أحدُ أهداف هذا الكتاب أن أُطلِع القراءَ الذين لديهم خلفيةٌ ضئيلةٌ في الفلسفة،
أو لا
خلفيةَ لديهم، على مسائلَ مركزيةٍ في فلسفة العقل، وأن أعمل ذلك بطريقةٍ تُبيِّن الأبعادَ
الميتافيزيقيةَ لتلك المسائل. ومدخلي في ذلك يختلف عن تلك المداخل التي تركِّز على
الروابط
بين فلسفة العقل ومجالات تجريبية عديدة، مثل علم النفس، وعلم الأعصاب، والذكاء الصناعي.
ليس
الأمرُ أنني أعتبر العملَ التجريبي غيرَ ذي صلة بفلسفة العقل، إلا أنني بعد سنوات
من الشك
صرتُ على قناعةٍ بأن الأسئلة الفلسفية الأساسية عن العقل تبقى أسئلةً ميتافيزيقية،
حيثُ
تُفهَم الميتافيزيقا كشيءٍ أكثرَ من المَسعَى القَبلي a
priori إلى حقائق أزلية؛ فالميتافيزيقا كما أراها تأخذ أقوالَ العلوم
مأخذَ التسليم. والأسئلة الأساسية، بتحديدٍ أكثر، هي أسئلة الأنطولوجيا، أي أفضل وصفٍ
لنا،
بأكثر الحدود عموميةً، لما هو موجودٌ هنالك.
وللأنطولوجيا ضوابطُ صورية، شأنها شأن أي بحث منهجي آخر؛ فالدعاوي الأنطولوجية يجب
أن
تكون مترابطةً داخليًّا، كما أن الدعاوي الأنطولوجية ينبغي أن تكون قابلةً للتوافق
مع
المعارف العلمية الثابتة. غير أننا حين ننظر في كل أنطولوجيا يمكن تخيلها، والتي هي
متسقة
مع ذاتها ومع إقرارات العلم، يمكننا أن نرى أن المجال يظل مفتوحًا على مصراعيه. ثمة
شيءٌ
آخر يلزمنا إذا كان لتقييمنا للمداخل المتنافسة أن يكون أكثر على أي نحوٍ من مجرد
تعبيرٍ عن
التفضيل. هذا الشيء الآخر يكمن في القوة النسبية للمخططات البديلة. فالأنطولوجيا التي
لا
تلفتنا فحسب بمعقوليتها (بمعنى أنها مترابطة مع نفسها، ومتسقة مع العلم والخبرة المشتركة)،
بل تقدِّم في الوقتِ نفسِه حلولًا لنطاقٍ عريض من المشكلات، بحيث تجعل هذه الحلولَ
تبدو
محتومة؛ هذه الأنطولوجيا علينا أن نفضِّلها على الأنطولوجيا التي تقدِّم حلولًا جزئيةً
لنطاقٍ ضيقٍ من المشكلات.
تسود الساحةَ في الوقت الراهن أنطولوجيا العوالم الممكنة١possible worlds لديفيد لويس
David Lewis. يُسلِّم لويس، بالإضافة إلى العالم
الفعلي، بعددٍ لا نهائي من العوالم الممكنة الحقيقية، ولكن غير الفعلية. يختلف كل
عالم من
هذه على نحو ما عن العالم الفعلي وعن كل العوالم الممكنة الأخرى. وباللجوء إلى ملامح
هذه
العوالم، يدَّعي لويس تقديم تفسيرات لحقائق مهمة تَصدُق على العالم الفعلي.
