الفصل الأول

المدنية الحديثة

مظاهر المدنية الحديثة

من أهم مظاهر المدنية الحديثة بناء الحياة على العلم، فعلماء الغرب منذ النهضة لا يقبلون شيئًا لأن أحدًا قاله قبلهم، بل يبحثون الأشياء مستقلين بحثًا دقيقًا. وقد وجَّههم بيكون وديكارت إلى بحث عماده التجارب والشك قبل اليقين، والاختبار في المعامل بدل الأبحاث النظرية البحتة، وقد ساروا على هذا المنهج من حوالي سنة ١٥٠٠ ميلادية. أما قبل ذلك العهد فلم يكن البحث حرًّا، بل كان لا يصح لأحد أن يقول إلا ما تقوله الكنيسة، أو ما قاله أرسطو ولو قام البرهان الحسي على عكسه.

وقد أدى المنهج الحديث إلى اكتشافات كثيرة؛ كاكتشاف نيوتن قانون الجاذبية، واكتشاف هارفي الدورة الدموية، ونادى دارون بمبدأ النشوء والارتقاء، ومن ذلك الحين تحول الطب إلى تجربة وعلم لا دخل للخرافات فيهما.

وتقدم علم الطبيعة والكيمياء، وكانوا أول أمرهم يرون أن الأشياء تختلف باختلاف العناصر الأولية أو كمياتها، وقد أوصلوا هذه العناصر إلى اثنين وتسعين عنصرًا، وتقدموا بعد ذلك فرأوا أن المواد تتكون من جواهر فردة تسمى الذرات، وإن كل ذرة تتكون من شحنتين كهربائيتين: سالبة وموجبة تلتفان حول نواة، واستطاعوا أخيرًا في سنة ١٩٤٥ أن يحطموا هذه الذرة فيجعلوا من هذا التحطيم قوة هائلة استخدموها في صنع القنابل ثم في الحياة السلمية.

وعلى الجملة فقد اعتمدت المدنية الحديثة على العلم، وكان لهذا العلم آثار كثيرة في الحياة، فقد أذهب عن الناس الخوف من الخرافات والأوهام، كالخوف من الجن، والخوف من المظاهر الطبيعية، وتغلبوا بوساطة العلم على كثير من الأشياء التي كانت تسبب موت الأطفال في صغرهم والنساء في ولادتهن، وعلى الطاعون والكوليرا ونحو ذلك، بفضل اكتشاف الميكروبات ومعرفة وسائل علاجها، كما خفف هذا العلم من آلام الناس من العمليات الجراحية باكتشاف البنج وما إليه.

ومن أكبر مظاهر المدنية الآلات والمخترعات واستخدامها في الحياة، وذلك بفضل معرفة طبائع الأشياء وقوانين المادة، وقد استخرجوا بهذه الآلات: الفحم والحديد من باطن الأرض، وبذلك استطاعوا أن يتوسعوا في استخدام الآلات حتى عم استعمالها في أتفه السلع وأعظمها، وعظم الفارق بين ما يمكن للآلة أن تنتجه وما يمكن للإنسان بيده، فآلة واحدة قد تنتج من السلع أكثر مما ينتج ألف عامل، وبذلك أمكن توفير الزمن — فضلًا عن الإتقان — وتوافرت السلع في الأسواق، وقربت المسافات بين أجزاء العالم.

وما أن زاد الإنتاج وقربت المسافات، حتى نشطت التجارة، وزادت المعاملات، فنظمت البنوك من جديد، واجتمعت المؤتمرات، وعُقدت المعاهدات، ونشطت حركة الاستكشافات، ونشبت الحروب رجاء التوسع في الأسواق.

ومن مظاهرها أيضًا تعميم التعليم وانتشاره وعده حقًّا لكل إنسان لا حق طائفة خاصة؛ وبذلك تنور الناس وطالبوا بحقوقهم، وقد استطاعت المدنية الحديثة نشر العلم بوسائل كثيرة، كالطباعة والسينما والصحف والإذاعة، ووصلت المدنية في هذا إلى ما لم تصل إليه مدنية قبلها؛ حتى إذا رأيت ما يُطبع من الكتب والمجلات والجرائد رأيت عجبًا.

figure
الإنتاج الآلي.

