العقول ومكانها في الطبيعة
في الفصول الخمسة السابقة اتخذنا طريقَنا خلال تنويعةٍ من المقاربات المتباينة إلى العقل. نشأت كلٌّ من هذه المقاربات في الأصل استجابةً لنطاقٍ معين من الألغاز. فديكارت، على سبيل المثال، استوقفه الفرقُ الواضح بين خواص الأشياء المادية والخواص العقلية، فاستجاب لذلك بأن حاجَّ بأن العقلي والمادي هما صنفان من الجوهر مختلفان تمامًا. أما السلوكيون، في المقابل، فقد عقدوا العزمَ على أن يجعلوا العقولَ موضوعات للبحث التجريبي مُقَدَّرة علميًّا. استلزم ذلك في نظرهم إثبات أن الحقائق حول العقول ومحتوياتها يمكن أن تُعاد صياغتها في حدودِ الحركاتِ الجسمية القابلة للملاحظة والميول الطبيعية إلى هذه الحركات.
يمكن أن يُنظَر إلى كل مقاربة من هذه المقاربات المتنوعة على أنها مقاربة ناجحة، على الأقل جزئيًّا، فكلٌّ منها يقدم إجاباتٍ لأسئلة تُعَدُّ مُلِحَّةً على نحوٍ خاص، وكلٌّ منها تحل مشكلاتٍ معينة، إلا أن كلًّا منها مُشَهَّرٌ أيضًا بأنه يترك حشدًا من المشكلات المحددة بلا إجابةٍ وبلا حل. ولا عَجَب في ذلك، فنظريات العقل قد دُفِعَ بها لكي تمكِّننا من التغلب على مسائلَ معينةٍ تُعَد، إبانَ طرحِها، مسائلَ محورية. وبقدر نجاحِ نظريةٍ ما، تتراجع المشكلاتُ التي تحلها إلى الخلفية، فيما تَبرُز تلك التي تتركها بلا حَل.
في هذا الفصل سأقدم وصفًا استقرابيًّا للعقل، يسعَى إلى إضفاء معنًى على ما قد يَلفِتُنا كأمرٍ مقبولٍ في كلٍّ من الآراء التي عُرِضَت حتى الآن، ولكن بمعزِل عن صعوباتها الملازِمة. وأعتبره ميزةً مهمةً في هذا الوصف أنه يضم الاستبصاراتِ الجوهريةَ لتنويعةٍ من النظريات المتباينة، بل المتضاربة. ثمة ميلٌ في الفلسفةِ إلى أن نأخذ المذاهبَ التي لا نتفق معها ونُلقِي بها بِرُمَّتِها.
غير أن الرأي قد يكون خطأ دون أن يكون خطأ كُلُّه. وعندما ننظر في التطور التاريخي للنظريات في فلسفة العقل يمكننا أن نرى نفسَ الصعوبات تدور عائدةً إلى بؤرةِ الاهتمام ثانيًا وثالثًا. فنجد جيلًا يتناول الجانبَ الكيفي من العقلية، والجيلَ التالي يركِّز على المكانة العلمية، وخَلَفه يعالج مشكلةَ المحتوى العقلي. ثم تعود الدورةُ سِيرتَها الأولى، ويُعيد كلُّ جيلٍ اكتشافَ ما غاب عن بصرِ سَلَفِه.
لقد أكدتُ طوالَ هذا الكتابِ أهميةَ الميتافيزيقا — ولا سيما الأنطولوجيا — أي أفضل تقييمٍ لنا لما هو موجود، بالنسبة لفلسفة العقل. وأسعَى في هذا الفصل إلى أن أَفِي بهذا المبدأ. إن نتائجَ هامةً معينة فيما يتعلق بالعقول ومكانها في الطبيعة لَتترتبُ على ما أَعُدُّه أنطولوجيا معقولةً بحد ذاتها. وسأوضح هذه النتائجَ في الأقسام التالية، وإن كنتُ لا أحاولُ أن أدافعَ عنها بتفصيلٍ وعمق. يقع كثيرٌ من هذه النتائجِ خارجَ التصورات السائدة عن العقل، وذلك خيرٌ فيما أظن.
بِحَسبِنا هذا، فقد آن لنا أن نُشَمِّرَ عن سواعدِنا وننزلَ إلى العمل.
خلفية ميتافيزيقية
على أننا يجب أن نفرق بين أخذِ ثمارِ الجهود التجريبية مأخذَ الجِد، وبين أن نتخيلَ أن المشكلاتِ العميقةَ التي تكتنف فلسفةَ العقل سوف تتبخرُ بمجرد أن نصوغَ مسائلَنا بطريقةٍ تجعلها طَيِّعةً للحل التجريبي. وكما تتضح الأمورُ الآن، فحتى إذا امتلكنا نظريةً تجريبيةً وافيةً تمامًا في الوعي، فلن نكونَ بالضرورة في موضعٍ يجعلنا نميزُها كذلك؛ ذلك أن مشكلتَنا ليست نقصَ المعلومات المفصَّلة بقدر ما هي غيابُ إطارٍ وافٍ لإضفاء معنًى على أيةِ معلوماتٍ قد نحصل عليها. إن لدينا الكثيرَ لِنتعلمَه عن الدماغ. ولكن، كمثالٍ بارزٍ في الوقت الحاضر، من الصعب أن نرى كيف يمكن لأيِّ اكتشافٍ نيوروبيولوجي يمكن تصورُه أن يُعَلِّل لِكيفياتِ الخبرة الواعية.
الأشياء
إذا كانت الأشياءُ حقولًا أو مناطقَ من المكان-الزمان، فستكون حركةُ الأشياء بالتالي مجردَ حركةٍ ظاهرية؛ مناطق متعاقبة تأخذ وتفقد خواصَّ بطريقةٍ معينة. وإن شئتَ نموذجًا مقربًا فتأمل حركةَ مشهدٍ يُعرَض على شاشة التلفاز، أو تقاطر الأضواء المتحرك حول مدخل سينما عتيقة الطراز. ربما يكون هذا حالها بصفةٍ عامة تمامًا. إن كرة بلياردو تتدحرج عبر الطاولة هي في الواقع تَعاقُبٌ من الاضطرابات المتماسَّة في المكان-الزمان.
الشيءُ، إذن، هو حاملُ خواص. ورغم أن بوسعنا أن نفرقَ بين الأشياء كحاملةِ خواصَّ وبين الخواص التي تحملها، فإن الأشياءَ والخواص لا يمكن فصلُهما إلا في الفكر (وليس في الواقع). فالشيءُ لا يمكن أن يوجدَ بمعزِلٍ عن خواصه، ولا الخواص بمعزل عن الشيء. يمكن للشيء أن يكسب خواصَّ أو يفقدها، ولكن هذا لا يعني انتقالَ خواصِّه إلى مكانٍ آخر. فالخاصةُ لا تعدو أن تكون طريقةً معينةً يكون عليها الشيء. يمكن للشيء ألا يعود على طريقةٍ ما، وأن يصير على طريقةٍ أخرى، ولكن هذه الطرق لا يمكن أن تنتقل إلى أشياء أخرى أو أن تَهِيمَ طليقةً. ولا يمكن للشيء أن يوجد خِلوًا من الخواص، كجزئيٍّ مَحض، لا طريقةَ لِوجودِه على الإطلاق.
الخواصُّ بوصفها طرائقَ مُخَصَّصة
ليس هذا موضعَ مناقشةِ هذه الآراء بالتفصيل. وسوف أكتفي بدلًا من ذلك بأن أَلفِتَ الانتباه لِنقطتين بسيطتين؛ أولًا: من الطبيعي أن نتساءل عن تشابهات الأشياء التي بفضلها تنتمي لفئة الأشياء الحمراء. هذه الأشياء متشابهة في بعض الوجوه، ومختلفة في بعض الوجوه. تأَمَّل الرايةَ الحمراء وكرةَ البلياردو الحمراء، إنهما مختلفتان في الشكل والحجم والكتلة، ولكنهما متشابهتان في اللون. هذا المنظور إلى التشابه يَرُدُّنا إلى الطرائق التي عليها الأشياء، تقع الأشياء في فئة الأشياء الحمراء لأنها متشابهة في ناحيةٍ ما. ومن الصعب فهم الحديث عن «نَواحٍ» هنا دون اعتبارها تشير إلى خواص الأشياء، الطرائق التي هي عليها. فإذا كان القصد من إدخال فئات الأشياء، إذن، أن نبين أن بوسعنا الاستغناء عن الخواص كطرائق تكون عليها الأشياء، فإن الخطة فيما يبدو تلجأ إلى نفس الأشياء التي صُمِّمَت لكي تُقصيها.
وسببٌ ثانٍ للشك بأن الخواصَّ أكثرُ من مجردِ فئاتِ الأشياء هو بالضبط أن من الصعب أن نرى ماذا عساه أن يكون أساس عضوية الفئة إن لم يكن خواصَّ مشتركة. وبتعبير أبسط، تنتمي الأشياء إلى فئة الأشياء الحمراء لأنها حمراء، وليست هي حمراء لأنها تنتمي إلى فئة الأشياء الحمراء.
لستُ أتخيل أن مناوئًا عنيدًا للخواص سوف يتأثر كثيرًا بهذه الملاحظات، فنحن في مجال من الفلسفة لا يُعقَل فيه أن نتوقع حججًا قاضية. وقصارَى ما يمكن أن نأمل فيه هو وصفٌ للأمور ينسجم مع تقييمنا الإجمالي لكيف تقوم الأشياء. في هذا السياق يَجمُل بنا أن نُذَكِّر أنفسَنا بنقطةٍ بسيطة. تأمل الجملتين التاليتين:
-
(١)
الكرة مستديرة.
-
(٢)
الكرة حمراء.
ولنفترضْ أن هاتين الجملتين تَصدُقان على كرة بلياردو معينة. إنه لَيبدو بادئَ الرأي أن ثمة شيئًا ما عن الكرة بِفضلِه يَصدُق أن نقول عنها إنها مستديرة، وشيئًا ما آخر عن الكرة بفضلِه يَصدُق أن نقول عنها إنها حمراء. ونحن في حديثنا عن «شيء ما عن الكرة» نتحدث، أو بالتأكيد نبدو أننا نتحدث، عن طريقةٍ تكون عليها الكرة. وهذا بالضبط أن نتحدث عما كنتُ حتى الآن أسميه «خاصة».
دعوني أَقُل كلمةً عن أمرٍ قد يؤَرِّق بعضَ القراء. لقد وصفتُ الخواصَّ على أنها طرائقُ تكون عليها الأشياء، وهذا يعطِي انطباعًا بأن الطرائقَ التي عليها الأشياء الفعلية الموجودة تستنفِد الخواص (جميعًا). إلا أن ثمة طرائق كان يمكن أن تكون عليها الأشياء ولكن ليس عليها شيء، أو، لأجل ذلك، لن يكون عليها شيءٌ أبدًا. فيمكن أن يكون ثمة نوعان من الجسيمات من صفتهما أنهما إذا ما اصطدما فسينتجان نوعًا ثالثًا من الجسيمات يمتلك خاصةً فريدة (وسوف أَعرِض حالةً من هذا النوع فيما يلي). قد يكون الأمرُ هكذا حتى إذا كان هذا التصادمُ لا يحدث أبدًا. وقد نضع ذلك بعبارة أخرى فنقول إن هناك طرائق يمكن أن تكون عليها الأشياء ولكن ليس عليها شيء (أو لن يكون عليها شيء أبدًا). بهذا التصوير قد تبدو الطرائق غامضةً، شَبَحِية. يمكننا تجنب الغموض بأن نسجل أن الطرائق الممكنة غير الفعلية مُصَوَّرةٌ سَلَفًا في الطرائق التي عليها الأشياء الفعلية. إن خواصَّ الأشياءِ الموجودة هي استعداداتٌ للمظاهر، هي («موجَّهة إلى» أو «مُقَيَّضة ﻟ») مظاهر — هي ذاتها خواص أو طرائق يمكن أن تكون عليها الأشياء — لا يلزمها أن تحدث أبدًا. هذا «الاستعداد» الداخلي (الباطني) للخواص الفعلية يَمنح أساسًا للدعاوي المتعلقة بالطرائق الممكنة غير الفعلية.
الطبيعة المزدوجة للخواص
وأنا هنا أُفرِط في التبسيط، في محاولةٍ لكي أُبقِي على الأمور واضحةً ومحدَّدة. تَنتُج كيفيات ونزوعيات أي شيء معين، على الأقل، من الخواص التي يمتلكها، والعلاقات التي تحملها هذه الخواص بعضها ببعض. فاستعداد الكرة للتدحرج، مثلًا، يعتمد على كونها كروية وكونها صلبة، معًا في آن. تسهم كل خاصة بطريقة محددة في كيفيات واستعدادات الأشياء التي تمتلكها. (وأنا أَبْسُط النقاش في جانبٍ آخر أيضًا. فطوال هذا الفصل سوف أورِد ملامحَ مألوفةً للأشياء كأمثلةٍ للخواص، الحمرة والكروية مثلًا. وأنا أشك لأسبابٍ متعددة أن الحمرة أو الكروية هي خاصةٌ أصيلة، غير أنهما تسعفان جيدًا كإيضاحات، ولهما ميزةُ تحصينِ النقاش من أن يصبح مجردًا بشكلٍ موئِس. وعلى أية حال، فاستخدامي لهذين المثالين لا يؤَثِّر على الحجة المركزية لهذا الفصل.)
