الفصل الأول

الْبَيْتُ الصَّغِيرُ

(١) دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ

كَانَ الْأَمِيرُ «غَالِبٌ» مِثَالًا لِلزَّوْجِ الْوَفِيِّ، الْأَمِينِ الْقَوِيِّ، الْكَرِيمِ الْغَنِيِّ، وَكَانَتْ زَوْجُهُ الْأَمِيرَةُ «بُثَيْنَةُ» مِثَالًا لِلزَّوْجِ الْفَاضِلَةِ، الْمُحْسِنَةِ الْعَادِلَةِ، الْوَفِيَّةِ الْكَامِلَةِ. وَقَدْ عَاشَ كِلَاهُمَا — فِي قَدِيمِ الزَّمَانِ — عِيشَةً رَاضِيَةً، لَا يُنَغِّصُ حَيَاتَهُمَا شَيْءٌ. وَلَمْ يَبْقَ لَهُمَا مِنْ أُمْنِيَّةٍ تُرْجَى فِي الْحِيَاةِ إِلَّا أَنْ يَرْزُقَهُمَا اللهُ طِفْلًا يَمْلَأُ بَيْتَهُمَا نُورًا وَرَجَاءً، وَسَعَادَةً وَبَهَاءً، وَبَهْجَةً وَصَفَاءً. وَسُرْعَانَ مَا اسْتَجَابَ اللهُ دُعَاءَهُمَا، وَحَقَّقَ لَهُمَا رَجَاءَهُمَا، وَلَمْ تَلْبَثِ الزَّوْجُ أَنْ حَمَلَتْ بَعْدَ أَشْهُرٍ قَلِيلَةٍ وَاسْتَبْشَرَ الزَّوْجَانِ بِذَلِكَ، حَتَّى إِذَا جَاءَ وَقْتُ الْوِلَادَةِ، وَضَعَتِ الْأَمِيرَةُ «بُثَيْنَةُ» الْمَوْلُودَةَ الَّتِي طَالَمَا تَرَقَّبَاهَا بِفَارِغِ الصَّبْرِ، فَحَمِدَا لِلهِ مَا وَهَبَ، وَأَطْلَقَا عَلَيْهَا اسْمَ «صَفِيَّةَ».

(٢) الْيَتِيمَةُ

وَلَكِنَّ الزَّمَنَ لَمْ يُمْهِلِ الْأُمَّ حَتَّى تَتَمَتَّعَ بِطِفْلَتِهَا، فَمَا لَبِثَتْ أَنْ عَاجَلَهَا الْمَوْتُ، فَتَيَتَّمَتِ الطِّفْلَةُ وَتَرَمَّلَ الزَّوْجُ. وَلَمْ يَبْقَ لَهُ مِنْ عَزَاءٍ بَعْدَ مَوْتِ قَرِينَتِهِ غَيْرُ الْعِنَايَةِ بِابْنَتِهِ.

كَانَ الْأَمِيرُ «غَالِبٌ» — كَمَا أَسْلَفْنَا — مِثَالَ الْغَنِيِّ الْكَرِيمِ، فَعَاشَ فِي قَصْرِهِ الْفَسِيحِ كَمَا يَعِيشُ الْمُلُوكُ، وَلَمْ يُعْوِزْهُ شَيْءٌ مِنْ مَطَالِبِ الْحَيَاةِ. وَكَانَتِ الْأَمِيرَةُ «صَفِيَّةُ» تَخْتَلِفُ إِلَى حَدِيقَةِ الْقَصْرِ الْفَسِيحَةِ لِتَتَنَزَّهَ فِيهَا كُلَّمَا طَابَ لَهَا التَّنَزُّهُ.

