الفصل السادس

العقول ومكانها في الطبيعة

في الفصول الخمسة السابقة اتخذنا طريقَنا خلال تنويعةٍ من المقاربات المتباينة إلى العقل. نشأت كلٌّ من هذه المقاربات في الأصل استجابةً لنطاقٍ معين من الألغاز. فديكارت، على سبيل المثال، استوقفه الفرقُ الواضح بين خواص الأشياء المادية والخواص العقلية، فاستجاب لذلك بأن حاجَّ بأن العقلي والمادي هما صنفان من الجوهر مختلفان تمامًا. أما السلوكيون، في المقابل، فقد عقدوا العزمَ على أن يجعلوا العقولَ موضوعات للبحث التجريبي مُقَدَّرة علميًّا. استلزم ذلك في نظرهم إثبات أن الحقائق حول العقول ومحتوياتها يمكن أن تُعاد صياغتها في حدودِ الحركاتِ الجسمية القابلة للملاحظة والميول الطبيعية إلى هذه الحركات.

يمكن أن يُنظَر إلى كل مقاربة من هذه المقاربات المتنوعة على أنها مقاربة ناجحة، على الأقل جزئيًّا، فكلٌّ منها يقدم إجاباتٍ لأسئلة تُعَدُّ مُلِحَّةً على نحوٍ خاص، وكلٌّ منها تحل مشكلاتٍ معينة، إلا أن كلًّا منها مُشَهَّرٌ أيضًا بأنه يترك حشدًا من المشكلات المحددة بلا إجابةٍ وبلا حل. ولا عَجَب في ذلك، فنظريات العقل قد دُفِعَ بها لكي تمكِّننا من التغلب على مسائلَ معينةٍ تُعَد، إبانَ طرحِها، مسائلَ محورية. وبقدر نجاحِ نظريةٍ ما، تتراجع المشكلاتُ التي تحلها إلى الخلفية، فيما تَبرُز تلك التي تتركها بلا حَل.

في هذا الفصل سأقدم وصفًا استقرابيًّا للعقل، يسعَى إلى إضفاء معنًى على ما قد يَلفِتُنا كأمرٍ مقبولٍ في كلٍّ من الآراء التي عُرِضَت حتى الآن، ولكن بمعزِل عن صعوباتها الملازِمة. وأعتبره ميزةً مهمةً في هذا الوصف أنه يضم الاستبصاراتِ الجوهريةَ لتنويعةٍ من النظريات المتباينة، بل المتضاربة. ثمة ميلٌ في الفلسفةِ إلى أن نأخذ المذاهبَ التي لا نتفق معها ونُلقِي بها بِرُمَّتِها.

غير أن الرأي قد يكون خطأ دون أن يكون خطأ كُلُّه. وعندما ننظر في التطور التاريخي للنظريات في فلسفة العقل يمكننا أن نرى نفسَ الصعوبات تدور عائدةً إلى بؤرةِ الاهتمام ثانيًا وثالثًا. فنجد جيلًا يتناول الجانبَ الكيفي من العقلية، والجيلَ التالي يركِّز على المكانة العلمية، وخَلَفه يعالج مشكلةَ المحتوى العقلي. ثم تعود الدورةُ سِيرتَها الأولى، ويُعيد كلُّ جيلٍ اكتشافَ ما غاب عن بصرِ سَلَفِه.

وإنه لَيكون من الحماقة في هذا السياق أن أَدَّعِي الابتكارَ والأصالة لأي رأي، فما من نقطةٍ أطرحُها في هذا الفصل إلا وطرَحَها من قبلُ فلاسفةٌ آخرون أكثرُ ابتكارًا. والأَبرَز بين هؤلاء هو س. ب. مارتن C. B. Martin. فالموقف الذي أقدِّمه هنا هو صيغةٌ من موقفٍ طوَّرَه مارتن عبر سنواتٍ عديدة. (انظر «قراءات مقترحة» من أجل قائمة من القراءات ذات الصلة.) ومارتن نفسُه يقتبسُ بحريةٍ من لوك ورسل، ويستعيرُ (ولعله يُجفِل من هذه الخاطرة) من ديكارت وفتجنشتين.

لقد أكدتُ طوالَ هذا الكتابِ أهميةَ الميتافيزيقا — ولا سيما الأنطولوجيا — أي أفضل تقييمٍ لنا لما هو موجود، بالنسبة لفلسفة العقل. وأسعَى في هذا الفصل إلى أن أَفِي بهذا المبدأ. إن نتائجَ هامةً معينة فيما يتعلق بالعقول ومكانها في الطبيعة لَتترتبُ على ما أَعُدُّه أنطولوجيا معقولةً بحد ذاتها. وسأوضح هذه النتائجَ في الأقسام التالية، وإن كنتُ لا أحاولُ أن أدافعَ عنها بتفصيلٍ وعمق. يقع كثيرٌ من هذه النتائجِ خارجَ التصورات السائدة عن العقل، وذلك خيرٌ فيما أظن.

بِحَسبِنا هذا، فقد آن لنا أن نُشَمِّرَ عن سواعدِنا وننزلَ إلى العمل.

خلفية ميتافيزيقية

تتضمن فلسفةُ العقلِ هذه الأيامَ مكوِّنًا تجريبيًّا مهمًّا. وكثيرٌ من فلاسفة العقل يرَون أنفسَهم «علماءَ معرفيين (إدراكيين)» cognitive scientists، ويُصِرُّون على أن يباعدوا بين مساعيهم وبين غايات التقليد الفلسفي الذي يفرِّق بحِدَّةٍ بين العلم والفلسفة، آملين أن نستبدل بالتأمل الميتافيزيقي المنفلِت نظرياتٍ مستضيئةً بالعلم. ليس يعني ذلك بالضرورة أن نزيحَ الأسئلةَ جانبًا ونعكفَ على بحثٍ للمجال مستنيرٍ تجريبيًّا.

على أننا يجب أن نفرق بين أخذِ ثمارِ الجهود التجريبية مأخذَ الجِد، وبين أن نتخيلَ أن المشكلاتِ العميقةَ التي تكتنف فلسفةَ العقل سوف تتبخرُ بمجرد أن نصوغَ مسائلَنا بطريقةٍ تجعلها طَيِّعةً للحل التجريبي. وكما تتضح الأمورُ الآن، فحتى إذا امتلكنا نظريةً تجريبيةً وافيةً تمامًا في الوعي، فلن نكونَ بالضرورة في موضعٍ يجعلنا نميزُها كذلك؛ ذلك أن مشكلتَنا ليست نقصَ المعلومات المفصَّلة بقدر ما هي غيابُ إطارٍ وافٍ لإضفاء معنًى على أيةِ معلوماتٍ قد نحصل عليها. إن لدينا الكثيرَ لِنتعلمَه عن الدماغ. ولكن، كمثالٍ بارزٍ في الوقت الحاضر، من الصعب أن نرى كيف يمكن لأيِّ اكتشافٍ نيوروبيولوجي يمكن تصورُه أن يُعَلِّل لِكيفياتِ الخبرة الواعية.

وما أقترحه هو أننا يجب، قبل أن يتسَنَّى لنا أن نأملَ في تقديم نظريةٍ تجريبية في العقل، أن يكون لدينا تصورٌ واضح للأنطولوجيا التي تتبطنُها. من شأن هذا أن يعطينا، لا نسقًا أكسيوماتيًّا١ نستنبط من خلاله حقائقَ عن العقل، بل بِنيةً مناسبةً نضع داخلها الوقائعَ الإمبيريقية. إن مِحَكَّ أيِّ أنطولوجيا في اعتقادي هو قوَّتُها، قدرتُها على تقديمِ وصفٍ إجمالي معقول لكيف تقوم الأشياء. ويجب أن يكونَ هذا الوصفُ منسجمًا، إجماليًّا على الأقل، مع ملاحظة الحس المشترك المنضبطة بالعلوم. على أنه يتخطى العلومَ في تقديم إطارٍ موحِّد يمكن، داخلَه، للدعاوي الصادرة من العلوم المختلفة أن توضَعَ موضعَها؛ ذلك أن العلوم لا تتحدث بصوتٍ واحد.

الأشياء

دعنا نَشرَع في البداية. بتقريبٍ أول. يتضمن العالمُ أشياء تحمل علاقاتٍ مكانيةً وزمانية بين بعضها والبعض. بعضُ الأشياء معقدٌ لديه أشياء كأجزاءٍ له، وبعضُ الأشياء بسيطٌ بمعنى أن هذه الأشياءَ غيرُ مؤلفة من أشياء أخرى. ليس بِوُسعي أن أقدمَ برهانًا على أن بعضَ الأشياء بسيط. وإنكار هذا يستلزم أن كل شيء لديه أشياء كأجزاءٍ له. وأنا أعترف أن هذا إمكانٌ مجرد، ولكني لا أستطيع أن أرى كيف يمكنه أن يعمل. (إنه لَيثير ما وصفه إ. ج. لو E. J. Lowe بأنه «شعورٌ مُدَوِّخ» vertiginous feeling) تعتمد الأشياءُ المعقدة من أجل وجودِها على أجزائها، أي على الأشياء التي تكوِّنها. ولكنْ إذا كان كلُّ شيءٍ من الأشياء مؤلَّفًا من أشياء أخرى، فلن يكون ثمة شيء فيما يبدو لكي يؤسسَ وجودَ أي شيء.
لقد وصفتُ العالمَ على أنه يتضمن أشياء. وأنا أَعُدُّه سؤالًا إمبيريقيًّا (أي سؤالًا موجهًا للعلم) ذلك السؤالَ عما تكونه الأشياءُ وماذا تشبه. قد تكون الأشياءُ كُرَيَّاتٍ، شبيهةً بالجسيمات، في قالب «الذرات» التي تَصوَّرَها قدامى اليونان. وقد تكون الأشياءُ، في المقابل، حقولًا (مجالات) fields، أو نقاطًا أو مناطقَ من المكان-الزمان، أو حتى شيئًا أغرب من ذلك.

إذا كانت الأشياءُ حقولًا أو مناطقَ من المكان-الزمان، فستكون حركةُ الأشياء بالتالي مجردَ حركةٍ ظاهرية؛ مناطق متعاقبة تأخذ وتفقد خواصَّ بطريقةٍ معينة. وإن شئتَ نموذجًا مقربًا فتأمل حركةَ مشهدٍ يُعرَض على شاشة التلفاز، أو تقاطر الأضواء المتحرك حول مدخل سينما عتيقة الطراز. ربما يكون هذا حالها بصفةٍ عامة تمامًا. إن كرة بلياردو تتدحرج عبر الطاولة هي في الواقع تَعاقُبٌ من الاضطرابات المتماسَّة في المكان-الزمان.

وسواء كانت الأشياءُ كرياتٍ أم لا، فالأشياءُ حاملاتُ خواص. وعندما نتأمل شيئًا ما فإن بوسعنا أن نتأمله كحاملٍ لخواصَّ (وهو نفسه لا يمكنه أن يكون محمولًا كخاصة)، أو أن نتأمل خواصَّه. كرة البلياردو هذه، مثلًا، يمكن أن نعتبرها شيئًا ما أحمر، كرويًّا، وله كتلة معينة. ونحن بذلك نَعُد الكرةَ «جوهرًا» substance، أي حاملَ خواصَّ هو نفسُه غيرُ محمول. ولكن يمكننا أيضًا أن نتأمل خواصَّ الكرة؛ حُمرتَها، كرويتَها، كتلتَها. عندما نفعل ذلك فنحن نحوِّل عقولَنا إلى الطرائق التي (تكون) عليها الكرة. الأشياء، إذن، حتى الأشياء البسيطة غير المركَّبة، لها بِنية. إلا أن الخواص ليست أجزاءً من الأشياء. فحُمرةُ كرةِ البلياردو وكرويتُها ليستا جزأَين من الكرة بالطريقة التي تكون بها جزيئاتُها المكوِّنة أجزاءً لها. الكرة ليست مُشَيَّدةً من خواصها.

الشيءُ، إذن، هو حاملُ خواص. ورغم أن بوسعنا أن نفرقَ بين الأشياء كحاملةِ خواصَّ وبين الخواص التي تحملها، فإن الأشياءَ والخواص لا يمكن فصلُهما إلا في الفكر (وليس في الواقع). فالشيءُ لا يمكن أن يوجدَ بمعزِلٍ عن خواصه، ولا الخواص بمعزل عن الشيء. يمكن للشيء أن يكسب خواصَّ أو يفقدها، ولكن هذا لا يعني انتقالَ خواصِّه إلى مكانٍ آخر. فالخاصةُ لا تعدو أن تكون طريقةً معينةً يكون عليها الشيء. يمكن للشيء ألا يعود على طريقةٍ ما، وأن يصير على طريقةٍ أخرى، ولكن هذه الطرق لا يمكن أن تنتقل إلى أشياء أخرى أو أن تَهِيمَ طليقةً. ولا يمكن للشيء أن يوجد خِلوًا من الخواص، كجزئيٍّ مَحض، لا طريقةَ لِوجودِه على الإطلاق.

وقد عمدتُ في وصفي الذي وَصَفتُه للخواص أن أَنأَى بنفسي عن فكرة أن الخواص «كليات» universals. يذهب بعضُ أنصار الكليات إلى أن الكليات كياناتٌ مفارِقة transcendent تُقِيم خارج المكان والزمان، وأن الأشياءَ الجزئيةَ «تشارك في» الكليات، أو هي «مثولٌ» instantiation للكليات. يرتبط تصورُ الكليات بأفلاطون. وثمة تصورٌ آخر، ربما يعود إلى أرسطو، ولكنه حديثًا جدًّا وَجَدَ داعيةً هو د. م. أرمسترونج D. M. Armstrong، يحدد موضعَ الكليات في شواهدِها (أمثلتِها)، فيَعُد الكرويةَ الكليةَ قائمةً بتمامها في كل مثالٍ من أمثلتِها المحددة مكانيًّا وزمانيًّا. الكليُّ، بمعنًى ما من المعاني، مُشَيَّدٌ من أمثلتِه أو شواهدِه، رغم أن هذه الأمثلةَ ليست أجزاءَه. الكليُّ — تَذَكَّرْ — موجودٌ بتمامِه في كل مثال من أمثلتِه.
يذهب الفلاسفةُ الذين يعتبرون الخواصَّ كلياتٍ إلى أننا بهذا نحل مشكلة «واحد فوق كثرة» one-over-many. تَأمَّلْ كرةَ بلياردو حمراء، ورايةَ تحذير سكة حديد. تتماثل كرة البلياردو والراية في جانبٍ، وتختلفان في جوانب أخرى. ويمكن أن نقول بعبارة أخرى إن الكرة والراية «تشتركان في خاصةٍ»، أو إنهما تمتلكان «نفس الخاصة». يأخذ نصيرُ الكليات التعبيرين المحاطين بأقواس في الجملة السابقة مأخذَ الجِد. إذا كانت الكرةُ والرايةُ تشتركان في خاصةٍ، إذن ثمة شيءٌ واحدٌ ما، خاصة، تمتلكها كلتاهما. هذه الخاصةُ، الحُمرة، عامةٌ لكل الأشياء الحمراء. هكذا تتأسس التشابهات بين الأشياء في خواصها المشتركة، أما الاختلافات فتُحددها الخواص التي لا تشترك فيها.
قد تجد الحديثَ عن الكليات غامضًا. وقد يقلُّ الغموضُ بعضَ الشيء إذا وضعتَ باعتبارك أننا نتعمد التفرقةَ في النوع بين الكليات و«الجزئيات» particulars، أي الأشياء العيانية، مثل رايات التحذير وكرات البلياردو. وما يَصدُق على جزئي لا يلزم أن يصدق على الكلي. غير أن هذا لا يُسعِف إلا قليلًا. ويبقى من الصعب أن نرى ما عسى أن يتضمنه مثولُ كليٍّ ما في شيءٍ ما (على طريقة أفلاطون)، أو ما عسى أن يعنيه أن تقول (كما يقول أرمسترونج) إن كليًّا ما موجودٌ بتمامه في كل مثال من أمثلته. وأنا آمُلُ أن أتخطى هذه الألغاز بتطويرِ وصفٍ للخواص يأخذ الخواصَّ مأخذَ الجِد، ولكن دون التزامٍ بالكليات.

الخواصُّ بوصفها طرائقَ مُخَصَّصة

قبل أن ننظر بتدقيقٍ أكثر في طبيعة الخواص، قد يجدر بنا أن نسأل لماذا بالضبط يجب علينا أن نتخيل أن العالم يتضمن مثل هذه الكيانات. ينكر كثيرٌ من الفلاسفة وجودَ الخواص، ويرَون أن الحديث عن الخواص يجب أن يُستبدَل به حديثٌ عن فئات الأشياء. من ذلك أن شيئًا أحمر ليس شيئًا يمتلك خاصةَ الاحمرار، بل هو مجردُ شيءٍ ينتمي إلى فئةٍ معينة، فئةِ الأشياء الحمراء. ربما تنتمي الأشياءُ إلى هذه الفئة لأنها متشابهة، ولكن هذا التشابهَ هو مظهرٌ للأشياء غيرُ قابل للرد irreducible.

ليس هذا موضعَ مناقشةِ هذه الآراء بالتفصيل. وسوف أكتفي بدلًا من ذلك بأن أَلفِتَ الانتباه لِنقطتين بسيطتين؛ أولًا: من الطبيعي أن نتساءل عن تشابهات الأشياء التي بفضلها تنتمي لفئة الأشياء الحمراء. هذه الأشياء متشابهة في بعض الوجوه، ومختلفة في بعض الوجوه. تأَمَّل الرايةَ الحمراء وكرةَ البلياردو الحمراء، إنهما مختلفتان في الشكل والحجم والكتلة، ولكنهما متشابهتان في اللون. هذا المنظور إلى التشابه يَرُدُّنا إلى الطرائق التي عليها الأشياء، تقع الأشياء في فئة الأشياء الحمراء لأنها متشابهة في ناحيةٍ ما. ومن الصعب فهم الحديث عن «نَواحٍ» هنا دون اعتبارها تشير إلى خواص الأشياء، الطرائق التي هي عليها. فإذا كان القصد من إدخال فئات الأشياء، إذن، أن نبين أن بوسعنا الاستغناء عن الخواص كطرائق تكون عليها الأشياء، فإن الخطة فيما يبدو تلجأ إلى نفس الأشياء التي صُمِّمَت لكي تُقصيها.

وسببٌ ثانٍ للشك بأن الخواصَّ أكثرُ من مجردِ فئاتِ الأشياء هو بالضبط أن من الصعب أن نرى ماذا عساه أن يكون أساس عضوية الفئة إن لم يكن خواصَّ مشتركة. وبتعبير أبسط، تنتمي الأشياء إلى فئة الأشياء الحمراء لأنها حمراء، وليست هي حمراء لأنها تنتمي إلى فئة الأشياء الحمراء.

لستُ أتخيل أن مناوئًا عنيدًا للخواص سوف يتأثر كثيرًا بهذه الملاحظات، فنحن في مجال من الفلسفة لا يُعقَل فيه أن نتوقع حججًا قاضية. وقصارَى ما يمكن أن نأمل فيه هو وصفٌ للأمور ينسجم مع تقييمنا الإجمالي لكيف تقوم الأشياء. في هذا السياق يَجمُل بنا أن نُذَكِّر أنفسَنا بنقطةٍ بسيطة. تأمل الجملتين التاليتين:

  • (١)

    الكرة مستديرة.

  • (٢)

    الكرة حمراء.

ولنفترضْ أن هاتين الجملتين تَصدُقان على كرة بلياردو معينة. إنه لَيبدو بادئَ الرأي أن ثمة شيئًا ما عن الكرة بِفضلِه يَصدُق أن نقول عنها إنها مستديرة، وشيئًا ما آخر عن الكرة بفضلِه يَصدُق أن نقول عنها إنها حمراء. ونحن في حديثنا عن «شيء ما عن الكرة» نتحدث، أو بالتأكيد نبدو أننا نتحدث، عن طريقةٍ تكون عليها الكرة. وهذا بالضبط أن نتحدث عما كنتُ حتى الآن أسميه «خاصة».

لقد فَرَّقتُ بين هذا التصورِ للخاصة — طريقة مُخَصَّصة (معينة) يكون عليها الشيء — وبين تصورات الخواص ككليات. وقد استخدم بعضُ الفلاسفة لفظة «تروب»٢  trope لتسمية ما أسمِّيه طرقًا مخَصَّصة particularized ways. وأنا أناوئ هذه التسمية لأنه أصبح شائعًا لدى أنصار اﻟ tropes أن يعتبروا الأشياء «حُزَمًا» bundles من التروبات. وهذا يحوِّل التروبات في ذائقتي إلى شيء شبيه جدًّا بأجزاء الأشياء. فالأشياء من وجهة النظر التي أقدِّمها ليست مشيدة من الخواص كما تُشَيَّد كرة البلياردو من ذرات أو جزيئات. ولأكررْ ما قلتُه آنفًا: عندما نتأمل شيئًا ما، فإن بوسعنا أن نتأمله كحاملٍ للخواص غيرِ محمول — أيْ جوهر باللغة التقليدية — أو أن نتأمل الخواص التي يحملها. من هذه الوجهة من الرأي، إذن، فالشيء ليس مجموعةً أو حزمةً من الخواص، إنما الشيءُ مالِكُ خواص.
الشيء البسيط — أي الشيء الذي ليس لديه أشياء كأجزاءٍ له — لا يعدو أن يكون شيئًا يمتلك خواصَّ معينة. والأشياء المعقدة، مثل الذرات والجزيئات وكرات البلياردو، هي أشياء بمعنًى اشتقاقي، أشياء بإذن by courtesy. وبنفس الطريقة تمامًا، فإن خواص الأشياء المعقدة، بقدر ما يمكن أن تفترق عن خواص أجزائها البسيطة، هي خواص بمعنًى اشتقاقي. الشيء المعقد مُشَيَّد من أشياء بسيطة تمتلك خواصَّ معينة، وتقف في علاقات معينة بعضها ببعض. والخواص التي نجدها في الأشياء المعقدة هي نفسها «مشيدة من» خواص المكوِّنات البسيطة في هذه الترتيبات. ليس في الخاصة المعقدة أكثر من ذلك وفقًا لهذا الرأي. الخواص المعقدة لا «تنبثق» emerge، وهي ليست شيئًا فوق خواص المكوِّنات البسيطة إذ تنتظم على النحو الملائم. (سيكون لديَّ المزيد لأقولَه عن فكرة «الانبثاق» emergence حالًا.)
وقد أسجل بالمناسبة أن تَصَوُّرَ الخواص الذي أحبذه يمكن أن يستوعب الكليات البديلة، أي فئات الخواص المتشابهة تمامًا. وفقًا لهذا الرأي، فإن الأشياء التي قد يُظَن أنها تشترك في كليٍّ ما إنما تشترك في عضوية فئة الأشياء التي تمتلك خواصَّ متشابهةً تمامًا. وعلاقة التشابه التي تحملها هذه الخواص بعضها ببعض هي علاقة «داخلية» بدائية. إن الأشياء يشبه بعضُها البعض بفضل خواصها، والخواص (وهي أساس التشابه) يشبه بعضها بعضًا (عندما يحدث ذلك)، ودون إضافة أي شيء آخر على الإطلاق. افترِض أن الخاصتين أ، ب متشابهتان تمامًا. إذن هذا التشابه داخلي (باطني/جواني) intrinsic، أي مُبَيَّت في صميم الخواص. إحدى النتائج المترتبة على هذا أنه إذا كانت الخاصة س تشابه تمامًا أ، إذن س تشابه تمامًا ب أيضًا.

دعوني أَقُل كلمةً عن أمرٍ قد يؤَرِّق بعضَ القراء. لقد وصفتُ الخواصَّ على أنها طرائقُ تكون عليها الأشياء، وهذا يعطِي انطباعًا بأن الطرائقَ التي عليها الأشياء الفعلية الموجودة تستنفِد الخواص (جميعًا). إلا أن ثمة طرائق كان يمكن أن تكون عليها الأشياء ولكن ليس عليها شيء، أو، لأجل ذلك، لن يكون عليها شيءٌ أبدًا. فيمكن أن يكون ثمة نوعان من الجسيمات من صفتهما أنهما إذا ما اصطدما فسينتجان نوعًا ثالثًا من الجسيمات يمتلك خاصةً فريدة (وسوف أَعرِض حالةً من هذا النوع فيما يلي). قد يكون الأمرُ هكذا حتى إذا كان هذا التصادمُ لا يحدث أبدًا. وقد نضع ذلك بعبارة أخرى فنقول إن هناك طرائق يمكن أن تكون عليها الأشياء ولكن ليس عليها شيء (أو لن يكون عليها شيء أبدًا). بهذا التصوير قد تبدو الطرائق غامضةً، شَبَحِية. يمكننا تجنب الغموض بأن نسجل أن الطرائق الممكنة غير الفعلية مُصَوَّرةٌ سَلَفًا في الطرائق التي عليها الأشياء الفعلية. إن خواصَّ الأشياءِ الموجودة هي استعداداتٌ للمظاهر، هي («موجَّهة إلى» أو «مُقَيَّضة ﻟ») مظاهر — هي ذاتها خواص أو طرائق يمكن أن تكون عليها الأشياء — لا يلزمها أن تحدث أبدًا. هذا «الاستعداد» الداخلي (الباطني) للخواص الفعلية يَمنح أساسًا للدعاوي المتعلقة بالطرائق الممكنة غير الفعلية.

الطبيعة المزدوجة للخواص

الخواص هي الطرائق التي عليها الأشياء. وأنا أعتبر أن هذا الرأي قريبٌ من تَصَوُّر الحِس المشترك. نحن نميز أحمر كرة البلياردو وأحمر راية إنذار السكة الحديد، رغم أن هذين الشيئين قد يكونان على نفس الدرجة من الحمرة. ثمة مثالان (شاهدان) instances من الأحمر، أحدهما ينتمي إلى الكرة، والآخر إلى الراية. والآن حان الوقت للنظر بإمعانٍ أكثر إلى طبيعة الخواص.
أعتقد أن كل خاصة (وأنا هنا، كما في أي موضع من هذا الفصل، أقتفي فحسب خُطَى س. ب. مارتن) تُسبِغ على صاحبها استعدادًا (نزوعًا) disposition معينًا أو «قوة عِلِّية» causal power وكيفية quality معينة، في آنٍ معًا. تأملْ مثلًا خاصةَ كونِ الشيء كرويًّا. بفضل امتلاك هذه الخاصة تمتلك كرةُ البلياردو كيفيةً معينة، هي الكيفية التي نسميها بلفظة «كروية». ولكن أيضًا، وبقدر امتلاك هذه الخاصة، تمتلك الكرةُ استعداداتٍ أو قوًى عِليةً معينة. (وسوف أستخدم هذين المصطلحين على التعاوض، وإن أكن أفضِّل «الاستعداد/النزوع» على القوة العِلِّية؛ لأني أعتبر أن العِلِّية تُفَسَّر بالإحالة إلى الاستعدادية أو النزوعية.) للكرة مثلًا استعدادٌ لأن تتدحرج إذا وُضِعَت على سطحٍ مائل.

