الفصل الثاني عشر

تروجزموندوف المُفزِعة

رافقَ الخادمُ عضوَ جماعة مؤيدي العَدَمية إلى قاعة الاستقبال الأنيقة في الشقة، حيث وجدَ دورثي إمهيرست تنتظره بمُفردها، مثلما اشترط. كان يَرتدي ثيابًا تشبه بذلةً نظاميةً بحريةً ويَحمل في يده قلنسوةً مُستدقَّة الرأس، ووقفَ هناك مرتبكًا وكأنه غير مُعتادٍ على الأماكن الفخمة. كان وجهه برونزي اللون من أثر التعرُّض للشمس والعاصفة، ورغم أن عمره بدا أكثر من الثلاثين بقليل فحسب كان شعرُهُ البالغُ القِصَر أشيب. وكانت عيناه زرقاوين فاتحتي الزرقة، ولو كان في الدنيا رجلٌ تدلُّ تعابيرُ وجهه على استقامةٍ راسخةٍ لكان هو ذلك البحَّار. لم يكن فيه أدنى شَبَهٍ مِمَّا تتصوره دورثي عن مُتآمرٍ خطير.

«تفضَّل بالجلوس.» هكذا قالت دورثي، فجلسَ جِلسةَ القَلِق.

بدأت دورثي كلامها قائلةً: «أظن أن جونسون ليس اسمك الحقيقي.»

«إنه الاسم الذي أُدعى به في أمريكا يا سيدتي.»

«هل تُمانع في أن أسألك بعض الأسئلة؟»

«لا يا سيدتي، لكن إذا سألتِني عن أيِّ شيءٍ غيرِ مسموحٍ لي بالإجابة عنه فلن أجيبك.»

«منذ متى وأنتَ في الولايات المتحدة؟»

«منذ بضعةِ أشهرٍ فقط يا سيدتي.»

«كيف تسنَّى لك أن تتحدَّث الإنجليزيةَ بطلاقةٍ هكذا؟»

«في شبابي كنتُ أعمل على متن سفينةٍ شراعيةٍ تذرع المياه جَيئةً وذهابًا بين مدينتَي هيلسينجفورز ونيويورك.»

«هل أنتَ روسيٌّ؟»

«أنا فنلنديٌّ يا سيدتي.»

«هل كنتَ بحَّارًا طَوال حياتك؟»

«نعم يا سيدتي. لمدةٍ من الوقت كنتُ موظفًا غير مهمٍّ على متن سفينةٍ حربيةٍ في الأسطول الروسي، إلى أن اكتشفوا أني من مؤيدي العَدَمية، وعندها زُجَّ بي إلى السجن. لقد هربتُ في شهر مايو الفائت، وأتيتُ إلى نيويورك.»

«ماذا تعمل منذ وصولك إلى هنا؟»

«لقد كنتُ محظوظًا للغاية حيث أصبحتُ وكيلًا للقبطان على متن اليخت التوربيني «ذا وُولرس»، الذي يملكُه السيد ستوكويل.»

«يا إلهي، أتقصد المليونير الكبير الذي أفلسَ مصرِفُه منذ شهر؟»

«نعم يا سيدتي.»

«لكن ألا يزال يَحتفظ بيخت؟»

«لا يا سيدتي. أعتقد أنه لن يصعد على متن هذا اليخت أبدًا، رغم أنه ربما يكون أغلى يختٍ في مياه هذه المنطقة. لقد قيل لي إنَّ سعره يتراوَح بين نصف المليون والمليون. لقد أنشأته شركة ثورنيكروفت، على هيئة طرَّادة، وهو يَحتوي على محركاتٍ توربينية من ماركة بارسون. بعد الإفلاس صُرِفَ القبطان والطاقم من الخدمة، وأنا الآن على متن اليخت بمثابةِ حارسٍ حتى يحين موعد بيعه، لكن ليس ثمةَ سوقٌ كبيرةٌ ليختٍ مثل «ذا وُولرس»، وقد أُخبِرتُ أنهم سيُخرِجون ما فيها من تجهيزاتٍ، وسيبيعونها على أنها طرَّادة لإحدى جمهوريات أمريكا الجنوبية.»

«حسنٌ يا سيد جونسون، لا بد أنك رجلٌ يُعتمَد عليه، ما دامت المحكمةُ قد أناطت بك مسئولية الحفاظ على ملكيةٍ قيمةٍ للغايةِ كهذه.»

«أعتقد أنهم توسَّموا فيَّ الأمانةَ يا سيدتي.»