(٣) الْفَتَاةُ الطَّائِعَةُ

وَقَدْ نَشَأَتْ فَتَاتُنَا الْأَمِيرَةُ «صَفِيَّةُ» الصَّغِيرَةُ فِي كَنَفِ وَالِدِهَا وَعِنَايَتِهِ، وَحَنَانِهِ وَرِعَايَتِهِ، فَلَمْ يَأْلُ جُهْدًا فِي تَعْوِيدِهَا — مُنْذُ نَشْأَتِهَا — كَرِيمَ الْأَخْلَاقِ؛ لِتَكُونَ مَثَلًا صَالِحًا لِطَاعَةِ أَبِيهَا، وَالْبُعْدِ عَنِ الدُّخُولِ فِيمَا لَا يَعْنِيهَا. وَكَانَتْ أَسْرَعَ إِلَى تَلْبِيَةِ نَصَائِحِهِ، وَالانْقِيَادِ لأَوَامِرِهِ، وَالابْتِعَادِ عَنْ نَوَاهِيهِ، فَرَضِيَ عَنْهَا وَرَضِيَتْ عَنْهُ، وَأَصْبَحَتِ الْفَتَاةُ نَمُوذَجًا نَادِرًا لِلِامْتِثَالِ وَالطَّاعَةِ وَتَجَنُّبِ الْفُضُولِ، فَلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهَا قَطُّ أَنْ تَتَعَرَّضَ لِغَيْرِ شَأْنِهَا، أَوْ تَشْغَلَ نَفْسَهَا بِمَا لَا يَعُودُ عَلَيْهَا بِفَائِدَةٍ.

(٤) مَسَاوِئُ الْفُضُولِ

وَالْفُضُولُ — كَمَا تَعْلَمُ أَيُّهَا الصَّغِيرُ الْعَزِيزُ — نَقِيصَةٌ شَائِعَةٌ فِي بَعْضِ مَنْ تَرَى مِنَ الْأَطْفَالِ. وَرُبَّمَا دَفَعَهُمْ أَحْيَانًا إِلَى الدُّخُولِ فِي شُئُونِ غَيْرِهِمْ مِنَ النَّاسِ لِتَعَرُّفِ أَسْرَارِهِمْ وَدَخَائِلِهِمْ. وَمَا أَكْثَرَ مَا تَجْلُبُهُ هَذِهِ النَّقِيصَةُ الشَّائِنَةُ عَلَى أَصْحَابِهَا وَذَوِيهَا مِنْ أَلْوَانِ الْمَصَائِبِ وَالْبَلَاءِ، وَفُنُونِ الْمَتَاعِبِ وَالشَّقَاءِ.

(٥) حَيَاةُ الْعُزْلَةِ

وَلَمْ تَكُنِ الْأَمِيرَةُ الصَّغِيرَةُ تَتَخَطَّى حَدِيقَةَ الْقَصْرِ ذَاتَ الْأَسْوَارِ الْعَالِيَةِ، فَلَا غَرْوَ إِذَا لَمْ تَقَعْ عَيْنَاهَا عَلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ غَيْرَ أَبِيهَا، وَلَا عَجَبَ إِذَا لَمْ تَرَ أَحَدًا مِنْ خَدَمِ الْقَصْرِ. فَخُيِّلَ لَهَا أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَصْنَعُ نَفْسَهُ بِنَفْسِهِ. وَقَدْ أَغْنَاهَا أَبُوهَا، فَلَمْ يُعْوِزْهَا مَطْلَبٌ مِنَ الْمَطَالِبِ، بَعْدَ أَنِ اجْتَمَعَتْ لَهَا الْأَسْبَابُ كُلُّهَا، وَتَوَفَّرَ لَهَا كُلُّ مَا تَصْبُو إِلَيْهِ نَفْسُهَا مِنْ طَرَائِفِ الْحُلِيِّ وَالثِّيَابِ، وَالْكُتُبِ وَالْأَلْعَابِ. وَقَدْ بَذَلَ أَبُوهَا جُهْدَهُ فِي تَرْبِيَتِهَا وَتَنْشِئَتِهَا وَتَعْلِيمِهَا بِنَفْسِهِ، حَتَّى قَارَبَتِ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ مِنْ عُمُرِهَا، وَلَمْ يَدُرْ بِخَلَدِهَا أَنْ تُفَكِّرَ فِي غَيْرِ هَذَا الْعَيْشِ، وَلَا خَطَرَ بِبَالِهَا يَوْمًا أَنْ تَتَبَرَّمَ بِهَذِهِ الْحَيَاةِ الْهَادِئَةِ الْكَرِيمَةِ الرَّاضِيَةِ، أَوْ تَتَطَلَّعَ إِلَى أَنْ تَسْتَبْدِلَ بِهَا حَيَاةً أُخْرَى.