وقد كان الناس في العصور القديمة ينقسمون إلى قسمين: أغنياء لا إلى حد، وفقراء لا إلى حد. وكان يعتبر هذا التقسيم من أعمال القدر البحت لا دخل للإنسان فيه. فتدخلت المدنية الحديثة في هذا وحددت ثروة الغني، وتدخلت في فقر الفقير، وجعلت حدًّا أدنى للمعيشة لا يصح أن ينزل عنه، وحددت ساعات العمل، وحرَّمت تشغيل الأطفال دون سن معينة، وزادت من أجور العمال، إلى غير ذلك من إصلاحات قرَّبت بين الفقير والغني إلى حد ما. وإذا تأمل الإنسان هناك فيما يعمل وفيما حوله من أشياء، وجد أن المدنية غمرته في كل النواحي، ففي جيب العامل البسيط أو يده ساعة دقاقة من صنع المدنية، وهو يلبس من صنعها، ويحلق ذقنه بموس من إنتاجها، ويبعث لعميله تلغرافًا أو يكلمه في التليفون، ويسمع الحديث في الراديو، ويصعد المكان العالي في المصعد ويركب القطار والترام والطيارة، وقد يستخدم المنظار لعينه، وقد يكتب على الآلة الكاتبة، وقد يطبع كتابًا.

وهذه الحضارة تنتقل في سرعة البرق من مكان إلى مكان، ومن قطر إلى قطر، حتى في أتفه مظاهرها.

والشرقيون عادة يختلفون في تقبل المدنية الحديثة بقدر اختلاف بيئتهم ومدى استعدادهم، شأنهم في ذلك شأن المستمعين لمحاضرة يختلفون في فهمها حسب استعدادهم، فالشيء الواحد قد يأخذه قوم فيحسنون استخدامه ويأخذه قوم فلا يحسنونه، كالبرلمان، ترى بعض الدول الشرقية قد حافظت فيه على الشكل والأوضاع القانونية، فتقسم البرلمان إلى نواب وشيوخ، وتحدد اختصاصات كل مجلس منهما، ولكنه في الحقيقة فاقد الروح، فالانتخاب مزور، والنتيجة كما يريدها الحاكم، والأعضاء يستغلون مراكزهم لنشر المحسوبية، وأكثر الأصوات غالبًا تُمنح حسبما يشاء الحاكم لا حسب المصلحة العامة.

إن تقبل المدنية الحديثة كتقبل الأديان؛ فإنَّا نرى أنه إذا انتقل دين من أمة إلى أمة، قد تتفق الأمتان في شكل أداء الشعائر، والأعمال الظاهرة، ولكن تصور الدين يختلف في كل أمة عن الأخرى؛ ولذلك ترى أنه لما عُرضت المدنية الحديثة على العالم امتصتها اليابان أكثر مما امتصتها الهند، بسبب حسن الاستعداد، وبسبب وجود ملوك أو أمراء أو زعماء دفعوا الشعب دفعًا إلى السير في سبيل المدنية، فإذا لم توجد هذه الظروف في أمة تخلفت عن الامتصاص. ولكن يمكن بصفة عامة أن نقول إن العالم كله متجه نحو الأخذ بالمدنية الحديثة، فلا بد لمن يريد الآن حياة محترمة من أن يرفع من مستوى معيشته أولًا، وهذا لن يتأتى إلا باستخدام الآلة، وبالاستزادة من العلم والإنتاج، وبمعرفة تامة بالوسائل الحديثة للتجارة وأعمال البنوك. ثم فليتجه الشرق بعد هذا ذلك الاتجاه الذي لم يتجه فيه الغرب، فيعمل أن يكون الإنتاج لصالح السلم وليس لصالح الحرب، وليتجه بالعلم نحو سعادة الإنسان لا نحو شقائه، ولتُصبغ وسائل التجارة وأعمال البنوك بالصبغة الإنسانية لا بالصبغة القومية، وهذا ليس بالأمر الشاق على الشرق، فخصائصه وأخلاق أبنائه يسمحان له بالسير في هذا الطريق.