«إذن لماذا تأتي إليَّ طالبًا عشرةَ آلاف دولار في مقابل رسالةٍ تقول أنتَ إنها مُرسَلةٌ إليَّ، وهي في الحقيقة ملكي؟»

استحالَ وجه الرجل إلى اللون البُني الضارب إلى الحُمرة، وراحَ ينقل قلنسوته من إحدى يديه إلى الأخرى في ارتباك.

«سيدتي، أنا لا أعمل هذا لحسابي الخاص. إنما أنا أمين سر جمعية التحرير الروسية. لقد أجرت الجمعيةُ، من خلال فرعها في سانت بطرسبرج، بعضَ التحريات بالنيابة عنكِ.»

«نعم، وقد دَفعتُ لهم سِعرًا جيدًا جدًّا في مقابل هذا.»

أحنى جونسون رأسه.

وقال: «إنَّ هدفنا يا سيدتي هو كبحُ الحكم الاستبدادي. ولهذا نحن في حاجةٍ مستمرةٍ إلى المال. إنَّ الفقراء هم الذين يتبرعون لصندوقنا، وليس أصحاب الملايين. لقد اكتشفنا أنكِ امرأةٌ غنيةٌ لن تعجز عن دفع المبلغ المطلوب، ولهذا طلبوا هذا المبلغ. صدِّقيني يا سيدتي، أنا أنفِّذ أمر رفاقي. لقد حاولتُ أن أقنعهم بأن يتركوا تحديد الأجر لكرمكِ أنتِ، لكنهم رفضوا. إذا كنتِ ترين طلبهم غيرَ معقولٍ، فلا عليكِ سوى أن تقولي هذا، وسوف أعود وأخبرهم بقراركِ.»

«هل أحضرتَ الرسالة معك؟»

«نعم يا سيدتي.»

«هل عليَّ أن أوافق على شروطك قبل أن أراها؟»

«نعم يا سيدتي.»

«هل قرأتها؟»

«نعم يا سيدتي.»

«هل تعتقد أنها تُساوي عشرة آلاف دولار؟»

رفعَ البحَّار عينيه ونظرَ في السقف المزخرف بضع دقائق قبل أن يجيب.

ثم قال في النهاية: «هذا سؤالٌ لا يُمكنني الإجابةُ عنه، إنه يعتمد بصورةٍ كليةٍ على مكانة المُرسِل عندك.»

«أجِبْني عن سؤالٍ آخر. مَن الذي وقَّعَ الرسالة؟»

«لا يوجد توقيع يا سيدتي. لقد عُثِرَ عليها في المنزل الذي كان الشابان يقيمان فيه. لقد فتَّشَ رجالُنا كلَّ شبرٍ في المنزل سِرًّا، ويعتقدون أن كاتب الرسالةِ قُبِضَ عليه قبل أن يُتمَّها. لا يوجد عليها عنوان، ولا شيء يُفصِح عن هوية المعني بهذه الرسالة، باستثناء العبارة التي تبدأ بقوله: «عزيزتي دورثي».»

أسندَت الفتاة ظهرها إلى الخلف وهي جالسةٌ في كرسيها، وتنفَّسَت نفسًا طويلًا. وقالت بتهورٍ: «ليسَت لي.» ثم وهي تَنحني إلى الأمام، صاحَت فجأةً:

«موافقةٌ على شُروطك. أعطني الرسالة.»

تردَّد الرجل، وحاول أن يبحث داخل جيبه في ارتباك.

ثم قال برزانةٍ مُتكلَّفة: «لقد طُلِبَ منِّي أن أحصل على تعهدٍ مكتوبٍ منكِ.»

قالت: «أعطِها لي، أعطِها لي. أنا لا أُخلِف وعدي.»

ناولها الرجلُ الرسالة.