وتحت افتراض أن الاستعدادات والكيفيات مرتبطةٌ بأنواعٍ محدَّدة من الخواص، تَحَرَّك الفلاسفة لتقديم نظريات مختلفة. ذهب البعضُ إلى أن النوعين من الخواص متمايزان على نحو لا يقبل الرد. على أن البعض الآخر — إذ لَحَظَ أن الخاصة التي لا تُضفِي على ممتلكِها قوًى عِلِّيَّةً أو استعدادات على الإطلاق، لا يمكن أن تُحدِث فارقًا البتة في العالَم — ارتابَ في وجودِ خواصَّ مقوليةٍ غيرِ نزوعية. مثلُ هذه الخواص قَمِينةٌ مثلًا أن تكون غيرَ قابلة للاكتشاف على أساس أن اكتشافنا لخاصيةٍ ما يستلزم تأثرَنا العِلِّي بها بطريقة أو بأخرى. وفضلًا عن ذلك، كما يبين هؤلاء الفلاسفة، فإن الأمثلةَ المعتادة على الخواص المقولية المزعومة هي أمثلةٌ غير مُقنِعة. خذ مثلًا الحُمرة أو الدفء. من المؤكد أن كونَ شيءٍ ما أحمرَ هو ما يجعل لديه استعدادًا لأن يعكس الضوءَ بطريقةٍ معينة، وأن كون شيءٍ ما دافئًا يجعل به استعدادًا لأن يؤثر على الهواء المحيط به تأثيرًا فارقًا. وعندما نتأمل الخواص التي تنسبها العلومُ للأشياء، تبدو هذه الخواصُّ نزوعيةً بلا استثناء؛ امتلاك كتلة، مثلًا، أو امتلاك شحنة سالبة، يتميز حصريًّا بالإحالة إلى الطرائق التي يؤثر فيها امتلاكُ هذه الخواص على سلوك ممتلكيها. إن اعتباراتٍ من هذا الصنفِ قد أقنَعَت بعضَ الفلاسفةِ أن كل خاصةٍ أصيلةٍ هي خاصةٌ نزوعية.
ليس من اليسير أن تعرف ماذا تعمل بهذا الاقتراح؛ ذلك أن من الصعب أن ترى، مثلًا، ماذا عساه أن يكون امتلاكُ شيءٍ ما لخاصةٍ معطاةٍ من الدرجة الثانية أكثر من امتلاكِه لخاصته «المؤسِّسة» من الدرجة الأولى. افترِضْ، مثلًا، أن الهشاشة خاصةٌ من الدرجة الثانية تمتلكها هذه الزهرية بفضل امتلاكها لخاصةٍ معينة من الدرجة الأولى، بِنيةٍ معينةٍ ربما. فبأي معنًى بالضبط تمتلك الزهريةُ هنا خاصتين متمايزتين؛ خاصةً بنيوية غير نزوعية وخاصةً نزوعية؟ بأي معنًى إذن تكون بِنيةُ الزهرية غيرَ نزوعية؟ إن من المؤكد أن بِنيتَها الجزيئية هي نفسُها التي تؤهل الزهريةَ (تجعل لديها استعدادًا) لأن تعكس الضوءَ بطريقةٍ معينة، ولأن تكون صلبةً في درجات الحرارة المعتدلة، ولأن تُصدِر رنةً معينةً إذا نُقِرَت بملعقة، وأجلْ، لأن تنحطِمَ إذا ما ضربها شيءٌ صلب. إذا كان امتلاكُ بِنيةٍ معينة هو خاصة من الخواص، فإنه لَيبدو، إذن، خاصةً نزوعية، شأنه شأن أي خاصة أخرى يمكن أن يتخيلها المرء.
بالطبع قد يتبين أن كثيرًا من الأشياء ذات البِنيات الجزيئية المختلفة جدًّا، قد يتبين أنها هشة. ولكن هذا ينبغي ألا يحملنا على الشك في أن خاصةَ الهشاشة التي تمتلكها هذه الزهريةُ — هشاشة هذه الزهرية — هي خاصة من الدرجة الأولى للزهرية عادية تمامًا، ربما عين الخاصة التي كنا نشرحها؛ امتلاك بِنيةٍ معينة. وهذا ينسجم جيدًا مع الرأي الذي دعَوتُ إليه، وهو أن للخواص طبيعةً مزدوجة، فكلُ خاصة هي كيفيةٌ ونزوعيةٌ معًا في آن، كل خاصة تسهم بطريقةٍ مميزة في كيفيات واستعدادات الأشياء التي تمتلكها. ونحن لا نستطيع فصلَ هذه الطبائعِ إلا في الفكر، تمامًا مثلما نستطيع ذهنيًّا فصلَ مُثَلَّثِيةِ المثلث عن ثلاثيةِ أضلاعِه بتأمل إحداهما دون تأمل الأخرى.
على أية حال، فإن فكرة أن الملامح النزوعية للأشياء تتأسس في بنيتها، تبدو فاشلة. فالبنيات نفسها، كما قد رأينا، هي نزوعية وكيفية أيضًا. أهم من ذلك، أننا بقدر ما يمكننا تصور الأشياء البسيطة (التي لا أجزاء لها، وبالتالي لا بِنيةَ لها) فإننا يجب أن نتصورها على أنها تمتلك نزوعيات (استعداديات). إنها قادرة على فعل أكثر مما تفعله في الحقيقة، فإذا كان ثمة جسيمات أولية فإن هذه الجسيمات، إذن، قادرة بالتأكيد على تفاعلات لا نهاية لها تتعدى تلك التي تشترك فيها بالفعل. إن كل شيء لَيُشير إلى أن النزوعية هي ملمحٌ أساسيٌّ لعالَمِنا.
اتَّخَذَ الجدلُ حول ما إذا كانت الخواصُّ نزوعيةً أم مقولية؛ اتخذ الشكلَ التالي. يبين الطرفُ الأول أن تَصَوُّرَ خاصةٍ غير نزوعية هو تصورُ خاصةٍ ليس لها أن تُحدِث فارقًا لمُمتَلِكِها، ويخلصون من ذلك إلى أن الخاصة الأصيلة لا تكون مقولية (أي لا تكون، وفقًا لِمُعجمي الخاص، كيفية). ويركز الطرفُ المقابلُ على رَوَغان النزوعية (الاستعدادية) الخالصة، ويخلصون إلى أن الخاصة الحقيقية لا تكون نزوعية.
ربما تكون حججُ كلا الطرفين صحيحة في جانب وخاطئة في جانب آخر. ربما تكون المشكلة هي استخلاص نتائج غير ملائمة لا أكثر. افترِضْ أن كل خاصة هي نزوعية. إنه لا يترتب على هذا أن لا خاصةَ هي كيفية. وبالمثل، إذا كانت كل خاصة هي كيفية، فإنه لا يترتب على هذا أنه لا خاصة (أو لا خاصة أصيلة من الدرجة الأولى) هي نزوعية. لا واحدة من هاتين النتيجتين تترتب؛ ذلك لأن الحجتين اللتين وراءهما متَّسقتان مع الموقف المقدَّم هنا، وهو أن لكل خاصة طبيعةً مزدوجة، كل خاصة هي نزوعية وكيفية في آنٍ معًا.
قبل أن أمضِي قُدُمًا، أَوَدُّ أن أَلفِتَ الأنظار إلى طبيعية هذا التصور للخواص. تأملْ خاصةً مثل خاصة كون الشيء مربعًا. هذه الخاصةُ مثالٌ جيد لما جرَى اعتبارُه خواصَّ مقولية. وإنه لَحَقُّ اليقين أن صفةَ كونِ الشيء مربعًا تمنح ممتلكَها كيفيةً معينة، الكيفية التي نربطها بالتربيع. ولكن من الحق بنفس القدر أن كونَ الشيءِ مربعًا يُسبِغ على الأشياء قُوًى أو استعدادات معينة. من شأن السدادة المربعة أن تمر في ثقبٍ مربع وليس في ثقب مستدير (حيث قُطر الثقب يضاهي طول الضلع). ومن شأن الشيء المربع أن يكون له مجسٌّ مختلف عن الشيء الكروي. ومن الصعب ألا نستنتج أن كونَ الشيء مربعًا — التربيع — هو في الآن ذاتِه نزوعيٌّ وكيفي، وهو في هذا يشبه كل خاصة أخرى، أو هكذا أذهب.
النزوعية والعِلِّية
إذا كان علينا أن نأخذَ النزوعيةَ (الاستعدادية) مأخذَ الجِد، فلا بد إذن من أن نفرق بين الاستعدادات ومظاهرها. قد يكون استعدادٌ ما حقيقيًّا تمامًا، وحاضرًا بأَسره هنا والآن، ويَبقَى مع ذلك غيرَ ظاهر. فمن الممكن أن تكون الزهريةُ هشةً دون أن تنحطمَ أبدًا، وأن تكون مادةٌ ما قابلةً للذوبان دون أن تذوبَ أبدًا.
من طبيعة الاستعدادات أن تتطلب لِظهورِها استعدادًا متبادلًا مناسبًا يرافقها. فإذا كان الملحُ قابلًا للذوبان، فإن ذوبانَ هذه البلورةِ من الملح هو مظهرٌ متبادلٌ لذوبانيةِ الملح، ولكونِ الماء المحيط بها مُذِيبًا للملح. ورغم أن استعداديةَ خاصةٍ ما باطنةٌ فيها (داخلية)، فإن مظاهرَ هذه الاستعداديةِ قد تعتمدُ على وجودِ رفقةٍ من الاستعدادات المتبادَلة الملائمة. فمن الممكن للاستعدادية عينِها أن تُظهِر نفسَها على نحو مختلف وفقًا للرفقة المتبادلة. مثال ذلك أن ورقة عباد الشمس تتحول إلى اللون الوردي في الحامض، ولكن نفس الورقة تتحول إلى اللون الأزرق في القاعدة.
ثمة عنصرٌ آخر يلزم لتكملة الصورة. لقد قلتُ إن مظاهرَ معينةً لكثيرٍ من الاستعدادات تعتمد على وجودِ رفقةٍ من الاستعدادات المتبادلة الملائمة، غير أنها تعتمد على غياب رفقة الاستعدادات التي تَسُدُّ المظاهرَ المَعنِيَّة. مثال ذلك أن الملح يذوب في الماء، ولكن لا يذوب إذا كان هناك عنصرٌ مُثَبِّط، وأن التعرض لأشعة الشمس يؤدي إلى آفاتٍ جلدية، ولكن لا يؤدي إلى ذلك إذا استُخدِمَ واقٍ ملائمٌ من الشمس.
تتأسس الحقائقُ العِلِّية، في النهاية، في المظاهر المتبادلة لرفقةِ استعداداتٍ متبادلة. تأَمَّلْ تتابعًا عِلِّيًّا بسيطًا، مفتاحًا يفتح قفلًا. إن المعلولَ (النتيجة)، وهي انفتاحُ القفل، هو مظهرٌ متبادل لاستعداداتٍ يمتلكُها القفلُ والمفتاح. والعِلَّة نفسها، وهي دوران المفتاح، هي مظهرٌ متبادل لرفقةِ استعداداتٍ متبادلة تشمل المفتاحَ واليدَ الممسكةَ بالمفتاح.
تتطلب هذه الطريقةُ في النظر إلى المسألة أن نفرِّق بين العِلَل وبين الشروط الخلفية بطريقةٍ تبدو اعتباطية من الوجهة الميتافيزيقية. أما إذا نظرنا، في المقابل، إلى اشتعال عود الثقاب على أنه المظهر المتبادل لرفقة استعداداتٍ متبادلة تشمل السطح الذي يُحَك عليه العود، والأوكسجين المحيط والبنية الكيميائية لطرف العود، فإن بإمكاننا أن ننسب فضلًا متساويًا لكل من هذه العوامل المساهِمة.
ثمة مصدرٌ آخر ممكن للحَرَج بالنسبة للرأي السائد لِعِلِّية الحدث، تتعلق بالتوقيت النسبي للعِلَل والمعلولات. فالعِلة يجب أن تسبق معلولاتِها. ولكن، كما لاحظ هيوم، إذا كانت العِلةُ تسبق معلولَها، فسيكون ثمة فيما يبدو فجوةٌ زمنيةٌ أو حدٌّ زمني بين حدوثِ العِلة وبدايةِ حدوث المعلول. فقد ينتهي الحدثُ المسبِّبُ (أو المكوِّن الحَدَثي) قبل أن يبدأَ معلولُه. ولكن كيف لِحدثٍ انتهَى أن يؤثرَ في حدثٍ يجري الآن؟ أما إذا تصورنا، في المقابل، أن الحدثَ المسبِّب ومعلولَه متزامنان أو متداخلان، فسوف يبدو أن ذلك الشطرَ من الحدث المسبِّب الذي يجري بعد بداية حدوث المعلول لا يمكن أن يكون متضمَّنًا في حدوث المعلول. افترِضْ أنك تُسَبِّب تحركَ سيارتِك بأن تدفعها قُدُمًا، فهل أنت تدفع السيارةَ أولًا وعندئذٍ تتحرك السيارة؟ إن دفعَك السيارةَ وتحركَ السيارة متزامنان بشكلٍ واضح. بالطبع أنتَ تَهُمُّ بدفع السيارة قبل دفعها وقبل تحركِها، غير أن السيارة لا يحركها اعتزامُك دفعَها، بل يحركها دَفعُك.
ربما يبدو أن نقل موقع الاحتمال من التفاعلات العِلية (أو المظاهر النزوعية) إلى الخواص لم يُفِدنا بِشيء. لستُ واثقًا تمامًا. أنا أسلِّم أن تذبذب الخاصة هو ظاهرةٌ عجيبة، غير أنها أقل عجبًا عندي من فكرة أن الخواص عينها، وبنفس الرفقة النزوعية المتبادلة، تُمَظهِر نفسَها على نحوٍ مختلفٍ في المواقف المختلفة.