مزايا المدنية الحديثة وعيوبها

للمدنية الحديثة مزاياها الكثيرة وعيوبها الكثيرة شأن كل مدنية عرفها التاريخ.

فمن مزايا المدنية الحاضرة:
  • (١)

    بناء الحياة على العلم، فتربية الناشئين تُبنى على آخر ما وصل إليه علم النفس والاجتماع، والحياة التجارية تُبنى على آخر ما وصل إليه علم الاقتصاد وهكذا، وما لا يؤيده العلم لا يُلتفت إليه.

    ويتبع ذلك تعقيل الإصلاح، بمعنى إخضاعه والسير به حسب ما يرشد إليه العقل وحده. فإذا أريد مشروع إصلاحي بدأ بتصميمه ودراسته دراسة وافية والاعتماد فيه على الإحصاءات الدقيقة المختلفة، وتهيئة الرأي العام لاستقباله استقبالًا حسنًا وهكذا، ولا يصح القيام بإصلاح لمجرد العواطف والرغبات من غير دراسة؛ ولذلك قام المصلحون في الأمم الحديثة مقام الأولياء والقديسين فيما مضى.

  • (٢)

    ربما عُد من مزايا المدنية الحديثة محاولة تحطيم الاستبداد في أشكاله المختلفة وتسويد رجل الشارع ما أمكن، من ذلك تحطيم سيادة الملوك والأمراء والمناداة بسيادة الشعوب ممثلة في برلماناتها ومجالسها، ومحاربة الغنى المفرط لمصلحة الفقراء.

    على أن المدنية الحديثة لم تخلُ من ديكتاتورية أحيانًا كالتي أقامها هتلر وموسوليني؛ فإنهما استبدا استبدادًا يشبه استبداد حكام الشرق. وقد قرأت هذه الأيام أن ممثلًا إنسانيًّا معروفًا يعد هذه الأيام فيلمًا يمثل فيه ديكتاتورية أمريكا المدعية الديمقراطية بأوسع معانيها، وإن الاستبداد قد ينتقل من حكام إلى أحزاب، وإلى نوادٍ سياسية لا يعلم رجل الشارع من شأنها شيئًا.

  • (٣)

    التقدم في فهم حقوق الإنسان؛ فمهما قيل عن عسف الأوروبيين وظلمهم فقد تقدموا في فهم حقوق الإنسان، ففهموا حق الإنسان في الحياة وفي الحرية وفي التعليم وغير ذلك، ولم يعد الملوك والأمراء يستعبدون الناس ويرهقون أرواحهم من غير تحمل أية مسئولية.

    على أنهم إن كانوا قد طبقوا ذلك على أنفسهم فإنهم طبقوا نقيضه في مستعمراتهم والبلاد الخاضعة لهم.

  • (٤)

    ومن مزايا هذه المدنية عملها على ربط العالم كله برباط واحد بسبب سرعة المواصلات والإذاعات، وفي هذا منفعة كبيرة؛ لأنه يقوي الرأي العام في أقصى الأرض، ويجعل من السهل تتبع كل ما يجدُّ في العالم.

  • (٥)

    كثرة الاكتشافات وسرعتها وتوالدها مما يزيد في راحة الإنسان ورفاهيته.

وبجانب ذلك كله عيوب لا تقل عما ذكرنا من مزايا:
  • (١)

    من ذلك هول الحروب مما سبَّب القلق والانزعاج، خصوصًا بعد اختراع القنابل الذرية والهيدروجينية.

    قرأت أن إذاعة روسيا وجهت مرة سؤالًا: كيف يمكن منع الحروب؟ فتلقت أجوبة مختلفة من كل أنحاء العالم رجالًا ونساء، ومن جميع الطبقات. يقول بعضها: إن المعاهدات لا تمنع الحروب ولكن تؤجلها، وإنما يمنع الحرب اجتماع من يمثل الشعوب حق التمثيل، والشعوب لا مصلحة لها في الحرب، وإنما يدعو إليها ويدبرها الرأسماليون الذين ينتفعون ماليًّا من الحرب ولا يهمهم ما يصيب العالم من ويلات. ويقول آخر: إن العلاج تحريض العمال على الامتناع عن إنتاج المواد الحربية مهما هددهم الرأسماليون وقواد الحروب. ويقترح آخرون اقتراحات مختلفة؛ ربما كان خيرها نشر التعليم السليم بين الشعوب.