وأنا هنا أُفرِط في التبسيط، في محاولةٍ لكي أُبقِي على الأمور واضحةً ومحدَّدة. تَنتُج كيفيات ونزوعيات أي شيء معين، على الأقل، من الخواص التي يمتلكها، والعلاقات التي تحملها هذه الخواص بعضها ببعض. فاستعداد الكرة للتدحرج، مثلًا، يعتمد على كونها كروية وكونها صلبة، معًا في آن. تسهم كل خاصة بطريقة محددة في كيفيات واستعدادات الأشياء التي تمتلكها. (وأنا أَبْسُط النقاش في جانبٍ آخر أيضًا. فطوال هذا الفصل سوف أورِد ملامحَ مألوفةً للأشياء كأمثلةٍ للخواص، الحمرة والكروية مثلًا. وأنا أشك لأسبابٍ متعددة أن الحمرة أو الكروية هي خاصةٌ أصيلة، غير أنهما تسعفان جيدًا كإيضاحات، ولهما ميزةُ تحصينِ النقاش من أن يصبح مجردًا بشكلٍ موئِس. وعلى أية حال، فاستخدامي لهذين المثالين لا يؤَثِّر على الحجة المركزية لهذا الفصل.)

وتَجِب التفرقةُ بين فكرة أن الخواص بها طبيعة مزدوجة، وفكرة أن هناك نوعين من الخواص؛ خواص نزوعية وخواص «مقولية» categorical (غير نزوعية). ووفقًا للتصور الأخير، ليس ثمة معنًى لافتراض أن خاصةً ما يمكن أن تكون نزوعية ومقولية معًا، فكل خاصة هي إما نزوعية خالصة وإما مقولية خالصة. والخاصة النزوعية، مثل خاصة الذوبانية التي تمتلكها بلورة الملح، أو خاصة الهشاشة التي تمتلكها زَهريةٌ رقيقة، يجب تفرقتُها عن الخواص المقولية (أي غير النزوعية، أو الكيفية المحضة) مثل الحُمرَة أو الدفء. بفضل امتلاكِها خواصَّ نزوعيةً تَسلك الأشياءُ بطرائقَ معينةٍ، أو تنزع إلى السلوك بطرائقَ معينة تحت الشروط الصحيحة، وبفضل امتلاكها خواص مقولية تُظهِر الأشياءُ كيفياتٍ معينة.

وتحت افتراض أن الاستعدادات والكيفيات مرتبطةٌ بأنواعٍ محدَّدة من الخواص، تَحَرَّك الفلاسفة لتقديم نظريات مختلفة. ذهب البعضُ إلى أن النوعين من الخواص متمايزان على نحو لا يقبل الرد. على أن البعض الآخر — إذ لَحَظَ أن الخاصة التي لا تُضفِي على ممتلكِها قوًى عِلِّيَّةً أو استعدادات على الإطلاق، لا يمكن أن تُحدِث فارقًا البتة في العالَم — ارتابَ في وجودِ خواصَّ مقوليةٍ غيرِ نزوعية. مثلُ هذه الخواص قَمِينةٌ مثلًا أن تكون غيرَ قابلة للاكتشاف على أساس أن اكتشافنا لخاصيةٍ ما يستلزم تأثرَنا العِلِّي بها بطريقة أو بأخرى. وفضلًا عن ذلك، كما يبين هؤلاء الفلاسفة، فإن الأمثلةَ المعتادة على الخواص المقولية المزعومة هي أمثلةٌ غير مُقنِعة. خذ مثلًا الحُمرة أو الدفء. من المؤكد أن كونَ شيءٍ ما أحمرَ هو ما يجعل لديه استعدادًا لأن يعكس الضوءَ بطريقةٍ معينة، وأن كون شيءٍ ما دافئًا يجعل به استعدادًا لأن يؤثر على الهواء المحيط به تأثيرًا فارقًا. وعندما نتأمل الخواص التي تنسبها العلومُ للأشياء، تبدو هذه الخواصُّ نزوعيةً بلا استثناء؛ امتلاك كتلة، مثلًا، أو امتلاك شحنة سالبة، يتميز حصريًّا بالإحالة إلى الطرائق التي يؤثر فيها امتلاكُ هذه الخواص على سلوك ممتلكيها. إن اعتباراتٍ من هذا الصنفِ قد أقنَعَت بعضَ الفلاسفةِ أن كل خاصةٍ أصيلةٍ هي خاصةٌ نزوعية.

إلا أن فريقًا آخر من الفلاسفة يتذرَّع بغرابة فكرة أن الخواص يمكن أن تكون نزوعية بشكلٍ محض. إن عالَمًا يتكون حصريًّا من أشياء تمتلك خواص نزوعية لَيبدو عالَمًا ما تنفك الأشياءُ فيه، إلى الأبد، تَهمُّ بالفعل ولكن لا تفعل على الإطلاق. فالفعل من جانب الشيء هو أن تتجلى استعداداتُه وتظهر، ولكن إذا كان الظهورُ نفسُه ليس أكثرَ من استعدادٍ صرف (استعداد لأن يظهر بطريقةٍ معينة تحت الظروف الصحيحة)، فالحال إذن سيكون أشبهَ بحالِ شيكٍ بَنكِي مُظَهَّر بواسطةِ شيكٍ هو نفسُه مظهَّرٌ بشيكٍ، وهكذا إلى غير نهاية. فما لم يكن الشيكُ في النهاية مظهَّرًا بشيءٍ ما غيرِ شيك فهو لا قيمة له. وبالمثل، فما لم يَنتَهِ الاستعدادُ في شيءٍ ما ليس هو بالاستعداد المَحض، فلن يحدث شيء.٣
يمكن التعبير عن هذه النقطة بطريقةٍ مختلفةٍ اختلافًا طفيفًا. إن الاستعداد هو نفسه مظهر manifestation (سأقول المزيدَ عن مظهر الاستعدادات حالًا). فإذا كان كل مظهر مجرد استعداد لمظهرٍ آخر، ستكون النتيجة نكوصًا regress غير مقبول. من البيِّن أن العالَم يتضمن أمورًا بالفعل (actualities) كما يتضمن أمورًا بالقوة (potentialities)، أي استعدادات محضة.
وإدراكًا لهذه الصعوبات، اقترَحَ بعضُ المُنَظِّرين أن الخواص النزوعية (الاستعدادية) يجب أن «تتأسس» في خواص غير نزوعية. قد تكون الخاصة النزوعية وفقًا لهذه الوجهة من الرأي خاصة «من الدرجة الثانية» second-order property، بمعنى خاصة يحوزها الشيءُ بفضل امتلاكه خاصةً ما غير نزوعية من الدرجة الأولى. تأمل الخاصة النزوعية لكون الشيء هشًّا، فهذه قد يحوزها شيءٌ ما — هذه الزَّهرية الرقيقة مثلًا — بفضل امتلاكه بِنيةً جزيئيةً معينة. يُعَدُّ امتلاكُ هذه البِنية خاصةً غير نزوعية من الدرجة الأولى تؤسِّس خاصة الهشاشة النزوعية من الدرجة الثانية. وعليه، فالزهرية هشة لا بفضل امتلاكها خاصةً نزوعية، بل بفضل امتلاكها خاصةً ما بِنيويةً غير نزوعية.

ليس من اليسير أن تعرف ماذا تعمل بهذا الاقتراح؛ ذلك أن من الصعب أن ترى، مثلًا، ماذا عساه أن يكون امتلاكُ شيءٍ ما لخاصةٍ معطاةٍ من الدرجة الثانية أكثر من امتلاكِه لخاصته «المؤسِّسة» من الدرجة الأولى. افترِضْ، مثلًا، أن الهشاشة خاصةٌ من الدرجة الثانية تمتلكها هذه الزهرية بفضل امتلاكها لخاصةٍ معينة من الدرجة الأولى، بِنيةٍ معينةٍ ربما. فبأي معنًى بالضبط تمتلك الزهريةُ هنا خاصتين متمايزتين؛ خاصةً بنيوية غير نزوعية وخاصةً نزوعية؟ بأي معنًى إذن تكون بِنيةُ الزهرية غيرَ نزوعية؟ إن من المؤكد أن بِنيتَها الجزيئية هي نفسُها التي تؤهل الزهريةَ (تجعل لديها استعدادًا) لأن تعكس الضوءَ بطريقةٍ معينة، ولأن تكون صلبةً في درجات الحرارة المعتدلة، ولأن تُصدِر رنةً معينةً إذا نُقِرَت بملعقة، وأجلْ، لأن تنحطِمَ إذا ما ضربها شيءٌ صلب. إذا كان امتلاكُ بِنيةٍ معينة هو خاصة من الخواص، فإنه لَيبدو، إذن، خاصةً نزوعية، شأنه شأن أي خاصة أخرى يمكن أن يتخيلها المرء.

بالطبع قد يتبين أن كثيرًا من الأشياء ذات البِنيات الجزيئية المختلفة جدًّا، قد يتبين أنها هشة. ولكن هذا ينبغي ألا يحملنا على الشك في أن خاصةَ الهشاشة التي تمتلكها هذه الزهريةُ — هشاشة هذه الزهرية — هي خاصة من الدرجة الأولى للزهرية عادية تمامًا، ربما عين الخاصة التي كنا نشرحها؛ امتلاك بِنيةٍ معينة. وهذا ينسجم جيدًا مع الرأي الذي دعَوتُ إليه، وهو أن للخواص طبيعةً مزدوجة، فكلُ خاصة هي كيفيةٌ ونزوعيةٌ معًا في آن، كل خاصة تسهم بطريقةٍ مميزة في كيفيات واستعدادات الأشياء التي تمتلكها. ونحن لا نستطيع فصلَ هذه الطبائعِ إلا في الفكر، تمامًا مثلما نستطيع ذهنيًّا فصلَ مُثَلَّثِيةِ المثلث عن ثلاثيةِ أضلاعِه بتأمل إحداهما دون تأمل الأخرى.

كان لوك يسمِّي هذا النشاط «التأمل الجزئي» (أو النظر الجزئي) partial consideration. وهو ما يُمَكِّننا من أن نتأمل لونَ شيءٍ ما دون نظرٍ إلى شكلِه، أو نتأمل شكلَه دون نظرٍ إلى لونِه، رغم أن كل شيءٍ ذي شكلٍ لا بد أن يكون شيئًا ذا لون.
ما هي العلاقةُ التي تحملها استعداديةُ (نزوعيةُ) خاصةٍ ما بِطبيعتِها الكيفية؟ هاتان ليستا مرتبطتين بالضرورة فحسب، مثل ارتباط المثلثية وثلاثية الأضلاع، إنما هما بالأحرى نفسُ الخاصة منظورًا إليها على نحوين مختلفين. مثل هذه العلاقة تشبه تلك التي نجدها في الصور الملتبسة. يصور الرسم المقابِل (شكل ٦-١) وجهَ سيدةٍ عجوز وبروفيل امرأةٍ شابة. إن الخطوط نفسها تشكِّل كلتا الصورتين، وبإمكاننا أن نميِّز الصورتين في أذهاننا بأن نحوِّل انتباهَنا. ولكن لا يمكن أن توجد إحدى الصورتين بدون الأخرى، بنفس الطريقة لا يمكن فصلُ النزوعيةِ (الاستعدادية) الداخلية (الباطنية/الجوانية) لِخاصةٍ ما عن طبيعتِها الكيفية إلا في الفكر.
fig23
شكل ٦-١

على أية حال، فإن فكرة أن الملامح النزوعية للأشياء تتأسس في بنيتها، تبدو فاشلة. فالبنيات نفسها، كما قد رأينا، هي نزوعية وكيفية أيضًا. أهم من ذلك، أننا بقدر ما يمكننا تصور الأشياء البسيطة (التي لا أجزاء لها، وبالتالي لا بِنيةَ لها) فإننا يجب أن نتصورها على أنها تمتلك نزوعيات (استعداديات). إنها قادرة على فعل أكثر مما تفعله في الحقيقة، فإذا كان ثمة جسيمات أولية فإن هذه الجسيمات، إذن، قادرة بالتأكيد على تفاعلات لا نهاية لها تتعدى تلك التي تشترك فيها بالفعل. إن كل شيء لَيُشير إلى أن النزوعية هي ملمحٌ أساسيٌّ لعالَمِنا.

اتَّخَذَ الجدلُ حول ما إذا كانت الخواصُّ نزوعيةً أم مقولية؛ اتخذ الشكلَ التالي. يبين الطرفُ الأول أن تَصَوُّرَ خاصةٍ غير نزوعية هو تصورُ خاصةٍ ليس لها أن تُحدِث فارقًا لمُمتَلِكِها، ويخلصون من ذلك إلى أن الخاصة الأصيلة لا تكون مقولية (أي لا تكون، وفقًا لِمُعجمي الخاص، كيفية). ويركز الطرفُ المقابلُ على رَوَغان النزوعية (الاستعدادية) الخالصة، ويخلصون إلى أن الخاصة الحقيقية لا تكون نزوعية.

ربما تكون حججُ كلا الطرفين صحيحة في جانب وخاطئة في جانب آخر. ربما تكون المشكلة هي استخلاص نتائج غير ملائمة لا أكثر. افترِضْ أن كل خاصة هي نزوعية. إنه لا يترتب على هذا أن لا خاصةَ هي كيفية. وبالمثل، إذا كانت كل خاصة هي كيفية، فإنه لا يترتب على هذا أنه لا خاصة (أو لا خاصة أصيلة من الدرجة الأولى) هي نزوعية. لا واحدة من هاتين النتيجتين تترتب؛ ذلك لأن الحجتين اللتين وراءهما متَّسقتان مع الموقف المقدَّم هنا، وهو أن لكل خاصة طبيعةً مزدوجة، كل خاصة هي نزوعية وكيفية في آنٍ معًا.

قبل أن أمضِي قُدُمًا، أَوَدُّ أن أَلفِتَ الأنظار إلى طبيعية هذا التصور للخواص. تأملْ خاصةً مثل خاصة كون الشيء مربعًا. هذه الخاصةُ مثالٌ جيد لما جرَى اعتبارُه خواصَّ مقولية. وإنه لَحَقُّ اليقين أن صفةَ كونِ الشيء مربعًا تمنح ممتلكَها كيفيةً معينة، الكيفية التي نربطها بالتربيع. ولكن من الحق بنفس القدر أن كونَ الشيءِ مربعًا يُسبِغ على الأشياء قُوًى أو استعدادات معينة. من شأن السدادة المربعة أن تمر في ثقبٍ مربع وليس في ثقب مستدير (حيث قُطر الثقب يضاهي طول الضلع). ومن شأن الشيء المربع أن يكون له مجسٌّ مختلف عن الشيء الكروي. ومن الصعب ألا نستنتج أن كونَ الشيء مربعًا — التربيع — هو في الآن ذاتِه نزوعيٌّ وكيفي، وهو في هذا يشبه كل خاصة أخرى، أو هكذا أذهب.

النزوعية والعِلِّية

إذا كان علينا أن نأخذَ النزوعيةَ (الاستعدادية) مأخذَ الجِد، فلا بد إذن من أن نفرق بين الاستعدادات ومظاهرها. قد يكون استعدادٌ ما حقيقيًّا تمامًا، وحاضرًا بأَسره هنا والآن، ويَبقَى مع ذلك غيرَ ظاهر. فمن الممكن أن تكون الزهريةُ هشةً دون أن تنحطمَ أبدًا، وأن تكون مادةٌ ما قابلةً للذوبان دون أن تذوبَ أبدًا.

من طبيعة الاستعدادات أن تتطلب لِظهورِها استعدادًا متبادلًا مناسبًا يرافقها. فإذا كان الملحُ قابلًا للذوبان، فإن ذوبانَ هذه البلورةِ من الملح هو مظهرٌ متبادلٌ لذوبانيةِ الملح، ولكونِ الماء المحيط بها مُذِيبًا للملح. ورغم أن استعداديةَ خاصةٍ ما باطنةٌ فيها (داخلية)، فإن مظاهرَ هذه الاستعداديةِ قد تعتمدُ على وجودِ رفقةٍ من الاستعدادات المتبادَلة الملائمة. فمن الممكن للاستعدادية عينِها أن تُظهِر نفسَها على نحو مختلف وفقًا للرفقة المتبادلة. مثال ذلك أن ورقة عباد الشمس تتحول إلى اللون الوردي في الحامض، ولكن نفس الورقة تتحول إلى اللون الأزرق في القاعدة.

ثمة عنصرٌ آخر يلزم لتكملة الصورة. لقد قلتُ إن مظاهرَ معينةً لكثيرٍ من الاستعدادات تعتمد على وجودِ رفقةٍ من الاستعدادات المتبادلة الملائمة، غير أنها تعتمد على غياب رفقة الاستعدادات التي تَسُدُّ المظاهرَ المَعنِيَّة. مثال ذلك أن الملح يذوب في الماء، ولكن لا يذوب إذا كان هناك عنصرٌ مُثَبِّط، وأن التعرض لأشعة الشمس يؤدي إلى آفاتٍ جلدية، ولكن لا يؤدي إلى ذلك إذا استُخدِمَ واقٍ ملائمٌ من الشمس.

تتأسس الحقائقُ العِلِّية، في النهاية، في المظاهر المتبادلة لرفقةِ استعداداتٍ متبادلة. تأَمَّلْ تتابعًا عِلِّيًّا بسيطًا، مفتاحًا يفتح قفلًا. إن المعلولَ (النتيجة)، وهي انفتاحُ القفل، هو مظهرٌ متبادل لاستعداداتٍ يمتلكُها القفلُ والمفتاح. والعِلَّة نفسها، وهي دوران المفتاح، هي مظهرٌ متبادل لرفقةِ استعداداتٍ متبادلة تشمل المفتاحَ واليدَ الممسكةَ بالمفتاح.

هذا النموذجُ النزوعي يزيح تصورَ التعاقبات أو السلاسل العَلِّية الخطية، ويقدم تصورًا للعالَم كشبكةٍ نزوعيةٍ شاملة، هي ما أسماه مارتن «شبكة القوة» power net. من مزايا هذه الصورة أنها تمكننا من الاستغناء عن الحديث المضلِّل عن العِلَلِ مقابلَ الشروط «الخلفية». تأملْ عودَ ثقابٍ يشتعل عندما يُحَك. من المعتاد أن نظن العِلة هي الحَك والمعلول هو الاشتعال، ولكن العود لن يشتعلَ في غياب الأوكسجين، فهل وجود الأوكسجين إذن جزءٌ من العِلة؟ ليس من الواضح أن وجودَ الأوكسجين جزءٌ من الحَدَث — الحَك — الذي حددناه بوصفه العِلَّة. ربما يكون وجود الأوكسجين شرطًا «خلفيًّا» لازمًا للعِلة لِيكون لديها المعلول الذي لديها.

تتطلب هذه الطريقةُ في النظر إلى المسألة أن نفرِّق بين العِلَل وبين الشروط الخلفية بطريقةٍ تبدو اعتباطية من الوجهة الميتافيزيقية. أما إذا نظرنا، في المقابل، إلى اشتعال عود الثقاب على أنه المظهر المتبادل لرفقة استعداداتٍ متبادلة تشمل السطح الذي يُحَك عليه العود، والأوكسجين المحيط والبنية الكيميائية لطرف العود، فإن بإمكاننا أن ننسب فضلًا متساويًا لكل من هذه العوامل المساهِمة.

ثمة مصدرٌ آخر ممكن للحَرَج بالنسبة للرأي السائد لِعِلِّية الحدث، تتعلق بالتوقيت النسبي للعِلَل والمعلولات. فالعِلة يجب أن تسبق معلولاتِها. ولكن، كما لاحظ هيوم، إذا كانت العِلةُ تسبق معلولَها، فسيكون ثمة فيما يبدو فجوةٌ زمنيةٌ أو حدٌّ زمني بين حدوثِ العِلة وبدايةِ حدوث المعلول. فقد ينتهي الحدثُ المسبِّبُ (أو المكوِّن الحَدَثي) قبل أن يبدأَ معلولُه. ولكن كيف لِحدثٍ انتهَى أن يؤثرَ في حدثٍ يجري الآن؟ أما إذا تصورنا، في المقابل، أن الحدثَ المسبِّب ومعلولَه متزامنان أو متداخلان، فسوف يبدو أن ذلك الشطرَ من الحدث المسبِّب الذي يجري بعد بداية حدوث المعلول لا يمكن أن يكون متضمَّنًا في حدوث المعلول. افترِضْ أنك تُسَبِّب تحركَ سيارتِك بأن تدفعها قُدُمًا، فهل أنت تدفع السيارةَ أولًا وعندئذٍ تتحرك السيارة؟ إن دفعَك السيارةَ وتحركَ السيارة متزامنان بشكلٍ واضح. بالطبع أنتَ تَهُمُّ بدفع السيارة قبل دفعها وقبل تحركِها، غير أن السيارة لا يحركها اعتزامُك دفعَها، بل يحركها دَفعُك.

إذا استبدلنا بالصورة الهيومية التقليدية عن عِلِّية الحدث تصورَ مارتن عن «شبكة القوة» power net، فسوف تتراجع هذه الهواجس. فالأحداثُ هي مظاهرُ متبادلة لرفقةِ استعداداتٍ متبادلة. ورفقة الاستعدادات المتبادلة لا تقوم على علاقات تتابع بين بعضها والبعض. ليس النموذجُ نموذجَ وصلاتٍ في سلسلة، بل نموذج بطاقتَيْ لعب تظلان واقفتين بواسطة الدعم المتبادل بينهما أعلى طاولة (مع ملاحظة أن أعلى الطاولة هو شريك متبادل كامل الرتبة، وليس «شرطًا خلفيًّا».)
وماذا عن العِلِّية «الاحتمالية» probabilistic، العلاقات العِلِّية التي تُفضِي فيها العِلَل، فيما يبدو، إلى معلولات باحتمالٍ معين فحسب؟ تُنبِئنا ميكانيكا الكوانتم أن العِلِّيةَ الاحتماليةَ هي القاعدةُ لا الاستثناء. ويفسر الفلاسفةُ الذين يفضِّلون أوصافًا للعِلِّية قائمةً على قوانينَ عِليةٍ تُفَسِّر العليةَ الاحتماليةَ بتشييدِ الاحتمالات إلى قوانين. فماذا عسى أن يكون نظيرُ ذلك بالنسبة للوصف القائم على الاستعداد (النزوع)؟ ها هي إحدى الإجابات الممكنة: لكل خاصة من الخواص استعداديةٌ محددة تمامًا. هذه الاستعدادية ستُظهِر نفسَها بطريقةٍ محددة تحت ضروبٍ معينةٍ من الشراكة الاستعدادية المتبادلة (وفي غياب «الموانع» blockers). على أن الخواص الأساسية (أو بعضها) قد تكون متذبذبة.

ربما يبدو أن نقل موقع الاحتمال من التفاعلات العِلية (أو المظاهر النزوعية) إلى الخواص لم يُفِدنا بِشيء. لستُ واثقًا تمامًا. أنا أسلِّم أن تذبذب الخاصة هو ظاهرةٌ عجيبة، غير أنها أقل عجبًا عندي من فكرة أن الخواص عينها، وبنفس الرفقة النزوعية المتبادلة، تُمَظهِر نفسَها على نحوٍ مختلفٍ في المواقف المختلفة.

لقد آن أن نمضي قُدُمًا. ولستُ أتخيل أن هذه الملاحظات الموجزة تقدِّم أي شيء يبلغ مبلَغَ أمثلةٍ مضادة حاسمة للنظرة السائدة عن عِلِّية الحدث. أريد فقط أن أشير إلى أن البساطة الجذابة لهذا الرأي تستلزم منا أن نُعَقِّده بطرقٍ متعددة غير جذابة. ولهذه التعقيدات معناها التام داخل النموذج النزوعي. إلى هذا الحد، على الأقل، يبدو النموذج مبرَّرًا.

الأشياء المعقدة

يتكون العالَمُ، كما قد أشرتُ، من ترتيبٍ دينامي من الأشياء. قد تكون الأشياءُ بسيطةً أو معقدة. الأشياء المعقدة تمتلك أشياء كأجزاءٍ لها. والأشياءُ البسيطةُ لديها بِنيةٌ — الشيء البسيط هو شيءٌ ذو خواص — ولكن ليس لديها أجزاءٌ جوهرية.

هذه العبارة الأخيرة تتطلب إفاضة. افترضْ للحظةٍ أن الأشياء البسيطة هي شيءٌ ما أكثر من نقاطٍ مكانية-زمانية. رغم أن الشيء البسيط ليس مُشَيَّدًا من أشياء أخرى، فقد يكون له أجزاءٌ مكانية أو زمانية. الشيء البسيط، مثلًا، قد يكون له نصفٌ علوي ونصفٌ سفلي، وهذان النصفان قد يكون لهما أبعاد مكانية محددة. والشيء البسيط إذا دام خلال الزمن فإن بوسعنا، إذن، أن نتحدث عن أجزائه الزمانية مثلما أننا نتحدث عن أجزائه المكانية، فنتحدث مثلًا عن الشيء-في-الثلاثاء، ونفرق هذا عن الشيء-في-الأربعاء. غير أن الأجزاء المكانية والزمانية لشيءٍ ما ليست هي ذاتُها أشياء. فرغم أن كرةً ما لديها نصفان مكانيان، فالكرة لا يلزم أن تكون مشيَّدة من هذين النصفين بالطريقة التي يُشَيَّد بها قلمٌ رصاص من قضيبٍ خشبي يحيط بأسطوانة من الرصاص (أما الكرة المشيدة بِضَم نصفَي كرة فهذا أمرٌ آخر). وعندما أتحدث فيما يلي، ما لم أسجل إشعارًا آخر، عن أجزاء الأشياء، فلستُ أعني الأجزاء المكانية أو الزمانية، وإنما أعني الأجزاء الجوهرية، أي الأجزاء التي هي ذاتها أشياء.