قرأت دورثي وكان الخط مألوفًا لديها: «عزيزتي دورثي، لعلكِ تدركين حالتي المزاجية الرائعة إذ ترينني أتجرأ على افتتاح رسالتي بمثل هذه المقدمة. لقد كنتُ أُقلق نفسي والآخرين على غير طائلٍ بالمرة. لقد تلقيتُ رسالةً من جاك هذا الصباح، واعتراني شكٌّ كبيرٌ لدرجةِ أني ظللتُ بضع دقائق مُرتابًا من ألَّا تكون الكتابة سوى تقليدٍ لخطه. إنه فتًى مُندفعٌ للغاية، ولا يستطيع أن يفكِّر سوى في أمرٍ واحدٍ في لحظةٍ معينة، وهو ما يُفسِّر نجاحه في مجال الاختراع. لقد وصلَته برقيةٌ تقول إنَّ أخته كانت مريضة، فغادر في الحال ليَزورها. لقد سمحتُ لخوفي على سلامته بأن يشوه تفكيري تمامًا، لدرجةِ أني شككت في البداية مثلما أخبرتُكِ في أن تكون الرسالةُ مزيَّفة. ولذلك أرسلتُ برقيةً إلى عِزبته، وتلقيتُ رَدًّا عاجلًا جاءَ فيه أن صحةَ أخته قد تحسَّنَت كثيرًا، وأنه بالفعل في طريقه للعودة، وسيَصل إليَّ في الحادية عشرة من مساء اليوم. هذا هو ما يَحدث إذن عندما يُصابُ رجلٌ بالغٌ بنوبة هستيريا. لقد استنتجتُ أكثر النتائج كآبةً عندما لم يُسمَح لي بدخول وزارة الخارجية والأميرالية. غير أنني تلقيتُ بالأمس تفسيرًا لكلِّ هذا. لقد اكتملَت المهمةُ أخيرًا، وأُطلِعتُ على نُسخ من الرسائل التي مُرِّرَت إلى رؤسائي في الوطن. لا يوجد ما هو أبعث على الرضا من هذا. غدًا سوف أسافر أنا وجاك إلى إنجلترا.

عزيزتي دورثي (ها هي ذي مُحاولتي الثانية لكتابة هذه العبارة)، أنا لستُ ثريًّا، لكنكِ لستِ ثرية أيضًا برغم ثروتكِ الصغيرة في بار هاربر؛ ولذا فنحن مُتساويان في هذا الأمر، مع أنكِ في الواقع تفوقينني إلى حدٍّ بعيدٍ في كل شيءٍ آخر. إنني أحصل على خمسمائة جنيهٍ إسترليني كل عام؛ أي ما يقل قليلًا عن ألفَين وخمسمائة دولار أمريكي، أَوصَى لي بها والدي. هذا بمَعزلٍ عن مهنتي. أنا واثقٌ تمامًا أنني سأنجح في البحرية الآن بعدما أرسلَت الحكومةُ الروسيةُ تلك الرسائلَ، ولذا فحالما تأكَّدتُ من هذا، قررتُ أن أُرسل لكِ رسالةً أتقدَّم فيها إليكِ بالزواج. هَلا تعذرينني على تلهُّفي وتُسكِّنينه بإرسال برقيةٍ إليَّ في نادي «بلووتر كِلَب» في بول موول، وعليها كلمة «نعم» أو كلمة «مُتردِّدة»؟ لن أمنحَكِ امتيازَ إرسال برقيةٍ بكلمة «لا». وأرجوكِ أن تمنحيني الفرصة لأترافَع عن قضيتي بنفسي، إذا استخدمتِ الكلمة الأطول من بين هذه الكلمات. مَعذرةً، إنني أسمع وقْعَ خطوات جاك على الدَّرَج. إنه يصعدُ بخطًى خفيةٍ للغاية، كي يُفاجئني، لكنني أنا الذي سأُفاﺟﺌ…»

عند هذا الحد انتهى الكلام. طوَت دورثي الرسالة، ووضعتها في دُرج مكتبها الذي كانت تجلس أمامه.

«هل أكتب الشيكَ باسمكَ أم باسم الجمعية؟»

«باسم الجمعيةِ إذا تكرمتِ يا سيدتي.»

«سأُحرِّره بضِعف المبلغ المطلوب. أنا أيضًا مؤمنةٌ بالحرية.»

«يا إلهي، هذا كرمٌ أشعر أننا لا نستحقُّه يا سيدتي. بعد كلِّ ما فعلتِه من أجلنا أتمنى لو أنني أعطيتُكِ الرسالةَ دون أيِّ شروط.»

قالت دورثي وهي منحنيةٌ تكتب: «أنا واثقةٌ تمامًا من صِدق أمنيتك.» وناولَته الشيك، ونهضَ لكي ينصرف.

«فلتَعُد إلى الجلوس من فضلك. أريد أن أتكلم معك أكثر. هل يعتقد رجالكم في سانت بطرسبرج أن صديقيَّ لم يُرسَلا إلى سيبيريا؟ هل أنتم واثقون من هذا؟»

«حسنٌ يا سيدتي، إنَّ لديهم وسيلةً لمعرفة مَن يُنْفَون، وهم متأكِّدون أن الشابَّين لم يكونا ضمن المجموعات التي أُرسلَت إلى هناك مؤخرًا. إنهم يظنون أنهما في قلعة «سانت بيتر آند سانت بول»، على الأقل هذا هو ما يقولونه.»

