الفصل الرابع

بمفردهما أخيرًا

قال المُلازم دروموند: «شخصٌ ما أخذَ الكرسيَّ القابل للطي. هل تَسمحين لي بالجلوس هنا؟» وقد تكرَّمَت الفتاة بإعطائه الإذن الذي طلبه.

عندما جلسَ المُلازم نظرَ حوله سريعًا، ثم مدَّ يده دون تفكير.

وقال: «آنسة إمهيرست، كيف حالُك؟»

ردَّت الفتاةُ مُبتسمةً: «بخير حال، شكرًا لك»، وبعد تردُّدٍ لم يدُم أكثرَ من نصفِ لحظةٍ وضعت يدها في يده.

«لا شك بأنَّكِ تستطيعين الرقص يا آنسة إمهيرست، أليس كذلك؟»

«بلى، لكن ليس الليلة. لستُ بأكثر من مُتفرجٍ في فيينا في هذا الحفل. يجب ألا تَسمح للكياسة بإبعادك عن الأرض، أو، ربما يجدر بي أن أقول عن سطح السفينة. إنني لا أمانع ألبتَّة في أن أبقى وحدي.»

«حسنًا، يا آنسة إمهيرست، هذا ليس تلميحًا، أليس كذلك؟ قولي لي إنني لم أُضجركِ بصحبتي.»

«يا إلهي، لا، لكنَّني لا أُريدُك أن تشعر أنك قد أصبحتَ مُلزمًا، لمجرَّد أن التقينا مصادفةً منذ بضعة أيام، بأن تُضيِّع ليلتك في الامتناع عن الرقص.»

«في الواقع يا آنسة إمهيرست، مع أنني أُحب للغاية أن أنالَ شرفَ الرقص معكِ، فلا توجد أيُّ فتاةٍ أخرى هنا أرغب في طلب الرقص معها. لقد خانتْني شجاعتي مرةً أو مرتَين هذه الليلة تحت المراقبة اللصيقة التي يَفرضها عليَّ قائدي، وأنا أحاول بعضَ الشيء منذ ذلك الحين أن أبتعد عن عينيه. أشعر أنه اكتشف فيَّ شيئًا جديدًا يَستهجنُه منِّي؛ ولذا قررتُ قرارًا حاسمًا ألَّا أرقص، إلا إذا وافقتِ على الرقص معي؛ ففي هذه الحالة سأكون مُستعدًّا تمامًا لمواجهة نظراته الطافحة بالتأنيب.»

«هل اقترفتَ أيَّ خطأٍ مؤخرًا؟»

«الربُّ وحده يعلم! إنني أحاول ألا أتعمَّد الإزعاج، وقد بذلتُ جهودًا إضافيةً بالفعل لكي أكون أكثر صلاحًا، لكن يبدو أنها جميعًا بلا فائدة. إنني أحاول أن أتجوَّل على متن السفينة في حالةٍ من التواضُع والهدوء غيرَ لافتٍ الأنظارَ إليَّ، لكن هذا صعبٌ بعضَ الشيء على شخصٍ في مثل حجمي. لا أعتقدُ أن بإمكان أيِّ رجل أن يَنجح في الانحناء ما لم تكن قامتُه أقل من ست أقدام.»

ضحكت دورثي في اطمئنانٍ وهدوء. لقد أدهشَها أنها تشعر بالراحة معه، وبالسعادة أيضًا. لقد كان بينهما سرٌّ مشترك، وكان هذا في حدِّ ذاته رابطةً غير ملموسةٍ تربطها به، وهي التي لم تكن لها صلةٌ مع أي أحدٍ آخر. لقد أحبَّتْه؛ كانت تُحبُّه منذ البداية؛ وكانت بهجتُه غيرُ الخافيةِ في حضورها مُرضيةً لفتاةٍ مثلها لم يَسبِق لها أن وجدَت مَن يُقدِّم لها المجاملات اللطيفة التي تُقدم للفتيات في الحياة.

«أهي المهمَّة الروسية مرةً أخرى؟ إنكَ لا تبدو مهمومًا كثيرًا بها.»

