصبور؟ ولو سُئل صلاح: ما ديوانك؟ لأجاب: هو ديوان «الناس في بلادي». وعنوان الديوان هو نفسه عنوان لإحدى قصائده، فلا بد أن تكون هذه القصيدة أثيرة عند الشاعر، فإذا أراد ناقد أن يختار قصيدة واحدة من قصائد هذا الديوان، لما كان في اختياره لهذه القصيدة خطأ ولا إجحاف.

أقبلتُ على هذه القصيدة إقبالَ قارئ مستسلم خاشع للقطعة الفنية الماثلة أمام بصره، يحترم فيها كلَّ كلمة من كل سطر، فينظر إلى الكلمة الواحدة نظرةً تحيط بها من شمائلها وأيمانها، وتغوص فيها إلى القلب والصميم، ثم تتعقب الخيوط الواصلة بينها وبين سائر أخواتها، ناسجةً منها جميعًا نسجًا أراد له ناسجُه أن يجيءَ محكمَ الروابط بين اللُّحمة والسَّدَى.

وقوامُ القصيدة ثلاثة أجزاء: أولها من ثمانية أسطر، قدَّم فيه الشاعر صورة عامة للناس في بلاده، من أي صنف هم، وثانيها من خمسة وعشرين سطرًا، جسَّد الشاعر فيها أبناء بلده في فرد واحد منهم هو «عمي مصطفى»، وثالثها من اثنَي عشر سطرًا، أبرز فيها الشاعرُ حبل الحياة الموصول في بلاده، فتعقب عمه مصطفى إلى حفيد من أحفاده ليرى أي الثمار قد أنتجت تلك البذور … وغنيٌّ عن البيان أن الشاعر لم يلتزم من قواعد الشعر الموروثة شيئًا إلا «وحدة التفعيلة» يضع منها في كل سطر أيَّ عدد شاء.

ولو ناقشت الشاعر في التزام القواعد الموروثة أو عدم التزامها، لخرجت به من حِصنه لأحاربه في الفضاء المكشوف، وربما كان في ذلك غبنٌ عليه، فلنترك — إذن — هذا الجانب الآن من جوانب الموضوع، لنلتقيَ بالشاعر حيث يريدنا أن نلتقيَ به، فنواجه الخبرة الحية، التي أخرجها من أعماق نفسه عن الناس في بلاده، بغضِّ النظر عن القالب الذي تستوي فيه تلك الخبرة.

١

الناس كما يراهم الشاعر في بلاده «جارحون كالصقور»، ليسوا هم كالعِقبان جارحين في شرف ونُبل، بل هم كالصقور يخطفون خطفًا في خسَّة وغدر، قد تأخذهم النشوةُ فيغنون، لكن أي غناء؟ غناء «كرجفة الشتاء في ذؤابة الشجر»، غناء بارد برودة الشتاء، مرتجف رجفة الخائف، يهزُّ الأطراف الظاهرة ولا ينبعث من القلب، فهو غناء كالنواح؛ لأن ريح الشتاء في أطراف الشجر تنوح ولا تغني، لكنه نواحٌ لا يستدرُّ العطف بل يفزع ويخيف، والناس في بلاد الشاعر قد يضحكون، لكن «ضحكهم يئزُّ كاللهيب في الحطب»؛ فهو — إذن — ضحك متأجج بالحقد الذي يأكل قلب صاحبه أكلًا. والناس في بلاد الشاعر قد يهمُّون بالحركة، لكن خُطاهم سرعان ما «تسوخ في التراب»؛ لأنهم بطاء ثقال غلاظ، وحتى إذا ساروا فإلى أيِّ شيء يسيرون؟ يسيرون للقتل والسرقة، وإذا جلسوا فلأي شيء يجلسون؟ يجلسون للشراب فيشربون ويجشئون.

هكذا الناس في بلاد الشاعر طغمة من الأبالسة والشياطين، يفتكون ويرجفون ويحقدون ويقتلون ويسرقون ويشربون ويجشئون، وهي صورة تهول الشاعر فيستدرك: «لكنهم بشرٌ وطيبون حين يملكون قبضتَيْ نقود» … فهم — برغم كلِّ ما سلف عنهم من صفات — بشر! لهم ما للبشر من قلوب طيبة، على شريطة أن تمتلئَ القبضتان بالنقود، اسمعوا وعوا، أيها القرَّاء، وإذا وعيتم فانتفعوا … إن قبضة واحدة من النقود لا تكفي ثمنًا لطيبة القلب الإنساني، فإذا أردتم للصقر الجارح أن ينقلب إنسانًا، إذا أردتم لصاحب القلب المتجمد كصقيع الشتاء أن يدفأ بالعواطف الشريفة، إذا أردتم لمن يغنِّي غناءً كفحيح الأفاعي ولمن يضحك ضحكات تستعر بحقد الشياطين أن يكون إنسانًا طيب القلب، فعليكم بقبضتين من نقود، فقبضة واحدة بيد واحدة تترك اليد الأخرى طليقة، واليد الطليقة لا تعرف ولا ترسم ولا تكتب … إنها تفتك فتكَ الصقور الجوارح، ومن يجعل للفضيلة ثمنها عدًّا ونقدًا، كان من حقِّه ألا يؤمن بالقدَر، لكن شاعرنا يختم مقطوعته الأولى عن الناس في بلاده بأنهم «مؤمنون بالقدر».