تمتلك الأشياءُ المعقدةُ أشياء كأجزاءٍ لها. هذه الأجزاء قد تكون هي ذاتها معقدة. ولكن في النهاية نصل إلى أشياء بسيطة، تلك التي ليست مشيدة من أشياء متميزة. ولنقُلْ إن الأشياء المعقدة مشيَّدة من أشيائها المكوِّنة. كل شيء إذن مكوَّن من أشياء بسيطة، فهل ثمة ما هو أكثر من هذا بالنسبة للأشياء المعقدة؟ هذا ما قد ارتآه كثيرٌ من الفلاسفة.

تَصَوَّرْ تمثالًا والجسيمات التي تكوِّنه. (يجب أن يُذَكِّرك هذا المثالُ بالقارب ومجموعة الألواح التي تكوِّن القارب، والذي عرضنا له في الفصل الثاني.) هل التمثال مجرد مجموعة جسيمات؟ كلا فيما يبدو. فمجموعة الجسيمات قد تتغير، ويبقَى التمثال. قد نُصلِح التمثال ونستبدل جزءًا انكسرَ منه. عندما نفعل ذلك، فالنتيجة هي مجموعة جديدة من الجسيمات ولكنْ نفس التمثال. وأكثر دراميةً من هذا، يمكننا أن نحطم التمثال بسحقِه إلى تراب دون تحطيم لمجموعة الجسيمات. إن للتمثال ولمجموعة الجسيمات شروطَ بقاءٍ متمايزة، يمكن للتمثال أن يستمر في الوجود عندما لا تستمر مجموعةُ الجسيمات، ويمكن لمجموعة الجسيمات أن تبقَى عندما يكون التمثال منحطمًا.

ربما يمكننا أن نقول إن التمثال هو مجموعة الجسيمات وهي مرتبة بطريقةٍ معينة: إن التمثال هو الجسيمات + ترتيبها. فإذا سُحِقَ التمثالُ إلى تراب تبقَى الجسيماتُ ولكن يضيع ترتيبُها. ومع ذلك، يبدو كأن بالإمكان أن نستبدل الجسيمات ويبقى التمثالُ، ما دمنا نحافظ على الترتيب. أو قد نغير الترتيب فنعدِّل بذلك التمثالَ، ولكن لا نحطمه.

مثل هذه الاعتبارات أدت بالفلاسفة إلى الرأي القائل بأن التماثيل، وحقًّا الأشياء المعقدة بصفة عامة، متمايزة عن ترتيبات أجزائها المكوِّنة. صحيحٌ أنها في أي وقتٍ معين مشيَّدةٌ من مجموعة أجزائها، ولكن هذا يُثبِت فعلًا أن هويةَ الشيء أكثرُ من الأشياء التي تشَيِّده، والعلاقات التي تحملها هذه الأشياء بعضها ببعض. قد نتخيل، في حالة التمثال، شيئين متداخلين مكانيًّا؛ التمثال (متميزًا بشروط هويته عبر الزمن)، ومجموعة الجسيمات (متميزة بشروطٍ مختلفة تمامًا لهويتها عبر الزمن).

الصورة الحاصلة هي عالَمٌ مكوَّنٌ من «طبقات» من الأشياء والخواص. فقد نقول إن التمثال هو شيء من مستوًى أعلى، والجسيمات التي تشيِّد التمثال، وربما مجموعات معينة من هذه الجسيمات، هي أشياء على مستوًى أدنى. والآن يبدو أن من الممكن أن نفسر دور العلوم الخاصة — البيولوجيا مثلًا، أو علم الأرصاد، أو السيكولوجيا — تتناول مجالًا ما من الأشياء على مستوًى أعلى. العالَمُ إذن يتكون لا من أشياء، بل من تراتبٍ هرمي من الأشياء على مستوياتٍ متمايزة.

هذا التصورُ الطبقي للواقع مسلَّمٌ به على نطاقٍ واسع. وأنا أعتقد أنه تصورٌ مغلوط، فاللجوء إلى مستوياتٍ للواقع، تراتباتٍ أنطولوجية، تُفضِي إلى صورةٍ مشوَّهةٍ لكيف تقوم الأشياء، وإلى حشدٍ من الألغاز والأحاجي.

ولنَعُدْ إلى التمثال. لقد اتفقنا في أن التمثال لا يجب أن يتماهَى مع مجموعة الجسيمات التي تُشَيِّده، ولا حتى بمجموعة الجسيمات وهي مُرَتَّبة بطريقةٍ معينة. على أننا في هذا الاتفاق نأخذ كلمة «مجموعة» collection بمعنى متصلب معين. وفقًا لهذا المعنى الصلب، تنحطم المجموعة عندما تفقد عضوًا واحدًا منها، أو عندما يُستبدَل بعضوٍ منها بديلٌ مطابق، أو عندما يضاف عضوٌ جديد. وأنا أقترح تصورًا للمجموعة أكثر سماحة، وهو التصور الذي نطلقه عندما نذكر مجموعةَ طوابع، أو مجموعةَ بطاقات بسبول أو مجموعة لوحات فنية. بهذا المعنى السمح يمكن للمجموعة أن تكسبَ أو تفقدَ أعضاء وتبقَى مع ذلك نفس المجموعة. كم عضوًا يمكن أن تكسب أو تفقد، إلى أي مدًى يمكن للمجموعة أن تتغير وتظل هي نفس المجموعة؟ ذلك شيءٌ متروكٌ، جزئيًّا، للتقدير.

عندما نتأمل التمثالَ كمجموعةِ جسيماتٍ بهذا المعنى السمح، يكون أقرب كثيرًا إلى القبول أن نقول إن التمثال ليس أكثر من، ليس غير، هذه المجموعة فحسب من الجزيئات المرتبة على نحوٍ ملائم. ولكن هذا أيضًا قد لا يكون صوابًا تمامًا. بوسعنا أن نُحاجَّ بأن التماثيلَ هي مصنوعاتٌ تُنتِجها كائناتٌ ذكية لأسبابٍ معينة. إن مجموعة جسيمات مرتبة ترتيبًا ملائمًا «سقطت من السماء»، أو تخلَّفَت عن الفعل العشوائي للموج على بروزٍ صخري، لن تكون تمثالًا (رغم أنك بالطبع قد تظن خطأً أنها تمثال). التمثالُ إذن ليس مجردَ مجموعةِ جسيماتٍ مشكَّلة على نحوٍ ملائم. فَلِكَي تمثِّل مجموعةُ جسيماتٍ تمثالًا، يجب أن يكون لها الصنفُ الصحيحُ من التاريخ العِلِّي. وهذا التاريخُ يجب أن يتضمن كائناتٍ ذكيةً وحالاتها العقلية.

افترِض الآن أننا ندمج كل هذا في صورتنا، أي إننا نأخذ مجموعة الجسيمات (بالمعنى السمح للمجموعة)، ونضيف إليها لا العلاقات التي تحملها هذه الجسيمات بعضها ببعض فحسب، بل نضيف أيضًا العلاقات التي تحملها بجسيمات أخرى هي ذاتها أعضاء في مجموعات جسيمات. ستكون العلاقات معقدة حقًّا، ومن المحتمل جدًّا أن تتجاوز أي شيء يمكن أن يحيط به عقلٌ بشريٌّ مُتَناهٍ. وفضلًا عن ذلك، فإن اختيارنا لأن نطلق مصطلحَي «مجموعة» و«ترتيب ملائم» بمعنًى سمح، فإن إمكانات التنوع ستغدو بلا نهاية.

إنما يعني هذا أن نقول بأنه ليس ثمة أمل في تقديم تعريف، أو حتى مجموعة متناهية من الشروط الضرورية والكافية،٤ لِكَون شيءٍ ما تمثالًا باللجوء فقط إلى معجم الجسيمات والعلاقات بين هذه الجسيمات. لكن لا ضَيرَ في ذلك. وتَصَوُّر أن هذا يمثِّل مشكلةً إنما هو حيودٌ عن المسألة؛ ذلك أن قضيتي ليست أن الحديث عن التماثيل قابل للترجمة في حدود الحديث عن الجسيمات وعلاقاتها. إنما الفكرة أن هذا هو كل ما تكونه التماثيل؛ أن التماثيل إنْ هي إلا — ليست غير، ليست فوق — مجموعات جسيمات، حيث تؤخذ كلمة «مجموعة» بالمعنى السمح، وتتضمن العلاقات التي تحملها هذه الجسيمات بعضها ببعض، وبالمجموعات الأخرى.

تَصَوَّرْ أن الله يَشرَع في خلق عالمٍ يحتوي على تماثيل. إن بوسعه أن يفعل ذلك بأن يخلق أشياء بسيطة ويضمن أنها تحمل العلاقات الصحيحة بعضها ببعض. وخَلْق تمثالٍ واحد يمكن أيضًا أن يتطلب خلقَ ترتيبٍ دينامي لِأشياء بسيطة تمتد على الزمن، وتأخذ منطقةً مكانية كبيرة. فإذا كان تمثالٌ يتطلب وجودَ كائناتٍ ذكية لها أفكارٌ معينة، فإن مجموعات أخرى من الأشياء البسيطة ذات علاقات مكانية وزمانية ممتدة بالمثل سوف يتعين أن تُضَم أيضًا.

مرةً ثانيةً، ليست الدعوى أن «التمثال» يمكن أن يعرَّف أو يحلَّل في حدود الذرات أو الجزيئات وعلاقاتها. وإنما صانعات الصدق٥  truth-makers للدعاوي عن التماثيل هي، جوهريًّا، ترتيبات لأشياء بسيطة، فيكون شيءٌ ما تمثالًا بفضل كونِه مجموعةً (بالمعنَى السمح) من الأشياء البسيطة تحمل علاقاتٍ ملائمةً بعضها ببعض وبمجموعات أخرى من الأشياء البسيطة. ولا سبيل إلى تحديد هذه المجموعات بمعزِلٍ عن مفهوم التمثال لدينا، ولا ذلك مما يلزم. الاقتراح الذي أطرحه ليس أننا يمكن أن نَرُد (نختزل) الحديثَ عن التماثيل إلى حديثٍ عن الإلكترونات والكواركات، فالصورةُ التي أقدِّمها هي صورةٌ أنطولوجية، وليست وصفًا رَدِّيًّا لمعاني الكلمات.
يجد كثيرٌ من الفلاسفة أن هذه الصورةَ متزمتةٌ على نحوٍ مثبِّط؛ إذ يبدو لهم أنها تنكر واقعيةَ أي شيء عدا الأشياء البسيطة والعلاقات التي تحملها هذه الأشياء بعضها ببعض. وبتعبير الذري اليوناني القديم ديمقريطس Democritus (460–370 BC): ليس واقعيًّا إلا الذرات والخلاء. غير أن هذا تشويهٌ كاريكاتوري للصورة. التماثيل موجودة. حسنًا، إنها ليست شيئًا مضافًا إلى مجموعاتِ أشياء بسيطة. التماثيل ليست كياناتٍ على مستوًى أعلى، اللهم إلا بالمعنى الأنطولوجي الحميد الذي يفيد أنها كياناتٌ معقدة مشيَّدةٌ من مكوِّناتٍ أبسطَ تتخذ ترتيباتٍ معقدة. وهكذا الأمر أيضًا بالنسبة لكل كيانٍ يُزعَم أنه على مستوًى أعلى، بما فيها نحن أنفسنا، ومؤسساتنا الاجتماعية، ومنتوجات هذه المؤسسات.

ثمة نقطةٌ أخيرة جديرة بالذكر. إن مثال التمثال والجسيمات التي تشيِّده لَيستحثُّ فكرةَ أن العالمَ مُحَبَّبٌ (مُبَلَّر): الأشياءُ المعقدة هي تجمعاتٌ من أشياء بسيطة هي ذاتُها جسيمية. ورغم أني أقبل هذا كاحتمال، فليس هذا هو الاحتمال الوحيد، وإذا كانت الفيزياء مما يُصَدَّق، فليس هذا حتى باحتمالٍ مرجَّح. تخيَّلْ للحظةٍ أن الأشياءَ البسيطة مناطقُ مكانية-زمانية هي ذاتها تمتلك خواصَّ معينة. مثلُ هذه الأشياءِ ليست شبيهةً بالجسيم وإن كنا نَخبُرُها على أنها كذلك.

لستُ أظن أن هذا ينال أيَّ شيء قلتُه حتى الآن. لقد تحدثتُ عن التماثيل وجسيماتها المكوِّنة، ولكن هذا قد يُعَد طريقةً لا أكثر للحديث عن ترتيباتٍ مهولةِ التعقيد من الاضطرابات في المكان-الزمان. وكيفما كان الأمر، فالعالم من شأنه أن هذه الاضطرابات ليست أمورًا منعزلة، فهي تميل إلى التكتل بطرائق معينة. هذا التكتل يُفضِي إلى ما نَصِفُه (على نحوٍ صحيح في اعتقادي) كتماثيلَ وجسيماتٍ مشيِّدة لها.

ورغم أني أظل، من الجهة الرسمية، لاأدرِيًّا تجاه السؤال عما إذا كانت الأشياءُ جوهريًّا جسيماتٍ أو حقولًا أو غير ذلك — فليس هذا، بعد كل شيء، بسؤالٍ يَبُتُّ فيه الفيلسوف — فسوف أظل أعامل الأشياءَ على أنها «مُتَّصَلات» تضطرب في المكان وتدوم عبر الزمن. وهذه مسألةُ لِياقةٍ لغويةٍ بحتة. إنني أفترض أن صانعات الصدق بالنسبة للدعاوي عن الأشياء قد يتبيَّن أنها شيءٌ لا ينسجم مع تصورنا الاعتيادي للأشياء ككياناتٍ متحركة مستديمة مكتفية بذاتها.

الانبثاق emergence

هذه الصورةُ التركيبية مقصودٌ بها أن تَسرِي على الخواص وعلى الأشياء أيضًا. الخواصُّ المعقدة هي خواصُّ الأشياء المعقدة (وليس يعني ذلك إنكارَ أن الأشياء المعقدة قد يكون لها خاصةٌ بسيطة. وكما لاحظنا سابقًا، فإن الشيء الكروي قد يكون بسيطًا أو معقدًا). الخاصة المعقدة ليست شيئًا أعلى وفوق خواص أشياء مكوِّنة لشيءٍ معقد مرتَّبة على النحو الذي هي عليه.

هذا التصور يقف في تعارضٍ مع الرأي القائل بأن خواص الكُلَّات٦ «انبثاقية» emengent. يتكون العالَمُ من أشياء بسيطة. وخواص هذه الأشياء البسيطة هي خواص بسيطة. (قد يثبت أن، ويبدو مرجَّحًا حقًّا أن، هناك عددًا قليلًا جدًّا في الحقيقة من الخواص البسيطة أو أنواع الخواص البسيطة.) وكل إمكانٍ للتضامِّ مكتوبٌ في الخواص البسيطة. وتشمل هذه الإمكاناتُ تلك الإمكاناتِ التي لم تظهر قَط ولن تظهر أبدًا. والتضام الجديد هو تضام جديد وليس خاصة جديدة. (ليس يعنِي ذلك رفض الخواص المعقدة، بل التأكيد فحسب على أن الخواص المعقدة ليست شيئًا أعلى وفوق مكوِّناتها مرتبةً على نحوٍ ملائم.)
هل يعني هذا أن الانبثاق، الانبثاقَ الحقيقي، انبثاقَ خواصَّ جديدةٍ جِدةً حقيقةً (كأمرٍ مختلف عن ترتيباتٍ جديدةٍ لخواصَّ قديمة) هو شيءٌ مستحيل؟ كلا على الإطلاق. إذا كان ثمة انبثاق — وليس لدينا ما يدعو إلى الشك في وجوده — فإنه يحدث على المستوى القاعدي. وعند المستوى القاعدي لا يمكن لما هو انبثاقي أن يُرَد إلى أي شيءٍ أكثرَ قاعدية. افترِضْ مثلًا أن العالَم تَضَمَّن نوعين فحسب من الجسيمات الأولية، جسيمات ألفا وجسيمات بيتا. لم يتفاعل هذان الصنفان قَط قبل وقتٍ معين، ربما لأنهما يشغلان مناطقَ مكانيةً غيرَ متداخلة، غير أن جسيم ألفا وجسيم بيتا اصطدما في النهاية، والنتيجة هي انبثاق صنفٍ جديد من الجسيمات الأولية، هو جسيمات X. لعل شيئًا أشبه بهذا قد حدث أثناء الانفجار الكبير Big Bang أو بعده مباشرةً، وربما يحدث هذه الأيام في مُعَجِّلات الجسيمات.٧

تحملنا الصورةُ المركبة على أن نفرق بين خواص معقدة ليست أكثر من تضام (قد يكون جديدًا) لخواص بسيطة، وبين خواص بسيطة انبثاقية حقًّا. وإمكان الخواص الانبثاقية البسيطة مكتوب في (أي: باطن في) الخواص التي تعمل كحاملاتٍ لانبثاقها. هذه الإمكانات تتضمن إمكان خواص معقدة غير انبثاقية، وإمكان خواص انبثاقية بسيطة غير معقدة.

الطبقات الأنطولوجية

هل تصطدم الأنطولوجيا التي أدعو إليها مع الخبرة اليومية أو مع مأخذنا المعتاد للواقع؟ كلا على الإطلاق. إنما تصطدم بالتأكيد مع لازمة فلسفية رائجة، مفادها أن العالم طبقي؛ العالم يشتمل على مستويات من الأشياء والخواص. هذه المستويات هي افتراضات فلسفية أُدخِلَت كمكوِّناتٍ لنظريات فلسفية. مثل هذه النظريات صُمِّمَت في الأغلب لكي تعلِّل لخبرتنا اليومية. غير أني في رفضي لافتراضٍ فلسفي وللنظرية التي هو مطمور فيها لا أوصي بأن تولي ظهرَك للخبرة اليومية. إنني، على العكس، أقدِّم وصفًا لأساس تلك الخبرة منافسًا لهذا الوصف، وصفًا ينسجم أيضًا، لحسن الحظ، مع ما تُنبِئنا به العلومُ عن عالمنا.

عند هذه النقطة قد يصمد مجادلٌ ما بِعِنادٍ قائلًا إن النظرة الطبقية إلى العالَم تأتي لا من الخبرة اليومية، بل من العلم. فالعلوم الخاصة تتعلق بأشياء وخواص تشغل طبقاتٍ أنطولوجيةً متمايزة. كلُّ مستوًى من هذه مستقلٌّ عن المستويات الأدنى منه، بمعنى أنه لا يمكن رَدُّه إلى المستويات الأدنى. والقوانين التي تحكم أشياء المستويات الأعلى لا يمكن أن يُستبدل بها، ولا يمكن أن تُشتَق من، قوانين المستوى الأدنى. إلا أن أشياء المستويات الأعلى وخواصها مؤسَّسة بطريقةٍ ما في الأشياء والخواص التي تحتل المستويات الأدنى. والوصف المفضَّل لهذه العلاقة التأسيسية تحصره، فيما يقال، فكرة «العارضية» supervenience، ومفادُها أن مفردات المستوى الأعلى تَعرِض لمفردات المستويات الأدنى. وهذا يعني، على التقريب، أن أشياء وخواص المستوى الأدنى تكفي لأشياء وخواص المستوى الأعلى، إلا أن أشياء وخواص المستوى الأعلى متمايزة عن أُسُسِها على المستوى الأدنى. وينعكس تمايزها في (أو ربما يتشكل بواسطة) كونها محكومة بقوانين طبيعية متمايزة.

سيتطلب تقييم هذه المقاربة انعطافة خلال فلسفة اللغة.

المحمولات والخواص

الخواص كما قد بَيَّنتُ هي ملامح عيانية للعالَم؛ طرائق معينة تكون عليها الأشياء. هذه المظاهر علينا أن نميز بينها وبين تمييزاتنا لها. نحن نميز بين خاصة الكروية، أي كون الشيء كرويًّا، وبين المحمول «يكون كرويًّا»، وهو تعبير لغوي دورُه أن يسمِّي أو يُلَقِّب الخاصة. هل كل خاصة لديها تلقيبٌ لغويٌ (تسمية لغوية)؟ يبدو ذلك بعيد الاحتمال. فنحن كلما تعلَّمنا المزيدَ عن عالمنا كشفنا الغطاءَ عن خواص جديدة لَمَّا تزل غيرَ مسمَّاة. المختبراتُ ومُعَجِّلاتُ الجسيمات مصمَّمةٌ لكي تُيَسِّر خلقَ خواصَّ جديدة، خواصَّ لم تُصادَف من قبل. عندما يحدث هذا فنحن نُضطَر إلى ابتكارِ اسمٍ جديدٍ، أو اختراعِ محمولٍ وصفي.

هذا شيءٌ يبدو واضحًا جدًّا. أما الأقل وضوحًا فهو هل كلُّ محمول يُلَقِّب (يُسمِّي) خاصة؟ واعلَمْ أن بعض المحمولات يبدو بوضوح أنه لا يسمِّي شيئًا على الإطلاق، فالمحمول «هو شافٍ لنزلات البرد»، رغم أنه ذو معنًى تمامًا، لا يُسَمِّي خاصةً يمتلكها أيُّ شيء. فهل يعني ذلك أنه لا يُسمِّي خاصة؟ ربما، ما لم يُقِر المرءُ بوجود خواصَّ لا أمثلةَ (شواهد) لها.

ثمة محمولاتٌ أخرى تمثِّل تحدياتٍ مختلفة. تأمل المحمول «هو جيد». ثمة خلاف كبير فيما إذا كان هذا المحمولُ يسمِّي خاصةً من خواص الأشياء، أم هو يشير فحسب إلى تَقَبُّلِ المتحدِّثِ للأشياء. عندما تخبرني أن الكرنب المسوَّق جيد، فهل أنت تقول إن الكرنب المسوق، بالإضافة إلى كونه ورقيًّا وأخضرَ وحِرِّيفًا، يمتلك خاصةَ أنه جيد؟ أم تُراكَ توصي بأكل الكرنب المسوق (ربما لأنه ورقي وأخضر وحريف)؟ ليس علينا أن نحاول الإجابة عن هذا السؤال هنا، وبحسبِنا أن ندرك أن مسألة ما إذا كان المحمول «هو جيد» يسمِّي خاصةً حقيقية هي أمرٌ خلافي على أقل تقدير.

وماذا عن محمولٍ مثل «هو صخرة»؟ هل هذا المحمول يسمِّي خاصةً تمتلكها أشياء، تلك التي تتصف بأنها صخور؟ ثمة صخور بغير أدنى شك. ولكنْ هل ثمة خاصة، خاصة كَونِ الشيءِ صخرة، تمتلكها أشياء معينة، وبفضلها يكون من الحق أن هذه الأشياء هي صخور؟ قد يَبدَهُك هذا كسؤالٍ غريب، ولكن اصبرْ معي؛ فربما نستطيع أن نُبصِرَ طريقَنا خلال دَغلٍ فلسفي واحدٍ على الأقل، ونبدأ معًا في استخلاص بعض الدروس الخاصة بهذا الفصل.

الخواص، والواقعية، وضد الواقعية

أحيانًا ما يُحاجُّ الفلاسفةُ كما يلي:

  • (أ)
    خُذ محمولًا، «م». إما أن «م» يُسَمِّي خاصةً وإما أنه لا يُسَمِّي. فإذا كان «م» يسمِّي خاصةً، إذن فأن تقول بأن شيئًا ما، أ، هو م، هو أن تقول شيئًا ما صادقًا (إذا كان أ لديه م)، أو كاذبًا (إذا كان أ خِلوًا من م). ونحن نكون واقعيين realists عن م ما دمنا نَعُد «م» تُعَبِّر عن خاصة، وإلا فنحن ضد الواقعية antirealists فيما يخص م.
يذهب المضادون للواقعية بشأن مجالٍ معين إلى أن الكيانات التي في هذا المجال إما غير موجودة، وإما معتمدة على العقل بطريقةٍ ما. إن معظمنا مضادون للواقعية بالمعنى الأول فيما يتعلق بالأشباح (العفاريت) ووحيد القرن. فنحن ننكر وجود مثل هذه الأشياء. وبصياغة هذا بلغةِ الفلاسفة، فنحن نعتقد أن المحمول «يكون عفريتًا» («is a ghost») والمحمول «يكون وحيد القرن» («is a unicorn») لا يُسَمِّيان شيئًا على الإطلاق. (مع ملاحظةٍ مُقَيِّدة: كل محمول متسق يمكن أن يَصدُق على اعتقادات الأشخاص. فقد يَصدُق عنك أنك تعتقد في العفاريت أو وحيد القرن.) ومقارنةً بالذين يعتقدون في هذه الأشياء يمكن أن نوصف نحن على أننا حذفيون (استبعاديون) eliminativists فيما يتصل بالعفاريت ووحيد القرن. فحيث م هو وحيد القرن فنحن نعلن أن ليس ثمة م.
ثمة مضادون آخرون للواقعية أكثر دقةً (أو الْتواءً). يذهب هؤلاء إلى أن الجُمَل التي تعزو ظاهريًّا م لأشياء لا يتعين أن تُفهَم كَعَزوٍ مباشر، بل كشيءٍ آخر. من الأمثلة المألوفة على ذلك الآراء «التعبيرية»٨  expressivist في الأخلاق. فأن تقول مثلًا إن «أ» خَيِّرٌ فإن هذا لا يعنِي عَزوَ خاصةٍ — الخير — إلى «أ»، بل يعبر عن موافقة المتحدث على «أ».

كل هذا حسنٌ وجميل، ولكن ماذا تُرانا نقول عن الأطروحة «أ»؟ اقتراحي الخاص هو أن «أ» تسيء تعيين الواقعية. ينبع سوء التعيين هذا من التهاون في التمييز بين المحمولات والخواص. ومن نتائج الولاء الضمني للأطروحة «أ» أو شيء شبيه ﺑ «أ» هو أن تُقَدَّم الأنطولوجيا المعروضة في هذا الفصل، دون وجه حق، في ضوءٍ غير جاذب.