لقد آن أن نمضي قُدُمًا. ولستُ أتخيل أن هذه الملاحظات الموجزة تقدِّم أي شيء يبلغ مبلَغَ أمثلةٍ مضادة حاسمة للنظرة السائدة عن عِلِّية الحدث. أريد فقط أن أشير إلى أن البساطة الجذابة لهذا الرأي تستلزم منا أن نُعَقِّده بطرقٍ متعددة غير جذابة. ولهذه التعقيدات معناها التام داخل النموذج النزوعي. إلى هذا الحد، على الأقل، يبدو النموذج مبرَّرًا.
الأشياء المعقدة
يتكون العالَمُ، كما قد أشرتُ، من ترتيبٍ دينامي من الأشياء. قد تكون الأشياءُ بسيطةً أو معقدة. الأشياء المعقدة تمتلك أشياء كأجزاءٍ لها. والأشياءُ البسيطةُ لديها بِنيةٌ — الشيء البسيط هو شيءٌ ذو خواص — ولكن ليس لديها أجزاءٌ جوهرية.
هذه العبارة الأخيرة تتطلب إفاضة. افترضْ للحظةٍ أن الأشياء البسيطة هي شيءٌ ما أكثر من نقاطٍ مكانية-زمانية. رغم أن الشيء البسيط ليس مُشَيَّدًا من أشياء أخرى، فقد يكون له أجزاءٌ مكانية أو زمانية. الشيء البسيط، مثلًا، قد يكون له نصفٌ علوي ونصفٌ سفلي، وهذان النصفان قد يكون لهما أبعاد مكانية محددة. والشيء البسيط إذا دام خلال الزمن فإن بوسعنا، إذن، أن نتحدث عن أجزائه الزمانية مثلما أننا نتحدث عن أجزائه المكانية، فنتحدث مثلًا عن الشيء-في-الثلاثاء، ونفرق هذا عن الشيء-في-الأربعاء. غير أن الأجزاء المكانية والزمانية لشيءٍ ما ليست هي ذاتُها أشياء. فرغم أن كرةً ما لديها نصفان مكانيان، فالكرة لا يلزم أن تكون مشيَّدة من هذين النصفين بالطريقة التي يُشَيَّد بها قلمٌ رصاص من قضيبٍ خشبي يحيط بأسطوانة من الرصاص (أما الكرة المشيدة بِضَم نصفَي كرة فهذا أمرٌ آخر). وعندما أتحدث فيما يلي، ما لم أسجل إشعارًا آخر، عن أجزاء الأشياء، فلستُ أعني الأجزاء المكانية أو الزمانية، وإنما أعني الأجزاء الجوهرية، أي الأجزاء التي هي ذاتها أشياء.
تمتلك الأشياءُ المعقدةُ أشياء كأجزاءٍ لها. هذه الأجزاء قد تكون هي ذاتها معقدة. ولكن في النهاية نصل إلى أشياء بسيطة، تلك التي ليست مشيدة من أشياء متميزة. ولنقُلْ إن الأشياء المعقدة مشيَّدة من أشيائها المكوِّنة. كل شيء إذن مكوَّن من أشياء بسيطة، فهل ثمة ما هو أكثر من هذا بالنسبة للأشياء المعقدة؟ هذا ما قد ارتآه كثيرٌ من الفلاسفة.
تَصَوَّرْ تمثالًا والجسيمات التي تكوِّنه. (يجب أن يُذَكِّرك هذا المثالُ بالقارب ومجموعة الألواح التي تكوِّن القارب، والذي عرضنا له في الفصل الثاني.) هل التمثال مجرد مجموعة جسيمات؟ كلا فيما يبدو. فمجموعة الجسيمات قد تتغير، ويبقَى التمثال. قد نُصلِح التمثال ونستبدل جزءًا انكسرَ منه. عندما نفعل ذلك، فالنتيجة هي مجموعة جديدة من الجسيمات ولكنْ نفس التمثال. وأكثر دراميةً من هذا، يمكننا أن نحطم التمثال بسحقِه إلى تراب دون تحطيم لمجموعة الجسيمات. إن للتمثال ولمجموعة الجسيمات شروطَ بقاءٍ متمايزة، يمكن للتمثال أن يستمر في الوجود عندما لا تستمر مجموعةُ الجسيمات، ويمكن لمجموعة الجسيمات أن تبقَى عندما يكون التمثال منحطمًا.
ربما يمكننا أن نقول إن التمثال هو مجموعة الجسيمات وهي مرتبة بطريقةٍ معينة: إن التمثال هو الجسيمات + ترتيبها. فإذا سُحِقَ التمثالُ إلى تراب تبقَى الجسيماتُ ولكن يضيع ترتيبُها. ومع ذلك، يبدو كأن بالإمكان أن نستبدل الجسيمات ويبقى التمثالُ، ما دمنا نحافظ على الترتيب. أو قد نغير الترتيب فنعدِّل بذلك التمثالَ، ولكن لا نحطمه.
مثل هذه الاعتبارات أدت بالفلاسفة إلى الرأي القائل بأن التماثيل، وحقًّا الأشياء المعقدة بصفة عامة، متمايزة عن ترتيبات أجزائها المكوِّنة. صحيحٌ أنها في أي وقتٍ معين مشيَّدةٌ من مجموعة أجزائها، ولكن هذا يُثبِت فعلًا أن هويةَ الشيء أكثرُ من الأشياء التي تشَيِّده، والعلاقات التي تحملها هذه الأشياء بعضها ببعض. قد نتخيل، في حالة التمثال، شيئين متداخلين مكانيًّا؛ التمثال (متميزًا بشروط هويته عبر الزمن)، ومجموعة الجسيمات (متميزة بشروطٍ مختلفة تمامًا لهويتها عبر الزمن).
الصورة الحاصلة هي عالَمٌ مكوَّنٌ من «طبقات» من الأشياء والخواص. فقد نقول إن التمثال هو شيء من مستوًى أعلى، والجسيمات التي تشيِّد التمثال، وربما مجموعات معينة من هذه الجسيمات، هي أشياء على مستوًى أدنى. والآن يبدو أن من الممكن أن نفسر دور العلوم الخاصة — البيولوجيا مثلًا، أو علم الأرصاد، أو السيكولوجيا — تتناول مجالًا ما من الأشياء على مستوًى أعلى. العالَمُ إذن يتكون لا من أشياء، بل من تراتبٍ هرمي من الأشياء على مستوياتٍ متمايزة.
هذا التصورُ الطبقي للواقع مسلَّمٌ به على نطاقٍ واسع. وأنا أعتقد أنه تصورٌ مغلوط، فاللجوء إلى مستوياتٍ للواقع، تراتباتٍ أنطولوجية، تُفضِي إلى صورةٍ مشوَّهةٍ لكيف تقوم الأشياء، وإلى حشدٍ من الألغاز والأحاجي.
عندما نتأمل التمثالَ كمجموعةِ جسيماتٍ بهذا المعنى السمح، يكون أقرب كثيرًا إلى القبول أن نقول إن التمثال ليس أكثر من، ليس غير، هذه المجموعة فحسب من الجزيئات المرتبة على نحوٍ ملائم. ولكن هذا أيضًا قد لا يكون صوابًا تمامًا. بوسعنا أن نُحاجَّ بأن التماثيلَ هي مصنوعاتٌ تُنتِجها كائناتٌ ذكية لأسبابٍ معينة. إن مجموعة جسيمات مرتبة ترتيبًا ملائمًا «سقطت من السماء»، أو تخلَّفَت عن الفعل العشوائي للموج على بروزٍ صخري، لن تكون تمثالًا (رغم أنك بالطبع قد تظن خطأً أنها تمثال). التمثالُ إذن ليس مجردَ مجموعةِ جسيماتٍ مشكَّلة على نحوٍ ملائم. فَلِكَي تمثِّل مجموعةُ جسيماتٍ تمثالًا، يجب أن يكون لها الصنفُ الصحيحُ من التاريخ العِلِّي. وهذا التاريخُ يجب أن يتضمن كائناتٍ ذكيةً وحالاتها العقلية.
افترِض الآن أننا ندمج كل هذا في صورتنا، أي إننا نأخذ مجموعة الجسيمات (بالمعنى السمح للمجموعة)، ونضيف إليها لا العلاقات التي تحملها هذه الجسيمات بعضها ببعض فحسب، بل نضيف أيضًا العلاقات التي تحملها بجسيمات أخرى هي ذاتها أعضاء في مجموعات جسيمات. ستكون العلاقات معقدة حقًّا، ومن المحتمل جدًّا أن تتجاوز أي شيء يمكن أن يحيط به عقلٌ بشريٌّ مُتَناهٍ. وفضلًا عن ذلك، فإن اختيارنا لأن نطلق مصطلحَي «مجموعة» و«ترتيب ملائم» بمعنًى سمح، فإن إمكانات التنوع ستغدو بلا نهاية.
تَصَوَّرْ أن الله يَشرَع في خلق عالمٍ يحتوي على تماثيل. إن بوسعه أن يفعل ذلك بأن يخلق أشياء بسيطة ويضمن أنها تحمل العلاقات الصحيحة بعضها ببعض. وخَلْق تمثالٍ واحد يمكن أيضًا أن يتطلب خلقَ ترتيبٍ دينامي لِأشياء بسيطة تمتد على الزمن، وتأخذ منطقةً مكانية كبيرة. فإذا كان تمثالٌ يتطلب وجودَ كائناتٍ ذكية لها أفكارٌ معينة، فإن مجموعات أخرى من الأشياء البسيطة ذات علاقات مكانية وزمانية ممتدة بالمثل سوف يتعين أن تُضَم أيضًا.
ثمة نقطةٌ أخيرة جديرة بالذكر. إن مثال التمثال والجسيمات التي تشيِّده لَيستحثُّ فكرةَ أن العالمَ مُحَبَّبٌ (مُبَلَّر): الأشياءُ المعقدة هي تجمعاتٌ من أشياء بسيطة هي ذاتُها جسيمية. ورغم أني أقبل هذا كاحتمال، فليس هذا هو الاحتمال الوحيد، وإذا كانت الفيزياء مما يُصَدَّق، فليس هذا حتى باحتمالٍ مرجَّح. تخيَّلْ للحظةٍ أن الأشياءَ البسيطة مناطقُ مكانية-زمانية هي ذاتها تمتلك خواصَّ معينة. مثلُ هذه الأشياءِ ليست شبيهةً بالجسيم وإن كنا نَخبُرُها على أنها كذلك.
لستُ أظن أن هذا ينال أيَّ شيء قلتُه حتى الآن. لقد تحدثتُ عن التماثيل وجسيماتها المكوِّنة، ولكن هذا قد يُعَد طريقةً لا أكثر للحديث عن ترتيباتٍ مهولةِ التعقيد من الاضطرابات في المكان-الزمان. وكيفما كان الأمر، فالعالم من شأنه أن هذه الاضطرابات ليست أمورًا منعزلة، فهي تميل إلى التكتل بطرائق معينة. هذا التكتل يُفضِي إلى ما نَصِفُه (على نحوٍ صحيح في اعتقادي) كتماثيلَ وجسيماتٍ مشيِّدة لها.
ورغم أني أظل، من الجهة الرسمية، لاأدرِيًّا تجاه السؤال عما إذا كانت الأشياءُ جوهريًّا جسيماتٍ أو حقولًا أو غير ذلك — فليس هذا، بعد كل شيء، بسؤالٍ يَبُتُّ فيه الفيلسوف — فسوف أظل أعامل الأشياءَ على أنها «مُتَّصَلات» تضطرب في المكان وتدوم عبر الزمن. وهذه مسألةُ لِياقةٍ لغويةٍ بحتة. إنني أفترض أن صانعات الصدق بالنسبة للدعاوي عن الأشياء قد يتبيَّن أنها شيءٌ لا ينسجم مع تصورنا الاعتيادي للأشياء ككياناتٍ متحركة مستديمة مكتفية بذاتها.
الانبثاق emergence
هذه الصورةُ التركيبية مقصودٌ بها أن تَسرِي على الخواص وعلى الأشياء أيضًا. الخواصُّ المعقدة هي خواصُّ الأشياء المعقدة (وليس يعني ذلك إنكارَ أن الأشياء المعقدة قد يكون لها خاصةٌ بسيطة. وكما لاحظنا سابقًا، فإن الشيء الكروي قد يكون بسيطًا أو معقدًا). الخاصة المعقدة ليست شيئًا أعلى وفوق خواص أشياء مكوِّنة لشيءٍ معقد مرتَّبة على النحو الذي هي عليه.
تحملنا الصورةُ المركبة على أن نفرق بين خواص معقدة ليست أكثر من تضام (قد يكون جديدًا) لخواص بسيطة، وبين خواص بسيطة انبثاقية حقًّا. وإمكان الخواص الانبثاقية البسيطة مكتوب في (أي: باطن في) الخواص التي تعمل كحاملاتٍ لانبثاقها. هذه الإمكانات تتضمن إمكان خواص معقدة غير انبثاقية، وإمكان خواص انبثاقية بسيطة غير معقدة.
الطبقات الأنطولوجية
هل تصطدم الأنطولوجيا التي أدعو إليها مع الخبرة اليومية أو مع مأخذنا المعتاد للواقع؟ كلا على الإطلاق. إنما تصطدم بالتأكيد مع لازمة فلسفية رائجة، مفادها أن العالم طبقي؛ العالم يشتمل على مستويات من الأشياء والخواص. هذه المستويات هي افتراضات فلسفية أُدخِلَت كمكوِّناتٍ لنظريات فلسفية. مثل هذه النظريات صُمِّمَت في الأغلب لكي تعلِّل لخبرتنا اليومية. غير أني في رفضي لافتراضٍ فلسفي وللنظرية التي هو مطمور فيها لا أوصي بأن تولي ظهرَك للخبرة اليومية. إنني، على العكس، أقدِّم وصفًا لأساس تلك الخبرة منافسًا لهذا الوصف، وصفًا ينسجم أيضًا، لحسن الحظ، مع ما تُنبِئنا به العلومُ عن عالمنا.