تصدم أنطولوجيا لويس في العوالم الممكنة كثيرًا من الفلاسفة (وجميع غير الفلاسفة)
كشيءٍ
غير معقول. ورغم ذلك فما زال كثيرٌ من هؤلاء الفلاسفةِ أنفسِهم يلجَئون إلى العوالم
الممكنة
لتبيانِ مفاهيمَ هامة؛ مفهوم التسبيب causation (العلية)
مثلًا، مفهوم القوة العلية أو الاستعداد، مفهوم الضرورة؛ فما دمتَ ترفض أنطولوجيا
العوالم
الممكنة فغيرُ مفهومٍ مثلُ هذا اللجوء. إن صانعات الصدق٢ عند لويس للدعاوي حول العوالم الممكنة هي العوالم الممكنة. فإذا كنتَ تزدري
العوالمَ الممكنة، وتلجأ رغم ذلك إليها في تبيان العِلية مثلًا، فماذا يجعل تقريراتِك
صادقةً أو كاذبة؟ إذا كانت العوالمُ الممكنةُ غيرُ الفعلية لا وجود لها، فمن المفترض
إذن أن
دعاويك تتأسس في ملامح (ملامح داخلية) العالم الفعلي. ولكن لماذا إذن لا تلجأ مباشرة
إلى
هذه الملامح؟ ما الحاجةُ لاستدعاءِ احتمالاتٍ غيرِ فعلية؟
أعتقد أن لدينا حقًّا أن نشك في كل من يتقبل الجهازَ الصوري للعوالم الممكنة، بينما
يرفض
الأنطولوجيا. وأعتقد حقًّا أننا قد نكون أكثر تشككًا في التقنيات الصورية بصفة عامة
عندما
تُستخدَم هذه للإجابة عن أسئلة جوهرية في الميتافيزيقا وفي فلسفة العقل. وما دمنا
متلبثين
في مستوًى صوري للخطاب، فإن من السهل أن نفقد الاهتمام بما عساه أن يؤسس دعاوينا.
وأعتقد أن
هذا قد أدى إلى ذلك النوع من العُقم التكنيكي المميِّز لكثيرٍ جدًّا من الفلسفة التحليلية
المعاصرة.
لستُ أنكر أن للتكنيكات الصورية مكانَها. إنما أريد فقط أن أشير إلى أن من الخطأ
تصوُّر
أن هذه التكنيكات يمكن الاعتماد عليها في كشف التفاصيل الأنطولوجية الخفية لعالمنا.
وثمة
مثال جيد للتأثيرات الضارة للصورية التي لا أساس لها يمكن أن نجده في الميل إلى الدمج
(إن
لم يكن رسميًّا فعمليًّا) بين المحمولات — الكيانات اللغوية — والخواص. وهذا قد يُفضِي
إلى
أحاجٍ خادعة: هل ثمة خواص فَصلية disjunctive؟ يرد البعض:
طبعًا؛ إذا كان ق خاصة، ك خاصة، إذن ق ك (ق أو ك) خاصة.
حقًّا إذا كان ق، ك محمولين يدلان على خاصتين، فإن بوسعنا إذن أن نشيِّد محمولًا
فَصليًّا، ق ك. أما الأقل وضوحًا فهو هل هذا يعطينا أي حق لافتراض أن ق ك تُسمِّي خاصة من الخواص؟ وأنا أشك بأن فكرة خاصة الفصل لا معنى لها إلا
لأننا نتخيل أن الخاصة هي أي شيء يفي بمحمول، ولكن هذا أشبه بذيلٍ لغوي يهز كلبًا
أنطولوجيًّا!
وأنا أذكر كل هذا بقصد أن ألفِتَ الانتباهَ إلى غياب الوسائل الصورية، واللجوء إلى
أفكار
جهوية بحتة، مثل العارضية supervenience واستحضار العوالم
الممكنة في الفصول المقبلة. لقد تنكبتُ هذه الفخاخَ التقنية، ومن فضائل ذلك، إن لم
يكن له
أي فضائل أخرى، أنه يجعل الكتابَ بالتأكيد أقربَ مأخذًا بالنسبة للقارئ غير المتخصص.
وفي كل
الأحوال فإن فلسفة العقل (بل الميتافيزيقا بعامةٍ في الحقيقة) ليست — أو ينبغي ألا
تكون —
تدريبًا تكنيكيًّا. يجب أن تكون الدعاوي الفلسفية قابلة للتعبير عنها دون اعتماد على
المصطلحات المتخصصة، ولقد حاولتُ جهدي أن أقول ما عليَّ أن أقوله دون لجوء إلى هذه
المصطلحات. يعنُّ لي هذا كتدريبٍ هام لكل فيلسوف، فكم من شيء يمكن أن يندسَّ، وشيءٍ
يبقى
غير مُفسَّر إذا سمحنا لأنفسنا أن نلجأ إلى الرطانة الفلسفية.