(٦) الْبَيْتُ الصَّغِيرُ

وَكَانَ فِي نِهَايَةِ الْحَدِيقَةِ بَيْتٌ صَغِيرٌ لَا نَوَافِذَ فِيهِ، وَلَيْسَ لَهُ غَيْرُ بَابٍ وَاحِدٍ مُغْلَقٍ دَائِمًا. وَكَانَ الْأَمِيرُ «غَالِبٌ» يَدْخُلُ ذَلِكَ الْبَيْتَ الصَّغِيرَ كُلَّ يَوْمٍ، وَيَحْتَفِظُ دَائِمًا بِمِفْتَاحِهِ مَعَهُ. وَلَمْ تَكُنِ الْأَمِيرَةُ «صَفِيَّةُ» تَظُنُّ أَنَّ هَذَا الْبَيْتَ يَحْتَوِي شَيْئًا غَيْرَ الْآلَاتِ الْخَاصَّةِ بِالْحَدِيقَةِ، وَلِهَذَا لَمْ يَخْطُرْ لَهَا أَنْ تَسْأَلَ أَبَاهَا عَنْهُ قَطُّ.

(٧) مِفْتَاحُ الْبَيْتِ

وَفِي ذَاتِ يَوْمٍ بَيْنَا كَانَتِ الْأَمِيرَةُ «صَفِيَّةُ» تَبْحَثُ عَنْ مِرَشَّةٍ تُرْوِي بِهَا أَزْهَارَهَا، خَطَرَ بِبَالِهَا أَنْ تَحْصُلَ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْ ذَلِكَ الْبَيْتِ الصَّغِيرِ، فَقَالَتْ لِأَبِيهَا: «أَيَسْمَحُ لِي وَالِدِي الْعَزِيزُ بِمِفْتَاحِ الْبَيْتِ الصَّغِيرِ الَّذِي فِي أَقْصَى الْحَدِيقَةِ؟» فَقَالَ لَهَا مَدْهُوشًا: «وَمَاذَا تُرِيدِينَ بِهَذَا الْمِفْتَاحِ يَا (صَفِيَّةُ)؟» فَأَجَابَتْهُ وَهِيَ مُتَعَجِّبَةٌ مِنْ دَهْشَتِهِ: «أَنَا فِي حَاجَةٍ إِلَى مِرَشَّةٍ وَلَعَلِّي أَظْفَرُ بِهَا فِي هَذَا الْبَيْتِ الصَّغِيرِ.» فَقَالَ لَهَا مُرْتَبِكًا: «كَلَّا يَا «صَفِيَّةُ»، لَا تُوجَدُ هُنَاكَ مِرَشَّاتٌ.» وَكَانَ صَوْتُهُ يَتَهَدَّجُ مِنْ فَرْطِ التَّأَثُّرِ وَالْإِشْفَاقِ وَهُوَ يَنْطِقُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ. فَتَنَهَّدَتِ الْأَمِيرَةُ «صَفِيَّةُ» حِينَ رَأَتْ فَزَعَ أَبِيهَا وَتَأَلُّمَهُ، وَاشْتَدَّتْ دَهْشَتُهَا مِمَّا بَدَا عَلَيْهِ مِنَ الِانْزِعَاجِ وَالْقَلَقِ، وَتَعَاظَمَتْهَا الْحَيْرَةُ حِينَ رَأَتْ وَجْهَ أَبِيهَا قَدِ امْتُقِعَ، وَشَاهَدَتِ الْعَرَقَ يَتَصَبَّبُ مِنْ جَبِينِهِ، فَقَالَتْ لَهُ جَزِعَةً: «مَاذَا بِكَ يَا أَبِي؟»

فَأَجَابَهَا وَاجِمًا: «لَا شَيْءَ يَا بُنَيَّتِي، لَا شَيْءَ.»