لكي ترى الخطأَ في الأطروحة «أ»، تأملْ كيف يمكن لمحمولٍ أن يُعَدَّ صادقًا عن موضوعٍ ما. بوسعِنا أن نقول إن المحمول «يكون كرويًّا» يَصدُق على كرة بلياردو بفضل امتلاك الكرةِ خاصةَ كونها كروية. والآن تأمل المحمول «يكون حجرًا» (is a stone). إن معظمنا لَيوافق على أن هذا المحمول يَصدُق على موضوعاتٍ كثيرة؛ كثير من الأشياء هي أحجار. فهل «يكون حجرًا» يسمِّي أو يُلَقِّب خاصةً للأشياء، خاصةً بفضلها تَفِي الأشياء بالمحمول «يكون حجرًا»؟

لا تقلْ: طبعًا! إذا لم يكن المحمول يلقِّب خاصةً، إذن فسيكون من الكذب أن الأشياء تَفِي به، ولكن هذا باطل، فمن المؤكد أن هناك أحجارًا! لا يَعدو هذا أن يكون إعادةَ توكيد للأطروحة «أ».

دَعنا ننظرْ باختصار في الخواص. إذا اعتَبَرتَ الخواص — ضد نُصحِي — كليات، إذن فكل شيء يمتلك هذه الخاصة يجب أن يكون، في جانبٍ ما، متماهيًا مع — أو على أقل تقدير مشابهًا ﻟ — كل شيء آخر يمتلكها. إذا كنتَ تتفق معي في أن الخاصة هي طريقة يكون عليها الشيء، إذن فسوف توافق على أن المعنى الذي «يشارك» به شيئان في خاصةٍ ما، أي المعنى الذي به يمتلكان «نفس» الخاصة، هو أن الشيئين متشابهان بالضبط في جانبٍ ما. فرغم أن كروية كرة البلياردو هذه متمايزة إحصائيًّا عن كروية كرة بلياردو أخرى، فإن كروية الكرتين متماثلةٌ تمامًا. ولا شيء في هذا يتضمن أنه إذا كانت الكرويةُ خاصةً فلا بد أن يكون كلُّ شيءٍ كرويٍّ مشابهًا تمامًا لكل شيء كروي آخر، بل يتضمن أن كل شيء كروي لا بد أن يكون مشابهًا لكل شيء كروي آخر في جانبٍ ما.

في حالة الكروية، يبدو واضحًا أن هذا الشرط مستوفًى في أحيانٍ كثيرة، فكثيرٌ من الأشياء المختلفة، كثيرٌ من الأنواع المختلفة من الأشياء، متماهية (أو متشابهة تمامًا) من ناحية كرويتها. (إذا كنتَ غيرَ مطمئنٍ إلى إمكان أن يكون شيئان متماثلين تمامًا من ناحية كرويتهما، فاستبدِل بالكروية كتلةَ إلكترون. إنما أستخدم المثالَ لِتوضيح الفكرةِ لا لِإثباتِها.) وماذا عن كون الشيء حجرًا؟ مرةً ثانيةً، هناك كثير من الأشياء المختلفة، كثير من أنواع الأشياء، تَفِي بالمحمول «يكون حجرًا». ولكن هل تشارك هذه الأشياءُ في خاصةٍ واحدة، هل تتماهَى (أو تتماثل تمامًا) في ناحيةٍ ما؟ افترِضْ (كما أرجِّح أنا) أنها لا تتماهَى، فهل يتعين علينا أن نستنتج أن الأحجار لا وجود لها؟ هل يتعين علينا أن نكون مضادين للواقعية فيما يتعلق بالأحجار؟

كلا، ما لم نكن متشبِّثين بالأطروحة «أ». فالمحمول «يكون حجرًا»، شأنه شأن معظم المحمولات، مقصودٌ به أن ينطبق على السواء على قطاعٍ عريضٍ من أشياء ذات نطاقٍ عريضٍ من الخواص المعقدة. وهو يفعل ذلك لا لأن هذه الأشياء متماهية (أو متشابهة تمامًا) في جانبٍ ما، بل لأن الأشياء متشابهة بما يكفي. إلى أي مدًى يجب أن تتشابه الأشياءُ لكي تَفِي بمحمولٍ ما؟ ذلك شيءٌ يتوقف على المحمول، شيءٌ نتعلمه عندما نتعلم أن نطبق محمولاتٍ معينةً على الأشياء.

لا أعتقد أن ثمة أي شيء جديد أو مروِّع في هذه الفكرة. لقد دَفَعَ بها كثيرٌ من شتى الفلاسفة في شتى الأزمنة. غير أن فتجنشتين هو المثال الحديث الأشهر لفيلسوفٍ عزفَ على هذا الوتر. ولكني لا أعتقد أن الفكرة تتضمن الكثير على غرار الفلسفة الحقيقية؛ فكل مستخدِم للغة يَعِيها على نحوٍ مباشرٍ تمامًا.

والآن، من الأهمية بمكانٍ أن نرى أن من الممكن لِمَحمولٍ لا يسمِّي خاصةً أن يَصدُق رغم ذلك (أو لا يَصدُق) على شيءٍ ما بفضل خواص ذلك الشيء. ربما يكون شيءٌ ما كرويًّا بفضل امتلاكه خاصة الكروية، إلا أن الشيء يكون حجرًا لا بفضل امتلاكه خاصةَ كونِه حجرًا، بل بفضل امتلاكه خواصَّ أخرى معينة. كما أن من الممكن أن تكون الخواص التي تكفي لتطبيق المحمول «يكون حجرًا» تشكِّل فئةً مفتوحةً للتعديل حسب تطور الأحوال، فإذا صَح ذلك، فإن الأحجار لا يلزمها أن تشارك في شيء عدا تشابهٍ عائلي (أسري)٩  family resemblance معين. لن يستنتج أيُّ فيلسوف (ما لم يكن صاحب غرض) من هذا أنْ ليس ثمة أحجار، أو لا شيء يكون في الحقيقة حجرًا.
ولألخصْ ما قلتُ: بعض المحمولات تَصدُق على أشياء بفضل الخواص التي تمتلكها تلك الأشياء. بعض هذه المحمولات تسمِّي خواصَّ تمتلكها الأشياء التي تنطبق عليها هذه الخواص، والبعض الآخر لا يسمِّي. (بهذه الصياغة للفكرة، فأنا أستخدم تعبيرات من الصورة «م يُسَمِّي (أو «يُعَبِّر عن») خاصة» لِتُعيِّن حالاتٍ يعمل فيها «م» كاسمٍ لِخاصة — إذا كانت الخواص كليات — أو كاسمٍ لفئةٍ من الخواص المتماثلة تمامًا، إذا كانت الخواص هي «طُرُقِي» المعينة.) إن الواقعية realism بخصوص محمولٍ معين، «م»، الواقعية بخصوص م، تستلزم أن «م» تنطبق حقًّا على الأشياء بفضل خواصَّ تمتلكها تلك الأشياء. ولا تستلزم الواقعيةُ أن تسمِّي «م» خاصةً ما. فإذا لم يكن «م» يسمِّي خاصةً، فإن الأشياء التي تَفِي ﺑ «م» لا بد أن تكون متماهيةً (أو متماثلةً تمامًا) في جانبٍ ما، جانبٍ بفضله تَصدُق «م» على هذه الأشياء. وقد نضيف أن الأشياء التي لا تَفِي تختلف عن الأشياء التي تَفِي فعلًا ﺑ «م» في هذا الجانب. (لستُ أعنِي، بالطبع، الأشياء التي لا تشترك في خاصةٍ ما لا يمكن أن تكون متماهية — أو متماثلةً تمامًا — في جوانب كثيرة، ولا أن الأشياء المفتقرة للخاصة لا يمكن أن تكون مختلفة في جوانب كثيرة.)

أعترفُ أني ما عنيتُ بكل هذا سوى أن نأخذ الخواصَّ مأخذَ الجِد. إذا فعلنا ذلك، فلا بد أن نسلِّم بأن من المستبعَد أن يمكننا أن نمحو الخواص من المحمولات التي تشتمل عليها اللغة العادية. كما أن عليك، ما لم تكن تَعُد الأطروحة «أ» منيعةً صعبة المَنال، أن تكون مرحبًا بأن المحمولات لا يلزمها أن تسمِّي خواص لكي تَصدُق على الأشياء، ولكي تَصدُق حقًّا على تلك الأشياء بفضل الخواص التي تمتلكها.

أرى إلى هذا الخط من الاستدلال كامتدادٍ طبيعي للخط الذي اتخذناه سابقًا عن الأشياء. بِوُسعِنا أن نسمح بأن توجَد التماثيل (بوسعنا أن نكون واقعيين بصدد التماثيل) دون افتراض أن «كون الشيء تمثالًا» يسمِّي خاصةً مفردةً تشترك فيها جميع التماثيل. ينسجم هذا بسلاسةٍ مع الصورة التركيبية. التمثال ليس أكثر من مجموعة من الأشياء الأبسط التي تحمل علاقاتٍ ملائمةً بعضها ببعض وبمجموعاتٍ أخرى من الأشياء. هذا لا يهدد وضع الأشياء المعتادة كالتماثيل، ولا أحد، في اعتقادي، يتخيل، ما لم يكن فيلسوفًا، أن يهددها.

تطبيق هذه الوجهة من الرأي

يتضمن العالمُ أشياء بسيطة تقف في علاقات لا نهاية لها ببعضها البعض. والأشياء البسيطة، رغم خلوِّها من الأجزاء، تُبدِي بِنيةً. بوسعنا أن نعتبر الشيءَ كحاملٍ للخواص هو نفسُه غيرُ محمول، وبوسعنا أيضًا أن نعتبر الشيءَ بالنظر إلى خواصه، أي الطرائق التي هو عليها. الأشياء المعقدة مُشَيَّدة (ربما ديناميًّا) من مجموعات من الأشياء البسيطة. تمتلك الأشياءُ المعقدة خواصَّ معقدة، أيْ خواصَّ تتشكل تمامًا بواسطة خواص المكوِّنات البسيطة للشيء مُرَتَّبة على ما هي عليه. والأشياء المتمايزة «تتشارك» في خاصةٍ ما عندما تكون هناك طريقةٌ ما تتشابه فيها بدقة.

ليس عليك أن تتفق مع تفاصيل هذا المخطَّط لكي تدرك الدروس التي آمل الآن أن أستخلصها منه بالنسبة لفلسفة العقل، فقد يتطلب الدفاعُ الوافي عن تلك التفاصيل استطرادًا ممتدًّا في شوطٍ ميتافيزيقي عَسِرٍ لا يلائم سِفرًا من هذا النوع. ويمكن أن يُقال هذا في معظم ما يلي، غير أن مَقصِدي ليس تقديمَ براهينَ قاضيةٍ، بل مقصدي فحسب أن أوضح الفوائدَ المستمَدة من أنطولوجيا شاملة بالنسبة لتلك الأنواع من المسائل في فلسفة العقل التي شغلتنا طوال الفصول السابقة.

تعددية التحقيق

يُغرَم فلاسفةُ العقل، ولا سيما ذوو النزعة الوظيفية، بفكرة أن الخواص العقلية قابلة ﻟ «تعددية التنفيذ أو التحقيق» multiple realizability. لستُ أعرف وصفًا واضحًا لتعددية التنفيذ، ولكن الفكرة على التقريب هي كالتالي:

تُعَد خاصةٌ ما، س، متعددةَ التحقيقِ إذا كان شيءٌ ما، أ، لديه الخاصةُ س يعتمدُ على — ويتحددُ ﺑ — امتلاكِه خاصةً ما، ص، من فئةٍ (ربما مفتوحة قابلة للتعديل) من الخواص، ع. إذا امتلك شيءٌ ما واحدةً من أعضاء ع فإنه يحقِّق س.

لستُ أُقِيم وزنًا كبيرًا لتفصيلاتِ هذا التصوير، وبحسبي أن أقول إنه عندما تكون خاصةٌ ما متعددةَ التحقيق، فإن الأشياء التي تمتلك هذه الخاصة تمتلك أيضًا الخاصة التي تحققها. هذه في اعتقادي هي السمةُ المركزية لفكرة تعددية التحقيق كما يتصورها معظمُ الفلاسفة.

لِنَزعُمْ أن التأَلُّم هو خاصة متعددة التحقيق. إنها خاصة تمتلكها، كما نفترض، كثيرٌ من الأنواع الشديدة الاختلاف من المخلوقات. إذا كانت الخاصةُ متعددةَ التحقيق، إذن فإن كل كائن يمتلكها يفعل ذلك بفضلِ امتلاكِ خاصةٍ محقِّقةٍ أخرى متمايزةٍ عنها. هذه الخاصة الأخيرة تحقِّق الألمَ في ذلك الكائن. والفكرة المرشِدة هنا هي أن خاصةً مثل التألم لديها محقِّقاتٌ متباينة ولا نهاية لها. فالخاصةُ النيورولوجية التي تحقِّق ألمَك تَجِب تفرقتُها عن الخاصة النيورولوجية المختلفة جدًّا التي تحقِّق الألم في الأخطبوط. وإذا كان سكان ألفا سنتوريا يَخبُرون الألمَ، وكان لديهم أجهزةٌ عصبية تقوم على السليكون، فثمة إذن خاصةٌ ما مختلفةٌ تمامًا تحقِّق الألمَ عند سكان ألفا سنتوريا.

من المشكلات التي يكثر تناولُها، والتي تواجه أولئك الذين يعتبرون الخواصَّ العقليةَ بصفةٍ عامة متعددةَ التحقيق، مثل الوظيفيين، مشكلةُ العِلِّية العقلية أو التسبيب العقلي mental causation. إذا كانت خاصةٌ عقليةٌ ما تتحقق بواسطةِ خاصةٍ مادية، فإنه يبدو إذن كأن محقِّقَها المادي يتصدر أيَّ إسهامٍ عِلِّيٍّ من جانب الخاصة العقلية المتحقِّقة أو المُنَفَّذة.
ويوضح الشكل ٦-٢ هذه الصعوبة (حيث M1 وM2 خاصتان عقليتان، P1 وP2 مُحَقِّقان (مُنَفِّذان) غيرُ عقليَّين، يمثِّل علاقة التحقيق، يشير إلى العلامة العِلِّية). في هذه الحالة، فإن الخاصتين العقليتين M1 وM2 تبدوان ظاهرتين مصاحبتين (ثانويتين): M1 ليس لديها دورٌ عِلِّيٌّ في إحداث P2 أو M2.
إذا كنتَ مُصِرًّا على أن الخواص العقلية تُحدِثُ فارقًا عِلِّيًّا، فإن عليكَ أن تقول كيف يمكن أن يتم ذلك. افترِضْ مثلًا أن M1 هي خاصة التألم، P1 هو مُحقِّقُها النيورولوجي، M2 هي خاصة القصد إلى تناول أسبرين، وP2 هو محقِّق M2. إن من الطبيعي أن تفترض أن M1 تُحدِث M2 (شكل ٦-٣)، إلا أنه بالنظر إلى علاقة M2P2 فمن الصعب أن ترى كيف يمكن ﻟ M1 أن تنتِج M2 إلا بواسطة إحداث P2 (شكل ٦-٤). فالذي يضع M2 في المشهد، أو هذا ما قد يبدو، ليس M1، بل وجود P2 في المشهد. المشكلة الآن هي أن P2 تبدو «محددة تحديدًا عِلِّيًّا زائدًا» causally overdetermined؛ ذلك أن P1 تقدم بذاتها أساسًا عِلِّيًّا كافيًا ﻟ P2.
وربما أسوأ من ذلك في تَخيُّل أن M1 يمكن أن تلعب دورًا في إنتاج P2 هو أننا بذلك نبدو مناقضين لاعتقادٍ واسع الانتشار بأن النظامَ الفيزيائي «مغلقٌ عِلِّيًّا» causally closed أو مستقل بذاته. هل هذه صعوبة خطيرة أم مجرد تحيز يمكننا أن نهجره دون تعريض استقلال الفيزياء للخطر؟ ذلك أمرٌ خِلافي. وسوف أُحاجُّ على أية حال بأننا غير مضطرين للاختيار بين مذهب الظاهرة الثانوية (الموضح في شكل ٦-٢) من ناحية، و«العِلِّية الهابطة» downward causation (شكل ٦-٤) من الناحية الأخرى.١٠
fig24
شكل ٦-٢
fig25
شكل ٦-٣
fig26
شكل ٦-٤

افترضْ، أولًا، أنني على صواب في أن الخواص تمنح الأشياءَ التي تمتلكها استعداداتٍ معينةً وخصائصَ كيفية، أن الشيءَ لديه الاستعداداتُ (أو القُوَى العِلِّية) والكيفياتُ التي لديه بفضل الخواص التي يمتلكها. كما أن كل خاصة تسهم إسهامًا محددًا في استعدادية وكيفية الأشياء التي تنتسب إليها. هذا الافتراض ينسجم مع تصور الخواص المقدَّم في القسم الأول من هذا الفصل (وينسجم أيضًا مع تصورات أخرى كثيرة للخواص). تَخَيَّل الآن أن التأَلُّم يتحقق فيك بواسطة امتلاكِك هيئةً نيورولوجية معقدةً معينة. عندما نتأمل شبكتَك السلكية يبدو كأن هذه الهيئة النيورولوجية — المحقِّق المفترَض للألم — وليس الألم نفسه، هي التي تُحدِث التغيراتِ الجسميةَ التي نربطها بالألم.

ربما ترى هذه الفكرةَ الأخيرةَ محيِّرة. إذا كانت خاصةٌ ما تحقِّق خاصةَ التألُّم، فلماذا إذن لا نقول إن الألم يمكن أن يتماهى مع محقِّقِه؟ إذا كانت الخاصةُ المحقِّقةُ تصنع إسهامًا عِلِّيًّا، إذن فكذلك تفعل الخاصة المتحقِّقة، خاصة التأَلُّم. المشكلة (أو إحدى المشكلات بالأحرى) في هذا الاقتراح هو أن أنصار تعددية التحقيق يرَون من الضروري التفرقة بين خواص المستوى الأعلى المتحقِّقة وبين محقِّقاتها من المستوى الأدنى. هكذا عندما تُحقَّق خاصةُ مستوًى أعلى بواسطة خاصةِ مستوًى أدنى، فإن كلتا الخاصتين يجب أن تكونا حاضرتين على نحوٍ ما. فالخاصةُ المتحقِّقة، أو مثالها، لا يمكن أن تمتصها الخاصةُ المحقِّقةُ أو مثالها.

تَضَمَّنَت محاولاتُ التوفيق بين تعددية التحقيق والفاعلية العِلِّية اللجوءَ إلى أوصافٍ لا وقائعية١١ خالصة purely counterfactual للعِلِّية، واللجوء إلى فكرة أن أي خاصة تَمثُل في قانونٍ عِلِّيٍّ (حتى لو كان قانونَ تساوي بقية ceteris paribus law ذا تحفظات) تملك بذلك فاعليةً عِلِّية، واللجوء إلى تنويعاتٍ شتى من الردِّية reductionism، الخواص العقلية يجب أن تتماهَى مع محقِّقاتِها أو مع بدائل الفصل لمحققاتها١٢  disjunctions of their realizers. وأعتقد أن لدينا الحق في أن نشك في كل هذه الاستراتيجيات، ولكني لن أُحاجَّ في هذه النقطة هنا، وبدلًا من ذلك سأعرض صورةً بديلةً لتعددية التحقيق. هذه الصورةُ البديلة تأخذ أنطولوجيا الخواص مأخذَ الجِد، وتُطَبِّق ملاحظاتي السابقة عن المحمولات والخواص.

هل الألمُ خاصةٌ؟

افترِضْ، إن شئتَ، أن المحمول «هو في ألم»، شأنه شأن المحمول «هو صخرة»، لا يُسَمِّي خاصةً من الخواص. إنه لَمِن الحق أن المحمول «هو في ألم» تستوفيه أشياء، وتستوفيه تلك الأشياءُ بفضل خواصها. إلا أن الخاصة التي بفضلها يستوفِي شيءٌ ما المحمول «هو في ألم» ليست خاصةً عامةً للتألم، فليس ثمة مثل هذه الخاصة.

آملُ أن أكون أوضحتُ بالقدر الكافي أنني لا أؤيد شكلًا من المذهب الحذفي (الاستبعادي) أو المذهب المضاد للواقعية بالنسبة للألم. لستُ أنكر أن الكائنات كثيرًا ما تكون في ألم. إنما الفكرةُ أن «هو في ألم» ينطبق على الكائنات التي تتشابه في جوانب بارزة معينة، تتشابه بحيث ينطبق عليها المحمول. تَنجُم هذه التشابهات من امتلاك الكائنات خواصَّ معينة، ولكن الخواص لا يلزم أن تكون واحدة في كل حالة، فالكائنات لا هي متماهية ولا هي متشابهة تمامًا في تلك الجوانب التي بفضلها يَصدُقُ عليها أنها تَستوفِي المحمول «هو في ألم».

هذه النتيجة فيما يبدو تقدم لنا بالضبط ما نبغي، فهي تسمح لنا أن نكون واقعيين بالنسبة للألم، ولكنها لا تُورِثنا هواجسَ بأن يكون الألمُ بلا قيمةٍ عِلِّية، أن يكون «ظاهرةً ثانوية». وفضلًا عن ذلك، فهي تستوعب فكرةَ أن ما يجعل كائنًا ما في ألم يمكن أن يتنوع تنوعًا واسعًا عبر الأنواع، أو حتى الأفراد. افترِضْ، للحظة، أن الألم هو، جزئيًّا على الأقل، تصوُّرٌ وظيفي، أي إن الكائن يستوفي المحمولَ «هو في ألم» جزئيًّا بفضل كونِه في حالةٍ تلعب نوعًا معينًا من الدور العِلِّي المعقد (ويمكن أن يكون الأمر كذلك حتى إذا كان للألم، كما أحسبه حتمًا، بُعدٌ كيفيٌّ ضروري). وكما يوضح الوظيفيون بلا كَلَل، فإن أنواعًا مختلفة عديدة من الحالات يمكن أن تلعب هذا الدور (وهذا واضح بصفة خاصة؛ لأن أي تحديد للدور سوف ينطوي بالضرورة على قدر من الغموض). يمكن إذن لأنواعٍ مختلفة جدًّا من الكائنات أن تكون في ألم، إلا أنها جميعًا في ألم لا لأنها تشارك (بأي معنًى من المعاني) في خاصةٍ ما — تلك الخاصة المزعوم أنها على مستوًى أعلى، خاصة «التأَلُّم» — بل لأنها متشابهة بطرائقَ ذاتِ صلة. والطرائقُ ذاتُ صلة لأنها تُعتَبَر كذلك من جانب مستخدِمي المحمول «هو في ألم». وتنجم تشابهاتُها من خواصَّ معقدةٍ، متمايزةٍ ولكن متشابهة، تمتلكها الكائناتُ المستوفية لهذا المحمول.

الألم كخاصةٍ من الدرجة الثانية

كما لاحظنا في الفصل الرابع، فإن عامة الوظيفيين يذهبون إلى أن الخواص العقلية، بفضل كونها خواصَّ وظيفيةً، فهي خواصُّ من الدرجة الثانية. التأَلُّم، وفقًا لهذا الرأي، هو خاصةٌ الدرجة الثانية بامتلاك خاصة معينة (خاصة كون الكائن في حالةٍ معينة) تشغل دورًا وظيفيًّا معينًا (وبتعبيرٍ آخر: الألم هو الوظيفة وليس شاغل الوظيفة). ورغم أن لديَّ شكوكًا خطيرة حول المذهب الوظيفي، فلنتخيَّلْ هذه اللحظةَ أن كل ما يلزم الكائنَ لكي يكون في ألم هو أن يمتلك تنظيمًا وظيفيًّا ملائمًا. فهل يترتب على ذلك أن التألمَ هو خاصةٌ من الدرجة الثانية؟

ليس من الواضح على الإطلاق ماذا يكون امتلاكُ شيءٍ ما وظيفةً من الدرجة الثانية عدا امتلاكه صفةً محقِّقةً ما من الدرجة الأولى. افترِضْ، مثلما كنا نفترض الآن، أن المحمول «هو في ألم» تستوفيه أشياء تمتلك نطاقًا من خواص متمايزة على أنها متشابهة، خواص متشابهة من حيث الاستعدادات التي تضفيها على حائزيها. ليس ثمة سببٌ واضح لأن نفترض خاصةً إضافية من الدرجة الثانية لكي تصاحب كلًّا من هذه الخواص المتنوعة من الدرجة الأولى، وثمة أسباب وجيهة لئلا نفترض ذلك. وإذا كان هناك عنصرٌ موحِّد من الدرجة الثانية في الصورة، فإنما يأتي به استخدامُنا للمحمول.

فإذا كنتُ على صوابٍ في هذا، فإن تعددية التحقيق، إذن، ليست كما جرَى العُرفُ عنها علاقةً بين خواص. إنها، ببساطة، ظاهرةُ محمولاتٍ تنطبق على أشياء بفضل خواصَّ (متمايزةٍ، وإن تكن على تشابهٍ ذي صلة) تمتلكها تلك الأشياء. ولعله شيءٌ يَصدُق على كثيرٍ من المحمولات التي نطلقها في حياتنا اليومية وفي مَسعانا العلمي.

وقد يعترِض شخصٌ ما بأن رأيًا من هذا القبيل يتطلب تصورًا متشددًا للخواص، فما الذي يمنع أنني عندما أكون في ألمٍ فإن ذلك يعود إلى امتلاكي خاصةً محدَّدة؟ قد تكون هذه خاصةً معقدة ولكنها تبقَى خاصة. وإذا كنا نُسَلِّم بهذا كثيرًا، فلماذا لا نسلِّم بأن الخاصة المَعنِيَّة هي خاصة التألُّم؟

هذا الاعتراض يَحِيد عن المسألة،١٣ فلا شيء مما قلتُه ينتقص من الخواص المعقدة. افترِضْ أنك تستوفِي المحمول «هو في ألم» بفضل امتلاكك خاصةً معقدةً معينة، خ، فهل الكائنات المختلفة عنك كل الاختلاف، الكائنات التي تنتمي لأجناسٍ أخرى، قد تستوفِي المحمول «هو في ألم» بفضل امتلاكها خ؟ يبدو هذا بعيد الاحتمال. وتَذَكَّر، الأشياءُ المتمايزة التي تشارك في خاصةٍ ما يجب أن تكون، في ناحيةٍ ما، متشابهةً تمامًا أو حتى (في بعض الآراء التي ترى إلى الخواص على أنها كليات) متماهية (وكلمة «متماهية» identical هنا لا تعني متشابهة تمامًا، بل تعني «واحدة ونفس الشيء»)، إلا أننا إذا أخذنا مأخذَ الجِد حججَ الوظيفيين لِتعددية التحقيق، فسوف نميل بقوةٍ إلى الشك بأن التشابهات التامة الضرورية (أو التماهيات) أمورٌ ممكنة.

