الفصل الحادي والعشرون

الهروب من أجل الزواج

لم تكن الفتاتان على متن اليخت تتوقَّعان أن يعود القبطان كِمْت بالشابَّين. غير أنهما حين شاهدا عبر منظارهما القوي، أنَّ دروموند والأمير كانا على متن القارب الصغير، انطلقتا معًا إلى البهو الرئيسي، وجلستا هناك ويدُ إحداهما تمسك بيد الأخرى. حتى كيت المُفعمة بالحماسة لم يكن لديها ما تقوله هذه المرة. لقد سمعَت صوتَ أبيها على متن اليخت وهو يُعطي أمرًا لوكيل القبطان.

«توجَّه إلى ستوكهولم يا جونسون. خُذ رجال سفينتي الحربية، واحرص على ألَّا يمسَّ الذخيرةَ أحدٌ سواكم، وألقوا بالقذائف في البحر. وارموا المدفعَ وراءها، وبعد ذلك ألقوا البنادق وذخيرتها بالطريقة نفسها. عندما نصل إلى ستوكهولم في صباح الغد يجب ألا يكون على متن هذه السفينة سلاحٌ واحد، أما بخصوص الشائعة السخيفة التي انتشرت بين رجالك عن أننا كنا سنشنُّ هجومًا على شيءٍ أو آخر، فستحرص على التأكيد على أنها كانت عاريةً تمامًا عن الصحة. أقِرَّ ذلك في أذهانهم يا جونسون.»

همسَت كاثرين وهي تأخذ نفَسًا عميقًا: «يا إلهي! دورثي، إذا كنتِ خائفةً مثلي فشُدِّي من أزري.»

«أعتقد أنني سأفعل»، بهذا أجابتها دورثي، وضغطت إحداهما على يد الأخرى.

سُمِعَ صوتُ الأميرِ الموحي بالثقة يقول: «صدِّقني يا حضرة القبطان، إنَّ هذه السفينة تحفةٌ جمالية. لقد أسديتَ إلى نفسك معروفًا. لم يكن لديَّ أدنى فكرةٍ أنك مُترفٌ هكذا. يا إلهي، لقد كنتُ على متن يخت القيصر، وصدقني إنه لا يُقارن بهذا على الإطلاق …» ثم صاحَ بصوتٍ جعل سقف اليخت يطن: «يا إله السماء! كاثرين!»

كانت واقفةً حينذاك وتوجَّهَت إليه وكلتا يديها ممدودة، وعلى شفتَيها الجميلتَين ابتسامةٌ مُرحِّبة، لكنه انقضَّ عليها، وألقى ذراعيه حولها وكأنه سائق عربة أجرةٍ يُدفئ يديه، وراحَ يُقبِّل جبينها وخَدَّيها وشفتَيها، ويتمايل بها إلى الأمام والخلف وكأنه يُوشك أن يُسقطها من أعلى الدَّرَج.

صاحت كاثرين: «كفاكَ، توقَّفْ. ألا تَخجل من نفسك؟ وأمامَ أبي أيضًا! أيها الدُّب الروسي الضخم!» ثم وضعت راحةَ يدها على وجهه وهي لاهثة الأنفاس، ودفعَت رأسه بعيدًا عنها.

قال أبوها: «لا تقلقي بشأني يا كيت. هذا لا يُعدُّ شيئًا مقارنةً بما كنا نَفعلُه عندما كنتُ شابًّا. تعاليا أيها الفتَيَان، إلى غرفة التدخين، سوف أمزج لكما شيئًا جيدًا؛ خمرٌ أصيل من ولاية كنتاكي مُعتَّقٌ منذ سبعٍ وعشرين سنة، ولديَّ كلُّ ما يلزم أيضًا لتحضير شراب المانهاتَن.»

«أنا سعيدةٌ لرؤيتك يا جاك»، هكذا قالت كاثرين لاهثةً، وقد اعتراها ارتباكٌ شديد، لكنها حاولَت أن تُصحِّحه بلمسةٍ قلِقَةٍ هنا وهناك. وأردفَت: «والآن يا جاك، سوف أصطحبُكَ إلى غرفة التدخين، لكن عليك أن تُحِسن التصرُّف وأنت تسير على سطح اليخت. لا تجعل مني أضحوكةً أمام طاقم البحَّارة.»

قال القبطان: «أسِرع يا دروموند، وأحضِر الآنسة دورثي معك.»

لكنَّ دروموند وقفَ أمام دورثي إمهيرست، ومَدَّ يده.

«أرجو ألَّا تكوني نسيتِني يا آنسة إمهيرست!»

ردَّت دورثي بابتسامةٍ خجول للغاية وهي تمسك يده: «يا إلهي! لا، لمْ أنسك!»