سيتطلب تقييم هذه المقاربة انعطافة خلال فلسفة اللغة.
المحمولات والخواص
الخواص كما قد بَيَّنتُ هي ملامح عيانية للعالَم؛ طرائق معينة تكون عليها الأشياء. هذه المظاهر علينا أن نميز بينها وبين تمييزاتنا لها. نحن نميز بين خاصة الكروية، أي كون الشيء كرويًّا، وبين المحمول «يكون كرويًّا»، وهو تعبير لغوي دورُه أن يسمِّي أو يُلَقِّب الخاصة. هل كل خاصة لديها تلقيبٌ لغويٌ (تسمية لغوية)؟ يبدو ذلك بعيد الاحتمال. فنحن كلما تعلَّمنا المزيدَ عن عالمنا كشفنا الغطاءَ عن خواص جديدة لَمَّا تزل غيرَ مسمَّاة. المختبراتُ ومُعَجِّلاتُ الجسيمات مصمَّمةٌ لكي تُيَسِّر خلقَ خواصَّ جديدة، خواصَّ لم تُصادَف من قبل. عندما يحدث هذا فنحن نُضطَر إلى ابتكارِ اسمٍ جديدٍ، أو اختراعِ محمولٍ وصفي.
هذا شيءٌ يبدو واضحًا جدًّا. أما الأقل وضوحًا فهو هل كلُّ محمول يُلَقِّب (يُسمِّي) خاصة؟ واعلَمْ أن بعض المحمولات يبدو بوضوح أنه لا يسمِّي شيئًا على الإطلاق، فالمحمول «هو شافٍ لنزلات البرد»، رغم أنه ذو معنًى تمامًا، لا يُسَمِّي خاصةً يمتلكها أيُّ شيء. فهل يعني ذلك أنه لا يُسمِّي خاصة؟ ربما، ما لم يُقِر المرءُ بوجود خواصَّ لا أمثلةَ (شواهد) لها.
ثمة محمولاتٌ أخرى تمثِّل تحدياتٍ مختلفة. تأمل المحمول «هو جيد». ثمة خلاف كبير فيما إذا كان هذا المحمولُ يسمِّي خاصةً من خواص الأشياء، أم هو يشير فحسب إلى تَقَبُّلِ المتحدِّثِ للأشياء. عندما تخبرني أن الكرنب المسوَّق جيد، فهل أنت تقول إن الكرنب المسوق، بالإضافة إلى كونه ورقيًّا وأخضرَ وحِرِّيفًا، يمتلك خاصةَ أنه جيد؟ أم تُراكَ توصي بأكل الكرنب المسوق (ربما لأنه ورقي وأخضر وحريف)؟ ليس علينا أن نحاول الإجابة عن هذا السؤال هنا، وبحسبِنا أن ندرك أن مسألة ما إذا كان المحمول «هو جيد» يسمِّي خاصةً حقيقية هي أمرٌ خلافي على أقل تقدير.
وماذا عن محمولٍ مثل «هو صخرة»؟ هل هذا المحمول يسمِّي خاصةً تمتلكها أشياء، تلك التي تتصف بأنها صخور؟ ثمة صخور بغير أدنى شك. ولكنْ هل ثمة خاصة، خاصة كَونِ الشيءِ صخرة، تمتلكها أشياء معينة، وبفضلها يكون من الحق أن هذه الأشياء هي صخور؟ قد يَبدَهُك هذا كسؤالٍ غريب، ولكن اصبرْ معي؛ فربما نستطيع أن نُبصِرَ طريقَنا خلال دَغلٍ فلسفي واحدٍ على الأقل، ونبدأ معًا في استخلاص بعض الدروس الخاصة بهذا الفصل.
الخواص، والواقعية، وضد الواقعية
أحيانًا ما يُحاجُّ الفلاسفةُ كما يلي:
-
(أ)
خُذ محمولًا، «م». إما أن «م» يُسَمِّي خاصةً وإما أنه لا يُسَمِّي. فإذا كان «م» يسمِّي خاصةً، إذن فأن تقول بأن شيئًا ما، أ، هو م، هو أن تقول شيئًا ما صادقًا (إذا كان أ لديه م)، أو كاذبًا (إذا كان أ خِلوًا من م). ونحن نكون واقعيين realists عن م ما دمنا نَعُد «م» تُعَبِّر عن خاصة، وإلا فنحن ضد الواقعية antirealists فيما يخص م.
كل هذا حسنٌ وجميل، ولكن ماذا تُرانا نقول عن الأطروحة «أ»؟ اقتراحي الخاص هو أن «أ» تسيء تعيين الواقعية. ينبع سوء التعيين هذا من التهاون في التمييز بين المحمولات والخواص. ومن نتائج الولاء الضمني للأطروحة «أ» أو شيء شبيه ﺑ «أ» هو أن تُقَدَّم الأنطولوجيا المعروضة في هذا الفصل، دون وجه حق، في ضوءٍ غير جاذب.
لا تقلْ: طبعًا! إذا لم يكن المحمول يلقِّب خاصةً، إذن فسيكون من الكذب أن الأشياء تَفِي به، ولكن هذا باطل، فمن المؤكد أن هناك أحجارًا! لا يَعدو هذا أن يكون إعادةَ توكيد للأطروحة «أ».
دَعنا ننظرْ باختصار في الخواص. إذا اعتَبَرتَ الخواص — ضد نُصحِي — كليات، إذن فكل شيء يمتلك هذه الخاصة يجب أن يكون، في جانبٍ ما، متماهيًا مع — أو على أقل تقدير مشابهًا ﻟ — كل شيء آخر يمتلكها. إذا كنتَ تتفق معي في أن الخاصة هي طريقة يكون عليها الشيء، إذن فسوف توافق على أن المعنى الذي «يشارك» به شيئان في خاصةٍ ما، أي المعنى الذي به يمتلكان «نفس» الخاصة، هو أن الشيئين متشابهان بالضبط في جانبٍ ما. فرغم أن كروية كرة البلياردو هذه متمايزة إحصائيًّا عن كروية كرة بلياردو أخرى، فإن كروية الكرتين متماثلةٌ تمامًا. ولا شيء في هذا يتضمن أنه إذا كانت الكرويةُ خاصةً فلا بد أن يكون كلُّ شيءٍ كرويٍّ مشابهًا تمامًا لكل شيء كروي آخر، بل يتضمن أن كل شيء كروي لا بد أن يكون مشابهًا لكل شيء كروي آخر في جانبٍ ما.
في حالة الكروية، يبدو واضحًا أن هذا الشرط مستوفًى في أحيانٍ كثيرة، فكثيرٌ من الأشياء المختلفة، كثيرٌ من الأنواع المختلفة من الأشياء، متماهية (أو متشابهة تمامًا) من ناحية كرويتها. (إذا كنتَ غيرَ مطمئنٍ إلى إمكان أن يكون شيئان متماثلين تمامًا من ناحية كرويتهما، فاستبدِل بالكروية كتلةَ إلكترون. إنما أستخدم المثالَ لِتوضيح الفكرةِ لا لِإثباتِها.) وماذا عن كون الشيء حجرًا؟ مرةً ثانيةً، هناك كثير من الأشياء المختلفة، كثير من أنواع الأشياء، تَفِي بالمحمول «يكون حجرًا». ولكن هل تشارك هذه الأشياءُ في خاصةٍ واحدة، هل تتماهَى (أو تتماثل تمامًا) في ناحيةٍ ما؟ افترِضْ (كما أرجِّح أنا) أنها لا تتماهَى، فهل يتعين علينا أن نستنتج أن الأحجار لا وجود لها؟ هل يتعين علينا أن نكون مضادين للواقعية فيما يتعلق بالأحجار؟
كلا، ما لم نكن متشبِّثين بالأطروحة «أ». فالمحمول «يكون حجرًا»، شأنه شأن معظم المحمولات، مقصودٌ به أن ينطبق على السواء على قطاعٍ عريضٍ من أشياء ذات نطاقٍ عريضٍ من الخواص المعقدة. وهو يفعل ذلك لا لأن هذه الأشياء متماهية (أو متشابهة تمامًا) في جانبٍ ما، بل لأن الأشياء متشابهة بما يكفي. إلى أي مدًى يجب أن تتشابه الأشياءُ لكي تَفِي بمحمولٍ ما؟ ذلك شيءٌ يتوقف على المحمول، شيءٌ نتعلمه عندما نتعلم أن نطبق محمولاتٍ معينةً على الأشياء.
لا أعتقد أن ثمة أي شيء جديد أو مروِّع في هذه الفكرة. لقد دَفَعَ بها كثيرٌ من شتى الفلاسفة في شتى الأزمنة. غير أن فتجنشتين هو المثال الحديث الأشهر لفيلسوفٍ عزفَ على هذا الوتر. ولكني لا أعتقد أن الفكرة تتضمن الكثير على غرار الفلسفة الحقيقية؛ فكل مستخدِم للغة يَعِيها على نحوٍ مباشرٍ تمامًا.
أعترفُ أني ما عنيتُ بكل هذا سوى أن نأخذ الخواصَّ مأخذَ الجِد. إذا فعلنا ذلك، فلا بد أن نسلِّم بأن من المستبعَد أن يمكننا أن نمحو الخواص من المحمولات التي تشتمل عليها اللغة العادية. كما أن عليك، ما لم تكن تَعُد الأطروحة «أ» منيعةً صعبة المَنال، أن تكون مرحبًا بأن المحمولات لا يلزمها أن تسمِّي خواص لكي تَصدُق على الأشياء، ولكي تَصدُق حقًّا على تلك الأشياء بفضل الخواص التي تمتلكها.
أرى إلى هذا الخط من الاستدلال كامتدادٍ طبيعي للخط الذي اتخذناه سابقًا عن الأشياء. بِوُسعِنا أن نسمح بأن توجَد التماثيل (بوسعنا أن نكون واقعيين بصدد التماثيل) دون افتراض أن «كون الشيء تمثالًا» يسمِّي خاصةً مفردةً تشترك فيها جميع التماثيل. ينسجم هذا بسلاسةٍ مع الصورة التركيبية. التمثال ليس أكثر من مجموعة من الأشياء الأبسط التي تحمل علاقاتٍ ملائمةً بعضها ببعض وبمجموعاتٍ أخرى من الأشياء. هذا لا يهدد وضع الأشياء المعتادة كالتماثيل، ولا أحد، في اعتقادي، يتخيل، ما لم يكن فيلسوفًا، أن يهددها.
تطبيق هذه الوجهة من الرأي
يتضمن العالمُ أشياء بسيطة تقف في علاقات لا نهاية لها ببعضها البعض. والأشياء البسيطة، رغم خلوِّها من الأجزاء، تُبدِي بِنيةً. بوسعنا أن نعتبر الشيءَ كحاملٍ للخواص هو نفسُه غيرُ محمول، وبوسعنا أيضًا أن نعتبر الشيءَ بالنظر إلى خواصه، أي الطرائق التي هو عليها. الأشياء المعقدة مُشَيَّدة (ربما ديناميًّا) من مجموعات من الأشياء البسيطة. تمتلك الأشياءُ المعقدة خواصَّ معقدة، أيْ خواصَّ تتشكل تمامًا بواسطة خواص المكوِّنات البسيطة للشيء مُرَتَّبة على ما هي عليه. والأشياء المتمايزة «تتشارك» في خاصةٍ ما عندما تكون هناك طريقةٌ ما تتشابه فيها بدقة.
ليس عليك أن تتفق مع تفاصيل هذا المخطَّط لكي تدرك الدروس التي آمل الآن أن أستخلصها منه بالنسبة لفلسفة العقل، فقد يتطلب الدفاعُ الوافي عن تلك التفاصيل استطرادًا ممتدًّا في شوطٍ ميتافيزيقي عَسِرٍ لا يلائم سِفرًا من هذا النوع. ويمكن أن يُقال هذا في معظم ما يلي، غير أن مَقصِدي ليس تقديمَ براهينَ قاضيةٍ، بل مقصدي فحسب أن أوضح الفوائدَ المستمَدة من أنطولوجيا شاملة بالنسبة لتلك الأنواع من المسائل في فلسفة العقل التي شغلتنا طوال الفصول السابقة.
تعددية التحقيق
تُعَد خاصةٌ ما، س، متعددةَ التحقيقِ إذا كان شيءٌ ما، أ، لديه الخاصةُ س يعتمدُ على — ويتحددُ ﺑ — امتلاكِه خاصةً ما، ص، من فئةٍ (ربما مفتوحة قابلة للتعديل) من الخواص، ع. إذا امتلك شيءٌ ما واحدةً من أعضاء ع فإنه يحقِّق س.
لستُ أُقِيم وزنًا كبيرًا لتفصيلاتِ هذا التصوير، وبحسبي أن أقول إنه عندما تكون خاصةٌ ما متعددةَ التحقيق، فإن الأشياء التي تمتلك هذه الخاصة تمتلك أيضًا الخاصة التي تحققها. هذه في اعتقادي هي السمةُ المركزية لفكرة تعددية التحقيق كما يتصورها معظمُ الفلاسفة.
لِنَزعُمْ أن التأَلُّم هو خاصة متعددة التحقيق. إنها خاصة تمتلكها، كما نفترض، كثيرٌ من الأنواع الشديدة الاختلاف من المخلوقات. إذا كانت الخاصةُ متعددةَ التحقيق، إذن فإن كل كائن يمتلكها يفعل ذلك بفضلِ امتلاكِ خاصةٍ محقِّقةٍ أخرى متمايزةٍ عنها. هذه الخاصة الأخيرة تحقِّق الألمَ في ذلك الكائن. والفكرة المرشِدة هنا هي أن خاصةً مثل التألم لديها محقِّقاتٌ متباينة ولا نهاية لها. فالخاصةُ النيورولوجية التي تحقِّق ألمَك تَجِب تفرقتُها عن الخاصة النيورولوجية المختلفة جدًّا التي تحقِّق الألم في الأخطبوط. وإذا كان سكان ألفا سنتوريا يَخبُرون الألمَ، وكان لديهم أجهزةٌ عصبية تقوم على السليكون، فثمة إذن خاصةٌ ما مختلفةٌ تمامًا تحقِّق الألمَ عند سكان ألفا سنتوريا.
