الفصل الرابع عشر

رحلةٌ إلى المجهول

بعدما انصرفَ القبطان، أوصدَ ليرمونتوف البابَ وأحكمَ إغلاقه بالمزلاج، ثم جلسَ على حافة سريره يتأمَّل الوضع. سمعَ الأميرُ أجراسًا بعيدةً ترن على الشاطئ في مكانٍ ما، وعندما نظر إلى ساعته وجدَ أنها لم تتجاوز الحادية عشرة. لقد بدا أمرًا لا يُصدَّق كيف أنه منذ ساعةٍ إلا ربعًا غادر منزل صديقه الذي أحسنَ وِفادته، وهو الآن يشقُّ طريقَه في اضطرابٍ واهتياجٍ على متن باخرةٍ مجهولةٍ تتَّجه به إلى وجهةٍ مجهولة. بدا من المحال أن يَحدث الكثير في خمسٍ وأربعين دقيقة. تساءل الأميرُ في نفسه عما كان يفعله دروموند الآن، وعما سيفعله حين يعرف أنَّ صديقه مفقود.

غير أنَّ التفكير في الأمر لمْ يُثمر حلًّا للغز؛ لذا، ولأنه شابٌّ عمليٌّ، طرحَ الموضوع من ذهنه، وأخذَ معطفه الثقيل، الذي كان قد ألقاه على السرير، وعلَّقه على المِشجَب المُثبَّت في الباب. حين فعل ذلك لمَسَت يدُه أنبوبًا في أحد جيوب المعطف، وللحظةٍ توهَّمَ أنه مسدسه، لكنه اكتشفَ أنها المحقنة المعدنية التي اشتراها تلك الليلة من الكيميائي. جعلَ هذا أفكارَه تَنعطِف فجأةً إلى اتجاهٍ آخر. أخرجَ الأميرُ من أحد الجيوب الداخلية زجاجةً من زجاجتَي الأوزاك، وراحَ يفحصها تحت ضوء الشمعة، وتمنَّى لو يكون معه قطعة من الحجر ليُجري بها تجاربه. بعد ذلك أعاد الأدوات إلى جيب معطفِه وهو يتثاءب، وخلعَ حذاءه العالي الساق، وألقى بنفسه على السرير، وشعرَ بالامتنان لأنه لم يكن سريرًا عاديًّا مُبيَّتًا في جدار السفينة، وإنما مِهادٌ واسعٌ مُريح. في تلك اللحظة تبدَّت كاثرين لعينَيه المُغلقتَين، وراحا، يطوفان معًا في أرض الأحلام يدًا في يد.

عندما استيقظَ كان الظلامُ دامسًا في الغرفة. كانت الشموع، التي غفل عن إطفائها، قد احترقت عن آخرها. تبيَّن له من الحركة القصيرة المتشنجة للباخرة أنه إنما كان على متن مَركبٍ صغير، وأن هذا المركب الصغير كان في عُرض البحر. لقد اعتقد أنه استيقظ على صوتِ ضجيج، وتأكَّد له هذا عندما سمعَ طرقًا على باب حجرته جعله يقفز من مكانه ويفتح مزلاج الباب. كان الخادم واقفًا هناك، لكنه لم يرَ الحارس بسبب الضوء الخافت في الممر. علم الأمير أنهم كانوا في وقت الفجر.

«يود القبطانُ، يا سمو الأمير، أن يعلم إن كنتَ ستُفطر معه أم ستتناول وجبتك في الغرفة؟»

«أبلِغْ تحيَّاتي للقبطان، وقُل له إنه يُسعدني كثيرًا أن أتناول الإفطار معه.»

«سيكون جاهزًا في غضون ربع ساعة يا سمو الأمير.»

«جيد جدًّا. فلتأتِني في ذلك الحين؛ لأنني لا أعرفُ طريقي في السفينة.»

اغتسل الأمير، وسوَّى ملابسه المتغضنة بقدرِ ما استطاع، وارتدى حذاءه العالي الساق. بينما هو منهمكٌ في ذلك العمل الأخير انفتح الباب، ودخلَ القبطان الضخمُ بنفسه، وكان مرتديًا بذلةً لامعة من المشمع.