  • (٢)

    ومن ذلك غرور أصحاب المدنية الحديثة واعتدادهم كثيرًا بأنفسهم، فعندهم أن الرجل الأبيض هو وحده يستحق البقاء دون الملونين؛ ولذلك استخفوا بالشرق وأسسوا تاريخهم على الرجل الأبيض كأنه هو الأصل، وتاريخ غيره على الهامش.

    فلما ازداد وعي الشرق وأخذ يطالب بحريته واستقلاله، أبى عليه الرجل الأبيض ذلك، وبعبارة أخرى أبى أن يعدل عن شعوره بعظمته وسموه عن الملونين؛ فكان من نتيجة ذلك صراع عنيف بين الشرق والغرب.

    ومن آثار ذلك أنهم يمجدون الحرية ويسبحون بحمدها، فإذا أراد الشرقيون أن يقولوا قولهم ويتحرروا تحررهم عبسوا في وجوههم، ونكلوا بهم، ولم يمكِّنوهم أن يخطوا أية خطوة في سبيل حريتهم، كأن الحرية التي ينادي بها الغربيون وَقْف عليهم وفضيلة لهم، ورذيلة لغيرهم.

  • (٣)

    عبادة القوة، فالغربيون لا يقدسون شيئًا كتقديسهم للقوة، وليس الحق عندهم إلا القوة، فالأمة عندهم لا تُحتَرم إلا إذا كانت قوية، أما الضعيفة فلا يقام لها وزن؛ مهما كان في جانبها من حق. ولغة التخاطب هي السيف والمدفع والآلات الحربية، لا المنطق ولا الحجج العقلية.

  • (٤)

    مما أعده من العيوب؛ المغالاة في تسليط المرأة على الرجل، فالمرأة متسلطة على الطفل في البيت، وعلى الشاب عند خطبته، وعلى الرجل بعد الزواج. ومن طبيعة المرأة أن تحكمها العواطف لا العقل، فالمغالاة في تسليطها على الرجل ضرر على الرجل خاصة وعلى المجتمع عامة.

  • (٥)

    كثير من الفلاسفة ينعى على المدنية الغربية أنها مدنية اختل فيها التوازن، فنما عقلها وضؤل قلبها، نما عقلها بالعلم والاختراع والاكتشاف ولكن ضعف قلبها، وربما عبروا عن ذلك تعبيرًا آخر بأنها مدنية مادية تنقصها روحانية.

نعم إن لهم عواطف نبيلة تتجلى في بناء مستشفيات وإنشاء ملاجئ وتبرع للمنكوبين، ولكنهم غالبًا لا يقدِّرون الأشياء إلا بماديتها، ودليل ذلك معاملتهم للشرقيين، وتناحر بعضهم مع بعض. فإنجلترا وفرنسا تتفقان سنة ١٩٠٤ على أن تطلق فرنسا يد الإنجليز في مصر، في نظير أن تطلق إنجلترا يد فرنسا في المغرب، كل يستعمر ويستغل ويُنكل، وقد تكشفت الحرب العالمية الأولى عن اتفاق فرنسا وإنجلترا سرًّا على تقسيم البلاد العربية عليهما، بحيث يكون لكل منهما منطقة نفوذ لا تتعداها، فتأخذ إنجلترا مصر والعراق وفلسطين، وتأخذ فرنسا سوريا ولبنان، في حين أن إنجلترا كانت تتفق في الوقت نفسه مع أمير الحجاز على أن تمكِّن أكثر هذه البلاد من استقلالها.

وتقرأ الصحف الغربية فترى فيها مخايل الانحلال، والصحيفة كالطبيب؛ هذا يصف مرض الأفراد ويشخصه، وتلك تصف أمراض المجتمع وتشخصها.