فَقَالَتْ لَهُ مُتَحَيِّرَةً: «هَلْ كَدَّرَكَ يَا أَبِي أَنَّنِي طَلَبْتُ هَذَا الْمِفْتَاحَ؟ فَأَيُّ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَيْتِ الصَّغِيرِ سَبَّبَ لَكَ يَا أَبَتِ هَذَا الانْزِعَاجَ؟» فَقَالَ لَهَا مُرْتَبِكًا: «لَا شَيْءَ يَا فَتَاتِي! أَلَسْتِ تُرِيدِينَ مِرَشَّةً؟ إِنَّهَا فِي حُجْرَةِ الْأَزْهَارِ. فَاذْهَبِي تَجِدِيهَا هُنَاكَ.»

(٨) أَسْئِلَةٌ مُحْرِجَةٌ

فَسَأَلَتْهُ مُتَعَجِّبَةً: «وَلَكِنْ مَاذَا فِي الْبَيْتِ الصَّغِيرِ يَا أَبَتِ؟»

فَأَجَابَهَا مُؤَنِّبًا: «لَيْسَ فِيهِ مَا يَهُمُّكِ يَا عَزِيزَتِي!»

فَقَالَتْ مَدْهُوشَةً: «فَمَا بَالُكَ تَذْهَبُ إِلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ وَحْدَكَ دُونَ أَنْ تَسْمَحَ لِي بِمُرَافَقَتِكَ؟»

فَضَاقَ صَدْرُهُ بِمَا سَمِعَ، وَتَمَلَّكَهُ الْغَضَبُ، فَقَالَ: «إِنَّ الْفُضُولَ — كَمَا تَعْلَمِينَ — نَقِيصَةٌ مَعِيبَةٌ، فَمَا بَالُكِ تُخَالِفِينَ عَادَتَكِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَتَتَدَخَّلِينَ فِيمَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِكِ، وَلَمْ يَسْبِقْ مِنْكِ هَذَا التَّدَخُّلُ؟»

(٩) وَسَاوِسُ الْفَتَاةِ

لَمْ تَقُلِ الْأَمِيرَةُ «صَفِيَّةُ» شَيْئًا بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهَا اتَّجَهَتْ بِفِكْرِهَا إِلَى الْبَيْتِ الصَّغِيرِ. وَلَمْ تَكُنْ لِتُفَكِّرَ فِيهِ مِنْ قَبْلُ، لَوْلَا مَا رَأَتْهُ مِنَ انْزِعَاجِ أَبِيهَا وَقَلَقِهِ حِينَ سَمِعَ إِشَارَتَهَا الْعَابِرَةَ إِلَيْهِ. فَلَمْ تَعُدْ تُفَكِّرُ بَعْدَ هَذِهِ اللَّحْظَةِ إِلَّا فِيهِ، وَرَاحَتْ تَقُولُ فِي نَفْسِهَا: «تُرَى مَاذَا يَحْتَوِيهِ الْبَيْتُ الصَّغِيرُ؟ وَمَا بَالُ أَبِي قَدْ حَرَصَ عَلَى مِفْتَاحِهِ؟ وَلِمَاذَا امْتُقِعَ وَجْهُهُ، وَتَغَيَّرَ لَوْنُهُ، وَتَهَدَّجَ صَوْتُهُ عِنْدَمَا طَلَبْتُهُ مِنْهُ؟ وَلِمَاذَا بَدَا عَلَيْهِ الْخَوْفُ حِينَ طَرَقَ سَمْعَهُ ذَلِكَ السُّؤَالُ؟ أَتُرَاهُ يَخَافُ عَلَيَّ شَيْئًا يَحْوِيهِ؟ أَوْ يَضِنُّ عَلَيَّ بِشَيْءٍ مِمَّا فِيهِ؟ أَمْ تُرَاهُ يَخْشَى عَلَيَّ الْخَطَرَ إِذَا دَخَلْتُهُ كُلَّ يَوْمٍ؟ لَعَلَّ فِيهِ حَيَوَانًا مُفْتَرِسًا يَتَوَقَّى أَنْ أَتَعَرَّضَ لِأَذَاهُ. فَإِذَا صَحَّ هَذَا فَمَا بَالُهُ يَدْخُلُهُ؟