حيَّاه القبطانُ بالفنلندية: «هِيفا بايْفا (عِمْ صباحًا) يا سمو الأمير. هل ستتمشى على سطح السفينة قبل تناول الإفطار؟»

أجاب الأمير: «طابَ يومك، ومن خلال تحيتك أرى أنك فنلنديٌّ.»

ردَّ القبطان: «أنا من أبناء مدينة أُوبو الأصليين، وكما تقول سموك، فنلنديٌّ، لكنَّني مُختلفٌ عن كثيرٍ من أبناء بلدي؛ لأنني مواطنٌ روسيٌّ صالحٌ أيضًا.»

«في الواقع، لا يوجد الكثير من المواطنين الروسيِّين الصالحين، وها هو ذا أحدهم يتمنَّى لو أنه سمع أنك مواطنٌ فنلنديٌّ صالح فحسب.»

أجابَ القبطان، بنبرةٍ تقترب من الفظاظة: «إنني أقول إنني مواطنٌ رُوسي صالح لكي أتفادى أي خطأ.»

«أصبتَ أيها القبطان، وحيث إنني مواطنٌ رُوسيٌّ صالح أنا أيضًا، ربما يستطيع المواطن الروسي الصالح رقمُ واحد أن يُخبرني إلى أي مكانٍ في العالم يأخذ المواطنَ الروسي الصالح رقمَ اثنين، وهو رجلٌ لم يرتكب أيَّ جريمةٍ، ولا يرغب، في هذه اللحظة، أن يذهب في رحلةٍ رغم إرادته.»

«ربما نكون نحن الاثنين صالحَين، لكن اليومَ ليس كذلك، يا سمو الأمير. لقد ظلَّت تُمطر في الليل، ولا تزال تُمطر رذاذًا. أنصحك بارتداء معطفك.»

«أشكرك أيها القبطان، سوف أفعل.»

تناول القبطانُ المعطفَ من على مشجبه بطريقةٍ ودودةٍ للغاية، ونفضه، وأمسكه ليُطوِّق به صاحبه. أدخل ليرمونتوف ذراعه اليمنى ثم اليسرى داخل الأكمام، وعدَّل المعطف على كتفَيه، وأغلقَ أزراره كلها حتى رقبته.

وقال: «أشكرك مرةً أخرى أيها القبطان. تفضَّل وسوف أتبعك.»

خرجَ الاثنان إلى سطح السفينة حيث الصباح غائمٌ كئيب. لم يكن في مَرمى البصر أيُّ أرضٍ أو أيُّ سفينةٍ من أي نوع. وشكَّل الأُفقُ حولَ السفينة دائرةً قريبةً صغيرة. كانت السُّحُبُ دانيةً، تجري أمامَ الرياح، وتصبُّ بين الحين والآخر زخاتٍ قليلةً من المطر الذي بدا أنه يضغط جدران الأفق على السفينة أكثر فأكثر. لم تكن حركةُ البحر شديدةً إلى الدرجة التي يجوز معها وصفه بالهائج، بل متلاطم الأمواج ومضطرب فحسب، وكانت أمواجه قصيرة فما كانت لتُشكِّل مصدر إزعاجٍ لسفينةٍ أكبر من سفينتهم. اتَّضح أن السفينة البخارية لم تكن إلَّا زورقًا صغيرًا قبيحَ المنظر رديءَ المُستوى، أشبه بسفينةِ شحنٍ غير نظاميةٍ منه بسفينة حكومية. كان ثمَّة ضابطٌ بحريٌّ، من الواضح أنه وكيل القبطان، يقف فوق منصَّة قبطان السفينة، ويُمسك حاجز المنصة بيديه القويتَين، ويُحدِّق إلى الأمام في الرذاذ الأبيض الرقيق الذي كادَت كثافته تَقترب من كثافة الضباب. لم يُتِح سطحُ التنزه على متن السفينة مجالًا كبيرًا للمشي، لكنَّ القبطانَ والسجين راحا يتمشَّيان جَيئةً وذهابًا في المساحة الضيقة، ويتحدَّثان بلطفٍ وكأنهما صديقان مقرَّبان. رغم هذا كان ثمة نوعٌ ما من التحفُّظ الحَذِر في كلام القبطان؛ نوعٌ ما من المكر الحَذِر الذي يتسم به الرجلُ المتردد عندما يكون في حضرةِ مَن هو أكثر منه ذكاءً. تذكَّر القبطانُ الصريحُ أنه أُخِذَ على حين غِرةٍ في الليلة الماضية، عندما أفشى سِرَّه دون قصدٍ وتفوَّه بالكلام عن الخليج الفنلندي، وذلك بعدما رفضَ أن يُخبر الأميرَ طواعيةً عن وجهةِ الباخرة. لاحظ ليرمونتوف هذا الإحجامَ عن الخوضِ في لُجَّةِ الحديث الحر؛ ولذا بدلًا من أن يُطمئن القبطانَ بأنه سيتوقَّف عن توجيه المزيد من الأسئلة إليه، اكتفى بأن أخذَ على عاتقه عِبءَ الاسترسال في الكلام، وراحَ يُحدِّث القبطانَ عن بعض عجائب لندن ونيويورك.