وقد أعجبتني مقالة «لمكسيم جوركي» لم يتمها؛ تدل على ما نقول من مخايل الانحلال، وتدل على نوع الحياة التي تحياها الشعوب الغربية.

قال تحت عنوان «بعض مقتطفات من صحف الغرب»:

هرب أربعة عشر طفلًا من إحدى إصلاحيات الأحداث وقد قبض البوليس على اثني عشر منهم، ولم يعرف مكان الطفلين الآخرين …

أم تذبح أطفالها بسبب الجوع …

اختناق خمسة أشخاص: زوج وزوجة وأم الزوج وابنه في سن الثالثة …

شاب يقطِّع امرأة إلى قطع صغيرة …

أطلق سراح أحد المسجونين بعد أن قضى خمسة أعوام في السجن، ثم ذهب إلى رجال البوليس وطلب منهم أن يعودوا به إلى السجن من جديد لأنه مريض ولا يستطيع العمل ويأبى التسول فرفضوا طلبه لأن قوانين البلاد لا تجيز ذلك، فذهب وحطم نافذة أحد المحلات وتعارك مع رجال البوليس فعاد إلى السجن …

توفي شحاذ بلغ من العمر الثمانين ثم وُجد أنه يملك مليون جنيه …

توفي لورد إيشتون عن ٨٩ عامًا وترك ثروة تقدر بعشرين مليون دولار …

التهم أمس هاثز مولر ٣٦ إصبعًا من السجق في إحدى عشرة دقيقة بسبب رهان …

في عام ١٩٢٨ انتحر بالنمسا ٩٥٣٠ شخصًا منهم ٦٦٩٠ رجلًا و٢٨٤٥ امرأة، ومنهم ٦٤١٣ من سكان المدن و٣١١٧ من سكان الريف …

قرر عمدة لومبرج من أعمال سيليزيا فرض ضريبة على القطط، ولكن المجلس البلدي رفض الاقتراح فلجأ العمدة إلى وسيلة أخرى: وضع مصايد للقطط الضالة وسمح لأصحابها باستردادها مقابل غرامة مقدارها ٣ ماركات …

عندما ذهب المحضرون للحجز على أملاك الفلاحين بالقرب من هانبورج؛ لعدم دفعهم ما عليهم قاوم الفلاحون وتراجع المحضرون …

اعتاد شبح ليلي زيارة أحد القساوسة في برلين، وبعد أن استيقظ القس ثلاث مرات على صوت الشبح، قام بتبليغ البوليس فوجدوا قبعة تحت نافذة حجرة القس والمعتقد أن الشبح الليلي نسيها …

دارت مناقشة حادة حول: هل يسمح للسيدات اللاتي يقصصن شعورهن بدخول اجتماعات الكنيسة؟ ووصل الجدل إلى الفاتيكان في مايو سنة ١٩٢٤ وأجابت كلية الكاردينالات بأن قص الشعر لا يتعارض مع المبادئ المسيحية …

نشرت إحدى الصحف تقارير للبوليس تدل على اختفاء أكثر من ٤ آلاف امرأة كل عام من فرنسا، واعتقال عدد كبير من تجار الرقيق الأبيض في كثير من المدن الفرنسية، وثبت أن العصابات قد باعت ٢٥٠٠ فتاة لدور الدعارة في جمهوريات أمريكا الجنوبية، وظهرت مثلها عصابة أخرى للتجارة البشرية في بولندا … إلخ.

إلى جانب ذلك نرى الإعلانات المتعددة بالحروف الكبيرة عن المطاعم الفاخرة والكباريهات وأعمال الترف، ونسمع قولهم إن الحياة تمضي قصيرة والأيام تمضي سريعة فلنعش في مرح دائم.

قد يقال إن هذه حوادث جزئية قد لا يخلو منها مجتمع مهما رقي، ولكن كثرتها وتعدد نواحيها ومقابلة الصحفيين والقارئين لها بالفتور والجمود، دليل سيئ على خطورة الحال.