قال دروموند متلعثمًا في ارتباكٍ واضح: «يا إلهي، هذا … هذا …» ثم قال فجأةً دون روية: «لأنكِ … لأنني جالسٌ هنا معك. فرغم أنني لم أُقابلكِ سوى مرةٍ واحدة من قبل، يبدو بطريقةٍ ما وكأنني كنتُ أعرفكِ دومًا، وأما قلقي الصغير الذي أخبرتُكِ عنه فقد تلاشَى في حضورك. أرجو ألا تظنِّيني وقحًا بسببِ ما سأقوله، لكنني الليلة حقًّا، عندما رأيتُكِ عند مُقدَّم سُلَّم السفينة، لم أتمكَّن من إمساك نفسي عن التوجُّه مباشرةً إليكِ والترحيب بكِ. أخشى أنني أفسدتُ الأمر إلى حدٍّ ما مع القبطان كِمْت. لقد كان ألطف كثيرًا من أن يُظهِرَ أيَّ اندهاشٍ من مُبادرتي إيَّاه بالكلام والتي كانت صاخبةً نوعًا ما، والحق أنني لم أكن أتذكَّرُه مطلقًا، لكني رأيتُكِ قادمةً في كنفه، فجاذفتُ بذلك. بدا لحسنِ الحظ أنه كان هو القبطان كِمْت رغم ذلك، لكن يُؤسفني أنني قد فاجأتُه، أو ربما اقتحمتُه، إذا جاز التعبير.»

قالت دورثي: «لقد رأيتُ أنَّ ترحيبك به كان لطيفًا للغاية. والحقُّ أنني لم أشكَّ حتى هذه اللحظة في أنك لم تتعرَّف عليه. إنه عجوزٌ لطيف، وأنا مُغرمةٌ به للغاية.»

قال المُلازم خافضًا صوته: «أرى أنني كدتُ أن أُخفق إخفاقًا فاضحًا عندما ذكرتُ تلك المهمة الروسية أمام صديقتكِ. لقد كنتُ أُفكِّر في … في … حسنٌ، لم أكن أُفكِّر في الآنسة كِمْت …»

أسرعَت دورثي بالقول: «يا إلهي، إنها لم تُلاحظ أيَّ شيءٍ مُطلقًا. ثم إنك تخلصتَ من هذا أيضًا ببراعةٍ شديدة. لقد فكَّرتُ في إخبارها أنِّي قابلتُكَ من قبل عندما كنتُ أنا وهي في نيويورك، لكنَّ الفرصة لم تَسنح قط … حسنٌ، لم أستطِع توضيح الأمر جيدًا، وفي الواقع، لم أُرِد أن أُفسِّر سلوكي الذي يتعذر تفسيره عندما كنتُ في البنك، فاعتمدتُ على الحظ. لو كنتَ رحَّبتَ بي قبلهم الليلة، فأظن …» ثم ابتسمَت ورفعَت عينيها إليه وأكملت حديثها قائلة: «أظن أنه كان سيجدر بي أن أواجه الموقف بشيءٍ من صفاقة الوجه.»

«هل زرتُما مدينة نيويورك؟»

«نعم، لقد قضينا فيها أسبوعًا تقريبًا.»

«يا إلهي، هذا هو السببُ إذن.»

«سببُ ماذا؟»

«لقد ذرعتُ كلَّ شارعٍ وحارة وزُقاقٍ في مدينة بار هاربر جَيئةً وذهابًا، على أمل أن ألمحكِ. لقد أكثرتُ التردُّد على المدينة، وكنتِ أنتِ غائبة طوال هذا الوقت.»

«لا عجبَ أنْ يَعبس القُبطانُ في وجهك! هل كنتَ تُهمل عملَك؟»

«في الواقع، كنتُ أُضيف القليلَ فحسب إلى الوقت الذي يُسمَح لي فيه بالتنزه على الشاطئ. كنتُ أريد أن أعتذر عن كثرة كلامي عن نفسي أثناء عودتنا من البنك.»

«لقد كان ذلك مُمتعًا جدًّا، ولعلك تذكر أننا مشَينا أكثر من المسافة التي كنتُ نويتُ أن أمشيها.»

«هل كانت صديقاتُكِ ينتظرنكِ، أم غادرن؟»

«بل كُنَّ ينتظرنني.»

«لعلَّ ذلك لم يُزعجهنَّ.»

«يا إلهي، لا. لقد أخبرتُهن أنَّ ثمة ما أخَّرني. لقد توافَقَ أنه لم يكن من الضروري الخوضُ في التفاصيل؛ ولذا أُعفيتُ من مهمَّة التوضيح، وفضلًا عن ذلك، كانت لدينا أمورٌ مثيرةٌ أخرى لنناقشها. لقد استأثر موضوع حفل الطرَّادة بجانب كبير جدًّا من حديثنا، لدرجة أنه لم يكن ثمة حاجةٌ للحديث عن أي موضوعٍ آخر على مدى أيامٍ عديدةٍ مضت.»