بدأ دروموند بالكلام: «من المُدهِش أنكِ هنا. كم أنا محظوظ! يأخذ القبطانُ كِمْت يختَه لينقذ صهره المستقبلي، وبالمصادفة ينقذني كذلك، ثم أجدُكِ هنا! أظنُّكِ أتيتِ لأن صديقتكِ الآنسةَ كِمْت جاءت على متن اليخت، أليس كذلك؟»

«بلى، نحن مُتلازمتان تقريبًا.»

«لقد كتبتُ لكِ رسالةً يا آنسة إمهيرست، في آخِر ليلةٍ قضيتُها في سانت بطرسبرج في فصل الصيف.»

«نعم، لقد وصلَتني.»

«لا، ليست هذه. بل في الليلة التي قُبِضَ عليَّ فيها، ولمْ تُتَح لي الفرصةُ مطلقًا لإرسالها. لقد كانت رسالةً مهمةً؛ بالنسبة إليَّ.»

ردَّت دورثي، وهي تبتسم الآن بأريحيةٍ كبيرة: «لقد رأيتُ أنها مُهمة؛ بالنسبة إليَّ أيضًا. لقد حصل عليها أعضاءُ جماعة العَدَمية؛ إذ فتَّشوا في غرفتك بعدما قُبِضَ عليك. لقد أُرسلَت إلى نيويورك، وسُلِّمَت إليَّ.»

«أهذا ممكن؟ كيف عرفوا أنها مُرسَلةٌ إليكِ؟»

«كنتُ أُجري بعضَ التحريات من خلال جماعة العَدَمية.»

«لقد كتبتُ لكِ عرضًا بالزواج يا دورثي.»

«لقد بدا كذلك بالتأكيد، لكنَّك تَعلم أنه لم يكن مُوقَّعًا، وليس من الممكن إلزامك بالوفاء به.»

مدَّ دروموند يديه عبر المنضدة، وأمسكَ كلتا يديها.

وصاحَ: «دورثي، دورثي، هل تعنين أنكِ كنتِ ستُرسلين برقيةً تقولين فيها «نعم»؟»

«لا.»

«ما كنتِ ستفعلين ذلك؟»

«بالطبع لا. كان عليَّ أن أرسل برقيةً بكلمة «مُتردِّدة». فأنا أرى أنَّ المرءَ يستفيد أكثرَ عندما يرسل برقيةً بكلمةٍ طويلة. وإذن كان ينبغي لي أن أكتب …» وتوقَّفَت عن الكلام، فصاحَ بلهفة:

«ماذا؟»

سألته: «ماذا تتوقَّع؟»

«حسنٌ، أتعلمين يا دورثي، لقد بدأتُ أعتقد أنَّ حظي السعيد بصورةٍ مُدهِشةٍ سوف يستمر، وأنكِ كنتِ ستكتبين «نعم».»

«أنا لا أعرفُ شيئًا عن الحظ، لكن هذه كانت ستكون هي الإجابة.»

نهضَ دروموند من مكانه، وانحنى عليها، ورفعت هي وجهها إلى وجهه دون أدنى تكلُّف.

صاحَ دروموند: «دورثي.»

ردَّت بصوتٍ مرتجف: «آلان. لمْ أتوقَّع مطلقًا أن أراكَ مرةً أخرى. لا يمكنك أن تتصوَّر العذاب الطويل الذي سبَّبَته هذه الرحلة، وأنا لا أعرفُ ما جرى.»

«إنها لنعمةٌ يا دورثي أنكِ لمْ تَعلمي شيئًا عن قلعة تروجزموندوف.»

«آهِ، لكنني عرفت؛ وذلك ما أرعبني. معنا رجلٌ على متن اليخت أُلقي ليموت من تلك الصخرة المرعبة. لكن بحر البلطيق أنقذه؛ إنه يُسميه أمه.»

حملها دروموند بين ذراعيه، وأخذَها إلى الأريكة الفاخرة الممتدة على جانب الغرفة الكبيرة. وجلسا هناك معًا، بعيدًا عن الدَّرَج.

«هل وصلَتكِ جميعُ رسائلي؟»

«أظن ذلك.»

«وتعلَمين أني رجلٌ فقير؟»

«أعلم أنك قلتَ ذلك.»

«ألا تَعُدِّين وضعيَ الماليَّ فقرًا؟ كنتُ أظن أنَّ جميع مَن هنا يَحتقرون أيَّ دخل يقل عن عشرات الآلاف.»

«قلتُ لكَ يا آلان إنني حديثة عهدٍ بالمال، ولذا يبدو لي دخلُك كافيًا جدًّا.»

«إذن فأنتِ لا تخافين من وضع ثقتكِ في مستقبلي؟»

«إطلاقًا؛ أنا مؤمنةٌ بك.»