كَلَّا، مَا أَظُنُّ ذَلِكَ صَحِيحًا؛ فَلَوْ كَانَ فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ الصَّغِيرِ كَائِنٌ حَيٌّ لَأَحْسَسْتُ حَرَكَتَهُ، أَوْ سَمِعْتُ نَأْمَتَهُ (صَوْتَهُ)، وَلَوْ كَانَ فِيهِ قِطٌّ لَمَاءَ فَسَمِعْتُ مُوَاءَهُ، أَوْ حَمَامٌ لَهَدَلَ فَسَمِعْتُ هَدِيلَهُ، أَوْ كَلْبٌ لَنَبَحَ فَسَمِعْتُ نُبَاحَهُ، أَوْ ظَبْيَةٌ لَبَغَمَتْ فَسَمِعْتُ بُغَامَهَا، أَوْ أَسَدٌ لَزَأَرَ فَسَمِعْتُ زَئِيرَهُ، أَوْ حَيَّةٌ لَفَحَّتْ فَسَمِعْتُ فَحِيحَهَا، أَوْ دَجَاجَةٌ لَقَوْقَأَتْ فَسَمِعْتُ قَوْقَأَتَهَا، أَوْ دِيكٌ لَسَقَعَ فَسَمِعْتُ سَقْعَهُ، أَوْ ضِفْدَعٌ لَنَقَّتْ فَسَمِعْتُ نَقِيقَهَا، أَوْ غُرَابٌ لَنَعَبَ فَسَمِعْتُ نَعِيبَهُ، أَوْ بُلْبُلٌ لَغَرَّدَ فَسَمِعْتُ تَغْرِيدَهُ، أَوْ ذِئْبٌ لَعَوَى فَسَمِعْتُ عُوَاءَهُ. وَلَكِنَّنِي لَمْ أَسْمَعْ مِنْ هَذِهِ الْحُجْرَةِ صَوْتَ إِنْسِيٍّ وَلَا حَيَوَانٍ مُفْتَرِسٍ. فَلَوْ كَانَ فِيهَا حَيَوَانٌ أَنِيسٌ لَجَلَبَهُ لِي، وَلَمْ يَضنَّ بِهِ عَلَيَّ، وَلَوْ كَانَ فِيهَا حَيَوَانٌ مُفْتَرِسٌ لَانْقَضَّ عَلَى وَالِدِي وَافْتَرَسَهُ حِينَ يَذْهَبُ إِلَيْهِ … وَلَكِنْ لَعَلَّهُ مُحْكَمُ الْوَثَاقِ … فَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ فَلَنْ يَكُونَ عَلَيَّ خَطَرٌ مِنْهُ … فَمَاذَا عَسَى أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ؟ لَعَلَّهُ سَجِينٌ. وَلَكِنَّ أَبِي رَجُلٌ طَيِّبٌ لَا يَحْرِمُ بَرِيئًا مِسْكِينًا نِعْمَةَ الْهَوَاءِ وَالْحُرِّيَّةِ … فَلَا بُدَّ لِي إِذَنْ مِنْ كَشْفِ هَذَا السِّرِّ وَرَفْعِ الْغِطَاءِ عَنْهُ. وَلَكِنْ كَيْفَ السَّبِيلُ إِلَى ذَلِكَ؟ لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ إِلَّا الْحُصُولُ عَلَى الْمِفْتَاحِ. آهٍ. لَوْ نَسِيَهُ نِصْفَ سَاعَةٍ! أَلَا إِنَّ نِصْفَ سَاعَةٍ لَوَقْتٌ كَافٍ لِأَبْلُغَ فِيهِ مَا أُرِيدُ. فَمَتَى يَنْسَاهُ؟» وَانْتَبَهَتْ مِنْ غَفْوَتِهَا فَجْأَةً عَلَى صَوْتِ أَبِيهَا، إِذْ كَانَ يُنَادِيهَا بِصَوْتٍ فِيهِ رَنَّةُ الْأَلَمِ، فَأَسْرَعَتْ إِلَيْهِ مُلَبِّيَةً تَقُولُ: «هَأَنَذِي يَا أَبِي آتِيَةٌ إِلَيْكَ.»