«أظن أنكِ قد حضرتِ، من دون شكٍّ، احتفالاتٍ عديدةً أفخم من هذا. مع أننا حاولنا أن نقيم عرْضًا بالأضواء الكهربائية، ومع أنَّ لدينا فرقةً موسيقيةً على قدْرٍ جيد من الكفاءة، فإن أيَّ طرَّادة لم تُصمَّم على وجه الدقةِ من أجل الغرض الذي استُخدِمت فيه تلك الطرَّادة الليلة. إن أمامنا العديد من العوائق لنتغلب عليها وهي عوائقُ لا تُجابِه قاطني المنازل الفخمة في نيويورك وبار هاربر.»

ظلَّت عينا الفتاة تنظران إلى سطح السفينة بضعَ لحظاتٍ قبل أن تُجيب، ثم نظرَت إلى جَمْع الراقصين، وقالت أخيرًا:

«أعتقد أن الحفل الراقص على متن السفينة «كونسترنيشن» يُضاهي في فخامته أي شيءٍ حضرتُه يومًا.»

«إنه للطفٌ منكِ أن تقولي هذا. إنَّ ثناءَ الكِرام لَهُو الثناءُ المُشرِّفُ حقًّا. والآن، يا آنسة إمهيرست، بما أنني اعترفتُ بتجولاتي غير المثمِرة في شوارع بار هاربر، ألا تمنحينني شرف زيارتكِ غدًا أو بعد غد؟»

كانت عيناها تُراقبان جموع الراقصين بنظراتٍ حالمة.

وقالت ببطءٍ، بينما تقوَّست شفتاها المُغريتان بابتسامةٍ خاطفة: «بما أنك كنتَ ودودًا للغاية هكذا مع القبطان كِمْت الليلة، فأعتقدُ أنه ربما يدعُوك لتُدخِّن معه سيجارًا، ومن الجائز أن أدخل أنا وكاثرين على القبطان مصادفةً وأنت معه، فنحن مُولعتان به للغاية.»

«كاثرين؟ يا إلهي، الفتاة التي كانت معكِ هنا اسمها كاثرين … الآنسة كِمْت؟»

«نعم.»

«أنتِ مُقيمةٌ مع أسرة القبطان كِمْت إذن؟»

«نعم.»

«تُرى هل سيظنُّون أنني تخطيتُ آدابَ السلوك إذا أحضرتُ جاك لامونت معي؟»

قالت دورثي ضاحكةً: «الأمير؟ هل هو أميرٌ حقيقي؟»

«يا إلهي، نعم، من دون شك. ما كنتُ لِأجترِئ على تقديمه إليكما على أنه الأمير ليرمونتوف لو لم يكن، كما نقول في اسكتلندا، شخصًا أصيلًا؛ الشخص الحقيقي. حسنٌ إذن، سآتي أنا والأمير لزيارة القبطان كِمْت وإبداءِ احترامنا له بعد ظهر غدٍ.»

«هل قُلتَ إنَّ الأمير ذاهبٌ معكَ إلى روسيا؟»

«حسنًا، نعم. كما أخبرتُكما، إنني أنوي أن أعيشَ في هدوءٍ شديدٍ في مدينة سانت بطرسبرج، والأمير لديه ورشتُه وغرفتان فوقها في حيٍّ عُماليٍّ في المدينة. سوف أُقيم في إحدى الغرفتَين وسيقيم هو في الأخرى. إنَّ الأمير طاهٍ ماهر؛ ولذا لن نتضوَّرَ جوعًا، حتى ولو لم نأتِ بأي خادم.»

«هل تبرَّع الأميرُ بممتلكاته هو الآخر؟»

«لم يتبرع بها بالمعنى الحرفي للكلمة، لكنه يتعامل بتسامحٍ كبيرٍ مع العُمَّال في أرضه، وهو يُنفق أموالًا طائلةً على تجاربه العِلمية وسفره لدرجةِ أنه كثيرًا ما يُعوِزه المالُ جدًّا، على الرغم من دخله الهائل. هل أنتِ مُعجبةٌ به؟»

«نعم. إنني بالطبع لم أرَه إلا دقيقةً واحدة. تُرى لماذا لم يَرجعا بعدُ؟ لقد انتهت عدةُ رقصاتٍ منذ غادرا.»