يعتمد هذا الاستنتاج لا على تَصَوُّرٍ خارقٍ ما للخواص، بل فقط على عنصرٍ تُشارك فيه كثيرٌ من التصورات. وأنا أعتبر هذا نقطةً مهمةً في صالحه. ومهمٌّ بنفس القدر أنه لا يقوم على تَصَوُّرٍ للخواص مُفَصَّلٍ على مقاس دعوَى معينة في فلسفة العقل، بل على صورةٍ أنطولوجية مستقلة الدافع.

العِلِّيَّة وقوانين تَساوي البقية

يُمَكِّنُنا مثلُ هذا الرأي، الذي قدمتُ له مخططًا استقرابيًّا، من أن نضفي معنًى على ما يُسمَّى ceteris paribus laws (قوانين تساوي بقية الأشياء) في العلوم الخاصة١٤  special sciences، بما فيها السيكولوجيا (انظر الفصل الرابع). تُعَد «قوانين تساوي البقية»١٥ مختلفةً عن القوانين التي يُدَّعَى أنها «صارمة» لا استثناء لها، والمرتبطة بالفيزياء. إن سلوك كل شيء مادي محكومٌ بقوانين الفيزياء، أما الأشياء التي يُفترَض أنها ذات مستوًى أعلى، وبفضل خواصِّها المفترضِ أنها ذاتُ مستوًى أعلى، فيُعتقَد أنها محكومةٌ ﺑ «قوانين تَساوِي بقية» أقل صرامةً. الحق أن مثول محمولٍ في صياغات هذه القوانين يُعَد أحيانًا مِحكًّا يُثبِت أنه يُسَمِّي خاصةَ مستوًى أعلى حقيقية. ويُعتقَد أن هذا يُعَلِّل ﻟ «قابلية إسقاط» projectability محمولاتٍ معينة. (يُعَدُّ محمولٌ ما قابلًا للإسقاط إذا كان من الممكن مثلًا أن يُطلَق بنجاحٍ في سياقاتٍ استقرائية، في الاستدلال، مثلًا، من «كل «أ» لُوحِظَ حتى الآن هو «ب»» إلى «كل «أ» هو «ب»».)
وفقًا للرأي الذي أنادِي به، ليس ثمة أشياء أو خواص ذات مستوًى أعلى. ثمة حقًّا أشياءُ معقدةٌ، أشياءُ مشيَّدةٌ من أجزاءٍ هي نفسُها أشياء. خواص الأشياء المعقدة — الخواص المعقدة — تَدِين بطبيعتِها لخواص أشيائها المكوِّنة، وللعلاقات التي تحملها هذه الأشياءُ المكوِّنة بعضها ببعض (وبالأشياء الخارجية في بعض الحالات). ونحن نفترض أن الطابع النزوعي (الاستعدادي) لِشيءٍ ما تُسبِغُه عليه خواصُّه، وأن الخواص تُمَيَّز، جزئيًّا، بواسطة النزوعيات التي تُسبِغها. إذن يمكن أن تعتبر أن الأشياء التي تمتلك خواصَّ متشابهة تسلك بطريقةٍ متشابهة، على الأقل بقدر ما يتأثر سلوكُها بامتلاكها تلك الخواص. وأنا أؤكد أن هذا يكفي لتبرير تعميماتٍ شبهِ قانونية تَصدُق، مع تساوي بقية الأشياء ceteris paribus other things equal، على تلك الأشياء.
هذه الطريقة في النظر إلى الأمور تضع القوى العِلِّية بقوة في العالم، وتُهَوِّن من شأن القوانين العِلِّية كعوامل خارجية متمايزة في علاقاتٍ عِلِّية. ويعبَّر عن القانون العِلِّي بواسطة عبارةٍ صادقة تَصدُق على العالم بفضل الخواص الموجودة في العالم. والعوالم اللامتمايزة من حيث الخواص الموجودة فيها، ستكون إذن لا متمايزة من حيث القوانين العِلِّية. وإذا كانت القوانين عارضة contingent فإنها عارضة لا لأنه كان بالإمكان وجود عوالم لا متمايزة عن عالمنا من حيث أشياؤها وخواصها، ولكن متمايزة من حيث قوانينها. إنما القوانين عارضة إذا كان بالإمكان وجود عوالم متمايزة من حيث الخواص الموجودة في تلك العوالم.

مستويات الواقع مقابل مستويات الوصف

أين يُفضِي بنا هذا؟ أرى أنه خليقٌ بنا أن نستغني عن التصور «الطبقي» layered للعالم، الذي صار موضةً رائجة. فرقٌ بين أن نقبل الحقيقةَ النافلة (platitude) القائلة بأن الواقع يمكن أن يوصف على أنحاءٍ متنوعة، ثم نلاحظ أن أوصافنا يمكن أن تُدرَج في تراتبٍ هرمي سائب؛ وبين أن نُشَيِّئَ١٦  reify التراتبَ، ونتخيلَ أنه يرسم طبقاتٍ أنطولوجية.
لديَّ شكٌّ بأن ميلنا إلى أن نقرأَ (نتَأَوُّل) في العالَم ممارساتِنا الوصفية، يغذِّيه اعتمادُنا الزائد أحيانًا على تقنياتٍ صورية formal في تناول المسائل الميتافيزيقية الوجودية. غير أن الاستدلال المجرد يتطلب تأسيسًا أنطولوجيًّا، وهذا شيءٌ من السهل أن نَعمَى عنه ما بقينا سادرين في تصور المسائل الوجودية بواسطة استدعاء أفكارٍ جِهَوية محضة، من مثل «العارضية» supervenience (التي رحمناك من عرضٍ مفصَّلٍ لها)، واللجوء إلى تحليلاتٍ لا وقائعية وخائلية counterfactual and subjunctive للإمساك بملامح وجودية للعالم، مثل النزوعية (الاستعدادية) وقريبتها العِلِّية. ليس علينا، ربما، أن نُلزِم أنفسَنا بمخطَّطٍ أنطولوجي مفصَّل، ولكن يجب أن يكون لدينا على الأقل فهمٌ للاختيارات ومتضمَّناتها. وهو ما يعنِي اتخاذَ موقفِ جِدِّيَّةٍ أنطولوجية.

الزومبيات zombies

في تقييمنا للمذهب الوظيفي في الفصل الرابع، صادفنا الفكرةَ، الفلسفيةَ على التحديد، الخاصةَ بالزومبي. الزومبي، ربما تَذكُر، هو كائنٌ مثلك أو مثلي تمامًا من حيث التكوين الجسمي، ولكنه خِلوٌ من الخبرة الواعية. والزومبيات لا يمكن كشفُها (هكذا تمضِي القصة) لأن أجهزتها العصبية، فيزيائيًّا على الأقل، تشبه أجهزتَنا بالضبط. وسلوكها مِن ثَم يعكس سلوكَنا تمامًا. إذا جلس الزومبي على مسمارٍ فإن دوائرَه العصبيةَ تُستَحَث مثل دوائرِك بالضبط إذا ما جلستَ على مسمار، وبالتالي فهو يقفز إلى أعلى صارخًا. ما يفتقر إليه الزومبي هو أيُّ شعورٍ واعٍ بالألم.

لعلك تسأل كيف يمكن للزومبي ألا يلاحظ هذا النقص. حسن، يذهب الوظيفيون إلى أن الخواص العقلية هي خواص وظيفية. تمتلك الأشياء الخواص الوظيفية بفضل بِنيتِها النزوعية (الاستعدادية). وبِنيةُ الزومبي النزوعيةُ (كما نفترض) قائمةٌ، مثل بِنيتِك أو بِنيتي، في جهازه العصبي. الزومبي إذن سيسلك مثلما تسلك أو أسلك، ويعتقد ما تعتقد أو أعتقد. وسيَسخَر، مثلما أنت أو أنا حقيقٌ أن أسخر، من القول بأنه تنقصه الخبراتُ الواعية. ولأن الزومبي يعتقد أن لديه خبراتٍ واعيةً، فإن إنكارَه، رغم خطئه، مخلصٌ تمامًا.

قد تجد أن كل هذا خارج عن نطاق المعقول بالكلية. إن فكرة أن من الممكن وجود كائنٍ نسخةٍ منك جزيئًا جزيئًا، ولكن تنقصه الخبراتُ الواعية، لَهِي فكرةٌ لا يمكن أن يُضمِرها إلا فيلسوف. الفكرة رغم ذلك هي أنه ليس في الطبيعة الداخلية (الباطنية) لتكويننا الجسمي ما يضمن الوعي حتمًا بالطريقة التي تضمن بها ثلاثيةُ الأضلاع كونَ الشكل مثلثًا. قد يُعَبَّر عن ذلك بالقول إن وجود الزومبيات «ممكن منطقيًّا (أو تصوريًّا)» logically (or conceptually) possible. بالطبع (تمضي الفكرة)، فإن قوانين الطبيعة في الحقيقة تضمن أن أي كائن له تكوينُك الجسمي (حقًّا، إذا كان ديفيد شالمرز David Chalmers على صواب، أي منظومة على الإطلاق لها النوع الصحيح من التنظيم الوظيفي) سيكون واعيًا. بنفس القياس، فإنه رغم عدم وجود استحالة منطقية في فكرة أن الخنازير يمكن أن تطير، فإن الخنازير لا يمكن أن تطير. الفارق هنا هو أن بوسعنا أن نرى لماذا لا يمكن للخنازير أن تطير، ولدينا تفسير لعجزنا عن الطيران، وليس لدينا تفسيرٌ كهذا لحقيقة أن تكوينات عصبية معينة تُنتِج خبرات واعية. إن قوانينَ الطبيعة عارضةٌ contingent تَصدُق على عالَمِنا، ولكن ليس ثمة سببٌ أبعد يبين لماذا يجب أن تَصدُق، فهي تَصدُق فحسب. هكذا فإن الربط بين طبيعتِك الجسمية وخبراتِك الواعية، رغم أنها قابلة للتنبؤ، فهي في التحليل النهائي واقعةٌ غير قابلة للقياس بدقة، واقعةٌ خام غير قابلة للتفسير. هذا هو اللغز العميق في قلب ما يسميه شالمرز «المشكلة الصعبة» hard problem للوعي.
أول شيء تلحظه في رأيٍ من هذا القَبيل هو أنه يفترض أنطولوجيا معينة للخواص. فهو يَعُد الخواصَّ حاملاتٍ لِقُوًى عِلِّية، فالخاصة تسهم بطريقةٍ فريدة في استعداديات الأشياء التي تمتلكها. إلا أن القوى العِلية للخاصة، أو استعداديتها، ليست باطنة فيها، ليست جزءًا من طبيعتها. إن من «الممكن منطقيًّا» على الأقل أنه كان يجوز أن يوجد عالمٌ يتكون من أشياء تحمل نفس الخواص التي تحملها الأشياءُ في عالمنا (وبلا زيادة)، ومع ذلك، فقد تُسبِغ الخواص في ذلك العالم على حامليها استعداديات مختلفة تمامًا. كما أن العلاقة بين الاستعدادي dispositional والكيفي qualitative هي علاقة عارضة contingent. إنه على الأكثر مسألة قانونٍ طبيعي عرضي أن الأشياء التي تمتلك استعدادياتٍ معينة تمتلك كيفياتٍ معينة.

لقد رأينا أن هناك بديلًا لهذا التصور للخواص. تَعرِض كلُّ خاصةٍ طبيعةً مزدوجة؛ فهي نزوعية (استعدادية) وكيفية معًا في آن. يَعنِي هذا أن كل خاصة تسهم بطريقةٍ مميزة في كيفيات وفي استعداديات ممتلكِها. هذه الإسهامات تنتمي إلى طبيعة الخاصة. إنه لَيكونُ مستحيلًا، مستحيلًا بكل معنى الكلمة، أن يكون ثمة عالَم يحتوي على نفس الخواص التي يحتوي عليها عالمُنا (وبلا زيادة)، ولكن يختلف من حيث القُوَى العِلِّية أو الكيفيات التي يمكن أن تمتلكها أشياؤُه.

تُقَدِّم كلُّ خاصةٍ إسهامًا محدَّدًا إلى كيفيات الأشياء التي تمتلكها. يتحدث الفلاسفةُ أحيانًا كما لو أن الكيفيات مقصورةٌ على الخبرات الواعية. تُعَد هذه الكيفيات، المسماة qualia (كواليا)، مشكلةً خاصةً بالنسبة لفلسفة العقل. ولكن كما رأينا، فهناك مبررٌ وافر لاعتبار أن كل شيء يمتلك كيفيات. ونحن حقيقون أن نَعمَى عن هذه النقطة التي تبدو واضحةً إذا ما اتَّبَعنا الوظيفيين، وركزنا على القُوَى العِلِّية. عندما نفعل ذلك تبدو الكيفياتُ غيرَ ذات بال. إذا كانت الكيفيات لا تهم، إذا كانت من قبيل «الظاهرة الثانوية»، فليس لها إذن مكانةٌ علمية. والحق أننا حين ننظر إلى العلم نجد أن الكيفيات، على الإجمال، مُهمَلة. في الفيزياء مثلًا تُصاغ القوانين والمبادئ على أنها تتراوح فوق مقادير عددية يُفترَض أنها قائمة في استعداديات المكوِّنات والحالات الأساسية. إلا أنه من الخطأ أن نفسر صمتَ الفيزياء عن الكيفيات على أنه إنكارٌ صريحٌ لامتلاكِ الأشياء، حتى الأشياء الأولية — الكواركات والإلكترونات — امتلاكِها كيفيات.

افترِضْ أنني على حق، وأن كل خاصة تسهم بطريقةٍ متميزة في استعداديات ممتلكِها وكيفياته، وافترِضْ أن هذا متأصلٌ في طبيعة الخواص. وافترِضْ أيضًا أنكَ في الواقع شيءٌ معقد مركَّبٌ كليًّا من أشياءَ أبسط تحمل علاقاتٍ ملائمةً بعضها ببعض وبالأشياء الأخرى التي تكوِّن العالَم. إن خبراتك هي حالاتٌ وأحداثٌ تشمل هذا الشيءَ المعقد. هذه الحالاتُ والأحداثُ هي مظاهرُ وتجلياتٌ لاستعدادياتٍ مُنضبطةٍ بدقة، تعبيرات لطبيعتك النزوعية. ولكن لديك أيضًا طبيعة كيفية، طبيعة لا تقبل الانفصال (إلا في الفكر) عن استعداديتِك. إن خبراتك لديها الكيفيات التي لديها لا لأن هذه الكيفيات مثبَّتة فيها بقوانين طبيعية خصوصية، بل لأنها مُبَيَّتة في الخواص التي تشكِّل حياتَك العقلية. ما من شيء موجود إلَّا ولديه خواص؛ لذا فلا عجب أن تكون لحالات العقل خواص.

كيفيات الخبرة الواعية

رغم ذلك تبرُز الآن مشكلةٌ جديدة. فمن البَيِّن أن كيفيات الخبرات تختلف اختلافًا دراماتيكيًّا عن الكيفيات التي نكتشفها عندما نتفحص الأجهزة العصبية لأشخاصٍ واعين. فكيف لكيفياتِ الخبرةِ الواعية أن يتكشفَ أنها كيفياتُ الأدمغةِ والأحداث النيورولوجية؟

أنتَ تنظر إلى طماطمةٍ ناضجة في ضوء الشمس الساطع وتحوز نوعًا مميزًا من الخبرة الواعية. وثمة في نفس الوقت عالِمُ أعصابٍ يتفرَّس دماغَك، لكن عالِم الأعصاب لا يلاحظ أي شيء يماثل كيفيات خبرتك. لا تكشف ملاحظاتُ عالِم الأعصاب إلا كيفياتٍ نيورولوجيةً رماديةً إسفنجيةً متنوعة، غريبة تمامًا عن خبرتك. وفي الحقيقة لا يبدو أن كيفياتِ خبرتِك موجودةٌ في أي مكانٍ آخر، لا يبدو أنها تلك الضروبُ من الكيفية التي يمكن تَصَوُّرُ أنها تحدث خارجَ خبراتك، أو تصور أنها خبراتُ كائناتٍ واعية أخرى.

غير أن هذه الطريقةَ في صياغةِ المشكلةِ تقوم على خلط، خلطٍ قابلناه أول مرة في الفصل الثالث.

وكخطوةٍ تمهيدية، لِنَكُنْ واضحين في أن الكيفيات التي تهمنا هي كيفياتُ خبرتِك البصريةِ لطماطمةٍ وليست هي كيفيات الطماطم. ولا عجب البتة في أنه ليس ثمة شيءٌ أحمر ومستدير يحدث داخل دماغك عندما تنظر إلى طماطمة حمراء مستديرة. نعم أنت قمينٌ أن تصف خبرتك كخبرةٍ بشيءٍ أحمر مستدير، ولكن الأحمرَ المستديرَ هو الطماطمةُ وليس خبرتَك. لذا فإن أول تفرقة واجبة هنا هي التفرقة بين كيفيات الخبرات وكيفيات الأشياء المختَبَرة.

ثمة تفرقةٌ ثانية ترتبط بالأولى. عندما يقوم عالِمُ أعصابٍ بملاحظة دماغك (بصريًّا، لِنفترِضْ)، تَحدُث لِعالِم الأعصاب خبراتٌ معينةٌ ذاتُ كيفياتٍ داخلية معينة. وليس ثمة مبرِّر للاعتقاد بأن كيفيات هذه الخبرة ينبغي بأي شكلٍ أن تماثلَ كيفياتِ خبرتك بالطماطمة (وثمة في الحقيقة كل مبرر للاعتقاد بأنها ينبغي ألا تماثل تلك الكيفيات). افترِضْ أن خبرتك البصرية بالطماطمة تتشكل بواسطة حدثٍ معقدٍ في دماغك، وأن هذا الحدثَ يُلاحَظ من قِبَل عالِم الأعصاب. ليس ثمة إذن لغزٌ معين في واقعة أن خبرة عالِم الأعصاب تختلف كيفيًّا عن خبرتك.

رغم ذلك، فنحن نجد أنفسَنا الآن وجهًا لوجهٍ مع لغزٍ أعمق. إذ يبدو أن كيفياتِ خبراتِنا تختلف تمامًا عن كيفياتِ أيِّ شيء مادي يمكن تخيلُه. كيف يَسَعُنا إذن أن نُضمِر، جادين، فرضيةَ أن الذوات الواعية ليست أكثرَ من كومةٍ من الأشياء المادية، وأن الخبراتِ الواعيةَ ليست أكثرَ من مظاهرَ لاستعداداتٍ ماديةٍ معقدة؟

وأنا أَعُد القلقَ هنا قلقًا مزدوجًا؛ أولًا: كيفيات الخبرة الواعية تبدو مختلفةً تمامًا — مختلفة كيفيًّا، إن شئت — عن كيفيات الأشياء المادية. ثانيًا: تبدو كيفياتُ الخبرةِ الواعية مرتبطةً، بشكل يتعذر اجتنابُه، بذوات الخبرة، بالمُختَبِرين. فبدون مختبِرِين لا يمكن لهذه الكيفيات أن توجد، فالكيفيات من هذه الجهة معتمدة على العقل mind-dependent. وفضلًا عن ذلك، فإن «مَنفذنا» access إلى هذه الكيفيات مباشر و«ذو امتياز» privileged بطريقةٍ لا تَصدُق على منفذنا إلى كيفيات أي شيء مادي. كيفياتُ أي خبرةٍ واعية هي بالضرورة «خصوصيةٌ» private، أي غيرُ متاحة إلا للشخص الذي تحدث له الخبرة. أما كيفيات الأشياء المادية فهي، في المقابل، «عامة» public، وعامة بالضرورة. ولأتناولْ هذه المسائل بالترتيب.
لقد قدمتُ ما قد يصفه كثيرٌ من الفلاسفة بأنه تصور «مادي» materialist أو «فيزيائي»١٧  physicalist للعقل. وأنا أرفض هذا الوصف، لأسبابٍ ستتضح حالًا. ولكن دعنا الآن نفترض أن الموقف الذي أدعو إليه هو شكل من المادية، وهذا يعني، فيما أفترض، أن كلَّ شيءٍ وكلَّ خاصة وكل حالة وكل حدث هو شيءٌ مادي وخاصةٌ مادية وحالة مادية وحدث مادي.

عندما تقرأ هذه الكلمات فأنت تَجري لك خبرةٌ بصرية معينة. فأنت تَخبُر بصريًّا الأحرفَ المطبوعة على هذه الصفحة (وربما أشياء كثيرة أخرى إلى جانبها). وَجِّه انتباهَكَ إلى كيفيات هذه الخبرات. إن هذا سيتطلب تحويلَ الانتباهِ من الكلماتِ في الصفحةِ إلى درايتِك بالكلمات في الصفحة. والكيفيات التي تقابلها وأنت تفعل ذلك ليست بالشيء الذي يمكنك وصفُه بسهولة؛ وذلك لا لأن هذه الكيفياتِ روَّاغةٌ أو غيرُ مألوفة، فهي أكثرُ الكيفيات إلفًا. فإذا بدت هذه صعبةً على الوصف، فإنما سببُ ذلك أنك تعلمتَ أن تُغفِلها، وأن تُعامِلَها كمؤشراتٍ شفافةٍ لكيفياتِ الأشياءِ المدرَكة. فوصفُك لها إذن يُحتمَل أن يأتي في إطارِ الأشياءِ التي هي موضوعُ خبرتِك، أَعنِي أن كيفياتِ خبرتِك البصرية الراهنة هي كيفياتٌ من الصنف الذي يكون لديك عندما تنظر إلى كتابٍ في ظروفٍ شبيهة بالظروف التي أنتَ فيها تنظر الآن إلى هذا الكتاب.

أنت إذن إذ تصير واعيًا بكيفيات خبرتك، بافتراض ما يقوله المذهبُ المادي، تصير واعيًا بكيفياتٍ مادية، هي فيما يُفترَض كيفياتُ دماغِك. فكيفياتُ خبراتِك هي الكيفياتُ المادية الوحيدة التي أنت على اتصالٍ بها على هذا النحو المباشر. أما اتصالك بكيفياتِ الكتاب فهي غيرُ مباشرة من الناحية العِلِّية (هي غيرُ مباشرةٍ عِلِّيًّا حتى إذا لم تكن «غيرَ مباشرة إبستيميًّا» epistemically indirect، حتى إذا لم تتطلب استدلالًا من جانبك). إنها مسألةُ حدوثِ خبرةٍ لك كنتيجةٍ لاتصالِك الإدراكي الحسي بالكتاب. هذه الخبرةُ هي مظهرٌ متبادل لاستعداداتٍ نيورولوجية واستعداداتِ الكتاب وإشعاعِ الضوء المتخلِّل.

إن درايتَك البصريةَ بالمطبوع على هذه الصفحة هي مسألةُ امتلاكِك خبراتٍ ذاتَ كيفياتٍ معينة. ودراية عالِم الأعصاب البصرية، في نفس الوقت، للمجريات الحادثة في دماغك، هي مسألة امتلاكِ عالِم الأعصاب خبراتٍ ذاتَ كيفياتٍ معينة. الكيفيات في كل من الحالتين هي كيفياتُ أنشطةٍ نيورولوجية. تختلف الكيفياتُ التي تشكل وعيَ عالِم الأعصاب عن الكيفيات التي تشكل وعيَك، ليس ذلك لأنها تنتمي إلى نوعين متمايزين جذريًّا من الجوهر — كيفياتك تنتمي لجوهر عقلي، وكيفيات عالِم الأعصاب تنتمي لجوهر مادي — فكيفيات كلتا الخبرتين، على العكس، تنتمي إلى الأدمغة.

إنه لَيبدو إذن أن لدينا خطًّا مباشرًا إلى كيفياتٍ ماديةٍ ما، كيفيات أدمغتِنا. ويتضاءل اللغز (الذي يفترضه الفلاسفة الذين يعتبرون الكواليا كشيءٍ ملغز) الخاص بكيف يمكن أن تكون كيفياتُ الخبرات الواعية هي كيفيات الأشياء المادية. إذا كنا ماديين جادين، فمن الصعب إذن أن نرى كيف يمكن تَجَنُّبُ هذه النتيجة.

آه! ولكني قد أنكرتُ أن الرأي الذي أجملتُه في هذا الفصل هو رأي مادي. فهل أنا مثالي؟ كلا بالتأكيد. فأنا لا أرفض لقب «مادي»، إلا أنه يتضمن داخله أن هناك تشعبًا بين العقلي والمادي. ومن وجهة النظر التي أدعو إليها، ليس ثمة مثل هذا التشعيب. وإذا كنت مُصِرًّا على التلقيب، فأنا أفضِّل وجهة الرأي التي استخدمها برتراند رَسِل B. Russell، واستخدَمَها في وقتٍ أحدث ميشيل لوك وود Michael Lockwood، في طرح كثير من النقاط التي كنتُ أطرحها هنا: «الواحدية المحايدة»١٨  neutral monism. وما الواحدية المحايدة إلا رفض وجود صَدعٍ عقلي-مادي يجب أن يُجسَر. من مزايا هذا الموقف أنه يجتنب الأسئلة عما يُعَد بالضبط ماديًّا (شيئًا أو خاصة أو حالة أو حدثًا) كمقابلٍ للعقلي. هذه أسئلةٌ لا يستطيع الماديُّ التقليدي اجتنابها، وهي أسئلة مُشَهَّرة بصعوبة الإجابة عنها بطريقةٍ مُرْضِية.

تُرانا انتهينا إلى لغزٍ عميق؟ تُرى الذي قلتُه يهدد بإثقالِ الفيزياء وعلمِ الأعصاب بنطاقٍ من الكيفيات غيرِ المتوقعة؟ كلا، على الإطلاق. إنما تُنصَح الفيزياء وعلم الأعصاب أن يتقدما في طريقهما مثلما يفعلان الآن بالضبط. فأنا، ببساطة، أبيِّن كيف يمكن للمجريات النيورولوجية أن تمتلك ضروبَ الكيفية المرتبطة بالخبرة الواعية. ولا تَنسَ أن أي عالِمِ أعصابٍ ينكر أن كيفياتِ الخبرة الواعية يمكن أن تكون كيفياتٍ نيورولوجيةً يجب أولًا أن يقنعنا أن هذا الإنكار ليس قائمًا على ذلك النوع من الخلطِ الذي ازدريناه سابقًا؛ الخلطِ بين كيفيات الأنواع المختلفة من الخبرة. فالخبرةُ البصرية بدماغٍ ستكون هي ذاتها مختلفةً كيفيًّا عن الخبرة البصرية بطماطمةٍ ناضجة. الخبرة التي تقع لعالِم أعصابٍ يلاحظ خبرتَك بطماطمةٍ ناضجة لا يتعين عليها أن تشبه، من قريب أو بعيد، خبرةَ عالمِ الأعصاب بطماطمةٍ ناضجة.