تقدَّمَ الخادمُ بخُطًى وقورةٍ نحو القبطان، وأعلن أنَّ الفطور جاهز، وبذلك تبِعه الرجلان إلى رَدهةٍ لا يزيد حجمُها كثيرًا عن حجم الغرفة الخاصة التي قضى فيها ليرمونتوف ليلته الفائتة، لكنها لا تتمتَّع بالأثاث الوثير الموجود في غرفته. كان على المائدة فطورٌ وافر، يتكون بصورةٍ أساسيةٍ من السمك والبطاطس المطهوة بالبخار، والخبز الأسود والشاي الشديد التركيز. راحَ القبطانُ يشرب فنجانًا تلو فنجانٍ من هذا المشروب المغلي، ويبدو أنه كان يزدادُ رقةً بجرع المزيد منه وكأنما كان نبيذًا. وبالفعل نسي القبطان بمرور الوقت أنَّ جليسه كان سجينًا؛ إذ قال ببراءةٍ شديدةٍ للخادم الواقف لتلبية طلباتهما:

«هل أكل المساكينُ الموجودون بالأسفل أيَّ شيء؟»

أجاب الخادم: «لم تصدر أوامرك بهذا يا سيدي.»

«يا إلهي، حسنٌ، أعطِهم شيئًا؛ شيئًا ساخنًا. ربما تكون وجبتهم الأخيرة»، ثم وهو يلتفت وجد الأميرَ يُحدِّق فيه، فطلبَ بفظاظةٍ فنجانًا آخر من الشاي، وأوضحَ:

«ثلاثة من أعضاء طاقم السفينة شربوا الكثير من الفودكا في سانت بطرسبرج ليلة أمس.»

أومأ الأميرُ برأسه دونَ اكتراثٍ وكأنه صدَّقَ، وقدَّم علبة سجائره المفتوحةَ للقبطان، لكن القبطان هزَّ رأسه رافضًا.

وقال بصوتٍ أجش: «أنا أُدخِّن الغليون.»

نهضَ القبطان من مكانه مُمسكًا غليونه المشتعل، وسارا معًا على سطح السفينة من جديد. لم يَعُد الأميرُ يرى الحارسَ الطويلَ القامة الذي كان يحرسه في الليلة الماضية؛ لذا ومن دون استئذانٍ تأكَّدَ أن حركته صارَت غيرَ مقيَّدة، بعدما أصبحوا الآن في عُرض البحر؛ فراحَ يذرع سطح السفينة جَيئةً وذهابًا يدخِّن السجائر. عندما دقَّ أحدُ الأجراسِ صعدَ القبطانُ إلى منصة القبطان على متن السفينة ونزل وكيلُ القبطان.

فجأةً لاحَت من بين الضباب الممتد أمامَهم سفينةُ شحنٍ بريطانيةٌ سوداءُ كبيرةٌ تشق طريقَها نحو سانت بطرسبرج، كما توقَّع الأمير. كانت الباخرتان، الكبيرةُ والصغيرة، قريبتَين جدًّا إحداهما من الأخرى، حتى إنَّ الاثنتَين اضطرَّتا للانحراف عن مساريهما قليلًا؛ عندئذٍ اتجه القبطان إلى منصة القبطان وبدا للحظةٍ غيرَ واثقٍ ممَّا عليه أن يفعله مع السجين. كان عددٌ من الرجال مستندين على جانب السفينة البريطانية الممتد فوق سطحها العلوي، وكان من الممكن جدًّا لأي شخصٍ يقف على إحدى السفينتَين أن يُعطي رسالةً للواقفين على الأخرى. أدركَ الأميرُ ورطةَ القبطان، فنظرَ إليه وابتسم، لكنه لم يُحاول أن يستفيد من مأزقه. صاحَ شخصٌ ما على متن السفينة البريطانية ولوَّح بمنديلٍ في يده، عندئذٍ لوَّح الأميرُ بسيجارِه في الهواء، واختفت السفينة الضخمةُ في ضباب الشرق.