ولولا هذه الفلتة الشاذة التي أحدثت قلقلةً في الصورة، لكان الجزء الأول من القصيدة قويًّا في طاقته الشعرية؛ إذ ليس المعيار الخلقي من شأننا الآن، فحسب الشاعر أن يكون هذا هو شعوره إزاء الناس في بلاده. ولقد عبَّر عن شعوره ذاك تعبيرَ شاعر يعرف كيف يتكلم بلغة الصور المجسدة، وهي لغة الشعر بمعناه الصحيح.

٢

وينتقل بنا الشاعر من الصورة العامة التي رسمها للناس في بلاده إلى صورة خاصة يخص بها فردًا واحدًا من هؤلاء الناس، وهذه علامة دالة على شاعريته؛ إذ الشعر في صميمه يخصص ولا يعمم، ويجسد ولا يجرد، وكيف يكون التخصيص والتجسيد حين يكون موضوع الحديث هو الناس، إلا أن ينصبَّ الحديث على فرد واحد وفي حالة معينة من حالاته؟

وهذا ما صنعه الشاعر هنا؛ فيبدأ مقطوعته الثانية بقوله: «وعند باب قريتي يجلس عمي مصطفى.» ولماذا عند الباب؟ ليكون بمثابة السطر الأول من قريته، ليجلس وسطًا بين الحقل والدار؛ ففي الحقل عمل وفي الدار نوم، فلا ساعات العمل الجاد بصالحة للتأمل في عبرة الحياة، ولا رقدة النعاس الثقيل بمسعفة، إذن فليجلس عمي مصطفى عند «باب القرية» يقطع الطريق على أبناء الحقول بعد فراغهم من العمل وقبل إيوائهم إلى المخادع. ومتى يجلس عمي مصطفى جلسته تلك؟ بطبيعة الحال لا بد أن تكون تلك الجلسة ساعة الغروب؛ لأنها ساعة الرواح والعودة «فهو يقضي ساعة بين الأصيل والمساء». ومن أي نوع من الرجال يا ترى يكون عمي مصطفى؟ إنه — كما يقول الشاعر — «يحب المصطفى»، أي أنه قد ملأ الورعُ قلبَه فاستغرق في حبِّ نبيِّه الكريم. وحتى اسمه «مصطفى» لم يَجئْ كما اتفق، بل إنه اسمٌ مقصود على مسماه، كأنه وصفٌ يصف لا اسمٌ يُسمَّى، وإلا لما تلاحق في ذهن الشاعر اسمه واسم المصطفى في السطرين الأول والثاني، كأنما يريد أن يحدِّد لقارئه أبرز نواحي الشخصية التي اختارها ليُبرزَ فيها خصائص الناس في بلاده.

لكن يا لها من نقلة من النقيض إلى النقيض! فكيف يكون هذا التقي الورع الطيب القلب نموذجًا لجماعة طابعُها الخطف والسرقة والقتل والإغراق في الخمر، وطابعها كذلك تحجُّر القلب، وبرودة العاطفة، والغل والحقد؟ أيكون عمي مصطفى قد ملأ قبضتيه بنقود الفلاحين ثمنًا للحكايات التي يحكيها لهم من عِبَر الحياة، فكان للنقود أثرُها السحري في تحويل قلبه من الغلظة إلى الرقة كما كان إكسير الكيماويين الأقدمين يحوِّل النحاس ذهبًا؟ الله أعلم والشاعر.

يجلس عمي مصطفى جلسته تلك «وحوله الرجال واجمون، يحكي لهم حكاية … تجربة الحياة، حكاية تُثير في النفوس لوعة العدم، وتجعل الرجال ينشجون، ويطرقون، يحدِّقون في السكون، في لجَّة الرعب العميق والفراغ والسكون.»

ما هذه الحكاية يا تُرى التي تُثير في الفلاحين المكدودين بعد نهار كلُّه عملٌ شاق مجهد، وما زال الطين يملأ الأكف والأقدام؛ تُثير فيهم هذه اللوعة كلها، حتى لَينشجون ويطرقون ويفزعون هولًا ورعبًا؟ هنا يصمت الشاعر ليترك الحديث لصاحب الحديث فيفتح شولتين ليأخذ عمي مصطفى في الرواية بصوته … أتدري بماذا يستهلُّ عمُّه مصطفى حديثَه إلى الرجال الواجمين من حوله؟ يستهله بسؤال: «ما غاية الإنسان من أتعابه؟ ما غاية الحياة؟» ولمن يوجه السؤال؟ يوجهه إلى «الإله». ولن أعلق هنا على كلمة «أتعاب» التي تذكرني بالسماسرة في سوق البيع والشراء، لكني أفزع إذ أتمثل الفلاح الذي جاء من عناء النهار الطويل، وهو يتلقَّى أول كلمة عند «باب القرية» فتكون هذه الكلمة الأولى هي: «ما غاية الإنسان من هذا التعب كلِّه يا أيها الإله؟ لكن هكذا يُنطق الشاعر عمَّه مصطفى الطيب وهو يحكي لمن هم ذوو قلوب طيبة! هذه هي بساطة الريف وهذا هو إيمانه كما أحسَّه الشاعر، فإذا بساطة الريف وإيمانه قد استحالَا بغتة في إحساسه الشعري إلى شكوك فلسفية تسأل خالق الحياة عن غاية الحياة!