افترضْ، أولًا، أنني على صواب في أن الخواص تمنح الأشياءَ التي تمتلكها استعداداتٍ معينةً وخصائصَ كيفية، أن الشيءَ لديه الاستعداداتُ (أو القُوَى العِلِّية) والكيفياتُ التي لديه بفضل الخواص التي يمتلكها. كما أن كل خاصة تسهم إسهامًا محددًا في استعدادية وكيفية الأشياء التي تنتسب إليها. هذا الافتراض ينسجم مع تصور الخواص المقدَّم في القسم الأول من هذا الفصل (وينسجم أيضًا مع تصورات أخرى كثيرة للخواص). تَخَيَّل الآن أن التأَلُّم يتحقق فيك بواسطة امتلاكِك هيئةً نيورولوجية معقدةً معينة. عندما نتأمل شبكتَك السلكية يبدو كأن هذه الهيئة النيورولوجية — المحقِّق المفترَض للألم — وليس الألم نفسه، هي التي تُحدِث التغيراتِ الجسميةَ التي نربطها بالألم.
ربما ترى هذه الفكرةَ الأخيرةَ محيِّرة. إذا كانت خاصةٌ ما تحقِّق خاصةَ التألُّم، فلماذا إذن لا نقول إن الألم يمكن أن يتماهى مع محقِّقِه؟ إذا كانت الخاصةُ المحقِّقةُ تصنع إسهامًا عِلِّيًّا، إذن فكذلك تفعل الخاصة المتحقِّقة، خاصة التأَلُّم. المشكلة (أو إحدى المشكلات بالأحرى) في هذا الاقتراح هو أن أنصار تعددية التحقيق يرَون من الضروري التفرقة بين خواص المستوى الأعلى المتحقِّقة وبين محقِّقاتها من المستوى الأدنى. هكذا عندما تُحقَّق خاصةُ مستوًى أعلى بواسطة خاصةِ مستوًى أدنى، فإن كلتا الخاصتين يجب أن تكونا حاضرتين على نحوٍ ما. فالخاصةُ المتحقِّقة، أو مثالها، لا يمكن أن تمتصها الخاصةُ المحقِّقةُ أو مثالها.
هل الألمُ خاصةٌ؟
افترِضْ، إن شئتَ، أن المحمول «هو في ألم»، شأنه شأن المحمول «هو صخرة»، لا يُسَمِّي خاصةً من الخواص. إنه لَمِن الحق أن المحمول «هو في ألم» تستوفيه أشياء، وتستوفيه تلك الأشياءُ بفضل خواصها. إلا أن الخاصة التي بفضلها يستوفِي شيءٌ ما المحمول «هو في ألم» ليست خاصةً عامةً للتألم، فليس ثمة مثل هذه الخاصة.
آملُ أن أكون أوضحتُ بالقدر الكافي أنني لا أؤيد شكلًا من المذهب الحذفي (الاستبعادي) أو المذهب المضاد للواقعية بالنسبة للألم. لستُ أنكر أن الكائنات كثيرًا ما تكون في ألم. إنما الفكرةُ أن «هو في ألم» ينطبق على الكائنات التي تتشابه في جوانب بارزة معينة، تتشابه بحيث ينطبق عليها المحمول. تَنجُم هذه التشابهات من امتلاك الكائنات خواصَّ معينة، ولكن الخواص لا يلزم أن تكون واحدة في كل حالة، فالكائنات لا هي متماهية ولا هي متشابهة تمامًا في تلك الجوانب التي بفضلها يَصدُقُ عليها أنها تَستوفِي المحمول «هو في ألم».
هذه النتيجة فيما يبدو تقدم لنا بالضبط ما نبغي، فهي تسمح لنا أن نكون واقعيين بالنسبة للألم، ولكنها لا تُورِثنا هواجسَ بأن يكون الألمُ بلا قيمةٍ عِلِّية، أن يكون «ظاهرةً ثانوية». وفضلًا عن ذلك، فهي تستوعب فكرةَ أن ما يجعل كائنًا ما في ألم يمكن أن يتنوع تنوعًا واسعًا عبر الأنواع، أو حتى الأفراد. افترِضْ، للحظة، أن الألم هو، جزئيًّا على الأقل، تصوُّرٌ وظيفي، أي إن الكائن يستوفي المحمولَ «هو في ألم» جزئيًّا بفضل كونِه في حالةٍ تلعب نوعًا معينًا من الدور العِلِّي المعقد (ويمكن أن يكون الأمر كذلك حتى إذا كان للألم، كما أحسبه حتمًا، بُعدٌ كيفيٌّ ضروري). وكما يوضح الوظيفيون بلا كَلَل، فإن أنواعًا مختلفة عديدة من الحالات يمكن أن تلعب هذا الدور (وهذا واضح بصفة خاصة؛ لأن أي تحديد للدور سوف ينطوي بالضرورة على قدر من الغموض). يمكن إذن لأنواعٍ مختلفة جدًّا من الكائنات أن تكون في ألم، إلا أنها جميعًا في ألم لا لأنها تشارك (بأي معنًى من المعاني) في خاصةٍ ما — تلك الخاصة المزعوم أنها على مستوًى أعلى، خاصة «التأَلُّم» — بل لأنها متشابهة بطرائقَ ذاتِ صلة. والطرائقُ ذاتُ صلة لأنها تُعتَبَر كذلك من جانب مستخدِمي المحمول «هو في ألم». وتنجم تشابهاتُها من خواصَّ معقدةٍ، متمايزةٍ ولكن متشابهة، تمتلكها الكائناتُ المستوفية لهذا المحمول.
الألم كخاصةٍ من الدرجة الثانية
كما لاحظنا في الفصل الرابع، فإن عامة الوظيفيين يذهبون إلى أن الخواص العقلية، بفضل كونها خواصَّ وظيفيةً، فهي خواصُّ من الدرجة الثانية. التأَلُّم، وفقًا لهذا الرأي، هو خاصةٌ الدرجة الثانية بامتلاك خاصة معينة (خاصة كون الكائن في حالةٍ معينة) تشغل دورًا وظيفيًّا معينًا (وبتعبيرٍ آخر: الألم هو الوظيفة وليس شاغل الوظيفة). ورغم أن لديَّ شكوكًا خطيرة حول المذهب الوظيفي، فلنتخيَّلْ هذه اللحظةَ أن كل ما يلزم الكائنَ لكي يكون في ألم هو أن يمتلك تنظيمًا وظيفيًّا ملائمًا. فهل يترتب على ذلك أن التألمَ هو خاصةٌ من الدرجة الثانية؟
ليس من الواضح على الإطلاق ماذا يكون امتلاكُ شيءٍ ما وظيفةً من الدرجة الثانية عدا امتلاكه صفةً محقِّقةً ما من الدرجة الأولى. افترِضْ، مثلما كنا نفترض الآن، أن المحمول «هو في ألم» تستوفيه أشياء تمتلك نطاقًا من خواص متمايزة على أنها متشابهة، خواص متشابهة من حيث الاستعدادات التي تضفيها على حائزيها. ليس ثمة سببٌ واضح لأن نفترض خاصةً إضافية من الدرجة الثانية لكي تصاحب كلًّا من هذه الخواص المتنوعة من الدرجة الأولى، وثمة أسباب وجيهة لئلا نفترض ذلك. وإذا كان هناك عنصرٌ موحِّد من الدرجة الثانية في الصورة، فإنما يأتي به استخدامُنا للمحمول.
فإذا كنتُ على صوابٍ في هذا، فإن تعددية التحقيق، إذن، ليست كما جرَى العُرفُ عنها علاقةً بين خواص. إنها، ببساطة، ظاهرةُ محمولاتٍ تنطبق على أشياء بفضل خواصَّ (متمايزةٍ، وإن تكن على تشابهٍ ذي صلة) تمتلكها تلك الأشياء. ولعله شيءٌ يَصدُق على كثيرٍ من المحمولات التي نطلقها في حياتنا اليومية وفي مَسعانا العلمي.
وقد يعترِض شخصٌ ما بأن رأيًا من هذا القبيل يتطلب تصورًا متشددًا للخواص، فما الذي يمنع أنني عندما أكون في ألمٍ فإن ذلك يعود إلى امتلاكي خاصةً محدَّدة؟ قد تكون هذه خاصةً معقدة ولكنها تبقَى خاصة. وإذا كنا نُسَلِّم بهذا كثيرًا، فلماذا لا نسلِّم بأن الخاصة المَعنِيَّة هي خاصة التألُّم؟
يعتمد هذا الاستنتاج لا على تَصَوُّرٍ خارقٍ ما للخواص، بل فقط على عنصرٍ تُشارك فيه كثيرٌ من التصورات. وأنا أعتبر هذا نقطةً مهمةً في صالحه. ومهمٌّ بنفس القدر أنه لا يقوم على تَصَوُّرٍ للخواص مُفَصَّلٍ على مقاس دعوَى معينة في فلسفة العقل، بل على صورةٍ أنطولوجية مستقلة الدافع.
العِلِّيَّة وقوانين تَساوي البقية
مستويات الواقع مقابل مستويات الوصف
الزومبيات zombies
في تقييمنا للمذهب الوظيفي في الفصل الرابع، صادفنا الفكرةَ، الفلسفيةَ على التحديد، الخاصةَ بالزومبي. الزومبي، ربما تَذكُر، هو كائنٌ مثلك أو مثلي تمامًا من حيث التكوين الجسمي، ولكنه خِلوٌ من الخبرة الواعية. والزومبيات لا يمكن كشفُها (هكذا تمضِي القصة) لأن أجهزتها العصبية، فيزيائيًّا على الأقل، تشبه أجهزتَنا بالضبط. وسلوكها مِن ثَم يعكس سلوكَنا تمامًا. إذا جلس الزومبي على مسمارٍ فإن دوائرَه العصبيةَ تُستَحَث مثل دوائرِك بالضبط إذا ما جلستَ على مسمار، وبالتالي فهو يقفز إلى أعلى صارخًا. ما يفتقر إليه الزومبي هو أيُّ شعورٍ واعٍ بالألم.
لعلك تسأل كيف يمكن للزومبي ألا يلاحظ هذا النقص. حسن، يذهب الوظيفيون إلى أن الخواص العقلية هي خواص وظيفية. تمتلك الأشياء الخواص الوظيفية بفضل بِنيتِها النزوعية (الاستعدادية). وبِنيةُ الزومبي النزوعيةُ (كما نفترض) قائمةٌ، مثل بِنيتِك أو بِنيتي، في جهازه العصبي. الزومبي إذن سيسلك مثلما تسلك أو أسلك، ويعتقد ما تعتقد أو أعتقد. وسيَسخَر، مثلما أنت أو أنا حقيقٌ أن أسخر، من القول بأنه تنقصه الخبراتُ الواعية. ولأن الزومبي يعتقد أن لديه خبراتٍ واعيةً، فإن إنكارَه، رغم خطئه، مخلصٌ تمامًا.
لقد رأينا أن هناك بديلًا لهذا التصور للخواص. تَعرِض كلُّ خاصةٍ طبيعةً مزدوجة؛ فهي نزوعية (استعدادية) وكيفية معًا في آن. يَعنِي هذا أن كل خاصة تسهم بطريقةٍ مميزة في كيفيات وفي استعداديات ممتلكِها. هذه الإسهامات تنتمي إلى طبيعة الخاصة. إنه لَيكونُ مستحيلًا، مستحيلًا بكل معنى الكلمة، أن يكون ثمة عالَم يحتوي على نفس الخواص التي يحتوي عليها عالمُنا (وبلا زيادة)، ولكن يختلف من حيث القُوَى العِلِّية أو الكيفيات التي يمكن أن تمتلكها أشياؤُه.
افترِضْ أنني على حق، وأن كل خاصة تسهم بطريقةٍ متميزة في استعداديات ممتلكِها وكيفياته، وافترِضْ أن هذا متأصلٌ في طبيعة الخواص. وافترِضْ أيضًا أنكَ في الواقع شيءٌ معقد مركَّبٌ كليًّا من أشياءَ أبسط تحمل علاقاتٍ ملائمةً بعضها ببعض وبالأشياء الأخرى التي تكوِّن العالَم. إن خبراتك هي حالاتٌ وأحداثٌ تشمل هذا الشيءَ المعقد. هذه الحالاتُ والأحداثُ هي مظاهرُ وتجلياتٌ لاستعدادياتٍ مُنضبطةٍ بدقة، تعبيرات لطبيعتك النزوعية. ولكن لديك أيضًا طبيعة كيفية، طبيعة لا تقبل الانفصال (إلا في الفكر) عن استعداديتِك. إن خبراتك لديها الكيفيات التي لديها لا لأن هذه الكيفيات مثبَّتة فيها بقوانين طبيعية خصوصية، بل لأنها مُبَيَّتة في الخواص التي تشكِّل حياتَك العقلية. ما من شيء موجود إلَّا ولديه خواص؛ لذا فلا عجب أن تكون لحالات العقل خواص.