ورغم أنني كتبتُ هذا الكتاب وعيني على القارئ غير المتخصص، فقد قصدتُ أن يكون أكثر
من
مجرد مسحٍ للنظريات الجارية. فأنا أتناول عددًا من المسائل التي قد تهمُّ الفلاسفةَ
المتمرسين، وتهمُّ غيرَ الفلاسفة ذوي الاهتمام المهني بالعقول وطبيعتها. وغاية أملي
من هذه
المقاربة أن تشجع آخرين أن ينقِّبوا في الأساس الأنطولوجي للخاصة العقلية.
سيتعجب بعضُ القراء من أنني أُضمِّن كتابي آراءً معينةً، وأقلِّل من أهمية، أو أُغفِل،
آراء أخرى. ولكن في كتاب من هذا الصنف يتعين على المرء أن يتخير: من غير المستطاع
أن يُنصف
المرءُ كلَّ موقف، لذا فقد اخترتُ ما بدا لي أنه المسائل والآراء المركزية في فلسفة
العقل،
وركزتُ عليه. وآمل في النهاية أن أرشد القراءَ المتفتحين إلى ما يبلغ أن يكون منظورًا
جديدًا إلى هذا المجال.
لي ملاحظة عملية أخرى: أتوقع من المعلمين الذين يستخدمون هذا الكتاب كجزء من منهج
في
فلسفة العقل أن يكملوه بقراءات في المصادر الأصلية. لذا ضمَّنتُ في نهاية كل فصل قائمةً
بقراءاتٍ مقترَحة. يمكن أن تفيد هذه القراءات في سد الفجوات الملحوظة، وفي التعويض
عما هو
غير موفَّق في عَرضي.
وقد خطر لي تأليف هذا الكتاب عندما كنت أُتِم عملًا سابقًا: «طبيعة العقول الحقيقية»
Nature of True Minds (Cambridge: Cambridge University Press,
1992). واسطةُ العِقد في هذا العمل السابق هو شرحٌ مفصل لمشكلة التسبيب
العقلي (العلية العقلية) mental causation: إذا كانت الخواص
العقلية تعتمد على، ولكن غير متماهية مع، الخواص المادية، فكيف أمكن للخواص العقلية
أن تؤثر
في السلوك؟ وبينما أنا مشتبك مع تفاصيل وصفي للتسبيب العقلي (وهو وصف يدين بالكثير
لعمل
زميلي ألفرد ميلي) تفتَّق في ذهني أن أي حل للمشكلة سوف يتطلب ترحالًا طويلًا في
الأنطولوجيا. وبصفة أعم، بدأتُ أرى أن محاولات الإجابة عن أسئلة في فلسفة العقل التي
تُغفِل
الأنطولوجيا، أو التي تعتمد (مثل محاولاتي) على افتراضات أنطولوجية احتيالية
ad hoc،٣ هي محاولاتٌ مقدَّر لها أن تكون غير وافية، وكانت النتيجة شيئًا أشبه بالتحول
الديني.
لقد وضعني على طريق «الجِدية الأنطولوجية» محادثاتٌ (معاركُ ضاريةٌ في الحقيقة) مع
مارتن
C. B. Martin، وكانت أولُ ثمرة مخطوطًا بطولِ كتابٍ عن
الميتافيزيقا وفلسفة العقل اكتملَ أثناء إجازةٍ في باركلي في ١٩٩٣-١٩٩٤م. فالكتاب
الذي بين
يديك هو قريبٌ بعيد لذلك المخطوط. وأنا مُمتنٌّ لكلية ديفيدسون وللوَقفِ القومي للإنسانيات
لدعمهما السخي، وممتنٌّ لقسم علم النفس، جامعة كاليفورنيا، باركلي، لإضافتي. وأَدين
دَينًا
خاصًّا للِين ديفيدسون وكارولين سكوت لدعمهما الإداري، ولبيوت الدعوة المشيخية بباركلي
لتقديم إقامة لأسرتي.