أخذَ ليرمونتوف يتجوَّل على سطح السفينة ويُفكِّر بجديةٍ شديدةٍ في وضعه، متسائلًا في نفسه عن الوجهة التي ينوون أخذه إليها. إنْ كان سيُوضَع في السجن، فلا بد أن يكون هذا في أحد أماكن الاحتجاز الواقعة على ساحل فنلندا، وقد بدا هذا غريبًا؛ لأنه كان يعلم أنَّ الحصون هناك مليئةٌ بالفعل بسكان هذه البلاد المتمردة المستائين. كان انطباعه الأول أنهم سيأخذونه إلى المَنفى، وكان يتوقَّع أن يُنزلوه في أحد موانئ السويد أو ألمانيا، لكنَّ عِبارةً عارضة صدرَت من القبطان في أثناء تناولهما وجبة الإفطار أشارت إلى وجود سجناء آخرين على متن السفينة لا يَحظون بالمعاملة المُرضية التي يحظى هو بها. لكن لماذا يُؤخَذ إلى خارج روسيا تمامًا، أو حتى يُبعَدُ عن سانت بطرسبرج التي يعلم عِلمَ اليقين أنها لم تكن تعاني قلَّةَ عدد السجون؟! خلقَت فيه مواصلةُ الباخرةِ رحلَتَها في عُرض البحر من جديدٍ الأملَ في أن تكون ستوكهولم هي الهدف المنشود. لو أنهم أنزلوه بها فإن هذا لن يعني سوى قليلٍ من الإزعاج المؤقت، وراحَ يأمل أنه بمجرد أن يصل إلى الشاطئ سيكتبُ برقيةً ظاهرةَ البراءة للغاية بحيث تتغلَّب على المصاعب وتصل إلى صديقه، وتُطلع دروموند على مكان إقامته على الأقل. أثار التفكيرُ في دروموند كلَّ مخاوفه القديمة من أن يكون الإنجليزي هو الضحية المقصودة في الحقيقة، وأن تكون هذه الرحلة البحرية القسريةُ مجرَّدَ وسيلةٍ ملائمةٍ لإزاحته من الطريق.

بعد الغداء بدأ رذاذٌ ضعيفٌ يتساقط لكنه ما لبِثَ أن أصبح وابِلًا متواصلَ الانهمار، مما دفعَ ليرمونتوف إلى دخول غرفته، ولمَّا لم يكن في تلك الغرفة نافذةٌ ولا مصباحٌ كهربائي، أشعل الأميرُ عود ثقابٍ وأضاءَ به واحدةً من الشموع الموضوعة حديثًا على حوض غسل الوجه. دفع الأميرُ الزِّر الإلكتروني مُستدعيًا الخادم، وبعدما أعطاه بعضَ المال سأله إن كان يوجد على متن السفينة شيءٌ كالحَجَر أو ما شابه، يكونون قد حملوه معهم لحفظ توازن السفينة، أو لأي غرضٍ آخر. قال الخادم إنه سيبحث، وأخيرًا عادَ ومعه حَجَر يُستخدَم لصقلِ السكاكين في مطبخ السفينة. بعدما أغلقَ ليرمونتوف بابَ غرفته بالمزلاج بدأ يُجري تجربةً عِلمية، ونسيَ على الفور أنه سجين. ملأَ الأميرُ حوض غسل الوجه بالماء، وبعدما فتحَ إحدى الزجاجتَين ذواتي السِّدادات الزجاجية، أخرجَ برأس سكينه جزءًا ضئيلًا جدًّا من المادة الموجودة بداخل الزجاجة، وأذابها في الماء دون تأثيرٍ واضح. بعدما أوقفَ حَجَرَ الشَّحْذِ على أحد طرفيه، ملأَ المحقنة الزجاجية، ووجَّه رذاذًا متطايرًا خفيفًا إلى الحَجَر. ذابَ الحجرُ أمام عينَيه مثلما تذوبُ قلعةٌ رمليةٌ على الشاطئ عندما تمسها أمواجُ المَد.