«إنَّ كلامك يُوحي بأنك تشكُّ في هذا.»

«أنا فعلًا أشكُّ في هذا.»

«فهل أُرسلا إلى سيبيريا رغم كل ذلك؟»

«يا للهول، يا سيدتي! ثمة أماكن أسوأ من سيبيريا. في سيبيريا يوجد أملٌ للنجاة؛ أما في تروجزموندوف المُروِّعة فليس ثمةَ أمل.»

«ما هي تروجزموندوف؟»

«إنها «صخرة في بحر البلطيق» منعزلةٌ وكئيبةٌ يا سيدتي، إنها السجن الذي لا تتحرَّر الضحيةُ منه إلا بالموت.»

نهضَت دورثي من مكانها وهي تَرتجِف، وحدَّقت إليه، وقد غاضَ الدمُ من شفتيها.

««صخرةٌ في بحر البلطيق!» هي سجن، وليست قلعةً إذن؟»

«إنها قلعةٌ وسجنٌ في الوقت نفسه يا سيدتي. لو خاطرت روسيا يومًا بالقبض على أجنبيٍّ فإن تروجزموندوف هو المكان الذي سيُرسَل إليه. إنهم يُغرقون الضحايا هناك؛ يُغرقونهم داخل زنازينهم. يوجد ينبوعُ ماءٍ في الصخرة، وهو يجري مثل غديرٍ جميلٍ خلال صفِّ الزنازين، لكنْ ثمة رافعةٌ بالخارج إذا سُحِبَت يتوقَّف خروجُ الماء من الزنازين، ويَغرقُ جميعُ المساجين بداخلها. تُوضَع الجثثُ واحدةً تلو الأخرى على أنبوبٍ مائلٍ أملسَ مصنوعٍ من حجَرٍ رمليٍّ مصقول، وفي هذا الأنبوبِ تتدفَّقُ مياهُ ذلك الغديرِ فتنزلقُ الجثثُ إلى الخارج، وتهوي مسافةَ مائتي قدمٍ داخل بحر البلطيق. لا يهمُّ في أيِّ حالةٍ تكون تلك الجثةُ عندما يُعثَر عليها، ولا مدى حداثة وقتِ تنفيذ الإعدام، فما هي إلَّا جثةُ غريقٍ في بحر البلطيق. ولا توجد آثارُ إصابةٍ بعيارٍ ناريٍّ ولا آثارُ خَنْق، ثم إنَّ تيارات الماء تَحملهم بعيدًا عن الصخرة بسرعةٍ.»

«كيف تسنَّى لكَ معرفةُ كل هذا الذي يبدو أنه محجوبٌ عن علمِ الدنيا كلها؟»

«أعرفُ ذلك يا سيدتي لأسبابٍ وجيهةٍ للغاية. لقد حُكِمَ عليَّ هذه السنةَ تحديدًا بالسجن في قلعة تروجزموندوف. ففي أثناء عملي وأنا شابٌّ بين مدينتَي هيلسينجفورز ونيويورك، حصلتُ على الجنسية الأمريكية في نيويورك؛ لأنني كنتُ واحدًا من أعضاء طاقم سفينةٍ أمريكية. عندما أكرهوني بصورةٍ غير قانونيةٍ على الخدمة العسكرية في مدينة هيلسينجفورز وأجبروني على الالتحاق بالبحرية الروسية، تعاملتُ مع هذا الموقف الصعب وحاولتُ أن أُحقِّق منه أقصى استفادةٍ مُمكنة، ولأنني كنتُ بحَّارًا خبيرًا أحسَنوا معاملتي إلى حدٍّ ما، وترقيتُ في العمل، لكنهم في النهاية اكتشفوا أني كنتُ أتراسل مع إحدى الجمعيات العَدَمية في لندن، وعندما قُبض عليَّ طالبتُ بالحصول على حقوق مواطنٍ أمريكي. لكن هذا تسبَّب في هلاكي. لقد أُرسلتُ، من دون محاكمةٍ، إلى قلعة تروجزموندوف في شهر أبريل من هذا العام. عندما وصلتُ إلى هناك كنتُ من الحماقة بمكانٍ بحيث هدَّدتُهم، وقلتُ إنَّ رفاقي لديهم طرقُهم لإخبار حكومة الولايات المتحدة، وإنَّ سفينةً حربيةً واحدةً سوف تؤدب سجَّاني الصخرة.