«المَنفَذ ذو الامتياز» privileged access

يمكننا إذن أن نستغني عن فكرة أن «الكواليا»، أي كيفيات الخبرة الواعية، هي أمرٌ مُربِك، أو أن هذه الأشياءَ هي صنيعةُ نظرياتٍ فلسفية عتيقة الزي يجب التخلص منها مع تلك النظريات، فمثل هذه الأفكار تأسست على أنطولوجيات لا تُمكن تزكيتُها.

غير أن أمامنا، بعدُ، مشكلة هائلة تتعلق بكيفيات الخبرة الواعية. فمن الواضح أن الخبرات تعتمد علينا في وجودها. إن خبرةً ما هي دائمًا خبرةُ شخصٍ واعٍ معين. كما أن الأشخاص واعون بخبراتهم (وكيفياتها) — بقدر ما يمكنهم أن يعوا بها — بطريقةٍ يبدو أنها لا تسمح بالخطأ. صحيح أنك يمكن أن تخطئ في وصف خبرةٍ ما أو في تسميتها، ولكن من الصعب أن ترى كيف يمكن أن تكون مخطئًا في خبراتك ذاتها، كيف يمكن مثلًا أن تَعُد نفسَك في ألمٍ على حين أنك لستَ في ألم. ووفقًا لتقليدٍ طويلٍ يشمل هيوم (ويشمل، في وقت أحدث، جون سيرل)، فحين يكون المَقامُ مقامَ خبراتِك الخاصة، فلا يمكن أن يكون ثمة تمييز بين المظهر والواقع؛ فالمظهر هو الواقع. ولكن إذا كانت الخبرات هي مجريات نيورولوجية، إذا كانت كيفيات خبراتنا هي كيفيات نيورولوجية، فكيف يمكننا إذن أن نشرع في تعليل العلاقة الوثيقة التي تربطنا بها بشكلٍ واضح؟

مرةً ثانيةً، من الضروري أن تدرك أن درايتَك بخبرتِك الواعية الخاصة ليست مسألة امتلاكك خبرتين؛ الأولى خبرتك الأصلية، والأخرى خبرتُكَ بِخبرتِك الأصلية. إن درايتك بخبرتك تتشكل بواسطة امتلاكك إياها. لهذا السبب، فإن الحديث عن «مَنفَذ» access إلى طبيعة خبراتك الواعية هو حديثٌ مضلِّل. فهو يستحضر نموذجًا غيرَ ملائم، نموذجَ الشيء والملاحِظ. إن إحساسك بالألم ليس شيئًا أنت تَخبُرُه داخليًّا أو تحسه، فامتلاكُك إياه هو إحساسُك به.

لقد رأينا (في الفصلين الثالث والرابع) أن من المهم أن نفرق بين حدوث عمليةٍ ما لشخصٍ أو كونه في حالةٍ ما، وبين ملاحظات حدوث العملية لذلك الشخص أو كونه في تلك الحالة. ولنُصغِ إلى مثالٍ سبق أن مر بنا في الفصل الثالث: إن إزالة ثلاجتك للصقيع على نحوٍ سلِس تختلف عن ملاحظتك لهذه الإزالة. بنفس القياس تمامًا، فإن حدوث ألمٍ لك هو أمرٌ يختلف تمامًا عن ملاحظتك لحدوث الألم. والآن، إذا كانت «ملاحظة ألمٍ ما مباشرةً» تتضمن امتلاك ذلك الألم، فلا عجب أنك أنت الوحيد الذي يمكنه أن «يلاحظ مباشرةً» آلامَك. وليس هذا بأكثر إلغازًا من فكرة أن ثلاجتي هي الوحيدة التي يمكنها أن تزيل صقيعَها.

لا شيءَ من هذا يتضمن استحالةَ أن نخطئ حول حالاتنا الحسية. فالخطأ، شأنه شأن الصدق، يفترض مسبقًا الحكم. وأحكامك التي تصدرها عن حالاتك الواعية تفترق عن تلك الحالات، وهذا يترك مُتَّسَعًا للخطأ.

ولكنْ مهلًا، إن الخبرة المشتركة، مدعومةً بالتقليد الفلسفي، تُوحِي بأنه عندما يكون الأمرُ أمرَ حالاتِ عقلِك الواعية الخاصة، تكون أحكامُك «غير قابلة للمراجعة أو التصويب» incorrigible، أي إن الخطأ في هذه الأشياء مستحيل. فهل ثمة طريقة ما نستطيع بها أن نتفهم هذه القناعة — أو ما يقبع وراءها — دون التزام بعدم قابلية المراجعة؟ أعتقد أننا نستطيع.

تأملْ لحظةً في الخطأ الإدراكي الحسي المعتاد. ما أسهل أن تخطئ عصًا في طريقك على أنها ثعبان. فالعِصِيُّ، على أية حال، قد تبدو شبيهةً جدًّا بالثعابين. وقد يلعب التوقعُ دورًا هامًّا هنا. فأقرب إلى الاحتمال، ربما، أن ترى العصا ثعبانًا عندما تكون في موقف المراقِب للثعابين. ولكن ليس من السهل أن تخطئ عصًا على أنها كرة بلياردو، أو صقرًا على أنه منشار يدوي. ليس يعني ذلك أن مثل هذه الأخطاء مستحيلة، ولكن لكي نُضفِي معنًى عليها، سيكون علينا أن نروي روايةً معقدة. (قد نلجأ يأسًا إلى منتِج الخطأ، من جراب الفيلسوف، ذلك العالِم الشرير الذي يتدخل مباشرة في عقلك.)

أما عن حالاتك الحسية الخاصة، فمن السهل نسبيًّا أن ترى كيف يمكنك أن تخطئ في الحكم بأن حالة ما هي من صنف معين، بينما هي في الحقيقة من صنف مختلف وإن يكن مشابهًا. (هل ذلك الشعور في فم معدتِك هو جوعٌ أم غثيان؟ قد تجد الجواب في ذلك صعبًا.) وكما في حالات الخطأ الإدراكي الحسي المعتاد، فإن التوقع يمكن أن يضلِّلَك. وفضلًا عن ذلك، فالاضطراب العصبي، أو منوم مغناطيسي، أو عالِم شرير، قد يجعلك تخطئ على نحوٍ أكثر فحشًا، فتحكم أنك في ألمٍ على حين أنك لا تألَم، أو أنك لا تألَم في حين أنك تألَم.

إذَن من مصادر القناعة بأننا لا يمكن أن نخطئ حول حالاتنا الحسية الواعية، تلك الصعوبةُ في تخيل كيف يمكن الخطأ في حدث حسي على أنه شيءٌ آخر. وثمة مصدر آخر ينشأ من إدراك أن الخطأ في الحكم بعيد الاحتمال، بينما (بإعادة صياغة قول لوك) محتوى أو موضوع الحكم (أو الاعتقاد) والسبب القريب للحكم (أو الاعتقاد) هما الشيء نفسه. إن كونك في ألم يؤدي بك «مباشرة» إلى الحكم بأنك في ألم (أو إلى تكوين اعتقاد بأنك في ألم) (انظر الشكل ٦-٥).
fig27
شكل ٦-٥
fig28
شكل ٦-٦
وفي المقابل، فإن السبب القريب لحكمك بأن كرة بلياردو تقع في طريقك ليس كرة البلياردو، بل خبرتك بكرة البلياردو (شكل ٦-٦). وبوسعنا أن نتخيل حالات تحدث فيها خبرة كرة بلياردو، وتؤدي من ثم إلى حكمك بوجود كرة بلياردو، بينما لا توجد أي كرة بلياردو. فالهلاوس، والخداع الحسي، والحلم، وبالطبع مكائد عالِمٍ شرير، يمكن أن تؤدي إلى مثل هذه الخبرات المتوهَّمة non-veridical. وبالطبع أيضًا، إيحاء ما بعد التنويم المغناطيسي، أو الاضطراب العصبي، يمكن أن يؤدي بك إلى أن تحكم بوجود كرة بلياردو، في حين لا توجد كرة بلياردو ولا خبرة بِكُرة بلياردو.
يمكننا أن نتفهم إذن انطباعنا بأننا لا يمكن أن نخطئ حول خبراتنا الواعية الخاصة دون افتراض أن الأحكام في مثل هذه الأشياء لا تقبل المراجعة أو التصويب (incorrigible). ويمكننا أن نرى أيضًا كيف يجوز أن يبدو لنا أنه، وإن أمكن لنا الخطأ في وجود كرات البلياردو، فلا يمكننا الخطأ في حدوث خبرات بكرات البلياردو. إن الخطأَ لَممكنٌ في كل هذه الحالات، وإن يكن بعيدَ الاحتمال.

وماذا عن الإجو — الأنا — الذات الخاصة بالخبرات؟ أين نضع الذوات وفقًا لِتصوُّرِي؟ في اعتقادي، ليس في أي شيء من مثل ملاحِظٍ أو متفرجٍ داخلي، كيانٍ يرقب المجريات الخبروية. أنت لا تلاحظُ خبراتك، أنت تَبلوها. أنت، فيما يبدو، مُشَيَّدٌ بهذه الخبرات.

أخلُص من ذلك إلى أن المقاربة إلى العقل التي أدعو إليها — وهي مقارَبة قائمة على عمل س. ب. مارتن — تقدِّم تصويرًا شائقًا للخبرة الواعية. ينبع كثير من جاذبيتها من كونها مؤسسةً في أنطولوجيا معقولة. لم يتم إدخال هذه الأنطولوجيا احتياليًّا ad hoc لأنها وَعَدَت بِحَل مشكلاتٍ معينة في فلسفة العقل، بل لأنها تقدِّم صورةً مقبولةً للعالَم بمعزِلٍ عن أي شيء. ورغم أنني متحيزٌ لهذه الصورة، فأنا أعترف أن الكثيرَ من النتائج التي استقيتُها منها متسقة، واحدةً واحدة، مع أنطولوجيات أخرى. إنما السؤالُ هو ما إذا كان بإمكانِ منافِساتِها أن تستوعبَ بارتياحٍ ذلك النطاقَ من الظواهر التي عرضتُها هنا. إن من غير الممكن تقييمَ أي أنطولوجيا بالتجزئة، ولا هو من الحكمة اقتفاء أنطولوجيا بالنظر إلى المشكلات بمعزِل، فمعيارُ الأنطولوجيا هو قوتُها، قدرتُها على أن تُضفِي معنًى على تشكيلةٍ عريضة من الألغاز المتباينة، وأن تفعل ذلك بطريقةٍ طبيعية. ووفقًا لهذا المعيار، فإن الأنطولوجيا التي أَجملتُها هنا لديها الكثير مما يستحق الإشادةَ به.

الخيال العقلي

لقد أغفلتُ حتى الآن موضوعًا سيطر على عمل الاتجاه السائد في فلسفة العقل؛ القصدية intentionality. والحالات القصدية للعقل هي تلك الحالات التي تُعَد على نحوٍ ما تمثيلية representational. إن تفكيرك في شطيرة برجر كنج عبارة عن امتلاكك فكرةً ذاتَ محتوًى معين. إن فكرتك تتعلق ﺑ (هي فكرة عن أو حول) شطيرة برجر كنج.
في الفصل الخامس فحصنا مقاربتين جهيرتين إلى المواقف القضوية (الاعتقادات، والرغبات، والمقاصد، وما إلى ذلك). تشكل هذه فئةً هامةً من حالات العقل القصدية. هل هي تستغرق الفئة؟ يبدو أن بعض الفلاسفة وعلماء النفس قد اعتقدوا ذلك، ولكن من المؤكد أن هذا تحريف. تأملْ مثلًا ظاهرة الخيال العقلي (الخيال الصُّوَرِي). يمثل الخيالُ، بادئَ الرأي، جنسًا مهمًّا من القصدية «غير القضوية» non-propositional. إن اعتقادك أن شطائر برجر كنج لذيذة ربما يكون غير خيالي، ولكني أراهن أن أغلب أفكارك المتعلقة بشطائر برجر كنج خيالية صورية بشكلٍ حصري.
حول مُنعطَف القرن (التاسع عشر إلى العشرين)، انخرط أغلبُ السيكولوجيين في جدال حي حول إمكان «التفكير غير الخيالي». في ذلك الوقت كان الراديكاليون (المتطرفون) هم الذين ذهبوا إلى أن الفكر ليس «خياليًّا/صُوَريًّا» imagistic كله. والآن نحن نجد أنفسنا في مُنعطَف قرنٍ آخر وقد انعكست الأدوار، فالراديكاليون هم أولئك الذين ينكرون أن الفكر غير خيالي/صُوَرِي كله.

لماذا يشك أي شخص في حدوث خيال عقلي؟ ربما، جزئيًّا، بسبب الهاجس الجاري حول «الكواليا»، أي كيفيات الخبرات الواعية التي تأتي إلى الصدارة عندما نبحث الخيال. إذا كنتَ من الوظيفيين فلن يكون ثمة، فيما يبدو، مُتَّسَع لمثل هذه الأشياء. وكنتيجة لذلك، فإن الوظيفيين والماديين الذين يظنون أن الكواليا، بعامة، مشكوكٌ فيها ميتافيزيقيًّا أو علميًّا، قد نشروا تكنيكات تحليلية متنوعة لكي يبددوا الكواليا إلى شيءٍ ما غير كيفي. غير أننا قد رأينا أنه لا حاجة إلى فعل ذلك، ولا داعيَ إلى الخوف من أن تكون كيفياتُ الخبرة الواعية مراوِغةً علميًّا.

وثمة قلقٌ ثانٍ حول الخيال ينجم من ميلٍ إلى افتراض أن امتلاك صورة خيالية ذهنية هو عبارة عن مشاهدة (بعين العقل إذا كانت الصورة الخيالية بصرية) صورة داخل الرأس. وقد اندلع جدلٌ عنيفٌ بين أنصار التصورات «الصورية» pictorial للخيال (مثل ستيفن كوسلين Stephen Kosslyn)، وأولئك الذين يَعُدُّون الخيالَ «قضويًّا» propositional (زينون بيليشين Zenon Pylyshyn على سبيل المثال). واعتقادي أن كلا الطرفين يسيء تَصَوُّرَ طبيعة الخيال. إن امتلاك خيال (خيال بصري، لنفترِضْ) لِسنجابٍ أحمر، ليس كامتلاكِ صورةِ سنجابٍ أحمر (في رأسك أو في جيبك أو أي مكان آخر). امتلاك خيال لسنجابٍ أحمر مثل إدراكٍ حسي لسنجاب أحمر. والإدراك، حتى إدراك صورة، ليس شبيهًا بالصورة. فالكيانات — والكيفيات — المتضمَّنة في الخيال ليست أكثر (أو أقل) تَمَيُّزًا من تلك المتضمَّنة في الإدراك الحسي المعتاد.

ما إن نتبيَّن هذا حتى تكون لنا الحريةُ في الاعتراف بما هو واضح على كل حال؛ أن الخيال العقلي يلعب دورًا مركزيًّا في تجارتنا الذكية مع العالَم. كيف يلعب دورًا مركزيًّا؟ إن الفلاسفةَ ميالون، ربما بطبيعتِهم، إلى التهوين من قيمة الخيال. قد يعود هذا، جزئيًّا، إلى تَعَلُّقِ الفلاسفةِ بالحُجج والدعاوي المعبَّر عنها باللغة. عندما نتجه بأفكارنا إلى هذه الأشياء، فإننا في الغالب نفعل هذا في إطارٍ عقليٍّ لغوي. نحن ندير الحججَ في رءوسنا، وننظر في الدعاوي ونصوغ الردود، كل ذلك باللغة. وأنا أشك أن هذه الممارسة الطويلة الأمد قد أسهمت في الاعتقاد الواسع الانتشار القائل بأن العقل هو، إلى حد كبير إن لم يكن حصرًا، مستهلِكُ مواقفَ قضوية.

إلا أن لحظةَ تفكيرٍ واحدةً تكشف أن شيئًا من هذا لا يترتب. عندما تدير حجةً ما في رأسِك فأنت تنخرط في شكلٍ هام من الخيال العقلي؛ الخيال اللفظي. أنت تسمع الكلمات في رأسك، أو، في الأرجح، أنت في آنٍ تحس وتسمع نفسَك تنطق الكلمات. إن كان ثمة من خيال فهذا نوع قوي من الخيال.

كيف نقيِّض للخيال بالضبط مكانًا ملائمًا في صورة العقل التي بَزَغَت في هذا الفصل؟ تذكَّر ما قلناه عن إدراكك البصري لطماطمةٍ ناضجة في ضوء الشمس الساطع. عندما يحدث هذا تَعرِض الخبرةُ البصرية التي تجرِي لك كيفياتٍ معينةً. تخيَّل الآن كيف تبدو طماطمةٌ ناضجةٌ في ضوء الشمس الساطع، كَوِّنْ صورةً خياليةً بصريةً للطماطمة. عندما تفعل ذلك بنجاحٍ فأنت تمر بحالةٍ تشبه الحالةَ التي تكون فيها عندما ترى الطماطمةَ بالفعل. إن تخيلَك للطماطمة يشبه إدراكَك البصري للطماطمة، ولكن ليس الطماطمة طبعًا. هذا يساوي بالضبط أن تقول إن كيفيات الحالتين متشابهة. كذلك حديثك الصامت إلى نفسك ينتج نفس النوع من الظاهرة. في حديثك إلى نفسِك فإن خبرتَك تشبه، كيفيًّا، الخبرةَ التي تكون لك عندما تتحدث بصوتٍ عالٍ.

وإنه لَيُخجِلني أن أعترف أن هذه النقاط تبدو من الوضوح بحيث لا أعرف كيف أُحاجُّ من أجلها. ورغم ذلك، فهي كثيرًا ما يتم إنكارُها. ومن الشائع لدى المتناقشين حين يتناولون الخيالَ العقلي أن يعلنوا أن خيالهم مُوهَنٌ على نحوٍ ملحوظ، أو حتى غير موجود على الإطلاق. (في بعض الأوساط يُتَّخَذ الاعتراف بغياب الخيال كَشارةِ شرف.) وبي شك بأن هذه الإقراراتِ قائمةٌ على ما يطلِق عليه السيكولوجيون اختلافَ معيار، أي اختلافًا فيما يكونه الخيال، فيما يشكل الخيالَ من وجهة نظرنا.

لقد قلتُ إن تخيُّل طماطمةٍ ناضجة يضيئها ضوءُ الشمس الساطع يشبه الإدراك الحسي لطماطمة ناضجة يضيئها ضوءُ الشمسِ الساطع. ولا تَنسَ أن كيفيات خبرتِك الإدراكية، بكل وضوح، ليست كيفيات الطماطمة. فالطماطمةُ حمراءُ ومستديرة، أما خبرتُك البصرية فليست حمراءَ ولا مستديرة. ولا تنسَ أن وقوعَ خيالٍ بصري من هذا النوع ليس مسألةَ تمحيص (بعينِ عقلٍ تنظر من الداخل) لِشيءٍ داخليٍّ خصوصي، أو لِصورةٍ على شاشة تلفازٍ داخلية. فإذا حدثتَ نفسَك سائلًا عما إذا كنتَ تواجه هذه الأشياء وتفترض أن الإجابة بالنفي تعني أنك تفتقر إلى الخيال (أو أن خيالك شديد الوَهَن) فأنت تُسِيءُ تأويلَ طبيعةِ الخيال.

استخدامات الخيال

ما فائدةُ الخيال العقلي؟ حسنٌ، اعتبِرْ أن أي تفكير واعٍ سيكون خياليًّا (وأنا هنا أنحاز مع خصوم التفكير اللاخيالي في بدايات القرن العشرين). إذا كنتَ مثلي، إذن فإن كثيرًا من الخيال المتصل بالموضوع سيكون خيالًا لفظيًّا. إلا أننا جميعًا نعتمد اعتمادًا لا نهاية له على ضروبٍ أخرى من الخيال في التعامل مع مصاعب عالمنا. الخيال مكوِّنٌ أساسيٌّ في قدرتنا على الفعل الاستباقي. فالكائنات الذكية لا تستجيب لِمُثِيراتٍ من الخارج فحسب، يشمل الذكاء — أو الفطنة — القدرةَ على توقع التقلبات البيئية وتأثيرات الأفعال المستقبلية. إن بوسعنا أن «نرى» أن لدينا متسعًا لتمرير السيارة التي قبالتنا في طريقٍ ضيق، وأن نرى أن صندوقَ الحبوب أطولُ من أن يوضع عموديًّا على الرف. ويستخدم النجارون تخيلاتٍ في تشييد الخزائن، ويعتمد الرياضيون على الخيال في مناورة الخصوم. وأزعم أن الخيال يلعب دورًا أساسيًّا، ولا غِنَى عنه بالتأكيد، في التدريب على هذه القدرات.

ربما بسبب هيمنة نموذج الحاسوب على علم النفس المعرفي لم يَحظَ التفكيرُ الخيالي بانتباهٍ كبير. فمحاولاتُ دراسةِ الخيال باستخدامِ النماذج الحوسبية كثيرًا ما تَحِيد عن الهدف كليًّا؛ إذ تريد أن تَرُد الخيالات إلى أوصافٍ يسهل حصرُها في خطوطِ شفرة. ولكنْ لا الخيال ولا الإدراك الحسي يمكن ردُّه بهذه الطريقة. وقد أشرتُ حقًّا إلى أن الخيال والإدراك الحسي مرتبطان ارتباطًا وثيقًا. إن كيفيات الخبرات الإدراكية (الحسية) هي ما يبقَى في الخيال. غير أننا عندما ننخرط في تجريدٍ وظيفي نخاطر بفقدان رؤية هذه الكيفيات. يهدف المذهبُ الوظيفي (وقريبُه النموذج الحوسبي للعقل) إلى أن يستقر على مستوًى للوصف ينفي كيفيات الحالات العقلية نفيًا كليًّا. وليس عجيبًا، على هذه الخلفية، ألا يُقدَّر الخيالُ حقَّ قدرِه.

افترِضْ أنني على صواب. افترِض أن الخيال العقلي أساسيٌّ للعقول باعتبارها أنساقًا من التمثيلات. وافترضْ أن الخيالَ عبارةٌ عن وقوع خبراتٍ لنا مشابهةٍ كيفيًّا للخبرات الإدراكية (الحسية). عندئذٍ يمكننا أن نرى لماذا هي غيرُ واحدةٍ نماذجُ الحاسوب في أحيانٍ كثيرة. إن تخيلَ شيءٍ ما هو أشبهُ بإدراكِ شيءٍ (حسيًّا)، لا بوصفه. إلا أن هدفَ كثيرٍ من نماذج الحاسوب هو تشييدُ أوصاف. نحن نعتبر أنفسنا مالكين إدراكًا أو خيالًا منمذجًا إذا كان بوسعنا أن نتصور جهازًا يُنتِج، استجابةً لِمُدخَلاتٍ ملائمة، أوصافًا للأشياء المرئية أو المتخيَّلة. لقد اتخذ السيكولوجيون (علينا أن نقول بتشجيعٍ وحَثٍّ من الفلاسفة) هذه النماذج كإلهامٍ مرشدٍ لهم. وهذا ربما يفسر الطابع الأحادي البُعد والمخيِّب للآمال الذي يَسِم كثيرًا من علم النفس المعرفي (الإدراكي) السائد. وللسخرية، فرغم أن التفكير هو حقًّا لغوي الطابع في كثير من الأحيان، فإن هذا لا يجعله أقلَّ خيالًا.

القصدية intentionality

حتى لو كانت هذه الأفكارُ على المضمار الصحيح، فنحن لا نزال بعيدين عن أي شيءٍ يُقَرِّب إلينا وصفًا للقصدية، وهي خاصةٌ للفكر من حيث هو «في شيءٍ ما» ofness و«عن شيءٍ ما» aboutness. أما التوجه الخارجي (externalist) السائد في القصدية فيَعتبر أن الحالات القصدية للعقل تَدِين بمحتواها (ما هي عنه أو حوله) لعلاقاتٍ عِلِّية بين الأشخاص والعالَم. ويعود الإلهامُ الخاص بهذه الأفكار بصفةٍ رئيسية إلى حفنةٍ من تجارب الفكر الذكية، أُورِدُ هنا مثالًا شهيرًا منها لِهيلاري بتنام Hilary Putnam.
لفظة «ماء» كما نستخدمها تُسَمِّي نوعًا معينًا من السوائل عديم اللون هو، كما نعرف الآن، H2O. عندما نضمر أفكارًا ينبغي التعبير عنها (بالعربية) بكلمة «ماء»، فإن أفكارنا تتعلق بهذه المادة. تخيَّل الآن كوكبًا بعيدًا، الأرض-التوءم، وهو كوكبٌ نسخةٌ طبق الأصل للأرض في كل شيء، عدا شيء واحد، وهو آهلٌ بسكانٍ هم نُسَخٌ طبق الأصل لنا في كل شيء، عدا شيء واحد. إذا أنت انتقلت، على نحوٍ إعجازي، إلى الأرض-التوءم، فلن تَكشِفَ أقلَّ فرق، كذلك الحال بالنسبة لتوءمِك على الأرض-التوءم، فإنه إذا انتقل إلى الأرض فلن يَلفِتَه أيُّ تغيُّر. ثمة، رغم ذلك، فارقٌ مهم بين الأرض والأرض-التوءم؛ فالمادة العديمة اللون العديمة الطعم الشفافة التي تملأ الأنهارَ والبحيرات، وتُستخدَم لعملِ الشاي، وتَسقط من السماء، وتُسَمَّى (عند المتحدثين بالعربية-التوءم) «ماء»، ليست H2O، بل هي مركب كيميائي مختلف هو XYZ.
والآن، بينما الكلمة العربية «ماء» تعني ماء (أي H2O)، والأفكار التي نعبر عنها باستخدام لفظة «ماء» هي أفكار عن الماء، فإن الكلمة العربية-التوءم «ماء» لا تعني ماء (لا تعني ما تعنيه «ماء» في العربية)، ولا سكان الأرض-التوءم الذين يفكرون أفكارًا هم جديرون بأن يعبروا عنها (بالعربية-التوءم) باستخدام كلمة «ماء» يضمرون أفكارًا عن الماء. كلا، فالمعاني والأفكار المرتبطة بنطق توءمك ﻟ «ماء» لا تعني الماء، بل تعني XYZ، التي يمكن أن نطلق عليه «تماء».