قال المُلازم وقد عاوده قليلٌ من تلعثُمه: «ربما، قد تكون صديقتُكِ مولعةً بالرقص بقدرِ ولع جاك به.»

«أما زلتَ عازمًا على الذَّهاب إلى روسيا؟»

«بالتأكيد. لا خطورةَ في ذلك ألبتَّة. قد لا أُحقِّق أيَّ شيءٍ، لكنني سأحاول. إن للأمير نفوذًا كبيرًا في مدينة سانت بطرسبرج، وسوف يُسخِّره في هدوءٍ لمصلحتي، لعلي أتمكَّن من زيارة الأشخاص المُهمِّين. سوف أبتهجُ عندما يتوقَّف القبطانُ عن إظهار الاستياء …»

قاطع دروموند أحدُ زملائه من الضُبَّاط، حيث رفعَ قبعته، ورجاه أن يتحدث إليه.

«أعتقد يا دروموند أن القبطان كان يُريد أن يراك.»

«يا إلهي، هل قال هذا؟»

«لا، لكنَّني أعلم أنه ترك لك رسالةً في قمْرتك. هل أذهب لإحضارها؟»

«أرجو أن تَفعل يا تشيشام، إن لم يكن عندك مانع، ولم يكن في هذا كبيرُ مشقةٍ عليك.»

قال تشيشام: «لا مشقةَ إطلاقًا. هذا من دواعي سروري بالتأكيد.» ورفعَ قبعته من جديدٍ وانصرف.

«والآن، تُرى ما الذي نسيتُ أن أقومَ به؟»

تنهَّد دروموند تنهيدةً تناسبه.

وقال: «إنَّ إهمالًا واحدًا، في ظلِّ الظروف الحالية، من ذلك النوع الذي يمر دون أن يلاحظه أحدٌ مع أي رجلٍ آخر لَهُو علامةٌ على أنني لستُ أكثرَ من نذلٍ غيرِ نادمٍ على ما اقترفه. يستطيع أيُّ مُلازمٍ آخر أن يَسرق حصانًا بينما لا أقدِر أنا على النظر إلى السياج. لعلكِ تدركين الآن مدى أهمية السفر إلى روسيا وتلطيف حدَّة هذه المشكلة بالنسبة إليَّ.»

قالت الفتاة: «أعتقدُ أنكَ ربما تكون مُفرط الحساسية، وتنتبه إلى تصرفاتٍ فظَّة بينما لم يتعمَّد أحدٌ فعل شيء من هذا القبيل.»

عادَ تشيشام وسلَّم دروموند رسالة.

قال دروموند: «هل تأذنين لي في دقيقة؟» وعندما نظرَت إليه امتدحَ نفسه لقدرته على ملاحظة مِسحةِ قلَقٍ في عينيها. ثم فتحَ الرسالة.

وصاحَ: «يا إلهي!»

مالت دورثي إلى الأمام، ولم تستطِع أن تمنع نفسها من السؤال: «ما الأمر؟»

«لقد صدرت الأوامر برجوعي إلى الوطن. إنَّ قوات البحرية تأمرني بأخذ أول باخرةٍ متجهةٍ إلى إنجلترا.»

«هل في هذا خطورة؟»

ضحكَ دروموند بمرحٍ أتقنَ اصطناعه.

وقال: «يا إلهي، لا، ليس فيه خطورة؛ إنها فقط طريقتُهم في إدارة الأمور. كان من الممكن بسهولةٍ أن يسمحوا لي بالعودة إلى الوطن على متن سفينتي. إن الشيء الوحيد الذي أخشاه هو أنني سأضطر إلى ركوب القطار المتَّجه إلى نيويورك في وقتٍ مُبكرٍ من صباح الغد. لكن …» ثم مدَّ يديه وأردفَ قائلًا: «لن يكون في الأمر خطورةٌ إذا سمحتِ لي بمراسلتكِ، وإذا كنتِ ستسمحين لي بأن أتوقَّع أن تردي على رسائلي.»

وضعَت دورثي يدها في يده دون ترددٍ هذه المرة.

وقالت: «تستطيع أن تراسلني، وسوف أرد على رسائلك. أنا واثقةٌ أنه ما من خطورة في هذا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