كيفيات الخبرة الواعية
رغم ذلك تبرُز الآن مشكلةٌ جديدة. فمن البَيِّن أن كيفيات الخبرات تختلف اختلافًا دراماتيكيًّا عن الكيفيات التي نكتشفها عندما نتفحص الأجهزة العصبية لأشخاصٍ واعين. فكيف لكيفياتِ الخبرةِ الواعية أن يتكشفَ أنها كيفياتُ الأدمغةِ والأحداث النيورولوجية؟
أنتَ تنظر إلى طماطمةٍ ناضجة في ضوء الشمس الساطع وتحوز نوعًا مميزًا من الخبرة الواعية. وثمة في نفس الوقت عالِمُ أعصابٍ يتفرَّس دماغَك، لكن عالِم الأعصاب لا يلاحظ أي شيء يماثل كيفيات خبرتك. لا تكشف ملاحظاتُ عالِم الأعصاب إلا كيفياتٍ نيورولوجيةً رماديةً إسفنجيةً متنوعة، غريبة تمامًا عن خبرتك. وفي الحقيقة لا يبدو أن كيفياتِ خبرتِك موجودةٌ في أي مكانٍ آخر، لا يبدو أنها تلك الضروبُ من الكيفية التي يمكن تَصَوُّرُ أنها تحدث خارجَ خبراتك، أو تصور أنها خبراتُ كائناتٍ واعية أخرى.
غير أن هذه الطريقةَ في صياغةِ المشكلةِ تقوم على خلط، خلطٍ قابلناه أول مرة في الفصل الثالث.
وكخطوةٍ تمهيدية، لِنَكُنْ واضحين في أن الكيفيات التي تهمنا هي كيفياتُ خبرتِك البصريةِ لطماطمةٍ وليست هي كيفيات الطماطم. ولا عجب البتة في أنه ليس ثمة شيءٌ أحمر ومستدير يحدث داخل دماغك عندما تنظر إلى طماطمة حمراء مستديرة. نعم أنت قمينٌ أن تصف خبرتك كخبرةٍ بشيءٍ أحمر مستدير، ولكن الأحمرَ المستديرَ هو الطماطمةُ وليس خبرتَك. لذا فإن أول تفرقة واجبة هنا هي التفرقة بين كيفيات الخبرات وكيفيات الأشياء المختَبَرة.
ثمة تفرقةٌ ثانية ترتبط بالأولى. عندما يقوم عالِمُ أعصابٍ بملاحظة دماغك (بصريًّا، لِنفترِضْ)، تَحدُث لِعالِم الأعصاب خبراتٌ معينةٌ ذاتُ كيفياتٍ داخلية معينة. وليس ثمة مبرِّر للاعتقاد بأن كيفيات هذه الخبرة ينبغي بأي شكلٍ أن تماثلَ كيفياتِ خبرتك بالطماطمة (وثمة في الحقيقة كل مبرر للاعتقاد بأنها ينبغي ألا تماثل تلك الكيفيات). افترِضْ أن خبرتك البصرية بالطماطمة تتشكل بواسطة حدثٍ معقدٍ في دماغك، وأن هذا الحدثَ يُلاحَظ من قِبَل عالِم الأعصاب. ليس ثمة إذن لغزٌ معين في واقعة أن خبرة عالِم الأعصاب تختلف كيفيًّا عن خبرتك.
رغم ذلك، فنحن نجد أنفسَنا الآن وجهًا لوجهٍ مع لغزٍ أعمق. إذ يبدو أن كيفياتِ خبراتِنا تختلف تمامًا عن كيفياتِ أيِّ شيء مادي يمكن تخيلُه. كيف يَسَعُنا إذن أن نُضمِر، جادين، فرضيةَ أن الذوات الواعية ليست أكثرَ من كومةٍ من الأشياء المادية، وأن الخبراتِ الواعيةَ ليست أكثرَ من مظاهرَ لاستعداداتٍ ماديةٍ معقدة؟
عندما تقرأ هذه الكلمات فأنت تَجري لك خبرةٌ بصرية معينة. فأنت تَخبُر بصريًّا الأحرفَ المطبوعة على هذه الصفحة (وربما أشياء كثيرة أخرى إلى جانبها). وَجِّه انتباهَكَ إلى كيفيات هذه الخبرات. إن هذا سيتطلب تحويلَ الانتباهِ من الكلماتِ في الصفحةِ إلى درايتِك بالكلمات في الصفحة. والكيفيات التي تقابلها وأنت تفعل ذلك ليست بالشيء الذي يمكنك وصفُه بسهولة؛ وذلك لا لأن هذه الكيفياتِ روَّاغةٌ أو غيرُ مألوفة، فهي أكثرُ الكيفيات إلفًا. فإذا بدت هذه صعبةً على الوصف، فإنما سببُ ذلك أنك تعلمتَ أن تُغفِلها، وأن تُعامِلَها كمؤشراتٍ شفافةٍ لكيفياتِ الأشياءِ المدرَكة. فوصفُك لها إذن يُحتمَل أن يأتي في إطارِ الأشياءِ التي هي موضوعُ خبرتِك، أَعنِي أن كيفياتِ خبرتِك البصرية الراهنة هي كيفياتٌ من الصنف الذي يكون لديك عندما تنظر إلى كتابٍ في ظروفٍ شبيهة بالظروف التي أنتَ فيها تنظر الآن إلى هذا الكتاب.
إن درايتَك البصريةَ بالمطبوع على هذه الصفحة هي مسألةُ امتلاكِك خبراتٍ ذاتَ كيفياتٍ معينة. ودراية عالِم الأعصاب البصرية، في نفس الوقت، للمجريات الحادثة في دماغك، هي مسألة امتلاكِ عالِم الأعصاب خبراتٍ ذاتَ كيفياتٍ معينة. الكيفيات في كل من الحالتين هي كيفياتُ أنشطةٍ نيورولوجية. تختلف الكيفياتُ التي تشكل وعيَ عالِم الأعصاب عن الكيفيات التي تشكل وعيَك، ليس ذلك لأنها تنتمي إلى نوعين متمايزين جذريًّا من الجوهر — كيفياتك تنتمي لجوهر عقلي، وكيفيات عالِم الأعصاب تنتمي لجوهر مادي — فكيفيات كلتا الخبرتين، على العكس، تنتمي إلى الأدمغة.
إنه لَيبدو إذن أن لدينا خطًّا مباشرًا إلى كيفياتٍ ماديةٍ ما، كيفيات أدمغتِنا. ويتضاءل اللغز (الذي يفترضه الفلاسفة الذين يعتبرون الكواليا كشيءٍ ملغز) الخاص بكيف يمكن أن تكون كيفياتُ الخبرات الواعية هي كيفيات الأشياء المادية. إذا كنا ماديين جادين، فمن الصعب إذن أن نرى كيف يمكن تَجَنُّبُ هذه النتيجة.
تُرانا انتهينا إلى لغزٍ عميق؟ تُرى الذي قلتُه يهدد بإثقالِ الفيزياء وعلمِ الأعصاب بنطاقٍ من الكيفيات غيرِ المتوقعة؟ كلا، على الإطلاق. إنما تُنصَح الفيزياء وعلم الأعصاب أن يتقدما في طريقهما مثلما يفعلان الآن بالضبط. فأنا، ببساطة، أبيِّن كيف يمكن للمجريات النيورولوجية أن تمتلك ضروبَ الكيفية المرتبطة بالخبرة الواعية. ولا تَنسَ أن أي عالِمِ أعصابٍ ينكر أن كيفياتِ الخبرة الواعية يمكن أن تكون كيفياتٍ نيورولوجيةً يجب أولًا أن يقنعنا أن هذا الإنكار ليس قائمًا على ذلك النوع من الخلطِ الذي ازدريناه سابقًا؛ الخلطِ بين كيفيات الأنواع المختلفة من الخبرة. فالخبرةُ البصرية بدماغٍ ستكون هي ذاتها مختلفةً كيفيًّا عن الخبرة البصرية بطماطمةٍ ناضجة. الخبرة التي تقع لعالِم أعصابٍ يلاحظ خبرتَك بطماطمةٍ ناضجة لا يتعين عليها أن تشبه، من قريب أو بعيد، خبرةَ عالمِ الأعصاب بطماطمةٍ ناضجة.
«المَنفَذ ذو الامتياز» privileged access
يمكننا إذن أن نستغني عن فكرة أن «الكواليا»، أي كيفيات الخبرة الواعية، هي أمرٌ مُربِك، أو أن هذه الأشياءَ هي صنيعةُ نظرياتٍ فلسفية عتيقة الزي يجب التخلص منها مع تلك النظريات، فمثل هذه الأفكار تأسست على أنطولوجيات لا تُمكن تزكيتُها.
غير أن أمامنا، بعدُ، مشكلة هائلة تتعلق بكيفيات الخبرة الواعية. فمن الواضح أن الخبرات تعتمد علينا في وجودها. إن خبرةً ما هي دائمًا خبرةُ شخصٍ واعٍ معين. كما أن الأشخاص واعون بخبراتهم (وكيفياتها) — بقدر ما يمكنهم أن يعوا بها — بطريقةٍ يبدو أنها لا تسمح بالخطأ. صحيح أنك يمكن أن تخطئ في وصف خبرةٍ ما أو في تسميتها، ولكن من الصعب أن ترى كيف يمكن أن تكون مخطئًا في خبراتك ذاتها، كيف يمكن مثلًا أن تَعُد نفسَك في ألمٍ على حين أنك لستَ في ألم. ووفقًا لتقليدٍ طويلٍ يشمل هيوم (ويشمل، في وقت أحدث، جون سيرل)، فحين يكون المَقامُ مقامَ خبراتِك الخاصة، فلا يمكن أن يكون ثمة تمييز بين المظهر والواقع؛ فالمظهر هو الواقع. ولكن إذا كانت الخبرات هي مجريات نيورولوجية، إذا كانت كيفيات خبراتنا هي كيفيات نيورولوجية، فكيف يمكننا إذن أن نشرع في تعليل العلاقة الوثيقة التي تربطنا بها بشكلٍ واضح؟
لقد رأينا (في الفصلين الثالث والرابع) أن من المهم أن نفرق بين حدوث عمليةٍ ما لشخصٍ أو كونه في حالةٍ ما، وبين ملاحظات حدوث العملية لذلك الشخص أو كونه في تلك الحالة. ولنُصغِ إلى مثالٍ سبق أن مر بنا في الفصل الثالث: إن إزالة ثلاجتك للصقيع على نحوٍ سلِس تختلف عن ملاحظتك لهذه الإزالة. بنفس القياس تمامًا، فإن حدوث ألمٍ لك هو أمرٌ يختلف تمامًا عن ملاحظتك لحدوث الألم. والآن، إذا كانت «ملاحظة ألمٍ ما مباشرةً» تتضمن امتلاك ذلك الألم، فلا عجب أنك أنت الوحيد الذي يمكنه أن «يلاحظ مباشرةً» آلامَك. وليس هذا بأكثر إلغازًا من فكرة أن ثلاجتي هي الوحيدة التي يمكنها أن تزيل صقيعَها.
لا شيءَ من هذا يتضمن استحالةَ أن نخطئ حول حالاتنا الحسية. فالخطأ، شأنه شأن الصدق، يفترض مسبقًا الحكم. وأحكامك التي تصدرها عن حالاتك الواعية تفترق عن تلك الحالات، وهذا يترك مُتَّسَعًا للخطأ.
تأملْ لحظةً في الخطأ الإدراكي الحسي المعتاد. ما أسهل أن تخطئ عصًا في طريقك على أنها ثعبان. فالعِصِيُّ، على أية حال، قد تبدو شبيهةً جدًّا بالثعابين. وقد يلعب التوقعُ دورًا هامًّا هنا. فأقرب إلى الاحتمال، ربما، أن ترى العصا ثعبانًا عندما تكون في موقف المراقِب للثعابين. ولكن ليس من السهل أن تخطئ عصًا على أنها كرة بلياردو، أو صقرًا على أنه منشار يدوي. ليس يعني ذلك أن مثل هذه الأخطاء مستحيلة، ولكن لكي نُضفِي معنًى عليها، سيكون علينا أن نروي روايةً معقدة. (قد نلجأ يأسًا إلى منتِج الخطأ، من جراب الفيلسوف، ذلك العالِم الشرير الذي يتدخل مباشرة في عقلك.)
أما عن حالاتك الحسية الخاصة، فمن السهل نسبيًّا أن ترى كيف يمكنك أن تخطئ في الحكم بأن حالة ما هي من صنف معين، بينما هي في الحقيقة من صنف مختلف وإن يكن مشابهًا. (هل ذلك الشعور في فم معدتِك هو جوعٌ أم غثيان؟ قد تجد الجواب في ذلك صعبًا.) وكما في حالات الخطأ الإدراكي الحسي المعتاد، فإن التوقع يمكن أن يضلِّلَك. وفضلًا عن ذلك، فالاضطراب العصبي، أو منوم مغناطيسي، أو عالِم شرير، قد يجعلك تخطئ على نحوٍ أكثر فحشًا، فتحكم أنك في ألمٍ على حين أنك لا تألَم، أو أنك لا تألَم في حين أنك تألَم.
وماذا عن الإجو — الأنا — الذات الخاصة بالخبرات؟ أين نضع الذوات وفقًا لِتصوُّرِي؟ في اعتقادي، ليس في أي شيء من مثل ملاحِظٍ أو متفرجٍ داخلي، كيانٍ يرقب المجريات الخبروية. أنت لا تلاحظُ خبراتك، أنت تَبلوها. أنت، فيما يبدو، مُشَيَّدٌ بهذه الخبرات.