صاحَ الأميرُ قائلًا: «بَركتك أيها القديس بيتر الروسي! فعلتُها أخيرًا! لا بد أن أكتب لكاثرين عن هذا.»

بعدما استدعى ليرمونتوف الخادمَ مرةً أخرى ليزيل هذا السائلَ، ويُحضرَ له مِلء دلوٍ من الماء النقي، حاولَ أن يستخرج بعضَ المعلومات من ذلك الشاب المهذَّب.

«هل زرتَ مدينة ستوكهولم من قبل؟»

«لا يا سمو الأمير.»

«ولا أيًّا من موانئ ألمانيا؟»

«لا يا سمو الأمير.»

«هل تعلم إلى أين نتجه الآن؟»

«لا يا سمو الأمير.»

«ولا متى سنصل إلى وِجهتنا؟»

«لا يا سمو الأمير.»

«لديكم بعضُ المساجين على متن السفينة، أليس كذلك؟»

«ثلاثة بحارةٍ سكِّيرين يا سمو الأمير.»

«نعم، هذا ما قاله القبطان. لكن لو حُكِمَ بالموت على كل بحَّارٍ سكران فستتوقَّف تجارةُ العالم سريعًا.»

«هذه باخرةٌ حكوميةٌ يا سمو الأمير، وإذا عصى أحدُ البحَّارةِ الأوامر هنا، فإنه يُعَدُّ مُتمردًا. أما على متن السفن التجارية فلا يَزيد الأمرُ على وضعه في السجن.»

«فَهِمت. والآن هل تريد أن تجني بعضَ القطع الذهبية؟»

«لقد كنتَ في غاية السخاء معي بالفعل يا سمو الأمير.» هكذا كان الرد غير الواضح الذي أجابَ به الخادم، الذي لمعَت عيناه برغم هذا عندما ذُكِرَ الذهب.

«حسنٌ، ها هو ذا ما يكفي منه لِجعل جيبك يُجلجل، وها هما تان رسالتان عليك أن تحاول إيصالهما عندما تعود إلى سانت بطرسبرج.»

«نعم يا سمو الأمير.»

«هل ستبذل وسعك؟»

«نعم يا سمو الأمير.»

«حسنٌ، لو نجحتَ في هذه المهمة فسأَهبكَ ثروةً عندما يُطلق سراحي.»

«أشكرك يا سمو الأمير.»

في تلك الليلة عند تناول العَشاء فتحَ القبطانُ زجاجة فودكا، وتحدَّث بلُطفٍ في مواضيع كثيرة، دون أن يُشير إلى موضوع الحرية المُهم. كان يشرب باقتصادٍ من الفودكا، وقد خابَ أملُ ليرمونتوف لمَّا عجزَ مفعولُها تمامًا عن إطلاق لسان القبطان بالكلام، ومن ثمَّ فقد أوى الأمير إلى الفِراش لليلة الثانية على متن الباخرة وهو لا يدري شيئًا عن مصيره.

عندما استيقظَ في صباح اليوم التالي وجدَ أنَّ المحركات توقَّفَت، ولمَّا كانت السفينةُ ساكنةً فقد استنتجَ أنها وصلَت إلى الميناء. سمعَ زمجرةً مُتقطِّعةً صادرةً من أحدِ مُحرِّكاتِ الجازولين الصغيرة، وصريرًا صادرًا من رافعةٍ لمْ تُزيَّت جيدًا، وخمَّنَ أنَّ السفينة كانت تُفرغ حمولتها على الشاطئ.

قال الأمير في نفسه: «والآن، لو وجدتُ حارسي السابق واقفًا عند الباب فسيَقتادُونني إلى السجن. إذا لم يكن هناك، فسيُطلقُون سراحي.»

قفزَ الأميرُ من فِراشه، وجذَبَ المزلاج إلى الخلف، وفتَح الباب. لم يكن هناك أحد. بعد دقائقَ معدودةٍ كان على سطح السفينة، ووجَد أنها كانت راسيةً في حِمى صخرةٍ كبيرة، ذكَّرته هذه الصخرة بجبل القديس ميشيل في نورماندي، باستثناء أنَّ ارتفاعها كان يزيد على ارتفاعه بمرةٍ ونصف تقريبًا، وكانت أطول منه ثلاث مرات، ولم يكن فوقَها أيُّ مبانٍ من أي نوع، وكذلك لم يكن بها بالطبع، أدنى أثرٍ لسُكنى أحدٍ من الناس.