إنَّ الزنازين المنحوتةَ داخل الصخرة حالكةُ الظلمة؛ ولذا عجزتُ تمامًا عن حساب الوقت. قد تحسبين أنه كان بإمكاننا أن نُميِّز الليل من النهار من خلال مواعيد إحضار وجباتنا، لكن الحال لم يكن هكذا. لقد أحضر لي السَّجَّانُ رغيفًا كبيرًا من الخبز الأسود، وقال إنه يجب أن يكفيني مدة أربعة أيام. وضعَ الرغيف على إفريزٍ صخريٍّ يرتفع عن الأرض بحوالي ثلاث أقدام، ويُستخدَم منضدةً للطعام وسريرًا للنوم كذلك. عند حفر الزنزانة تُرِكَ ذلك الإفريزُ دون أن يمسَّه أحد، وتُرِكَ في مواجهته كذلك مقعدٌ صخريٌّ طويلٌ بارزٌ من الأرض. الحق أنَّ العُمَّال الذين نحتوا هذه الغرفةَ كانوا بارعين جدًّا لدرجةِ أنهم نحتوا وسادةً صخريةً مستديرةً في أحد طرفي الإفريز.»

«لا أدري عدد الأيام التي مرَّت عليَّ داخل السجن عندما وقعَ الانفجار. لقد هزَّ الصخرةَ بأكملها، وتساءلتُ في نفسي عما حدث. بعد ذلك مباشرةً تقريبًا بدا أن انفجارًا آخر قد وقع، لم يكن مزعجًا بدرجةٍ كبيرة، فظننتُ أنه ربما كان صدًى للانفجار الأول. بعد حوالي ساعةٍ فُتِحَ باب زنزانتي، ودخل السجَّان ومعه رجلٌ آخر يَحمل مصباحًا في يده. كنتُ قد تناولتُ جزءًا من رغيفي الأسود الثالث؛ ولذا لا بد أنه مرَّ عليَّ تسعة أو عشرة أيام داخل السجن. أخرجَ السجَّانُ الرغيفَ من الزنزانة، وعندما عادَ سألتُه ماذا حدث. أجابني السجَّانُ بكلماتٍ فَظَّةٍ مؤداها أن سفينتِي الحربية الأمريكية أطلقَت النار على الصخرة، وأَّن حاميةَ الصخرة ردَّت على الهجوم، وعندئذٍ رحلت السفينةُ وقد أصابها الشلل.»

كانت دورثي تُنصتُ باهتمامٍ شديدٍ إلى هذا الكلام، لكنها في تلك اللحظة قاطعَته قائلةً:

«لقد كانت سفينةً حربيةً إنجليزيةً هي التي أطلقَت القذيفة، ولم تقترب القذيفةُ الروسيةُ من السفينة أكثرَ من نصف ميل.»

حدَّق البحَّار إليها بعينَين مشدوهتَين.

قالت دورثي موضحةً: «لقد كنتُ أُجري بعض التحقيقات. من فضلك واصل حديثك.»

«لم أسمع قط أنها كانت سفينةً إنجليزية. لقد سخر السجَّان منِّي، وقال إنه سيجعلني ألحقُ بالسفينة الأمريكية، بحسبِ ما تخيَّلها هو، على ما أظن. لقد خشيتُ أن يكون أخذ الخبز من أجل تجويعي حتى الموت، وندمتُ لأني لم أتناول المزيدَ منه في وجبتي الأخيرة. استلقيتُ على الإفريز الصخري، وسُرعان ما استغرقتُ في النوم. لكنني استيقظتُ على صوت الماء الذي يَرتطم بالصخور من حولي. كانت الزنزانة ساكنةً تمامًا. كنتُ قبل ذلك دائمًا ما أستمتع بصحبةِ جدول ماءٍ صغيرٍ يجري على امتداد جانب الزنزانة الأبعد عن الباب. لقد انقطعَت أنغامُ جريانه في تلك اللحظة، وعندما وثبتُ واقفًا وجدتُ نفسي مغموسًا حتى خاصرتي في ماءٍ شديد البرودة. وعلى الفور استنتجتُ ما تُستخدم فيه الرافعاتُ الموجودةُ خارجَ الزنزانة في الممر الذي كنتُ قد رأيتُه في ضوءِ المصباح يوم دخولي إلى ذلك المكان، وحينها عرفتُ السبب في أنَّ باب السجن لم يكن يحتوي على واحدةٍ من تلك الحواجز الشبكية التي تُمكِّن السجَّانَ الذي في الممر من النظر داخل الزنزانة في أي وقتٍ من الليل أو النهار. لقد أخبرني السجناءُ أن الشك الذي يعتري السجينَ عندما لا يعرف مطلقًا متى قد تتجسَّس عليه العيونُ يزيد من رعب الموقف، لكن الأبواب المانعة لتسرب الماء في قلعة تروجزموندوف خاليةٌ من تلك الميزة، وإنما صُممَت من أجل غايةٍ خبيثةٍ جدًّا.