الخيال العقلي
لماذا يشك أي شخص في حدوث خيال عقلي؟ ربما، جزئيًّا، بسبب الهاجس الجاري حول «الكواليا»، أي كيفيات الخبرات الواعية التي تأتي إلى الصدارة عندما نبحث الخيال. إذا كنتَ من الوظيفيين فلن يكون ثمة، فيما يبدو، مُتَّسَع لمثل هذه الأشياء. وكنتيجة لذلك، فإن الوظيفيين والماديين الذين يظنون أن الكواليا، بعامة، مشكوكٌ فيها ميتافيزيقيًّا أو علميًّا، قد نشروا تكنيكات تحليلية متنوعة لكي يبددوا الكواليا إلى شيءٍ ما غير كيفي. غير أننا قد رأينا أنه لا حاجة إلى فعل ذلك، ولا داعيَ إلى الخوف من أن تكون كيفياتُ الخبرة الواعية مراوِغةً علميًّا.
ما إن نتبيَّن هذا حتى تكون لنا الحريةُ في الاعتراف بما هو واضح على كل حال؛ أن الخيال العقلي يلعب دورًا مركزيًّا في تجارتنا الذكية مع العالَم. كيف يلعب دورًا مركزيًّا؟ إن الفلاسفةَ ميالون، ربما بطبيعتِهم، إلى التهوين من قيمة الخيال. قد يعود هذا، جزئيًّا، إلى تَعَلُّقِ الفلاسفةِ بالحُجج والدعاوي المعبَّر عنها باللغة. عندما نتجه بأفكارنا إلى هذه الأشياء، فإننا في الغالب نفعل هذا في إطارٍ عقليٍّ لغوي. نحن ندير الحججَ في رءوسنا، وننظر في الدعاوي ونصوغ الردود، كل ذلك باللغة. وأنا أشك أن هذه الممارسة الطويلة الأمد قد أسهمت في الاعتقاد الواسع الانتشار القائل بأن العقل هو، إلى حد كبير إن لم يكن حصرًا، مستهلِكُ مواقفَ قضوية.
إلا أن لحظةَ تفكيرٍ واحدةً تكشف أن شيئًا من هذا لا يترتب. عندما تدير حجةً ما في رأسِك فأنت تنخرط في شكلٍ هام من الخيال العقلي؛ الخيال اللفظي. أنت تسمع الكلمات في رأسك، أو، في الأرجح، أنت في آنٍ تحس وتسمع نفسَك تنطق الكلمات. إن كان ثمة من خيال فهذا نوع قوي من الخيال.
كيف نقيِّض للخيال بالضبط مكانًا ملائمًا في صورة العقل التي بَزَغَت في هذا الفصل؟ تذكَّر ما قلناه عن إدراكك البصري لطماطمةٍ ناضجة في ضوء الشمس الساطع. عندما يحدث هذا تَعرِض الخبرةُ البصرية التي تجرِي لك كيفياتٍ معينةً. تخيَّل الآن كيف تبدو طماطمةٌ ناضجةٌ في ضوء الشمس الساطع، كَوِّنْ صورةً خياليةً بصريةً للطماطمة. عندما تفعل ذلك بنجاحٍ فأنت تمر بحالةٍ تشبه الحالةَ التي تكون فيها عندما ترى الطماطمةَ بالفعل. إن تخيلَك للطماطمة يشبه إدراكَك البصري للطماطمة، ولكن ليس الطماطمة طبعًا. هذا يساوي بالضبط أن تقول إن كيفيات الحالتين متشابهة. كذلك حديثك الصامت إلى نفسك ينتج نفس النوع من الظاهرة. في حديثك إلى نفسِك فإن خبرتَك تشبه، كيفيًّا، الخبرةَ التي تكون لك عندما تتحدث بصوتٍ عالٍ.
وإنه لَيُخجِلني أن أعترف أن هذه النقاط تبدو من الوضوح بحيث لا أعرف كيف أُحاجُّ من أجلها. ورغم ذلك، فهي كثيرًا ما يتم إنكارُها. ومن الشائع لدى المتناقشين حين يتناولون الخيالَ العقلي أن يعلنوا أن خيالهم مُوهَنٌ على نحوٍ ملحوظ، أو حتى غير موجود على الإطلاق. (في بعض الأوساط يُتَّخَذ الاعتراف بغياب الخيال كَشارةِ شرف.) وبي شك بأن هذه الإقراراتِ قائمةٌ على ما يطلِق عليه السيكولوجيون اختلافَ معيار، أي اختلافًا فيما يكونه الخيال، فيما يشكل الخيالَ من وجهة نظرنا.
لقد قلتُ إن تخيُّل طماطمةٍ ناضجة يضيئها ضوءُ الشمس الساطع يشبه الإدراك الحسي لطماطمة ناضجة يضيئها ضوءُ الشمسِ الساطع. ولا تَنسَ أن كيفيات خبرتِك الإدراكية، بكل وضوح، ليست كيفيات الطماطمة. فالطماطمةُ حمراءُ ومستديرة، أما خبرتُك البصرية فليست حمراءَ ولا مستديرة. ولا تنسَ أن وقوعَ خيالٍ بصري من هذا النوع ليس مسألةَ تمحيص (بعينِ عقلٍ تنظر من الداخل) لِشيءٍ داخليٍّ خصوصي، أو لِصورةٍ على شاشة تلفازٍ داخلية. فإذا حدثتَ نفسَك سائلًا عما إذا كنتَ تواجه هذه الأشياء وتفترض أن الإجابة بالنفي تعني أنك تفتقر إلى الخيال (أو أن خيالك شديد الوَهَن) فأنت تُسِيءُ تأويلَ طبيعةِ الخيال.
استخدامات الخيال
ما فائدةُ الخيال العقلي؟ حسنٌ، اعتبِرْ أن أي تفكير واعٍ سيكون خياليًّا (وأنا هنا أنحاز مع خصوم التفكير اللاخيالي في بدايات القرن العشرين). إذا كنتَ مثلي، إذن فإن كثيرًا من الخيال المتصل بالموضوع سيكون خيالًا لفظيًّا. إلا أننا جميعًا نعتمد اعتمادًا لا نهاية له على ضروبٍ أخرى من الخيال في التعامل مع مصاعب عالمنا. الخيال مكوِّنٌ أساسيٌّ في قدرتنا على الفعل الاستباقي. فالكائنات الذكية لا تستجيب لِمُثِيراتٍ من الخارج فحسب، يشمل الذكاء — أو الفطنة — القدرةَ على توقع التقلبات البيئية وتأثيرات الأفعال المستقبلية. إن بوسعنا أن «نرى» أن لدينا متسعًا لتمرير السيارة التي قبالتنا في طريقٍ ضيق، وأن نرى أن صندوقَ الحبوب أطولُ من أن يوضع عموديًّا على الرف. ويستخدم النجارون تخيلاتٍ في تشييد الخزائن، ويعتمد الرياضيون على الخيال في مناورة الخصوم. وأزعم أن الخيال يلعب دورًا أساسيًّا، ولا غِنَى عنه بالتأكيد، في التدريب على هذه القدرات.
ربما بسبب هيمنة نموذج الحاسوب على علم النفس المعرفي لم يَحظَ التفكيرُ الخيالي بانتباهٍ كبير. فمحاولاتُ دراسةِ الخيال باستخدامِ النماذج الحوسبية كثيرًا ما تَحِيد عن الهدف كليًّا؛ إذ تريد أن تَرُد الخيالات إلى أوصافٍ يسهل حصرُها في خطوطِ شفرة. ولكنْ لا الخيال ولا الإدراك الحسي يمكن ردُّه بهذه الطريقة. وقد أشرتُ حقًّا إلى أن الخيال والإدراك الحسي مرتبطان ارتباطًا وثيقًا. إن كيفيات الخبرات الإدراكية (الحسية) هي ما يبقَى في الخيال. غير أننا عندما ننخرط في تجريدٍ وظيفي نخاطر بفقدان رؤية هذه الكيفيات. يهدف المذهبُ الوظيفي (وقريبُه النموذج الحوسبي للعقل) إلى أن يستقر على مستوًى للوصف ينفي كيفيات الحالات العقلية نفيًا كليًّا. وليس عجيبًا، على هذه الخلفية، ألا يُقدَّر الخيالُ حقَّ قدرِه.
افترِضْ أنني على صواب. افترِض أن الخيال العقلي أساسيٌّ للعقول باعتبارها أنساقًا من التمثيلات. وافترضْ أن الخيالَ عبارةٌ عن وقوع خبراتٍ لنا مشابهةٍ كيفيًّا للخبرات الإدراكية (الحسية). عندئذٍ يمكننا أن نرى لماذا هي غيرُ واحدةٍ نماذجُ الحاسوب في أحيانٍ كثيرة. إن تخيلَ شيءٍ ما هو أشبهُ بإدراكِ شيءٍ (حسيًّا)، لا بوصفه. إلا أن هدفَ كثيرٍ من نماذج الحاسوب هو تشييدُ أوصاف. نحن نعتبر أنفسنا مالكين إدراكًا أو خيالًا منمذجًا إذا كان بوسعنا أن نتصور جهازًا يُنتِج، استجابةً لِمُدخَلاتٍ ملائمة، أوصافًا للأشياء المرئية أو المتخيَّلة. لقد اتخذ السيكولوجيون (علينا أن نقول بتشجيعٍ وحَثٍّ من الفلاسفة) هذه النماذج كإلهامٍ مرشدٍ لهم. وهذا ربما يفسر الطابع الأحادي البُعد والمخيِّب للآمال الذي يَسِم كثيرًا من علم النفس المعرفي (الإدراكي) السائد. وللسخرية، فرغم أن التفكير هو حقًّا لغوي الطابع في كثير من الأحيان، فإن هذا لا يجعله أقلَّ خيالًا.
القصدية intentionality
أنا الآن، بالطبع، أصف الحالةَ من منظوري كناطقٍ بالعربية على الأرض. وإن نظيري في الأرض-التوءم سيستعمل كلماتٍ لا تفترق عن كلماتي. غير أن علينا نحن على الأرض أن نترجم إشاراته إلى (أي ما يسميه) «ماء» كإشارات إلى تماء، وإشاراته إلى (أي ما يسميه) «الأرض» كإشارات إلى الأرض-التوءم، وهكذا. وبالمثل، فإن توءمي سيصف إشاراتي إلى (أي ما أسميه) «ماء» كإشارات إلى (أي ما يسميه) «تماء» … ولعلك الآن قد وعيتَ الفكرة.
دعنا نركز باختصار على المتطلَّب العِلِّي. الفكرة في أبسط عبارة لها هي أن الأفكار تتعلق بِعِلَلِها. لقد صادفنا هذه الفكرةَ بالفعل (في الفصل الخامس) في عرضنا لديفيدسون. ولكن دعنا الآن نعتبرها مكوِّنًا في نظريةٍ عامةٍ في القصدية. إن النظرة العِلِّية، مثل نظرة بتنام، تختصم مع النظرات التي تحاول أن تفسر القصدية «من الداخل إلى الخارج». وقد تُعَد حالةُ الأرض-التوءم برهانًا على أن أي وصف للأفكار «من الداخل إلى الخارج» لا جدوى منه. فأنت وتوءمُك، بعد كل شيء، متماهيان من الداخل، إلا أن أفكاركما تختلف في المحتوى؛ فأفكارك تتعلق بماء، وأفكاره بتماء. فهل تدعم حالاتُ الأرض-التوءم وصفًا عِلِّيًّا للقصدية كنقيضٍ للوصف المتجه «من الداخل إلى الخارج»؟ دعنا نتخيل نظريةً منافِسةً لنرى.
افترِضْ للحظة أن تَوَجُّه أفكارِك يماثل تصويب ورمي سهم. باستثناء تأثيرات الجاذبية، فإن الاتجاه الذي يأخذه السهمُ يعتمد كليًّا على عواملَ متمركزةٍ على الرامي؛ كيف تقبض على السهم، طبيعة حركة ذراعك، توقيت الإطلاق، وما شابه. ومع ذلك، فرغم أن مسارَ السهم يعتمد كليًّا على الشخص، فإن ما يصيبه السهمُ يعتمد على ملامحَ للعالَم، ملامح قد لا يكون للشخص أيُّ تحكمٍ فيها. عندما ترمي سهمًا مصوَّبًا إلى مركز هدف، فإنه لن يصيبَ المركزَ إذا أنا حركتُ الهدف أثناء انطلاق السهم. وقد نُجمِل ذلك بقولنا إن ما يصيبه السهمُ يتوقف على عاملين؛ كيف رُمِيَ (أي مساره الذي يحدده الرامي)، وكيف هو العالَم.
ربما يساورك شكٌّ في النموذجِ المخادع، نموذجِ رمي السهام من الداخل إلى الخارج، الذي أهيب به. فقد تتساءل بحق: هل الأفكار يمكن أن تُقذَف إلى الخارج، مثل السهام؟
اقتراحي الأول، إذن، هو أن المكوِّن المركزي للقصدية، وهو قابلية الإسقاط، مُبَيَّتٌ في كل خاصة. لستُ أعني أن كل شيء يفكر أو كل شيء يمتلك قصدية. وإنما أعني فحسب أن كل شيء يمتلك استعداديات إسقاطية. وأُسَلِّم بأن هذه (الاستعداديات الإسقاطية) لَبِناتٌ ملائمة لِحالاتٍ قصدية معقدة.
افترِضْ مثلًا أن إدراكك البصري لطماطمة ناضجة في ضوء الشمس الساطع عبارة عن نوعٍ معين من الخبرة الواعية تجري لك. هذه الخبرةُ الواعية هي التمظهرُ المتبادل لاستعدادٍ معقد داخل جهازِك البصري واستعدادات الطماطمة والإشعاع الضوئي الوسيط. إن ما يجعل هذا التمظهرَ إدراكًا بصريًّا لطماطمةٍ هو كونُه تمظهرًا متبادلًا مع استعدادات الطماطمة. (هذا ببساطة اعترافٌ بالمتطلَّب العِلِّي المتضمَّن في مفهومنا للإدراك الحسي.) ولكني أزعم أن ما يجعل الخبرةَ إسقاطية للطماطمة (ما يمنحها «مسارَها» القصدي) هو شيءٌ داخلي لديك.