أنا الآن، بالطبع، أصف الحالةَ من منظوري كناطقٍ بالعربية على الأرض. وإن نظيري في الأرض-التوءم سيستعمل كلماتٍ لا تفترق عن كلماتي. غير أن علينا نحن على الأرض أن نترجم إشاراته إلى (أي ما يسميه) «ماء» كإشارات إلى تماء، وإشاراته إلى (أي ما يسميه) «الأرض» كإشارات إلى الأرض-التوءم، وهكذا. وبالمثل، فإن توءمي سيصف إشاراتي إلى (أي ما أسميه) «ماء» كإشارات إلى (أي ما يسميه) «تماء» … ولعلك الآن قد وعيتَ الفكرة.

يدعونا بتنام إلى أن نخلُص من هذه التجارب الفكرية إلى أن «المعاني ليست في الرأس». ما تعنيه الكلماتُ، وبالمثل ما تعبر عنه تلك الكلماتُ من أفكار، يعتمد على أيِّما شيءٍ يتفاعل معه عِلِّيًّا المتحدثون والمفكرون. لفظة «ماء» في فمك تعني ماء (وليس تماء)؛ لأنك متصل عِلِّيًّا بماء (وليس بتماء). ونفس الأصوات حين يصدرها توءمُك تعني تماء (وليس ماء)؛ لأن توءمك يقف في علاقاتٍ عِلِّية بتماء (XYZ) وليس بماء (H2O). وبالتوسع في تطبيق هذه الثيمة، يمكننا القول بأن معاني الكلمات التي نستخدمها ومحتويات أفكارنا (ما تتعلق به أفكارُنا) يعتمد على علاقاتٍ عِلِّية نحملها بما يحيط بنا. وبتوسعٍ، بعدُ، أكبر، يمكننا القولُ بأن القصدية تعتمد على السياق. يشمل السياقُ بالضرورة علاقاتٍ عِلِّيةً ملائمة، ولكنه قد يشمل أيضًا علاقاتٍ اجتماعيةً متنوعة. فقد تعتمد معاني منطوقاتِك، مثلًا، على مكانِك الذي تشغله في مجتمعٍ معينٍ من المتحدثين، مجتمعٍ ذي معاييرَ ومقاييسَ لغويةٍ مختلفة.

دعنا نركز باختصار على المتطلَّب العِلِّي. الفكرة في أبسط عبارة لها هي أن الأفكار تتعلق بِعِلَلِها. لقد صادفنا هذه الفكرةَ بالفعل (في الفصل الخامس) في عرضنا لديفيدسون. ولكن دعنا الآن نعتبرها مكوِّنًا في نظريةٍ عامةٍ في القصدية. إن النظرة العِلِّية، مثل نظرة بتنام، تختصم مع النظرات التي تحاول أن تفسر القصدية «من الداخل إلى الخارج». وقد تُعَد حالةُ الأرض-التوءم برهانًا على أن أي وصف للأفكار «من الداخل إلى الخارج» لا جدوى منه. فأنت وتوءمُك، بعد كل شيء، متماهيان من الداخل، إلا أن أفكاركما تختلف في المحتوى؛ فأفكارك تتعلق بماء، وأفكاره بتماء. فهل تدعم حالاتُ الأرض-التوءم وصفًا عِلِّيًّا للقصدية كنقيضٍ للوصف المتجه «من الداخل إلى الخارج»؟ دعنا نتخيل نظريةً منافِسةً لنرى.

افترِضْ للحظة أن تَوَجُّه أفكارِك يماثل تصويب ورمي سهم. باستثناء تأثيرات الجاذبية، فإن الاتجاه الذي يأخذه السهمُ يعتمد كليًّا على عواملَ متمركزةٍ على الرامي؛ كيف تقبض على السهم، طبيعة حركة ذراعك، توقيت الإطلاق، وما شابه. ومع ذلك، فرغم أن مسارَ السهم يعتمد كليًّا على الشخص، فإن ما يصيبه السهمُ يعتمد على ملامحَ للعالَم، ملامح قد لا يكون للشخص أيُّ تحكمٍ فيها. عندما ترمي سهمًا مصوَّبًا إلى مركز هدف، فإنه لن يصيبَ المركزَ إذا أنا حركتُ الهدف أثناء انطلاق السهم. وقد نُجمِل ذلك بقولنا إن ما يصيبه السهمُ يتوقف على عاملين؛ كيف رُمِيَ (أي مساره الذي يحدده الرامي)، وكيف هو العالَم.

تخيَّلْ أن تَوَجُّه الأفكار يشبه تصويب سهمٍ رُمِي. تخيلْ أن «هدفَ» الفكرة هو شأنٌ داخلي كليًّا. (لا عليك الآن ماذا عساه أن يكون التصويب بالنسبة للفكرة.) هذا هو صنف الرأي الذي صُمِّمت حالاتُ الأرض-التوءم وأقربائها الكثيرين لكي تفندَه. لكن تأملْ، إن فكرتك عن الماء على الأرض «تصيب» الماء، H2O، وفكرة توءمك اللامتمايزة عنها داخليًّا على الأرض-التوءم «تصيب» التماء، XYZ. بوسعنا أن نقول إن فكرتك هي عن الماء، وفكرة توءمك هي عن التماء، دون افتراض أن تفسير هذا الفرق يُلتَمَس في سلسلة عِلِّيةٍ واردة. ولكن إذا كان كلا النموذجين العِلِّي والمتجه من الداخل إلى الخارج يُنتجان نفس الأحكام في حالات الأرض-التوءم، فإن هذه الحالات لا يمكن أن تُستخدَم لتدعيم الأوصاف العِلِّية للقصدية ضد منافساتها المتجهة من الداخل إلى الخارج.

ربما يساورك شكٌّ في النموذجِ المخادع، نموذجِ رمي السهام من الداخل إلى الخارج، الذي أهيب به. فقد تتساءل بحق: هل الأفكار يمكن أن تُقذَف إلى الخارج، مثل السهام؟

تَذَكَّر القصدية أولًا. لقد حاجَجتُ بأن للخواص طبيعةً مزدوجة؛ تُسهِم كل خاصة بطريقة مميزة في كيفيات واستعداديات الأشياء التي تمتلكها. إن الاستعدادَ (النزوع) «إسقاطيٌّ» projective في صميمِه. إنه استعدادٌ لنوعٍ معين من المظهر مع نوع معين من الشريك النزوعي المتبادل. قد لا يتمكن استعدادٌ (نزوع) ما من التمظهر إلى الأبد، إذا كان الشريك المتبادل الملائم غائبًا أو غير موجود. ويبقى الاستعدادُ رغم ذلك مسقِطًا لهذا المظهر مع هذا الصنف من الشريك المتبادل.

اقتراحي الأول، إذن، هو أن المكوِّن المركزي للقصدية، وهو قابلية الإسقاط، مُبَيَّتٌ في كل خاصة. لستُ أعني أن كل شيء يفكر أو كل شيء يمتلك قصدية. وإنما أعني فحسب أن كل شيء يمتلك استعداديات إسقاطية. وأُسَلِّم بأن هذه (الاستعداديات الإسقاطية) لَبِناتٌ ملائمة لِحالاتٍ قصدية معقدة.

ثانيًا، تأملْ كائنًا ذكيًّا يخوض بيئتَه. يضمر الكائنُ أفكارًا خيالية. هذه الأفكار الخيالية تُمَكِّنُه من أن يختبر «فرضيات» hypotheses، وتساعدُه، بصفةٍ عامة، على توجيه أفعالِه بطريقةٍ يجب أن نصفَها بأنها ذكية. ماذا يعلِّل لمحتويات الأفكار الذكية للكائن؟ ماذا يجعل تخيلَه لِفرعِ شجرةٍ تخيلًا لفرع شجرة؟ إن الكائن في اتصالٍ عِلِّي مع ما يحيط به. ولكن هل هذا الاتصال العِلِّي هو المسئول عن الطابع القصدي الإسقاطي لأفكار الكائن؟ كلا، إنما تأتي إسقاطيةُ الأفكارِ من الدور الاستباقي والانعكاسي المميز لها في حياة الكائن. يتأسس هذا الدورُ في استعدادياتٍ مركَّزةٍ معقدةٍ تشكِّل الحالات العقلية للكائن.

افترِضْ مثلًا أن إدراكك البصري لطماطمة ناضجة في ضوء الشمس الساطع عبارة عن نوعٍ معين من الخبرة الواعية تجري لك. هذه الخبرةُ الواعية هي التمظهرُ المتبادل لاستعدادٍ معقد داخل جهازِك البصري واستعدادات الطماطمة والإشعاع الضوئي الوسيط. إن ما يجعل هذا التمظهرَ إدراكًا بصريًّا لطماطمةٍ هو كونُه تمظهرًا متبادلًا مع استعدادات الطماطمة. (هذا ببساطة اعترافٌ بالمتطلَّب العِلِّي المتضمَّن في مفهومنا للإدراك الحسي.) ولكني أزعم أن ما يجعل الخبرةَ إسقاطية للطماطمة (ما يمنحها «مسارَها» القصدي) هو شيءٌ داخلي لديك.

تأملْ حالةً أنت فيها ترى، هلوسةً، طماطمة. ها هنا تتمظهر حالتُك الاستعدادية كما في الحالة الأولى، ولكن مع شركاء تبادليين آخرين، شركاء داخليين ربما. والنتيجة خبرةٌ تشبه كيفيًّا الخبرة التي لديك عندما تدرك بصريًّا طماطمةً. إن قصديةَ هذه الخبرة (ما يجعلها هلوسةً بطماطمةٍ) لا تتأسس في ارتباطات عِلِّية قد تحملها للطماطم. ولا هي، تصادفيًّا، قائمة على تشابه خبرتك مع الطماطمة، فخبرات الطماطم لا تشبه الطماطم. إنما تتأسس قصديةُ خبرتِك في واقعة أنها تَمَظهُر استعدادٍ ملائم لخبراتٍ بصرية بطماطم. هذه الملاءمة، شأنها شأن أي ملائمة استعدادية، متأصلة في جهازك البصري داخلية فيه. فهي لا تعتمد على كونِك في اتصالٍ عِلِّي بطماطم، ولا على وجودِ أي طماطمٍ على الإطلاق. لا فرق في هذا بينها وبين استعدادِ بلورةِ الملح للذوبان في الماء؛ إذ يمتلك الملحُ هذا الاستعدادَ حتى في ظروفٍ (أو في عوالم متخيَّلة) لا يوجد فيها ماء.

يلعب السياقُ دورًا في هذه الحالات، ولكن ليس الدور الذي يعزوه إليه المُنَظِّرُ العِلِّي. فأفكارُك في الطماطم، كما قد عَبَّرتُ، «ملائمةٌ» للطماطم لأن بيئتك تحتوي على طماطم وليس توائم طماطم. ولكن هذا لا يعدو ما سبق أن قلناه: ما تعنيه فكرةٌ ما يعتمد على عاملين؛ ما تُسقِطه الفكرة (تصويبها)، وطبيعة العالم الذي تُسقِط عليه (هدفها).

قد يبدو هذا كما لو أنني أُصَدِّق على تصورٍ وظيفي، على نحوٍ غامض، للقصدية. ولكن هذا غيرُ صحيح. إن من الضروري لأي فكرةٍ خيالية أن تمتلكَ كيفياتٍ معينة. هذه الكيفيات هي ما يؤهلها لأن تلعبَ الدورَ الذي تلعبه. لا يُلقِي المذهبُ الوظيفي بالًا للكيفيات التي تمتلكها المفرداتُ التي تلعب أدوارًا معينة. ربما تمتلك هذه المفرداتُ كيفياتٍ (وإن يكن هذا مشكوكًا فيه في بعض الأوساط)، ولكن الكيفيات اتفاقية بالنسبة لأدوار المفردات في المنظومة. وأنا لا أوافق على هذا الرأي، فالتشابه الكيفي للفكر الخيالي بالخبرة الإدراكية (الحسية) تؤهل هذا الفكر لدوره في حياة الكائن.

ورغم أن الخبرةَ الإدراكية (الحسية) تسبق بغير شك (ولديها تأثير عِلِّيٌّ عَلَى) الفكر الخيالي الانعكاسي اللاحق، فليست هذه الوصلة العِلِّية هي التي تعلِّل للطابع الإسقاطي للأفكار. فالإسقاطية متأصلة في الفكر، والفكرة «تنطبق على» حالة ما لأنها تمنح ممتلكَها قدرةً على استباق حالات من هذا النوع والتفاعل معها. مع أية حالات يتفاعل الكائن؟ ذلك شيء سيعتمد بالطبع على ظروف الكائن، فنحن نتفاعل مع الماء، أما توائمنا على الأرض-التوءم فيتفاعلون مع XYZ.

لستُ أنكر أن بعضَ المفاهيم العقلية مشحونةٌ عِلِّيًّا. إن ما تتذكره أو تدركه (حسيًّا)، على سبيل المثال، يعتمد، جزئيًّا، على المصدر العِلِّي لأفكارك عن الماضي أو حالتك الإدراكية (الحسية) الراهنة. ولا أنا أنكر أننا نستند بشدة إلى ملاحظات الروابط العِلِّية في عَزو أفكارٍ إلى الآخرين. ما أنكره هو أن أيًّا من هذا يفسِّر إسقاطية (القصدية الأساسية ﻟ) الحالات العقلية. تتأسس إسقاطية الفكر على الاستعدادية، والاستعدادات ذات الصلة، حتى تلك التي لها عِلَلٌ خارجية، هي شيء باطنٌ فيمن يفكرون.

ولا أنا أشير بأن إصابة الفكرة للهدف — كونها عن فردٍ معين مثلًا — لا تُفَسَّر إلا على أساس الملامح الداخلية (الباطنية) للفاعل. إن ما تصيبه الفكرةُ يعتمد على عوامل قد تكون خارج سيطرة الفاعل إلى حد كبير. فأفكارك هي عن الماء، جزئيًّا بسبب طابعها الداخلي، وجزئيًّا بسبب ظروفك. وأفكار توءمك على الأرض-التوءم هي عن التماء، وليس الماء، لأن ظروفَ توءمِك تختلف عن ظروفك.

هذه الملاحظات الإجمالية لم يُقصَد منها أن تحيط بنظريةٍ كاملة في القصدية. إنما قصدتُ منها فحسب أن تكون ترياقًا ضد المذاهب السائدة. قد يبدو هذا مادةً هزيلة. ولقد كنتُ حقيقًا أن أشعر بندمٍ أكبر لو كان الذين يتشبثون بالأوصاف العِلِّية للقصدية يمتلكون نظرياتٍ مفصَّلة، ولكنهم لا يمتلكون. إنهم يقدمون أمثلةً مصمَّمة لإقناعنا بأن القصدية تستلزم مكوِّنًا عِلِّيًّا واردًا من صنفٍ ما. وأنا أسلِّم بأن هناك مكوِّنًا عِلِّيًّا واردًا في كثير من الأحيان، ولكني أنكرُ أن هذا هو أساسُ القصدية.

حل العقدة

أشرتُ في بداية هذا الفصل إلى أن من مزايا التصور الذي أَبسُطُه عن العقل هو أنه يعلِّل لنطاقٍ من المكوِّنات المقبولة للتصورات المنافسة له. وقد قلتُ ما فيه الكفايةُ لتوضيح هذا التصور، في خطوطِه العريضة على الأقل. وقد آن لنا أن ننظر مرة أخرى إلى المنافَسة.

الثنائية

تركز ثنائية العقل-الجسم على ما يبدو أنه فروقٌ درامية بين العقلي والمادي؛ فحالاتُ العقل خصوصيةٌ، و«مَنفذنا» إليها ذو امتياز، والعالَم العقلي يَعرِض نطاقًا من الكيفياتِ المميزة يبدو غائبًا عن العالَم المادي. وعلى النقيض، فإن الحالات المادية عامة، ومَنفَذنا إليها غير مباشر وغير معصوم، ومن الظاهر أنها مجردة من أي شيء يشبه الكيفيات التي تَعرِض في الخبرة الواعية. وثمة مَن يرى أن الأشياء المادية تفتقر تمامًا إلى الكيفيات، وأن خواصَّها نزوعيةٌ (استعدادية) على نحوٍ حصري.

وماذا عن الطابع «الذاتي» subjective بالضرورة لحالات العقل؟ إن خطأ الثنائيين أنهم يتخيلون أن هذا يُفَسَّر باعتبارِ العقولِ حاوياتٍ لا نوافذَ لها تشتمل على أشياءَ لا تقبل الملاحظةَ إلا من الداخل (صُوَر على شاشة تلفاز داخلي تُوهِم بأنها تمثل «العالَم الخارجي»)، ولا يملك أولئك الموجودون بالخارج إلا التخمينَ بمحتويات العقل. هذا هو النموذج الخطأ. لقد قلتُ إن الخصوصية والامتياز اللذَين يبدو أن الحالات العقلية تتمتع بهما يجب تفسيرهما، جزئيًّا، بالإحالة إلى تمييزٍ بين كون المرء في حالة، وبين ملاحظة الحالة. إن درايتك بحالاتك العقلية الواعية يشكِّلها كونُك في تلك الحالات، والأحكام التي تكوِّنها عن تلك الحالات، وإن لم تكن غيرَ قابلة للتصويب، فهي محل ثقةٍ بشكلٍ بَيِّن. فإذا كنتُ أنا على درايةٍ بحالاتِك العقلية الواعية فليس ذلك لأني في تلك الحالات، بل لأني في حالةٍ مميَّزة؛ حالةٍ تشكِّل درايتي بك وبسلوكك اللافت. وقد أُضيف هنا أن هذا ليس تعليقًا على ميكانيزماتٍ نيورولوجية، بل تأملًا قائمًا على لاتماثلٍ إبستيمي مشهور.

وماذا عن الكيفيات العقلية المميزة؟ لقد رأينا أنه ليس واضحًا دائمًا بأي حال ماذا تكون. عندما تستمتع برائحة شطيرة برجر كنج فإن استمتاعك يتأسس على كيفيات خبرتك الشمية. وقبل أن تنكر أن هذه الكيفيات يمكن تَصَوُّر أنها كيفياتُ دماغِك، يجب أن تكون على بينةٍ من طبيعتِها المحددة. ولقد أشرتُ بأن هذا أمرٌ لا نملك ناصيتَه.

على أية حال، إذا أخذنا مأخذَ الجِد ذلك النوعَ من الأنطولوجيا الإنشائية التي دافعتُ عنها في هذا الفصل، ووفَينا بأقل متطلبات وصفٍ عِلِّي للإدراك الحسي، فلا بد عندئذٍ أن نكون مُهَيَّئين لإدراك أن كيفياتِ خبراتِنا الواعية هي في الحقيقة كيفياتُ أدمغتِنا. فإذا كنتَ ترَى إلى الدماغ كشيءٍ مادي، فإن هذه الكيفيات، إذن، كيفياتٌ مادية. كما أن هذه هي الكيفيات المادية التي لدينا بها ما يمكن أن يُسمَّى «اتصالًا مباشرًا» direct acquaintance. فنحن ليس لدينا مثل هذا الاتصال المباشر بكيفيات الأشياء المادية التي نلاحظها في العالم من حولنا، أو في المختبَر. ولستُ أومئ إلى أن ثمة فجوة إبستمولوجية هنا لا يمكن عبورُها، بل أُبَيِّن فحسب إحدى نتائج موقفٍ جاد في رفض الثنائية. يبدو أن الفلاسفة المناهضين للثنائية، بينما يضربون على وتر الفروق الواسعة بين الكيفيات العقلية والكيفيات الجسمية، قد فهموا الأمر فهمًا مقلوبًا.
كل هذا يقودني إلى أن أشخِّص الوصف الذي دافعت عنه في هذا الفصل في العقل كصيغةٍ من الواحدية المحايدة neutral monism. فالخواص العقلية والمادية ليست نوعين متمايزين من الخواص. من المؤكد أننا نسمِّي بعضَ الخواص عقليةً ونسمي بعضَها مادية، ولكن فكرة أن هذه الممارسة لها دلالةٌ أنطولوجيةٌ خطيرة، هي إلى حد كبيرٍ تَحَيُّزٌ موروثٌ عن الثنائية. أحد أعراض هذه الفكرة تلك الصعوبة التي يجدها الفلاسفة في جعل التمييز بين العقلي والمادي دقيقًا. ونصيحتي أن ننبذ هذا التمييزَ، ونتحول بدلًا من ذلك إلى أنطولوجيا جادة.

نظرية الهوية

تذهب نظريةُ الهوية إلى أن الخواصَّ العقليةَ متماهيةٌ مع الخواص المادية. وأطروحتي التي دافعتُ عنها في هذا الفصل تتفق مع هذا القول في ناحية، فليس ثمة خواص عقلية متمايزة عن الخواص المادية، ولكنْ من الواضح أن نظرية الهوية تُخفِق في ناحية أخرى. فأصحاب نظرية الهوية يُماهون التألُّم، مثلًا، بحالةٍ عصبيةٍ معينة. وهم في ذلك يفترضون ضمنيًّا أن التألُّم هو خاصةٌ property، خاصةٌ في هوية مع خاصةٍ نيورولوجية معينة.

إلا أننا قد رأينا أن من الخطأ تخيُّل أن كل محمول يُستخدَم بحق لِعَزو حالةٍ عقلية إلى كائنٍ ما يُسمَّى خاصةً يملكها ذلك الكائن، وأي كائن (أو كيان) آخر يَسرِي عليه ذلك المحمول. إن المحمول يَصدُق على كائناتٍ متنوعة، وهو يَصدُق عليها بفضل الخواص التي تملكها، ولكنْ لا يترتب على ذلك أنه يَصدُق عليها بفضل امتلاكها نفس الخاصة بعينها (أو خاصة مشابهة تمامًا). هذا هو درس المذهب الوظيفي. يوضِّح النقد الوظيفي لنظرية الهوية أنه من المستبعد أن هناك خاصة نيورولوجية مفردة تَفِي بالمحمول «هو في ألم». إلا أن الإجابة الصحيحة ليست أن نفترض أن «هو في ألم» يتعيَّن لذلك أن تُسَمِّي خاصةً من مستوًى أعلى أو من الدرجة الثانية، بل علينا ببساطة أن ندرك أن الخواص التي بفضلها يكون من الحق أن صنوفًا مختلفة جدًّا من الكائنات هي في ألم؛ هي خواصُّ جِدُّ مختلفةٍ، وإن يكن بينها تشابهٌ.

على أننا إذا أقصينا هذا الخلط، فسوف يطيب لي أن أسمِّي الأطروحة الواحدية المحايدة المُجمَلة في هذا الفصل نوعًا من نظرية الهوية.

المذهب الوظيفي

إحدى الطرق لفهم المذهب الوظيفي أن تعتبر أن الوظيفيين يرتكزون على الطبيعةِ النزوعية (الاستعدادية) للخواص، تلك الطبيعةِ التي تمنح العقولَ صفتَها المميزة. هذا شيءٌ ملائمٌ تمامًا. أما الشيءُ غير الملائم فهو الفكرة المتمادية القائلة بأن العقولَ ليست أكثرَ من منظوماتٍ من الاستعدادات المحضة.

وأعتقد أن هناك أسبابًا أنطولوجيةً وجيهةً لافتراض أن لكل خاصة طبيعةً مزدوجة؛ فكل خاصة هي نزوعية (استعدادية) وكيفية في آنٍ معًا. وفضلًا عن ذلك، فإن هذه الاستعدادية وهذه الكيفية لا تنفصلان (إلا في الفكر). وحالات العقل هي كيفية واستعدادية في الوقت نفسه. ولكن ليس في هذا الأمر سِرٌّ خاص؛ فكلُّ حالة هي كيفيةٌ واستعداديةٌ في آنٍ معًا. فإذا اعتبرنا العقلَ منظومةً وظيفيةً بِعامة، فلا يزال بوسعنا إذن أن نقول إن بعضَ مكونات هذه المنظومةِ تشغل الأدوارَ التي تشغلها، جزئيًّا، بسبب كيفياتها. ولكن ما إن نقول ذلك حتى نكون قد أدرنا ظهورنا لمعتقدٍ مركزي للمذهب الوظيفي.

إن مهمةَ معظمِ العلومِ الأساسية هي، بصفة عامة، كشفُ البِنيةِ النزوعيةِ (الاستعدادية) للعالَم. ولكن، كما قد أشرتُ في عدة مواضع، فإنه لَيكون من الخطأ أن نستدل من صمت الفيزياء عن الطبيعة الكيفية للعالَم أن الفيزياء تُثبِت أن العالَم خِلوٌ من مثل هذه الطبيعة. هذا الخطأ — خطأ الفيلسوف الوظيفي — يغدو مُقعِدًا عندما نَشرَع في فهم العقل وعملياتِه. يمكن للعالِم أن يتملصَ من مسئوليةِ الكيفيات بترحيلِها إلى العقول. وإن الأزمةَ الراهنةَ حول الوعي (ما يُطلَق عليه «المشكلة الصعبة» hard problem للوعي) لَتنبعُ من إدراكٍ ضمني بأن الترحيلَ يتوقف هنا، غير أن الأزمة هي من صنعنا نحن. فإذا كان لكل شيء كيفيات، فليس سرًّا، إذن، أن لحالاتِ العقل خواص. وإذا كانت حالاتُ العقل هي حالات الدماغ، فإن كيفياتِ تلك الحالات، إذن، هي كيفياتُ حالاتِ الدماغ. أرجو أن أكون قد بذلتُ وُسعِي، في هذا الفصل، لِجَعل هذه النتيجةِ أرفَقَ بالحَدس مما يُظَن بها في العادة.

المذهب التأويلي

لا شيءَ مما قلتُه هنا يتعارض بوضوحٍ مع وصف ديفيدسون للمواقف القضوية. وأنا على استعدادٍ لقبولِ الخطوطِ العريضة لوصف ديفيدسون للتأويل، حتى فكرة أننا إذ نَعزو اعتقاداتٍ ورغباتٍ ومقاصدَ وما إلى ذلك، إنما نطلق «مقياسًا». هذا المقياسُ قمينٌ بتخطيطِ شيءٍ ما، ما هذا الشيء؟ إنه قمينٌ أن يرسمَ المنظومةَ النزوعية التي تشكِّل عقولَ مستخدِمي اللغة.