ومن مظاهر الانحلال أيضًا سلوك الغرب مع الشرق، فلا الشرق بعد أن تنبه وعيه يرضى أن يعامله الغرب كما كان يعامله من قبل، ولا الغرب يريد أن يغير خطته إزاء العوامل الجديدة في الشرق، ومن ثم نرى اضطرابات في الشرق في كل مكان، في مصر، في تونس، في مراكش، في الهند الصينية، في أفريقية الجنوبية، في إيران، في الصين، في مختلف الأنحاء، وانقسم العالم إلى معسكرين: روسيا ومن يدور في فلكها من الأمم، وأمريكا ومن يدور في فلكها، وهذه تسمي نفسها الأمم الديمقراطية وهو اسم زائف، وإلا فما معنى الديمقراطية مع هذا الاستعمار والاستعباد والاستغلال للشرق رغم أنفه، ومع اضطهاد الملونين في كل مكان وخاصة زنوج أمريكا؟ حتى المعسكر الواحد منقسم على نفسه فالنزاع بين أمريكا وإنجلترا اليوم على أشده، ودول أوروبا الغربية لا تكاد تتفق على شيء. يضاف إلى ذلك أن أكثر ميزانيات الدول منصرفة إلى الحرب أو الاستعداد للحرب، وأكثر من ٧٠٪ من ميزانية أمريكا مخصص للتسلح وكلما أنفق معسكر على الحرب أو الاستعداد لها، اجتهد المعسكر الآخر أن يستعد لها أكثر منه، مما لو أنفق في رفاهية الشعوب وإسعادها لكانت له أطيب النتائج.

ومما يؤسف له أنهم أفرطوا في المناداة بكلمات أخلاقية: كحرية وإخاء وإنسانية وتعاون وتضحية، فإذا دققت النظر رأيتهم يستعملونها في مواضع تستوجب السخرية، فالحرية كثيرًا ما تُستعمل لجري المرء وراء شهواته، وعند خيانة المرء الأمانة. والتعاون كثيرًا ما يستعمل للاتفاق بين دولتين للغدر بثالثة، أو لتنسيق العمل بين حزبين للقضاء على ثالث. والتضحية هي أن يضحي الشعب بأرواح أفراده لينعم أصحاب المصانع الحربية. ولم يدرك الغربيون أنهم مخدوعون، وذلك لعموم الخديعة، فمن دعى منهم لكبت الغرائز ومحاربة المجلات الخليعة والصور الفاضحة والملاهي الداعرة عُد رجعيًّا، ومن دعى منهم إلى السلام وعدم التسليح عُد خائنًا وحق عليه أن ينبذ من قومه.

وبعد، فقد قام فلاسفة ومصلحون أدركوا هذه العيوب وتوقعوا الشر منها ونادوا بإزالتها، أمثال ولسن وروزفلت، ومن أجل ندائهم أُسست عصبة الأمم وهيئة الأمم المتحدة، ولكن ما لبثتا أن تغلبت عليهما الروح الرجعية فسخرتها لمصلحتها الشخصية وقلبتها إلى روح حزبية فلم تعملا كما أراد المصلحون لها، وفشلت عصبة الأمم وأوشكت هيئة الأمم أن تلحق بزميلتها.

•••

يقول إشبنجلر في كتابه «تدهور الغرب»:

إن اليأس وفقد الشهية إلى الحياة، والاضطراب الخلقي والسياسي والثقافي في هذا الزمن؛ هي أعراض الشيخوخة التي أصابت حضارة الغرب بأكملها.

ويقول أيضًا:

إن المشكلة الرئيسية للمجتمع الآن هي فقد الثقة والعزم، وإذا نحن بحثنا عن فقدان المجتمع للثقة والعزم أمكننا فهمها في ضوء فقدانها في الأفراد، وإذا فحصنا المشكلة عند الأفراد وجدنا أنها ترجع إلى أسباب كثيرة؛ منها أننا توسعنا في الصناعة توسعًا كبيرًا، من غير أن نُكيف أنفسنا تكييفًا يسايرها، ومنها أننا أملنا كثيرًا في سرعة التقدم وزيادته، فخاب أملنا، ومنها أننا لم ننجح في إخضاع أهدافنا وآمالنا لأهداف الغير وآماله فغلبت علينا الروح الفردية والأثرة والأنانية، ومنها أن الطبقة الأرستقراطية لما اضطرت للتنازل عن مركزها لم يمكن للديمقراطية الجديدة أن تحل محلها؛ لأنها أسرفت في طلب الحقوق إسرافًا يزيد عن أداء الواجبات، ومنها اضمحلال العقيدة بتأثير العلوم؛ وقد كانت خير عماد يعتمد عليه الإنسان وبفقدها فقد الإنسان طمأنينته، وسيره نحو الكمال وحل محلها النظر العلمي. كما أنه اهتم بالمادة دون الروح واعتمد على الحقائق التي يسهل إثباتها بسرعة، ومل الحقائق التي تحتاج إلى تجارب أجيال لإثباتها.