(١٠) حِيلَةُ الْفَتَاةِ

وَلَمْ تَكَدْ عَيْنَاهَا تَلْتَقِيَانِ بِعَيْنَيْهِ حَتَّى رَأَتْ وَجْهَهُ مَا يَزَالُ مُمْتَقَعًا مُقَطَّبَ الْأَسَارِيرِ، يُسْفِرُ عَنْ هِيَاجٍ وَاضْطِرَابٍ، فَأَرَادَتْ «صَفِيَّةُ» أَنْ تَتَظَاهَرَ بِالسُّرُورِ وَالِابْتِهَاجِ، مُخْفِيَةً مَا تَرَكَهُ مَنْظَرُ أَبِيهَا فِي نَفْسِهَا مِنْ أَثَرٍ، مُتَوَخِّيَةً جُهْدَهَا أَنْ تُعِيدَ الْهُدُوءَ وَالسَّكِينَةَ إِلَيْهِ، لَعَلَّهَا تَسْتَطِيعُ بِهَذِهِ الْوَسِيلَةِ الظَّفَرَ بِأُمْنِيَّتِهَا. فَبَدَتْ لِأَبِيهَا كَأَنَّهَا نَسِيَتْ حَدِيثَهَا مَعَهُ فِي شَأْنِ الْمِفْتَاحِ، رَجَاءَ أَنْ تُعِيدَ الطُّمَأْنِينَةَ إِلَى قَلْبِهِ الْحَزِينِ.

وَجَلَسَا إِلَى الْمَائِدَةِ وَأَكَلَ «غَالِبٌ» لُقَيْمَاتٍ قَلِيلَةً وَهُوَ صَامِتٌ بَئِيسٌ بِرَغْمِ مَا كَانَ يَبْذُلُ مِنْ جُهْدٍ فِي مُغَالَبَةِ أَلَمِهِ لِيَبْدُوَ فَرِحًا مَسْرُورًا. وَجَعَلَتِ الْأَمِيرَةُ «صَفِيَّةُ» تَتَفَنَّنُ فِي مَرَحِهَا وَدُعَابَتِهَا حَتَّى عَادَ إِلَى أَبِيهَا سُكُونُهُ وَاطْمِئْنَانُهُ كَمَا كَانَا مِنْ قَبْلُ.

(١١) نَصِيحَةُ الْوَالِدِ

وَكَانَتِ الْأَمِيرَةُ «صَفِيَّةُ» — كَمَا عَرَفْتَ — قَدِ اقْتَرَبَتْ سِنُّهَا مِنَ الْعَامِ الْخَامِسَ عَشَرَ، فَوَعَدَهَا أَبُوهَا بِهَدَايَا ثَمِينَةٍ يُفَاجِئُهَا بِهَا فِي عِيدِ مِيلَادِهَا الْوَشِيكِ (الْعَاجِلِ). وَفِي صَبَاحِ يَوْمٍ قَالَ الْأَمِيرُ «غَالِبٌ» لِلْأَمِيرَةِ الصَّغِيرَةِ: «أَرَانِي مُضْطَرًّا يَا ابْنَتِي الْعَزِيزَةَ إِلَى التَّغَيُّبِ سَاعَةً رَيْثَمَا أُعِدُّ طَائِفَةً مِنَ الْهَدَايَا الَّتِي سَأُقَدِّمُهَا لَكِ فِي عِيدِ مِيلَادِكِ الْخَامِسَ عَشَرَ، فَانْتَظِرِينِي يَا «صَفِيَّةُ» رَيْثَمَا أَعُودُ، وَحَاذِرِي أَنْ تَجْنَحِي إِلَى الْفُضُولِ، وَسَأُفَسِّرُ لَكِ كُلَّ شَيْءٍ بَعْدَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَأَقُصُّ عَلَيْكِ مَا تَشَائِينَ، وَأَشْرَحُ لَكِ كُلَّ مَا غَمَضَ عَلَيْكِ الْآنَ. فَلَا تَشْغَلِي خَاطِرَكِ بِشَيْءٍ؛ فَإِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ مِيقَاتًا، وَمَا كُلُّ مَا يُعْرَفُ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ، وَلَا كُلُّ مَا يُقَالُ جَاءَ أَوَانُهُ، وَالْأُمُورُ مَرْهُونَةٌ بِأَوْقَاتِهَا. فَإِلَى الْمُلْتَقَى، وَإِيَّاكِ وَالْفُضُولَ.»