لقد أسهم كثيرٌ من الأشخاص في فكري في الموضوعات المطروحة في هذا الكتاب. أهم هؤلاء
على
الإطلاق هو مارتن. وأحرُّ ما أتمنى من القراء الذين أثارت اهتمامَهم الأفكارُ المعروضة
في
الفصل السادس؛ أن يتجشموا العَناء ويقتفوا مصادر تلك الأفكار في كتابات مارتن.
وقد أفدتُ فوائد لا تُحصَى من مناقاشاتي مع جون كارول، وردولف كلارك، وجفِن جزيدير،
وميشيل لوكوود، وإ. ج. لو، وديفيد روب، ودان ريدر، وأَمِي ثوماسون، وبيتر أنجر، وبيتر
فالِنتين، الذين قدَّم كلٌّ منهم تعليقات ثاقبة على أجزاء من المخطوط. وأنا مدينٌ
بشكلٍ خاص
للمساهمين في حلقتي الدراسية الصيفية NEH ١٩٩٦م، عن
ميتافيزيقا العقل في كورنِل، شاملين (إلى جانب كلارك وثوماسون) ليونارد كلاب، وأنتوني
دارنيس، وجيمس جارسون، وهيثَر جيرت، ومحمد علي خالِدي، وديفيد بيت، وإريك سيدِل، وستيفن
شوارتز، ونيجل ج. ت. توماس، وميشيل واتكينز. كثير من الأفكار التي تجدها في الصفحات
المُقبِلة انبثقت في مناقشات هذه الحلقة الدراسية. ولا يمكنني أن أتخيل في أي مكان
جماعةً
أكثرَ من هذه انسجامًا وفطنةً فلسفية، وحقًّا، جِديةً أنطولوجية.
وكان لعددٍ من الأشخاص، سواء في النقاش أو بالمراسلة، تأثيرٌ على أفكاري في مسائل
معينة
عرضت لها في هذا العمل. يستحق الذكر الخاص من هؤلاء ديفيد أرمسترونج، وريتشارد بويد،
وجيجون
كيم، وبريان مكلوجلين، وألفريد ميلي، وبريندان أوسوليفان، وسيدني شوميكَر. وقدم فريد
دريتسكي وكيم ستيرلني تعليقات مفيدة على المسوَّدة قبل الأخيرة للمخطوط. وأنا مَدين
بشكلٍ
خاص ﻟ إ. ج. لو لتعليقاتٍ له تفصيليةٍ ودقيقةٍ على كل فصل. وعندي أن لو هو واحدٌ من
حفنةٍ
صغيرة من الفلاسفة المعاصرين الذين تعكس آراؤهم في العقول ومكانها في الطبيعة تقديرًا
عميقًا للأنطولوجيا. وأخيرًا، وبالصفة الأهم، فإن الكتاب ما كان يمكن إنجازُه لولا
الدعم،
الفكري والخلقي وغير ذلك، المتصل بلا انقطاع، من جانب هاريسون هاجان هيل.
وقد تم إنجاز المخطوط أثناء عام زمالة في المركز القومي للإنسانيات (١٩٩٦-١٩٩٧م)،
ودَعَمه
المركزُ بمنحةٍ جامعية لكلية ديفيدسون، ودَعَمه الوَقفُ القومي للإنسانيات. وإنني
لَيُعجِزني التعبيرُ عن مَبلغ دَيني لهذه المؤسسات.
جون هِيل ربيع ١٩٩٧م
١
سيأتي ذكر العوالم الممكنة بتفصيلٍ مناسب في موضعه. (المترجم)
٢
سيأتي ذكر «صانعات الصدق» truth-makers و«حاملات
الصدق» truth-bearers في موضعها. (المترجم)
٣ ad hoc: (حرفيًّا: لهذا، من أجل هذا، من أجل هذا
الشيء بالتحديد)، أي: عينية، غرضية، منتقاة لسد حاجةٍ محدَّدة وتحقيق غرضٍ بعينِه.
وسنعرض لذلك أيضًا في موضعه. (المترجم)