كان الصباحُ جميلًا؛ أشرقت الشمسُ لتوها، وراحت تَغمر الصخرة المتجهِّمةَ بضوءٍ وردي. باستثناء هذه الصخرة لم يكن ثمة أثرٌ لأيِّ بقعةٍ من اليابسة على امتداد البصر. كان إلى جوارِ الباخرةِ قاربٌ شراعيٌّ له صاريان، لكنه كان مزوَّدًا أيضًا بالأوتاد والمجاديف، لاستخدامها في التجديف. كانت الأشرعةُ ملفوفةً، ومن الواضح أنه أُحضِرَ إلى جوار الباخرة بواسطة المَجاديف. كانت الرافعةُ تدلي داخل هذا القارب صناديقَ وحقائبَ وما إلى ذلك، مما كان يُخزِّنه ثلاثةُ أو أربعةُ رجال. كان وكيلُ القبطان يُشرف على نقل هذه الحمولة، وكان القبطان واقفًا يستند بظهره إلى غرفة الركَّاب، يُسلِّمُ أوراقًا مُعيَّنةً واحدةً تلو الأخرى لشابٍّ راحَ يُوقِّع داخل دفترٍ كلما تسلَّم وثيقةً منها، وقد استنتجَ ليرمونتوف أنها وثائق الشحن. عندما اكتملت هذه الصفقةُ حيَّا الشابُّ القبطانَ، ونزلَ من على جانبِ السفينة إلى القارب الشراعي.

قال ليرمونتوف: «صباح الخير أيها القبطان. لقد رسَت السفينة كما أرى.»

«لا، لمْ ترسُ بعد. نحن فقط نَنتظِر انقطاع الرياح. البحرُ عميقٌ للغاية، وليسَ فيه مرفأٌ في هذه البقعة.»

«إلى أين تذهب كلُّ هذه البضائع؟»

أومأَ القبطانُ برأسه إلى الصخرة، وحدَّقَ إليها ليرمونتوف مرةً أخرى، مصوِّبًا عينيه من قمَّتها إلى قاعدتها ولم يرَ أيَّ أثرٍ من آثار التمدن.

«إذن سوف ترسو أنت مؤقتًا في حِمى هذه الصخرة، وسيأخذ القاربُ الصغيرُ المؤنَ إلى الشاطئ، أليس كذلك؟»

قال القبطان: «بالضبط.»

«أظن أنَّ المكان المأهول بالناس في الجانب الآخر. أيُّ شيءٍ هو؛ منارة؟»

قال القبطان: «لا توجد منارة.»

«نوعٌ من خفر السواحل إذن؟»

«نعم، تقريبًا. إنهم يحرسون شيئًا ما. والآن يا سمو الأمير، أرى أنَّ معطفك على ظهرك. هل تركتَ أيَّ شيءٍ في غرفتك؟»

ضحكَ الأميرُ، وقال:

«لا أيها القبطان، لقد نسيتُ أن أُحضِر حقيبة سفرٍ كبيرةً معي.»

«إذن لا بد لي من توديعك هنا.»

«ماذا، هل ستُلقي بي إلى هذه الحصاة العائمة في المحيط؟»

«سوف يَعتنون بك جيدًا يا سمو الأمير.»

«ما هذا المكان؟»

«إنها تُدعى تروجزموندوف يا سمو الأمير، وهذا الماء من حولك هو بحر البلطيق.»

«هل هي منطقةٌ روسية؟»

أجابَ القبطان وهو يأخذ نفسًا عميقًا: «روسيةٌ جدًّا جدًّا. تفضَّل من هذا الاتجاه، إذا سمحت سموك. ثمَّة سلمٌ مصنوعٌ من الحبل، وهو لا يثبتُ تحت أقدام ساكني اليابسة أحيانًا؛ ولذا خُذ حذرك.»

«يا إلهي، أنا معتادٌ على السلالم المصنوعة من الحبال. هِيفاسْتي (مع السلامة) أيها القبطان.»

«هِيفاستي يا سمو الأمير.»

وبعد هذا الوداع الفنلندي المتبادَل نزل الأميرُ على السلَّم المتأرجح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