إن القناة الموجودة في الأرض والتي يتدفَّق الماء خلالها عندما تكون الزنزانة فارغةً، والأنبوب الموجود في السقف والذي يسيل الماء منه عندما تكون الزنزانة ممتلئةً، يوفران قدرًا كبيرًا من التهوية، بصرف النظر عن مدى إحكام غلق الباب. أخذَ الماءُ يرتفعُ ببطءٍ شديدٍ حتى وصلَ إلى المَخرج العُلوي، وعندئذٍ بقي مستواه ثابتًا. لقد طفوتُ فوق القمة بسهولةٍ بالغة، ولم أبذل سوى مجهودٍ قليلٍ جدًّا كان ضروريًّا لإبقائي في هذا الموضع. لو رفعتُ رأسي وأنا في هذا الموضع لاصطدم جبيني بالسقف. من الجائز أن الزنزانة المجاورة لزنزانتي، والمنخفضة عنها، كانت فارغة. لقد سمعتُ الماءَ ينصب داخلها مثل شلالٍ صغير. كانت الزنزانة التالية بعدها، وفي الواقع جميع الزنازين الواقعة في هذا الاتجاه، تُغمَر بالماء مثل زنزانتي. بالطبع لم تكن مشكلةً بالنسبة إليَّ أن أظل طافيًا؛ كانت الخطورة الوحيدة التي أخشاها هي أن جسمي قد يتخدَّر، من أثر البرودة الشديدة للماء، بدرجةٍ يصعب التعافي منها. لكنَّني رغم ذلك، كنتُ معتادًا على مثل هذه الصعوبات قبل الآن، وذلك في الشمال المتجمِّد. أخيرًا توقَّف الهديرُ اللطيف الذي يُحدثه شلال المياه، وأدركتُ أن زنزانتي كانت تفرغ نفسها. عندما وصلتُ إلى الإفريز مرةً أخرى، أخذتُ أمدِّد أطرافي إلى الخلف والأمام بأقوى ما استطعت، وبأهدأ ما استطعت؛ لأني لم أُرِد لأي صوتٍ أن يدلَّ بأدنى درجة على أنني لا أزال على قيد الحياة، هذا لو كان لأي صوتٍ أن يَنفذ بالفعل إلى الممر، وهو أمرٌ غير وارد. قبل خروج آخر قطرةِ ماءٍ من الزنزانة مباشرةً بقيتُ ممددًا بالكامل على الأرض، على أمل أن يكون لديَّ من الثبات ما يَكفي للبقاء هادئًا تمامًا عندما يأتي الرجال ومعهم المصباح. لم يكن ثمَّة ما يَضطرني للخوف. انفتح الباب، ورفعني أحدُ الرجال من عَقِبَيَّ، وباستخدام ساقيَّ وكأنهما عمودا عربةِ يدٍ سحَبَني عَبْرَ الممر إلى المكان الذي ينبثق منه جدولُ الماء من الزنزانة الأخيرة، وقذف بي في هذا السيل. مرَّت عليَّ لحظةٌ مفاجئةٌ وجيزةٌ من الظلام، ثم انطلقتُ، بقدميَّ أولًا، في الفضاء، وظللتُ أهوي وأهوي في الهواء مثلما يهوي المطمار، حتى وصلتُ إلى ذراعَي أمي.»

«إلى ماذا؟» بهاتين الكلمتَين صاحت دورثي وقد شحبَ لونها وانقطعَت أنفاسها؛ إذ توهَّمت أن سرد هذه الآلام قد شوَّشَ تفكيرَ الرجل.