يُصِرُّ ديفيدسون على أنه لا يمكن تأويلُ إلا مَن هو مؤَوِّل؛ فليس غير مستخدمٍ للغة مَن يَصِحُّ وصفُه على أنه يعتقد مثلًا أن عملَ شطيرة برجر كنج تلزمُه براعةٌ في الطهو. لا يرجع هذا إلى أن الاعتقادات جُمَلٌ داخل الرأس تعتمد بشكلٍ ما على القدرات اللغوية للمعتقِدين. انظرْ: وحدَهُ مستخدمُ اللغة مَن هو في موضعٍ يتيح له أن يقبل هذا الوصفَ لحالتِه الذهنيةِ كوصفٍ ملائم، وحدَهُ مستخدِمُ اللغة مَن يرى أو قد يرى نفسَه في هذا الضوء.

ما أهمية هذا؟ تَذَكَّرْ أن امتلاكَ مواقفَ قضويةٍ هو الذي يفسِّر الاختيارَ العقلاني، غير أن الاختيارَ العقلاني انعكاسيٌّ بالضرورة. ليس يكفي أن الفاعلَ العقلاني لديه اعتقاداتٌ ورغبات، إن الفاعلَ العقلاني لديه القدرةُ على أن يتأمل (ينعكس على) تلك الاعتقادات والرغبات، وأن يفعل بالتالي وفقًا لهذه التأملات. نحن، إذن، حين نعزو مواقفَ قضويةً لفاعلٍ ما إنما نعزو حالاتٍ ذهنية بطريقةٍ تنحاز مع تقييمِ الفاعلِ نفسِه لهذه الحالاتِ الذهنية.

كل هذا حسنٌ جدًّا. غير أنه سيكون من الخطأ أن نستنتج أن العقلَ ليس أكثرَ من ذلك. لن يكون خطأً فحسب، بل جنونًا. فحيواتُنا العقلية أثرَى كثيرًا من أي شيء تتضمنه مُخرَجاتُ نظرياتِ التأويل، تلك التي أَسمَيتُها نظريات-ت I-theories. مثلُ هذه النظرياتِ تحيط ربما بوجهٍ من أوجه حياتنا العقلية، لكنها صامتة إزاء التفكير الخيالي، الذي أَعُدُّه كما قلتُ أساسيًّا تمامًا. هذه النظريات لا تسعفنا البتة في فهم عقول الكائنات غير اللغوية. وأخيرًا، فإن قدرة فاعلٍ ما على أن يُطلِق مثل هذه النظريات — قدرته التي لا بد من وجودها إذا كان للفاعل أن يجيب عن نظرية تأويل (نظرية-ت) معينة — تتأسس على نطاقٍ من القدرات العقلية التي تقع خارج أي نظرية تأويل على طريقة ديفيدسون. لكي تُطلِقَ نظرية-ت لا بد أن تكون لديك القدرة على أن تنعكس على عالَمِك (تتأمله) وعلى محتوياته. هذه القدرة تتأسس في بِنيتِك الاستعدادية (والكيفية بطبيعة الحال).

ملاحظة ختامية

لَعَلِّي قد قلتُ ما يكفي لتقديم لمحة عن طريقةٍ لمقارَبة العقول ومكانها في الطبيعة تتناول ألغازًا مزمنةً في فلسفة العقل. وأزعم أن مقاربتي تَعِدُ بِحَل مشكلاتٍ تَدَّعِي منافِساتُها حلَّها، وأنها تقوم بذلك دون التعرض للمخاطر العتيدة التي تحيق بهذه المقاربات المنافِسة. هذه دعوَى عريضة، وقد كنتُ خليقًا أن أُتَّهَم بالغرور في ذلك لولا حقيقة أنني لا أعرضها كعملٍ من ابتكاري، إنما أنا أقتفي فيها عملَ س. ب. مارتن.

ولستُ أزعمُ أن هذا المخطط التقريبي كافٍ لإقناع أنصار الآراء الأخرى المتشددين، ولكني آمل رغم ذلك أن أكون قد تمكنت على الأقل من أن أُضفِي معقوليةً على مقاربتي، وأن أجتذبَ بذلك «حزبَ الكنبة»١٩ والمتفرجين المحايدين. والقراء الراغبون في المزيد مدعُوُّون لاستشارة القراءات المُدرَجة في القسم التالي.

قراءات مقترَحة

C. B. Martin defends aspects of the approach to mind discussed in this chapter in “Substance Substantiated” (1980), “Power for Realists” (1992), “The Need for Ontology: Some Choices” (1993), “On the Need for Properties: The Road to Pythagoreanism and Back” (1997). See also C. B. Martin and John Heil, “Rules and Powers” (forthcoming). Readers seeking enlightenment on the account of intentionality introduced here should consult Martin’s “Proto-Language” (1987).
Michael Lockwood, in Mind, Brain, and Quantum (1989), chap. 10, advances a view of mental qualities — “qualia” — similar to that discussed in this chapter. See also “The Grain Problem” (1993). Lockwood draws on Bertrand Russell’s Analysis of Matter (1927) and in an historical appendix cites Schopenhauer, W. K. Clifford, Wilhelm Wundt, and Immanuel Kant as promoting related views. The position I advance however, differs from Lockwood’s in a number of important respects. Lockwood takes dispositions to be grounded in what he calls “intrinsic qualities”, for instance. Following Martin, I regard every property as intrinsically dispositional and qualitative. Lockwood distinguishes qualities of conscious experiences from our awareness of those qualities. I take conscious experiences to be manifestations of neurological dispositions. The qualities of these are conscious qualities. The awareness of those qualities is partly constituted by their being possessed by our experiences.
Daniel Dennett is one philosopher who argues for the replacement of metaphysics by empirical science when it comes to questions about the nature of mind. For a readable introduction to Dennett’s views, see Kinds of Minds: Toward an Understanding of Consciousness (1996).
The thesis that, if there are objects, there are simple objects, is discussed by E. J.
Lowe in “Primitive Substances” (1994). For an account of objects as fields, see Steven Weinberg, “Before the Big Bang” (1997). Weinberg says (p. 17): “In the modern theory of elementary particles known as the Standard Model, a theory that has been well-verified experimentally, the fundamental components of nature are a few dozen different kinds of field.” (I owe the citation to Michael Lockwood.)
Locke’s conception of substance is spelled out in An Essay Concerning Human Understanding, ed. P. H. Nidditch (1690/1978), see especially book II, chap. 23. See also Martin’s “Substance Substantiated” (1980) and E. J. Lowe’s Locke on Human Understanding (1995), chap. 4.
Plato discusses universals — what he calls the Forms — in the Phaedo, in the Republic (books 6 and 7) and in a more critical mode, in the Parmenides. David Armstrong provides a deft introduction to the topic in Universals: An Opinionated Introduction (1989).
Hugh Mellor and Sydney Shoemaker both depict properties as fundamentally dispositional. See Mellor’s “In Defense of Dispositions” (1974), and Shoemaker’s “Causality and Properties” (1980).
The notion that dispositions are categorically grounded is defended by David Armstrong in many places, including A Materialist Theory of the Mind (1968), pp. 85–8. See also Frank Jackson’s “Mental Causation” (1996). I call this view into question, although it is widely regarded as so obvious as not to require defense — and so deserves to be called the default view.
Jeffrey Poland’s Physicalism: The Philosophical Foundations (1994) nicely articulates a layered ontology of the kind attacked in this chapter. See also my The Nature of True Minds (1992), especially chap. 3 where I argue (mistakenly, as I now think) for the layered picture.
Readers seeking an example of an argument in which realism about predicates is linked to those predicates designating properties might consult Paul A. Boghossian, “The Status of Content” (1990). In explicating “non-factualist” (that is, anti-realist) accounts of a predicate, “P”, Boghossian says that what such conceptions have in common is “ (1) [t]he claim that the predicate ‘P’ does not denote a property and (hence) (2) the claim that the overall (atomic) declarative sentence in which it appears does not express a truth condition” (p. 161). Note the parenthetical “hence”.
Poland (in Physicalism: The Philosophical Foundations, chap. 4) advances an account of the realizing relation according to which realizing properties (1) suffice (“nomologically”, that is, as a matter of natural law) for realized properties and (2) instances of realizing properties constitute instances of realized properties. I produce a similar conception in The Nature of True Minds, pp. 135–9.
For an enthusiastic discussion of ceteris paribus laws, and their significance for the special sciences, see Jerry Fodor’s “You Can Fool Some of the People All of the Time, Everything Else Being Equal: Hedged Laws and Psychological Explanation” (1991). An application of this kind of view to the problem of mental causation can be found in Ernest Lepore and Barry Loewer, “Mind Matters” (1987).
Readers hankering for more information on supervenience should consult Jaegwon Kim’s “Supervenience as a Philosophical Concept” (1990) and Terence Horgan’s “From Supervenience to Superdupervenience” (1993). I provide an overview of the topic and discuss its implications for the philosophy of mind in The Nature of True Minds, chap. 3.
David Chalmers discusses zombies at great length (and defends their possibility) in his The Conscious Mind: In Search of a Fundamental Theory (1996), chap. 3.
Nigel J. T. Thomas’s “Are Theories of Imagery Theories of Imagination” (forthcoming) contains an excellent historical and philosophical discussion of theories of imagery. Thomas’s “Experience and Theory as Determinants of Attitudes toward Mental Representation: The Case of Knight Dunlap and the Vanishing Images of J. B. Watson” (1989) contains a fascinating discussion of what I call “criterion differences” in reports of imagery (or the lack of it). Michael Tye discusses the rather dreary debate between proponents of “pictorial” and “prepositional” conceptions of imagery in The Imagery Debate (1991). Zenon Pylyshyn depicts imagery “propositionally” in “What the Mind’s Eye Tells the Mind’s Brain: A Critique of Mental Imagery” (1973). The “imageless thought” controversy raged early in the twentieth century. For a useful summary and discussion, see Kurt Danziger, “The History of Introspection Reconsidered” (1980).
١  يُطلَق على عملية وضع الأفكار في شكل رياضي اسم الأكسيوماتية (الأكسَمة) axiomatization، وهي تتضمن العناصر الآتية: (١) تقسيم الحدود المفتاحية إلى حدود غير مُعرَّفة (تُسمَّى أيضا بالحدود البدئية)، واستعمال هذه اللامعرفات في تعريف جميع الحدود الأخرى تعريفًا صريحًا واضحًا. (٢) البدء بمجموعة صغيرة من البديهيات axioms (أو المبادئ الأساسية). (٣) اتباع مجموعة من قواعد التحويل، أو المبادئ المنطقية الخالصة. (٣) استخلاص المبرهنات theorems الخاصة بالنسق المعنِيِّ من التعريفات والبديهيات باستخدام قواعد التحويل. ولعل كلًّا منا قد صادف بالمدرسة كل هذه العناصر والإجراءات في منهج الهندسة. (المترجم)
٢  التروب trope: هو مُثول instantiation أحد الكليات a universal في عالم الشهادة، أي في زمانٍ ومكانٍ ما، أي «جزئي مجرد» هو في رأي البعض شيءٌ أساسي للأنطولوجيا. (المترجم)
٣  لأنصار العوالِم الممكنة يضع سيمون بلاكبيرن Simon Blackburn (1990, p. 64) المسألةَ على هذا النحو: «أن تتصور جميع الحقائق عن العالم على أنها نزوعية هو أن تفترض أن عالمًا يوصَفُ بتمامِه بواسطة ما هو حق في عوالم مجاورة. وحيث إن حجتنا كانت قَبلية a priori، فإن هذه الحقائق بدورِها تتبدد إلى حقائق عن عوالم مجاورة أخرى، وتكون النتيجة أن ليس ثمة حقائق في أي مكان.» (المؤلف)
٤  الشرط الضروري necessary condition لأي شيء هو الشرط الذي يتعيَّن أن يُستوفَى لكي يكون لديك ذلك الشيء. الأوكسجين مثلًا شرطٌ ضروري للنار، بمعنى أنه لا يمكن أن تكون نارٌ حيث لا يوجد أوكسجين. والشرط الكافي أو «الشروط الكافية» sufficient conditions لشيء ما هي الشروط التي إذا أُخِذت مجتمعةً تكفي لأن يكون لديك ذلك الشيء. وليس من المحتم أن يكون الشرط الضروري شرطًا كافيًا، فالأوكسجين شرط ضروري للنار، ولكنه ليس شرطًا كافيًا؛ إذ إن هناك أشياء أخرى يجب أن تتوافر لكي تكون النار. كما أن الشرط الكافي لشيءٍ لا يتحتم أن يكون ضروريًّا. تخيَّلْ فصلًا دراسيًّا يؤخذ فيه متوسط درجات ثلاثة امتحانات ليكون الدرجة النهائية للطالب. فالحصول على C في جميع الاختبارات هو شرط كافٍ للحصول على C كدرجة نهائية. غير أن الحصول على D في أحد الامتحانات، وعلى C في امتحان ثانٍ، وعلى B في الامتحان الثالث، سيؤدي إلى نفس النتيجة النهائية، أي إنه يشكل شرطًا كافيًا آخر (ولكن ليس ضروريًّا) للحصول على C كدرجة نهائية. (المترجم)
٥  الصناعة هنا ليست بالمعنى العِلِّي؛ فالمعنى الذي يتَأَتَّى به لِصانع الصدق أن «يصنع» الصدق غير المعنى الذي يَتَأَتَّى به للخَزَّاف أن يصنع الخَزَف. ومن ثم، كثيرًا ما يُوَضَّح مفهوم صانع الصدق كما يلي: «صانع الصدق هو ذلك الذي بفضله in virtue of which يكون شيءٌ ما صادقًا.» من المتفق عليه بعامة أن «س يجعل من الصدق (من الحق) أن ق» هو بناء يدل، إن كانت له دلالة على الإطلاق، على علاقة ﺑ «حامل صدق» truth-bearer يحملها شيءٌ آخر هو «صانع صدق» truth-maker. ولكن ليس ثمة اتفاق عام حول ماذا يكون هذا الشيء الآخر (صانع الصدق)، أو ما هي حاملات الصدق، أو ما طبيعة العلاقة المعقودة بين الطرفين، أو حتى ما إذا كانت مثل هذه العلاقة معقودة أصلًا. (لمن يريد الخوض في هذا الموضوع الشائك والضروري في الوقت نفسه الرجوع إلى موسوعة ستانفورد الفلسفية، حيث يجد مدخلًا وافيًا وحديثًا عن «صانعات الصدق» truthmakers.) (المترجم)
٦  wholes.
٧  particle accelerators.
٨  يُستخدَم مصطلح expressionism (المذهب التعبيري) ليُسمِّي تلك النظريات في الخطاب الأخلاقي التي تفرِّق بين الجمل الأخلاقية والتعبيرات عن الاعتقاد. هذه النظريات تضع الوظيفة الأولية للجمل الأخلاقية في التعبير عن مواقف أو عواطف أو حالات عملية أخرى، أو في إصدار أوامر أو وضع ضغط على الفعل (معجم أكسفورد الفلسفي، مادة expressionism). (المترجم)
٩  «التشابه العائلي» family resemblance هو الظاهرة التي أكدها فتجنشتين في كتاباته المتأخرة. ومفادُها أن الأشياء التي يشير إليها حد من الحدود قد ترتبط معًا لا بخاصة مشتركة واحدة، بل بشبكة من التشابهات، كشأن الأشخاص الذين تشترك وجوههم في ملامح مميزة لعائلةٍ معينة. وقد أصبح «مفهوم التشابه العائلي» family-resemblance (or polytypic, or open-texture) concept يعني كل مفهوم يضم مجموعة من الأشياء أو الموضوعات وينطبق عليها، لا بفضل سمة فريدة عامة، بل لوجود تشابهات بينها عديدة ومتداخلة جزئيًّا بعضها مع بعض. (المترجم)
١٠  تفيد «العلية الصاعدة» upward causality (داخل إطار البرنامج الردِّي) أن ما يجري على مستوًى أعلى يمكن تفسيره في ضوء المستوى الأدنى منه مباشرة، وهكذا نُزُلًا إلى أن يتم التفسير في ضوء الجسيمات الأولية والقوانين الفيزيائية ذات الصلة. وقد يبدو للوهلة الأولى أن المستويات الأعلى لا يمكن أن تؤثر على المستويات الأدنى. أما «العلية الهابطة» downward causality فتفيد أن مجريات المستوى الأعلى تؤثر عِلِّيًّا على المستوى الأدنى. والأمثلة الأكثر وضوحًا وإثارة على العلية الهابطة تجدها في الكائنات الحية وأنساقها الإيكولوجية، وفي المجتمعات المكونة من هذه الكائنات. (للمزيد عن العِلِّية الهابطة، انظر كتابنا «كارل بوبر: مائة عام من التنوير ونُصرة العقل»، دار النهضة العربية، بيروت، ٢٠٠٢م، ص١٠٧–١١٣؛ وكذلك كتاب كارل بوبر وجون إكلس: «النفس ودماغها»، ترجمة د. عادل مصطفى، دار رؤية للنشر، القاهرة، ٢٠١٢م، ص٣٥–٤٧). (المترجم)
١١  انظر معنى الأوصاف «اللاوقائعية» أو «ضد الوقائعية» counterfactual في الحديث عن «التسبيب العقلي والمواقف القضوية» في الفصل الخامس. (المترجم)
١٢  تُسمَّى القضية المنفصلة (إما ق أو ل) أحيانًا بقضية «البدائل»، وقد يُطلَق على كل طرف من أطرافها اسم «بديل». (المترجم)
١٣  misses the point.
١٤  مثل البيولوجيا، علم النفس، علم الاقتصاد … إلخ. (المترجم)
١٥  جرى العُرفُ على أن يركز فلاسفة العلم على قوانين الفيزياء، مثل قانون نيوتن الثاني ومعادلة شرودنجر، التي كانت تُعَد على الأقل عبارات عمومية صادقة تدعِّم دعاوى شرطية لا وقائعية counterfactual. ولكن رغم أن هذه الدعوى عن القوانين قد تكون صادقة بالنسبة للفيزياء، فإن القوانين في العلوم الخاصة، كالبيولوجيا وعلم النفس وعلم الاقتصاد … إلخ تبدو — وربما لا عجب في ذلك — ذات ملامح مختلفة عن قوانين الفيزياء، فقوانين العلوم الخاصة تؤخذ عادةً على أن «لها استثناءات»، وأنها «غير عمومية»، وبتعبير آخر «أنها قوانين تساوي بقية ceteris paribus laws». مثل هذه الملامح لم تكن تشكِّل مشكلة؛ إذ كان الإجماع معقودًا على أن هذا قد يُتصوَّر على أنه قصورٌ في العلوم الخاصة نفسها. إلا أنه مع تتالي نجاحات العلوم الخاصة، ولا سيما البيولوجيا، فقد بات واضحًا أن ثمة معرفة علمية أصيلة لا تخضع لنموذج الفيزياء، وبالتالي لم يعد يُنظَر إلى الممارسة العلمية في العلوم الخاصة على أنها قاصرة، بل تم تحليلها كممارسة مشروعة مختلفة عن الفيزياء. من الملامح المهمة التي يبدو أن العلوم الخاصة تختلف فيها عن الفيزياء الأساسية تتعلق بالتعميمات في البيولوجيا، وفي علم النفس، وفي علم الاقتصاد. انظر على سبيل المثال إلى التعميمات التالية التي تلعب دورًا تفسيريًّا في العلوم الخاصة: (١) نقص فيتامين ج يسبِّب الإسقربوط. (٢) أفعال الناس موجَّهة لهدف، بمعنى أنه إذا كان شخص ما X يريد A ويعتقد أن B وسيلةٌ مُثلَى لتحقيق A، إذن فإن X سوف يحاول أن يفعل B. (٣) قانون الطلب: تحت شرط التنافس التام، فإن زيادة الطلب على سلعة ما سوف يؤدي إلى زيادة السعر، شريطة أن كمية المخزون من السلعة يبقَى ثابتًا. (٤) نقص الاندماج الاجتماعي يؤدي إلى ارتفاع احتمال محاولات الانتحار. إن هذه التعميمات جميعًا غير عمومية non-universal، أي إن ثمة مواقف لا تَصدُق فيها التعميمات السابقة رغم توافر جميع الشروط المنصوص عليها بصراحة في مُقَدَّم التعميم. وبعبارة أخرى: ثمة مواقف ينقص فيها فيتامين ج ولا يحدث الإسقربوط، ومواقف لا يفعل فيها الناس بطريقة موجَّهة إلى هدف، ومواقف لا يؤدي فيها زيادة الطلب على سلعة ما إلى ارتفاع السعر (حتى مع توافر شرط المنافسة التامة) … إلخ. ورغم أن هذه التعميمات غير عمومية، فإنها تلعب دورًا في التفسير والتنبؤ قد يفيد في أغراض التحكم والسيطرة، كما أنها تدعم قضايا شرطية لا وقائعية counterfactuals, (Cereris Patibus Laws: Stanford Encyclopedia of Philosophy, Mon Mar 14, 2011). (المترجم)
١٦  «التشييء» (الأَقنَمَة) reification/hypostatization: هو أن تُعامِلَ المجردات أو العلاقات كما لو كانت كياناتٍ (كائنات) عينية concrete entities، أو أن تَنسب وجودًا حقيقيًّا للتصورات العقلية أو البناءات الذهنية. لقد بَرَعَ بنو الإنسان حقًّا في خلق تصورات مجردة ومفاهيم ذهنية تساعدهم على حَصْر الأشياء والأحداث، وتصنيفها واختزالها اختزالًا يتيح لهم من الاقتصاد الذهني ما يمكِّنهم من الإحاطة بأشياء العالم وتناولها. غير أن المأساة تكمن في أن هذه العملية قد تجري أيضًا في الاتجاه العكسي، أي معاملة التصور المجرد كما لو كان «شيئًا» حقيقيًّا. حين يحدث ذلك، نكون بإزاء مغالطة منطقية عتيدة مُبَيَّتة في صميم العقل البشري ذاته، وفي طريقة أدائه لوظيفته. لا غرو تُعَدُّ «مغالطةُ التشييء» reification من أهم المغالطات وأكثرها شيوعًا. وإن أنساقًا فلسفية بكاملها، ومذاهب سياسية واجتماعية وأخلاقية، ونظريات علمية، لَتقوم على هذه المغالطة الكبيرة وتتأسس عليها. وإذا كان للفلاسفة مطلقُ الحرية في أن يقرروا أي الأشياء يُعَد حقيقيًّا وأيها غير حقيقي، فليس من حقهم أن يُرَحِّلوا تشييئاتهم إلى الحقول الأخرى من البحث، مُلحِقين بها اضطرابًا وخَلطًا كان منه بُد. يعجُّ تاريخُ العلم والاجتماع والسياسة، وحتى الرياضيات، بِعَثَراتٍ كبرى عطَّلَت مسارَه حِقَبًا، كنتيجةٍ لإلحاح المفكرين في طلب «تعريفات حقيقية» تقرِّر ما «تكونه» الأشياء، استنادًا إلى «ما ينبغي أن تكونه» في تصورهم، وإنكار أصقاعٍ كاملة من البحث بوصفها غير حقيقية أو غير صالحة. (للمزيد عن خطأ التشييء، انظر كتابنا «المغالطات المنطقية»، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ٢٠٠٧م، ص١٧٣–١٧٧). (المترجم)
١٧  نسبةً للمذهب الفيزيائي physicalism، وليس للفيزياء physics. (المترجم)
١٨  الواحدية المحايدة هي وجهة الرأي الميتافيزيقية التي تفيد أن العقل والمادة وجهان لخامةٍ «محايدة» واحدة ليست هي بالعقل ولا بالمادة. وأهم من قال بهذا الرأي وليم جيمس، وهيوم وماخ ورسل في مرحلة من مراحلهم. يقول كارل بوبر في كتابه (المشترك) «النفس ودماغها»: وفقًا للواحدية المحايدة، ليس ثمة جسمٌ أو عقلٌ بالمعنى الذي يتصورهما به الفلاسفةُ الميتافيزيقيون. ليس هناك عالم فيزيائي، أو عالم عقلي. الذي هناك حقًّا هو تنظيم فيزيائي للأشياء أو الأحداث (المحايدة)، وتنظيم عقلي لنفس الأشياء أو الأحداث. أي إن الأشياء أو الأحداث تُعتبَر «فيزيائية» أو «عقلية» بحسب السياق الذي ندركها فيه. بوسع الواحدي المحايد أن يُحاجَّ بأن الأمر لا بد أن يكون هكذا؛ لأن «فيزيائي» تعني، بطريقة أو بأخرى، شيئًا ما يسنح داخل مجال النظرية الفيزيائية. «فيزيائي» هو شيء ما يمكن أن يُفهَم أو يفسَّر أو يُتناوَل بواسطة نظرية فيزيائية بمفاهيمها للفعل الفيزيائي، والتفاعل الفيزيائي، وهكذا. وبالمثل، «عقلي» هو ذلك الذي يمكن أن يفسَّر بمساعدة نظريات نعتقدها عن العقل، نظريات السيكولوجيا، وعن الفعل الإنساني. نحن لدينا إذن حقلان من النظريات؛ نظريات فيزيائية ونظريات سيكولوجية، أو نظامان لترتيب الأشياء. النظريات الفيزيائية تنظِّم الأشياء فيما يمكن أن نسميه تنظيمًا فيزيائيًّا أو تأويلًا فيزيائيًّا، والنظريات العقلية تنظم نفس الأشياء في تنظيمٍ عقلي أو تأويلٍ عقلي. أن نسمي شيئًا ما فيزيائيًّا أو عقليًّا سوف يعتمد إذن على التنظيم الذي فيه ندركه. ثمة بسائط معينة، أو عناصر بمعنًى أخص، قد تُؤَوَّل على أنها تنتمي لمركبات فيزيائية أو لمركبات عقلية. غير أن العناصر نفسها يُفترَض أنها محايدة بالضبط لأنها قد تصبح، تبادليًّا، أجزاءً إما لمركبات فيزيائية أو لمركبات عقلية.
نحن في وضع الأشياء على هذا النحو لم نقدم أي إشارة على الإطلاق لما تكونه في الحقيقة هذه العناصر المفترَض أنها محايدة. ومع ذلك، فقد اعتبر الواحديون المحايدون العناصر شيئًا ما شبيهًا بالانطباعات أو الأفكار أو الإحساسات. ومصطلح ماخ Empfindungen — وهو لفظُه الذي استخدمه لهذه العناصر — ربما يمكن ترجمته إلى «إحساسات» (أو ربما إلى «مشاعر»). (المترجم)
١٩  fence-sitters.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