(١٢) نِسْيَانُ الْمِفْتَاحِ

وَقَبَّلَ الْأَمِيرُ «غَالِبٌ» ابْنَتَهُ الْأَمِيرَةَ قُبْلَةَ حَنَانٍ وَحُبٍّ، وَابْتَعَدَ عَنْهَا وَهُوَ مُتَأَلِّمٌ لِتَرْكِهَا. وَلَمَّا خَرَجَ أَسْرَعَتِ الْأَمِيرَةُ إِلَى غُرْفَةِ أَبِيهَا. وَلَا تَسَلْ عَنْ سُرُورِهَا وَابْتِهَاجِهَا حِينَ تَبَيَّنَتْ أَنَّهُ قَدْ نَسِيَ الْمِفْتَاحَ عَلَى الْمِنْضَدَةِ.

(١٣) حَيْرَةٌ وَتَرَدُّدٌ

فَتَنَاوَلَتِ الْمِفْتَاحَ فَرْحَى مُسْرِعَةً إِلَى الْحَدِيقَةِ، حَتَّى إِذَا انْتَهَتْ إِلَى الْبَيْتِ الصَّغِيرِ ذَكَرَتْ قَوْلَ أَبِيهَا لَهَا: «إِيَّاكِ وَالْفُضُولَ»، وَذَكَرَتِ الْحِكْمَةَ الَّتِي طَالَمَا قَرَأَتْهَا مُنْذُ طُفُولَتِهَا لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ وَهِيَ: «مَنْ دَخَلَ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ لَقِيَ مَا لَا يُرْضِيهِ»، فَوَقَفَتْ حَائِرَةً مُتَرَدِّدَةً، وَهَمَّتْ بِالرُّجُوعِ مِنْ حَيْثُ أَتَتْ، وَكَادَتْ تَعْدِلُ عَنْ عَزْمِهَا الْخَاطِئِ، وَتُعِيدُ الْمِفْتَاحَ إِلَى مَكَانِهِ دُونَ أَنْ تَرَى مَا يَحْتَوِيهِ ذَلِكَ الْبَيْتُ.

(١٤) أَنِينٌ خَافِتٌ

وَإِنَّها لَتَهُمُّ بِالْعَوْدَةِ إِلَى الدَّارِ، إِذَا بِهَا تَسْمَعُ أَنِينًا خَافِتًا لَا يَكَادُ يَبِينُ، فَاقْتَرَبَتْ مِنَ الْبَابِ وَوَضَعَتْ أُذُنَهَا عَلَيْهِ، فَسَمِعَتْ صَوْتًا هَامِسًا يُغَنِّي بِلُطْفٍ:

وَيْلَاهُ إِنِّي مُتْعَبَهْ
سَجِينَةٌ مُعَذَّبَهْ
وَحِيدَةٌ مُنْفَرِدَهْ
مَنْبُوذَةٌ مُضْطَهَدَهْ

وَانْقَطَعَ الصَّوْتُ لَحْظَةً، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ شَادِيًا:

هَلُمَّ يَا صَفِيَّهْ
وَأَسْرِعِي إِلَيَّهْ
وَأَخْرِجِينِي مِنْ هُنَا
وَاللهُ يَجْزِي الْمُحْسِنَا

فَعَجِبَتِ الْأَمِيرَةُ الْفَتَاةُ مِمَّا سَمِعَتْ أَشَدَّ الْعَجَبِ، وَقَالَتْ تُحَدِّثُ نَفْسَهَا: «لَا رَيْبَ أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ تَاعِسَةٌ قَدْ غَضِبَ عَلَيْهَا أَبِي فَحَكَمَ بِسِجْنِهَا هُنَا.»