«بحر البلطيق يا سيدتي هو أم كل فنلنديٍّ. إنه يُطعمه في الحياة، ويحمله إلى حيث يريد، وكل فنلنديٍّ حقيقيٍّ يتمنَّى أن يموت بين ذراعَيه. لقد شعرتُ به دافئًا تقريبًا بعد ما مررتُ به، وكان طعمُ الملح على شفتيَّ طيبًا. كانت ليلةً جميلةً مُضاءةً بالنجوم من ليالي شهر مايو، وأخذتُ أعوم حول الصخرة؛ لأنني كنتُ أعلم أنه في خليجٍ صغيرٍ في الجانب الشرقي، يوجد مَخفيًّا عن مرأَى البحر كله، قاربُ صيدٍ فنلنديٌّ صغيرٌ يستطيع أن يصمد لأيِّ عاصفة، وكان في الماء في تلك اللحظة رجلٌ يعرف كيف يتعامل معه. يَنبغي إنزال السجناء على الجانبِ الشرقي والاستفادة من التكوين الطبيعي لهذه الصخرة الشديدةِ التحدُّر، حتى إذا تسلَّق رجلٌ ما الدَّرَجَ المتعرج الشديد الانحدار الذي يؤدي إلى الجزء المأهول من الصخرة فإنه يظل مَخفيًّا عن مَرأى أي مركبٍ فوق سطح الماء حتى ولو كان على بُعد أربعمائة أو خمسمائة ياردة. لا شيءَ مما يُرى من خارج الصخرةِ يعطي أيَّ أمارةٍ على وجود أحدٍ يسكنها. أعتقد أنهم يحتفظون بقارب الصيد من أجل حالات الطوارئ؛ لأنَّ مدير القلعة ربما يحتاج للاتصال بمَن على الشاطئ عند الضرورة. لقد خشيتُ من احتمال أن يكون مُوثقًا بإحكامٍ شديدٍ بحيث لا أستطيع فكَّه. غير أنَّ الموقع المنعزل قد جعلهم مُهمِلين، ولم يكن القارب مربوطًا إلا بحبالٍ في بعض الأطواق المثبَّتة في الصخرة، كان الغرضُ من ذلك هو حمايته من أن تخدش الصخورُ جوانبَه، وليس منع أي أحدٍ من سرقته. دفعتُه خارجًا عبر الفتحة، وأسرعتُ بدخوله، وطفوتُ مع التيار السريع، ولم أرغَب في رفعِ أي شراع حتى ابتعدتُ تمامًا عن مَرمى المدافع. ما إن ابتعدتُ عن الصخرة حتى نشرتُ الأشرعة، وعند الفجر كنتُ بمنأى عن أنظار مَن على البر. لقد أبحرتُ باتجاه ستوكهولم، ولمَّا لم يكن يوجد علامةٌ أو اسمٌ على القارب يدل على أنه مِلكٌ للحكومة الروسية، لم أجد صعوبةً كبيرةً في بيعه. لقد أخبرتُ السلطات بشيءٍ حقيقيٍّ تمامًا؛ وهو أني بحَّارٌ فنلنديٌّ هاربٌ من طاغيةِ بلدي، وأني أتوق إلى الوصول إلى أمريكا. ولأن مثل هذه الوقائع تَحدُث فعليًّا كل أسبوعٍ على طول الساحل السويدي لم يتعرض لي أحد، وحصلتُ من بيع القارب على ما يكفي من المال لشراء ثيابٍ جيدة، وأبحرتُ إلى إنجلترا، ومنها إلى نيويورك في الدرجة الأولى على متن باخرةٍ عادية.

كان بإمكاني بالطبع أن أُسافر بسهولةٍ شديدةٍ في زيِّ بحَّارٍ من ستوكهولم، لكنني كنتُ قد سئمتُ من كوني بحَّارًا عاديًّا، وتوقعتُ أنني إذا لبستُ ثيابًا محترمةً، فسوف أحصل على وظيفةٍ أفضل من التي يمكن أن أحصل عليها لو لم أفعل ذلك. لقد ثبتَت صحةُ توقُّعي؛ لأنني عندما عبرتُ المحيطَ تعرَّفتُ إلى السيد ستوكويل، وقد عيَّنني وكيلًا للقبطان في يخته. هكذا هربتُ من قلعة تروجزموندوف يا سيدتي، وأعتقد أنه لم يكن لأحد أن يفعلها سوى فنلنديٍّ.»

قالت دورثي: «أتفق معك تمامًا. أتعتقد أن هذَين الرجلين اللذَين كنتُ أحقِّق بشأنهما قد أُرسلا إلى قلعة تروجزموندوف؟»

«قد لا يكون الروسيُّ هناك يا سيدتي، لكن الإنجليزي هناك بالتأكيد.»

«هل المدفع على الجانب الغربي من الصخرة؟»

«لا أعرف يا سيدتي. لم أرَ الجانب الغربي في ضوء النهار قط. ولم أُلاحظ أيَّ شيءٍ على الجانب الشرقي وأنا أتسلَّق الدَّرَجَ يدل على أنه كان يوجد أيُّ مدفعٍ على الإطلاق فوق قلعة تروجزموندوف.»