وبعد إثارة هذا التشكك الفلسفي في أنفس «الرجال الواجمين»، يأخذ عمي مصطفى في حكايته، فإذا هي حكاية فلان الذي «اعتلى وشيَّد القلاع»، والذي ملأ أربعين غرفة بالذهب، ثم ما هو ذات مساء إلا أن جاءه عزرائيل يحمل بين أصبعَيه دفترًا صغيرًا، فيه قائمة بأسماء من جاء ليقبض أرواحهم، وأول اسم فيه ذلك الفلان، ومدَّ عزرائيل عصاه، بسرِّ حرفَي «كن» بسرِّ لفظ «كان»، وفي الجحيم دحرجت روح فلان». وبهذا ختم عمي مصطفى حكايته، وليتذكر القارئ أن فلانًا ذاك قد جمع الذهب وبنى القلاع من «أتعابه» — وهذه هي كلمة الشاعر — فلماذا يا ترى يجعل عزرائيل اسمه أول الأسماء في دفتره، ثم لماذا تدحرج روحه في الجحيم. أكانت تكون الجنة مثواه لو لم يتعب؟ علْم ذلك عند الله والشاعر! لكن الشاعر يتنصَّل من التبعة، فيختم المقطوعة بعتاب يوجهه إلى السماء: «يا أيها الإله! كم أنت قاسٍ موحش يا أيها الإله.» وأنا إن فهمت كيف يكون الإله قاسيًا، فلا أفهم كيف يكون موحشًا؟ وعلى كل حال فالشاعر مشكور على حسن عاطفته نحو فلان المسكين الذي أصابه على يد الإله القاسي ما أصابه.

مشكور؟! كلا، فالحكاية وإن تكن حكاية عمي مصطفى للفلاحين، يرويها لهم ليتعزوا عن بؤسهم وفقرهم، إلا أن الشاعر يضع صوت نفسه بين قوسين حتى لا يختلط بكلام عمِّه مصطفى، وهو صوت يسخر به من ذلك الفلان الكادح الذي جاءه عزرائيل، ويتشفَّى كأنما فلان ذاك عدوه اللدود لجريمته الشنعاء، التي هي أنه أتعب نفسه في حياته «وما غاية الإنسان من أتعابه، غاية الحياة؟» كيف لم يدرك ذلك الغبي الأبله — هكذا يريد الشاعر أن يقول — أن تعبه وحياته كانَا بغير جدوى وإلى غير هدف وغاية؟! إذن فحلالٌ ما أصابه.

٣

إلى هنا كانت نفوس الناس مطمئنة؛ فهم إن كانت بهم مسغبة، فجزاؤهم عند الله هو أن عزرائيل مشغول عنهم بالأغنياء الذين ملئوا خزائنهم بالذهب بعد التعب … لكن وا خيبةَ الرجاء! لقد مات عمي مصطفى، ووسدوه في التراب، لم يبنِ القلاع (كان كوخه من اللَّبِن) فكيف يموت من يسكن الكوخ؟ أمسغبة وموت معًا؟ تُرى ماذا أحسَّ الفلاحون الفقراء إزاء موت فقير مثلهم؟ يقول الشاعر: «لم يذكروا الإله أو عزرائيل أو حروف «كان»، فالعام عام جوع.» أي أن غشاوة الإيمان بالخوارق قد زالت عن أبصارهم، واصطدموا بالواقع اصطدامًا أيقظهم بعد غفلة ورقود، وإنها ليقظة جاءت ثمرة ما كان بذرَه عمي مصطفى في النفوس، وإذن فحكايته لم تذهب سُدًى؛ فقد وقف حفيده «خليل» عند باب القبر، يلوِّح للسماء بزنده المفتول، وينظر لها «نظرة احتقار» كأنما يريد أن يقول لها: بذراعي المفتولة هذه أظفر بحقي، لا برحمة منك أيتها السماء. و«خليل» هنا بالطبع هو الشاعر نفسه، وقد اعتملت في جوانحه عوامل الثورة التي بذر بذورها آباؤه وأجداده. وبهذه الفقرة يرتدُّ خيال القارئ إلى ما قد بدأت القصيدة به «الناس في بلادي جارحون كالصقور» … إلخ.

هذا هو شعور الشاعر إزاء الناس في بلاده، لكن ما هكذا الناس في بلادي، فإذا كان الشاعر قد باع القالب الشعري ابتغاء مضمون، فقد ضيَّع علينا القالب والمضمون معًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