هذه كلها وغيرها مما لم نذكر أسبابًا أثارت القلق والاضطراب والشك في كل شيء مما عده اشبنجلر وغيره مظاهر للتدهور.

figure
وجوه مغبرة خارجة من المصنع.

ولعل أسوأ وأفظع ما في المدنية الحديثة اكتشافها القنبلة الذرية التي خلعت قلوب الناس وسببت لهم كثيرًا من الاضطراب. قد يكون تحليل الذرة نعمة كبرى لو استُعمل في خير الناس، كمعالجة الأمراض وتسيير السفن والقطارات، ولكن مع الأسف لتسابق الدول في التسليح كان أول استخدام لتحليل الذرة تركيب القنابل منها. وقد تسابق في ذلك المعسكران، سبقت إليه أمريكا فأسرعت إلى اكتشافه روسيا. وربما كان ذلك في خير العالم؛ إذ لو امتلكه معسكر واحد لاستبد بالعالم استبدادًا لا حد له، ومن الأسف أيضًا أنهم تقدموا في هذا المضمار خطوة أخرى؛ فاكتشفت القنبلة الهيدروجينية بعد القنبلة الذرية وحازها أيضًا المعسكران، وهم يلوحون باكتشاف قنبلة أعظم.

كان الناس في القرن التاسع عشر يؤمنون بتقدم العالم المستمر، ويعتقدون في المستقبل اعتقادًا حازمًا، فلما جاء القرن العشرون شك الناس في كل شيء، وذهب الإيمان بكل شيء. كل نظرية علمية وجد من العلماء من يشك فيها، وساد التشاؤم بين الناس. فلماذا يئسوا ولماذا تشاءموا، مع أنهم أحرزوا كثيرًا من النصر في الميادين المختلفة؟ لقد فعلوا كما فعل ميداس، في الميثولوجي اليونانية، إذ فرح أول الأمر بأن عنده من القدرة ما يجعل كل شيء يمسه ذهبًا، فلما هم بالأكل مس الرغيف فتحول ذهبًا.

ومن أكبر ما مني به العالم في المدنية الحديثة خلق ما يسمى بالوطنية، لا بمعنى الدفاع عن الوطن، ولكن بمعنى التعصب للوطن، والسعي لإعلاء شأنه وتفوقه على الأمم الأخرى، ولو شاركتها في اللغة والدين، والسعي لتوسيع رقعتها وإخضاع الأمم الأخرى لعظمتها. وهذه الوطنية بهذا المعنى ما هي في الواقع إلا ركاب الاستعمار والحروب في سبيل السيطرة الاقتصادية على العالم، وحسبك دليلًا على هذا أن الحربين العالميتين الأخيرتين كان من أهم أسبابهما رغبة الأمم الغربية في الاستيلاء على آسيا وأفريقيا واستغلال مواردهما وفتح أسواق جديدة لتجارتها.

•••

وبعد فقد أكثرت من ذكر معايب المدنية الحديثة حتى كدت أنسى عيوب الشرقيين، ولست أسعى في ذلك إلى التهليل للشرق، وإلا كنت كالفقير يتضور جوعًا، فإذا حكيت له متاعب بعض الأغنياء حمد الله على فقره، وإنما ذكرت ما لنا وما علينا وما لهم وما عليهم حتى نعلم أين نحن وأين يجب أن نكون؟ ثم لنبحث بعد ذلك عن الطريق الذي سينقلنا مما نحن فيه إلى ما يجب أن نكون عليه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