«أظنك لم تتحصَّل على الفرصةِ لمعرفة عدد حُرَّاس الصخرة، أليس كذلك؟»

«بلى يا سيدتي. لا أعتقد أن الحامية كبيرة. إنَّ المكان مُنعزل إلى حدٍّ بعيد بحيث لا يحتاج إلى الكثير من الرجال لحراسته. إنَّ السجناء لا يخرجون أبدًا من أجل التريُّض، وكما أخبرتُكِ، لا يُقدَّم لهم الطعامُ إلا مرةً كل أربعة أيام.»

«إلى أي مدًى يُمكن أن تبلغ ضخامةُ طاقم يخت «ذا وولرس»؟»

«يا إلهي، بقدرِ ما تشائين يا سيدتي. إنَّ اليخت في الواقع باخرةٌ من بواخر المحيط.»

«هل توجد أيُّ منصةٍ لرسو السفن عند الجانب الشرقي من الصخرة؟»

«في الواقع لا يا سيدتي. لقد توقَّفت الباخرةُ بعيدًا، وأُنزِلتُ إلى الخليج الصغير الذي ذكرتُه لكِ، عند قاعدة الدَّرَج.»

«لن يكون من الممكن وضعُ باخرةٍ مثل «ذا وولرس» بمحاذاة الصخرةِ إذن، أليس كذلك؟»

«سيكون هذا ممكنًا أثناء هدوء الرياح والأمواج، لكنه سيكون خطيرًا جدًّا رغم ذلك.»

«هل تستطيع العثور على هذه الصخرة إذا كنتَ تقود سفينةً تبحر في بحر البلطيق؟»

«يا إلهي، نعم يا سيدتي.»

«لو أُنزِل عشرون أو ثلاثون رجلًا من ذوي الإرادة الماضية على الدَّرَج، هل تتوقع أن يتمكَّنوا من القبض على الحامية؟»

«نعم، إذا أُنزلوا سِرًّا، لكنَّ جنديًّا أو اثنين فوق القمة معهما أسلحةٌ آليةٌ يستطيعان أن يدافعا عن الدَّرَج ضد هجوم جيشٍ كامل، ما دامت ذخيرتهما لم تنفد.»

«لكن لو أُطلِقَت قذيفةٌ من الباخرة، ألا تتمكَّن السَّريةُ المهاجمةُ من الدخول أثناء ارتباك صفوف المدافعين؟»

«هذا ممكنٌ يا سيدتي، لكنَّ باخرةً خاصةً تُطلق القذائف، أو في الواقع، تُنزل سريةً عدائيةً، فإنها تُعرِّض نفسها للوقوع في قبضة القراصنة.»

«لن تهتمَّ بخَوض التجربة إذن، أليس كذلك؟»

«أنا؟ يا إلهي، سيكون مِن دواعي سروري أن أخوضها، إذا سمحتِ لي باختيار الطاقم. يمكنني أن أضع على متنها الأسلحة الصغيرة والذخيرة المطلوبة، لكنَّني لستُ واثقًا تمامًا بشأن المدفع.»

«جيدٌ جدًّا. لستُ في حاجةٍ لإخبارك بأن تكون في غاية الحذر بشأن مَن تأتمنهم. في الوقت الحاضر، أُريد منكَ أن تتواصَل مع الموظَّف المخوَّل له بيع اليخت. أتوقَّع حضور رجلٍ في الغد ربما يُشترى اليخت باسمه، وأرجو أن يَقبل أن يكون قبطانًا له.»

«هل هو قادرٌ على تولي هذا المنصب يا سيدتي؟ هل هو بحَّار؟»

«لقد كان على مدى سنواتٍ عدة قبطانًا في أسطول الولايات المتحدة. إنني أعرض عليك منصب وكيل القبطان، لكنني سأُعطيكَ أجر القبطان، علاوة على مُكافأةٍ كبيرةٍ إذا أخلصَت في تنفيذ خُططي، سواء نجحَت أم لا. أريد منكَ أن تأتيَ إلى هنا غدًا في مثل هذا الوقت، مع الشخص المخوَّل له بَيع اليخت أو تأجيره. يُمكنك القول إنني غير مُتأكِّدةٍ هل أشتري أم أستأجِر. يجب أن أستشير القبطان كِمْت في هذه المسألة.»

«أشكركِ يا سيدتي، سأكُون هنا غدًا في مثل هذا الوقت.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