تأملْ حالةً أنت فيها ترى، هلوسةً، طماطمة. ها هنا تتمظهر حالتُك الاستعدادية كما في الحالة الأولى، ولكن مع شركاء تبادليين آخرين، شركاء داخليين ربما. والنتيجة خبرةٌ تشبه كيفيًّا الخبرة التي لديك عندما تدرك بصريًّا طماطمةً. إن قصديةَ هذه الخبرة (ما يجعلها هلوسةً بطماطمةٍ) لا تتأسس في ارتباطات عِلِّية قد تحملها للطماطم. ولا هي، تصادفيًّا، قائمة على تشابه خبرتك مع الطماطمة، فخبرات الطماطم لا تشبه الطماطم. إنما تتأسس قصديةُ خبرتِك في واقعة أنها تَمَظهُر استعدادٍ ملائم لخبراتٍ بصرية بطماطم. هذه الملاءمة، شأنها شأن أي ملائمة استعدادية، متأصلة في جهازك البصري داخلية فيه. فهي لا تعتمد على كونِك في اتصالٍ عِلِّي بطماطم، ولا على وجودِ أي طماطمٍ على الإطلاق. لا فرق في هذا بينها وبين استعدادِ بلورةِ الملح للذوبان في الماء؛ إذ يمتلك الملحُ هذا الاستعدادَ حتى في ظروفٍ (أو في عوالم متخيَّلة) لا يوجد فيها ماء.
يلعب السياقُ دورًا في هذه الحالات، ولكن ليس الدور الذي يعزوه إليه المُنَظِّرُ العِلِّي. فأفكارُك في الطماطم، كما قد عَبَّرتُ، «ملائمةٌ» للطماطم لأن بيئتك تحتوي على طماطم وليس توائم طماطم. ولكن هذا لا يعدو ما سبق أن قلناه: ما تعنيه فكرةٌ ما يعتمد على عاملين؛ ما تُسقِطه الفكرة (تصويبها)، وطبيعة العالم الذي تُسقِط عليه (هدفها).
قد يبدو هذا كما لو أنني أُصَدِّق على تصورٍ وظيفي، على نحوٍ غامض، للقصدية. ولكن هذا غيرُ صحيح. إن من الضروري لأي فكرةٍ خيالية أن تمتلكَ كيفياتٍ معينة. هذه الكيفيات هي ما يؤهلها لأن تلعبَ الدورَ الذي تلعبه. لا يُلقِي المذهبُ الوظيفي بالًا للكيفيات التي تمتلكها المفرداتُ التي تلعب أدوارًا معينة. ربما تمتلك هذه المفرداتُ كيفياتٍ (وإن يكن هذا مشكوكًا فيه في بعض الأوساط)، ولكن الكيفيات اتفاقية بالنسبة لأدوار المفردات في المنظومة. وأنا لا أوافق على هذا الرأي، فالتشابه الكيفي للفكر الخيالي بالخبرة الإدراكية (الحسية) تؤهل هذا الفكر لدوره في حياة الكائن.
لستُ أنكر أن بعضَ المفاهيم العقلية مشحونةٌ عِلِّيًّا. إن ما تتذكره أو تدركه (حسيًّا)، على سبيل المثال، يعتمد، جزئيًّا، على المصدر العِلِّي لأفكارك عن الماضي أو حالتك الإدراكية (الحسية) الراهنة. ولا أنا أنكر أننا نستند بشدة إلى ملاحظات الروابط العِلِّية في عَزو أفكارٍ إلى الآخرين. ما أنكره هو أن أيًّا من هذا يفسِّر إسقاطية (القصدية الأساسية ﻟ) الحالات العقلية. تتأسس إسقاطية الفكر على الاستعدادية، والاستعدادات ذات الصلة، حتى تلك التي لها عِلَلٌ خارجية، هي شيء باطنٌ فيمن يفكرون.
ولا أنا أشير بأن إصابة الفكرة للهدف — كونها عن فردٍ معين مثلًا — لا تُفَسَّر إلا على أساس الملامح الداخلية (الباطنية) للفاعل. إن ما تصيبه الفكرةُ يعتمد على عوامل قد تكون خارج سيطرة الفاعل إلى حد كبير. فأفكارك هي عن الماء، جزئيًّا بسبب طابعها الداخلي، وجزئيًّا بسبب ظروفك. وأفكار توءمك على الأرض-التوءم هي عن التماء، وليس الماء، لأن ظروفَ توءمِك تختلف عن ظروفك.
هذه الملاحظات الإجمالية لم يُقصَد منها أن تحيط بنظريةٍ كاملة في القصدية. إنما قصدتُ منها فحسب أن تكون ترياقًا ضد المذاهب السائدة. قد يبدو هذا مادةً هزيلة. ولقد كنتُ حقيقًا أن أشعر بندمٍ أكبر لو كان الذين يتشبثون بالأوصاف العِلِّية للقصدية يمتلكون نظرياتٍ مفصَّلة، ولكنهم لا يمتلكون. إنهم يقدمون أمثلةً مصمَّمة لإقناعنا بأن القصدية تستلزم مكوِّنًا عِلِّيًّا واردًا من صنفٍ ما. وأنا أسلِّم بأن هناك مكوِّنًا عِلِّيًّا واردًا في كثير من الأحيان، ولكني أنكرُ أن هذا هو أساسُ القصدية.
حل العقدة
أشرتُ في بداية هذا الفصل إلى أن من مزايا التصور الذي أَبسُطُه عن العقل هو أنه يعلِّل لنطاقٍ من المكوِّنات المقبولة للتصورات المنافسة له. وقد قلتُ ما فيه الكفايةُ لتوضيح هذا التصور، في خطوطِه العريضة على الأقل. وقد آن لنا أن ننظر مرة أخرى إلى المنافَسة.
الثنائية
تركز ثنائية العقل-الجسم على ما يبدو أنه فروقٌ درامية بين العقلي والمادي؛ فحالاتُ العقل خصوصيةٌ، و«مَنفذنا» إليها ذو امتياز، والعالَم العقلي يَعرِض نطاقًا من الكيفياتِ المميزة يبدو غائبًا عن العالَم المادي. وعلى النقيض، فإن الحالات المادية عامة، ومَنفَذنا إليها غير مباشر وغير معصوم، ومن الظاهر أنها مجردة من أي شيء يشبه الكيفيات التي تَعرِض في الخبرة الواعية. وثمة مَن يرى أن الأشياء المادية تفتقر تمامًا إلى الكيفيات، وأن خواصَّها نزوعيةٌ (استعدادية) على نحوٍ حصري.
وماذا عن الكيفيات العقلية المميزة؟ لقد رأينا أنه ليس واضحًا دائمًا بأي حال ماذا تكون. عندما تستمتع برائحة شطيرة برجر كنج فإن استمتاعك يتأسس على كيفيات خبرتك الشمية. وقبل أن تنكر أن هذه الكيفيات يمكن تَصَوُّر أنها كيفياتُ دماغِك، يجب أن تكون على بينةٍ من طبيعتِها المحددة. ولقد أشرتُ بأن هذا أمرٌ لا نملك ناصيتَه.
نظرية الهوية
إلا أننا قد رأينا أن من الخطأ تخيُّل أن كل محمول يُستخدَم بحق لِعَزو حالةٍ عقلية إلى كائنٍ ما يُسمَّى خاصةً يملكها ذلك الكائن، وأي كائن (أو كيان) آخر يَسرِي عليه ذلك المحمول. إن المحمول يَصدُق على كائناتٍ متنوعة، وهو يَصدُق عليها بفضل الخواص التي تملكها، ولكنْ لا يترتب على ذلك أنه يَصدُق عليها بفضل امتلاكها نفس الخاصة بعينها (أو خاصة مشابهة تمامًا). هذا هو درس المذهب الوظيفي. يوضِّح النقد الوظيفي لنظرية الهوية أنه من المستبعد أن هناك خاصة نيورولوجية مفردة تَفِي بالمحمول «هو في ألم». إلا أن الإجابة الصحيحة ليست أن نفترض أن «هو في ألم» يتعيَّن لذلك أن تُسَمِّي خاصةً من مستوًى أعلى أو من الدرجة الثانية، بل علينا ببساطة أن ندرك أن الخواص التي بفضلها يكون من الحق أن صنوفًا مختلفة جدًّا من الكائنات هي في ألم؛ هي خواصُّ جِدُّ مختلفةٍ، وإن يكن بينها تشابهٌ.
على أننا إذا أقصينا هذا الخلط، فسوف يطيب لي أن أسمِّي الأطروحة الواحدية المحايدة المُجمَلة في هذا الفصل نوعًا من نظرية الهوية.
المذهب الوظيفي
إحدى الطرق لفهم المذهب الوظيفي أن تعتبر أن الوظيفيين يرتكزون على الطبيعةِ النزوعية (الاستعدادية) للخواص، تلك الطبيعةِ التي تمنح العقولَ صفتَها المميزة. هذا شيءٌ ملائمٌ تمامًا. أما الشيءُ غير الملائم فهو الفكرة المتمادية القائلة بأن العقولَ ليست أكثرَ من منظوماتٍ من الاستعدادات المحضة.
وأعتقد أن هناك أسبابًا أنطولوجيةً وجيهةً لافتراض أن لكل خاصة طبيعةً مزدوجة؛ فكل خاصة هي نزوعية (استعدادية) وكيفية في آنٍ معًا. وفضلًا عن ذلك، فإن هذه الاستعدادية وهذه الكيفية لا تنفصلان (إلا في الفكر). وحالات العقل هي كيفية واستعدادية في الوقت نفسه. ولكن ليس في هذا الأمر سِرٌّ خاص؛ فكلُّ حالة هي كيفيةٌ واستعداديةٌ في آنٍ معًا. فإذا اعتبرنا العقلَ منظومةً وظيفيةً بِعامة، فلا يزال بوسعنا إذن أن نقول إن بعضَ مكونات هذه المنظومةِ تشغل الأدوارَ التي تشغلها، جزئيًّا، بسبب كيفياتها. ولكن ما إن نقول ذلك حتى نكون قد أدرنا ظهورنا لمعتقدٍ مركزي للمذهب الوظيفي.
المذهب التأويلي
لا شيءَ مما قلتُه هنا يتعارض بوضوحٍ مع وصف ديفيدسون للمواقف القضوية. وأنا على استعدادٍ لقبولِ الخطوطِ العريضة لوصف ديفيدسون للتأويل، حتى فكرة أننا إذ نَعزو اعتقاداتٍ ورغباتٍ ومقاصدَ وما إلى ذلك، إنما نطلق «مقياسًا». هذا المقياسُ قمينٌ بتخطيطِ شيءٍ ما، ما هذا الشيء؟ إنه قمينٌ أن يرسمَ المنظومةَ النزوعية التي تشكِّل عقولَ مستخدِمي اللغة.
يُصِرُّ ديفيدسون على أنه لا يمكن تأويلُ إلا مَن هو مؤَوِّل؛ فليس غير مستخدمٍ للغة مَن يَصِحُّ وصفُه على أنه يعتقد مثلًا أن عملَ شطيرة برجر كنج تلزمُه براعةٌ في الطهو. لا يرجع هذا إلى أن الاعتقادات جُمَلٌ داخل الرأس تعتمد بشكلٍ ما على القدرات اللغوية للمعتقِدين. انظرْ: وحدَهُ مستخدمُ اللغة مَن هو في موضعٍ يتيح له أن يقبل هذا الوصفَ لحالتِه الذهنيةِ كوصفٍ ملائم، وحدَهُ مستخدِمُ اللغة مَن يرى أو قد يرى نفسَه في هذا الضوء.
ما أهمية هذا؟ تَذَكَّرْ أن امتلاكَ مواقفَ قضويةٍ هو الذي يفسِّر الاختيارَ العقلاني، غير أن الاختيارَ العقلاني انعكاسيٌّ بالضرورة. ليس يكفي أن الفاعلَ العقلاني لديه اعتقاداتٌ ورغبات، إن الفاعلَ العقلاني لديه القدرةُ على أن يتأمل (ينعكس على) تلك الاعتقادات والرغبات، وأن يفعل بالتالي وفقًا لهذه التأملات. نحن، إذن، حين نعزو مواقفَ قضويةً لفاعلٍ ما إنما نعزو حالاتٍ ذهنية بطريقةٍ تنحاز مع تقييمِ الفاعلِ نفسِه لهذه الحالاتِ الذهنية.
ملاحظة ختامية
لَعَلِّي قد قلتُ ما يكفي لتقديم لمحة عن طريقةٍ لمقارَبة العقول ومكانها في الطبيعة تتناول ألغازًا مزمنةً في فلسفة العقل. وأزعم أن مقاربتي تَعِدُ بِحَل مشكلاتٍ تَدَّعِي منافِساتُها حلَّها، وأنها تقوم بذلك دون التعرض للمخاطر العتيدة التي تحيق بهذه المقاربات المنافِسة. هذه دعوَى عريضة، وقد كنتُ خليقًا أن أُتَّهَم بالغرور في ذلك لولا حقيقة أنني لا أعرضها كعملٍ من ابتكاري، إنما أنا أقتفي فيها عملَ س. ب. مارتن.
قراءات مقترَحة
نحن في وضع الأشياء على هذا النحو لم نقدم أي إشارة على الإطلاق لما تكونه في الحقيقة هذه العناصر المفترَض أنها محايدة. ومع ذلك، فقد اعتبر الواحديون المحايدون العناصر شيئًا ما شبيهًا بالانطباعات أو الأفكار أو الإحساسات. ومصطلح ماخ Empfindungen — وهو لفظُه الذي استخدمه لهذه العناصر — ربما يمكن ترجمته إلى «إحساسات» (أو ربما إلى «مشاعر»). (المترجم)