«يا إلهي! أيتها الفتاة الحبيبة. ليتَكِ تعلمين مدى جمال كلماتك هذه في أذني! أستطيع إذن أن أخبركِ. في آخِر زيارةٍ لي إلى لندن مررتُ سريعًا على مدينة دارتموث في مقاطعة ديفنشر. سوف أُعيَّنَ هناك. لقد أنهيتُ رحلاتي في البلاد الأجنبية كما تعلمين، وستكون دارتموث هي دياري، بصورة مؤقتة على الأقل. ثمَّة مرفأٌ جميلٌ هناك، وتلالٌ خضراءُ ونهرٌ جميلٌ يجري بينها، وقد عثرتُ على منزلٍ عتيقٍ جميلٍ للغاية؛ إنه ليس فخمًا على الإطلاق، لكنه ملائمٌ ومريحٌ جدًّا، وهو مبنيٌّ على المرتفعات التي تطل على المرفأ، وتُحيط به حديقةٌ عتيقةٌ مليئةٌ بالورود والشجيرات وجميع أنواع الأزهار؛ والكروم تمدُّ أغصانها على جدران المنزل العتيق. خادمان فقط سيكفيان جدًّا للاعتناء به أفضلَ عناية. دورثي، ما رأيُك؟»

ضحكَت دورثي بهدوءٍ ومن صميم قلبها.

«يبدو كلامُك هذا كمقطوعةٍ من قصةٍ رومانسيةٍ إنجليزيةٍ قديمة. إنني أتوق إلى رؤية هذا المنزل.»

سألها وهو يسترِقُ النظرات حوله: «أنتِ لا تكترثين لهذه الأشياء، أليس كذلك؟»

«أيَّ أشياء تقصد؟»

«هذا اليخت، وهذه الكُسوات الحريرية، وتلك الصور الفائقة الجمال، وهذا النقش، والأشياء المُذهَّبة، والسجاد الباهظ الثمن.»

«تقصد هل أشعرُ أنه من الضروري أن أكون محاطةً بوسائل الترف هذه؟ كلا بكل تأكيد. أنا أُفضِّل منزلك الذي تُغطيه أغصانُ نبات اللبلاب في دارتموث على ذلك كثيرًا.»

للحظةٍ لم ينطق أيٌّ منهما بكلمة؛ فالشِّفاه لا تستطيع الكلام عندما تلتصق إحداها بالأخرى!

«والآن يا دورثي، أريدكِ أن تَهرُبي معي لنتزوج. سوف نصل إلى ستوكهولم قبل مدةٍ طويلةٍ من بزوغ فجر غدٍ بهذه السرعة التي يسير بها المركب. سوف أنزل إلى الشاطئ بأسرعِ وقتٍ مُمكن، وسوف أقوم في القنصلية بإجراء جميع الاستعلامات عن إتمام الزواج. أنا لا أعرفُ القواعد، لكن إذا أمكن أن نتزوج في هدوء، بحلول فترة الأصيل مثلًا، فأرجوكِ أن توافقي على هذا، ثم اكتبي بعد ذلك رسالةً إلى القبطان كِمْت، واشكريه فيها على الرحلة على متن اليخت، وسوف أرسلُ إليه رسالةً أنا أيضًا، أشكره فيها على كلِّ ما فعله من أجلي، وبعد ذلك سنتجه إلى لندن معًا. في جيبي كتاب اعتمادٍ مالي، من حُسن الحظ أنَّ الروس لم يأخذوه مني. سوف أحصل به على كلِّ ما نحتاجه من المال في ستوكهولم، ثم سنعبر السويد، ونبحر إلى الدنمارك، ونمر بألمانيا ومنها إلى باريس، إذا أحببتِ، أو إلى لندن. لن نسافر طوال الوقت، بل سنأخذ رحلاتٍ نهارية قصيرة ممتعة، ونتوقَّف في بعض المدن العتيقة الجذابة بعد كل زوالٍ وفي كل مساء.»

«تقصد أن نترك القبطانَ كِمْت، وكاثرين، والأمير يذهبون إلى أمريكا وحدَهم؟»

«بالطبع. ولمَ لا؟ إنهم ليسوا بحاجةٍ إلينا، وأنا واثقٌ تمامًا أننا … حَسنٌ يا دورثي، سيسعدنا وجودُهم بالتأكيد … لكن مع ذلك، لقد ذهبتُ في جولاتٍ كثيرةٍ عبر أوروبا، وثمَّة بعض المدن العتيقة المبهجة التي أود أن أريكِ إياها، وأنا أكره السفر في مجموعة.»

ضحكَت دورثي من صميم قلبها حتى إنَّ رأسها مالَ على كتفه.

وقالت أخيرًا: «حسنًا، موافقة.»

وهكذا فَعَلَا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