(١٥) الْعَجُوزُ «سُنْعُبَةُ»

وَدَقَّتِ الْبَابَ بِلُطْفٍ وَقَالَتْ: «مَنْ أَنْتِ؟ وَمَا اسْمُكِ؟ وَمَنْ تَكُونِينَ؟ وَمَاذَا عَسَانِي أَسْتَطِيعُ أَنْ أَصْنَعَ لِأَجْلِكِ؟»

فَقَالَتْ لَهَا مُسْتَعْطِفَةً:

أَنَا الْعَجُوزُ «سُنْعُبَهْ»
قَضَيْتُ عُمْرِي مُتْعَبَهْ
حَزِينَةً مُكْتَئِبَهْ
خَائِفَةً مُضْطَرِبَهْ
فَسَأَلَتْهَا الْأَمِيرَةُ: «وَلِمَاذَا تُسْجَنِينَ وَتَشْقَيْنَ؟»
figure

فَعَادَ الصَّوْتُ يُغَنِّي غِنَاءً حَزِينًا وَيَقُولُ:

أَشْقَى وَمَا أَتَيْتُ
ذَنْبًا وَلَا جَنَيْتُ
إِلَيَّ يَا بُنَيَّهْ
وَأَسْعِدِي الشَّقِيَّهْ

فَسَأَلَتْهَا الْأَمِيرَةُ: «فَمَا بَالُكِ تُسْجَنِينَ دُونَ أَنْ تُسْلِفِي إِسَاءَةً إِلَى أَحَدٍ؟» فَقَالَتِ الْعَجُوزُ: «ثِقِي بِأَنَّنِي لَمْ أَقْتَرِفْ ذَنْبًا وَلَمْ أَرْتَكِبْ جُرْمًا، وَلَكِنَّ رَجُلًا سَاحِرًا — وَا أَسَفَاهُ — هُوَ الَّذِي جَاءَ بِي إِلَى هَذَا الْمَكَانِ، وَحَكَمَ عَلَيَّ بِالسِّجْنِ فِي هَذَا الْبَيْتِ الصَّغِيرِ الْمُظْلِمِ مَدَى الْحَيَاةِ. فَهَلْ تَمُنِّينَ عَلَيَّ بِالْخَلَاصِ مِنْ هَذَا الْأَسْرِ؟ وَسَأَقُصُّ عَلَيْكِ مِنْ أَخْبَارِي مَا يُرَنِّحُكِ طَرَبًا، وَيَمْلَؤُكِ عَجَبًا.»

(١٦) فَتْحُ الْبَابِ

فَلَمْ تَتَرَدَّدِ الْأَمِيرَةُ الْفَتَاةُ فِي تَصْدِيقِ مَا سَمِعَتْ، وَأَبَى عَلَيْهَا سُوءُ حَظِّهَا إِلَّا أَنْ يَتَغَلَّبَ فُضُولُهَا وَشَغَفُهَا بِرُؤْيَةِ مَا نَهَاهَا أَبُوهَا عَنْ رُؤْيَتِهِ، عَلَى مَا عُرِفَتْ بِهِ مِنَ الطَّاعَةِ وَالامْتِثَالِ. فَوَضَعَتِ الْمِفْتَاحَ فِي الْقُفْلِ، وَلَكِنَّ يَدَهَا اضْطَرَبَتْ وَلَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَفْتَحَ الْبَابَ. فَتَرَدَّدَتْ لَحْظَةً، وَأَوْشَكَتْ أَنْ تَعْدِلَ عَنْ فُضُولِهَا، وَلَكِنَّهَا سَمِعَتِ الصَّوْتَ الصَّغِيرَ يُنَادِيهَا مُتَوَسِّلًا: «إِنَّ مَا سَأَقُولُهُ لَكِ يَا «صَفِيَّةُ» سَيُعَلِّمُكِ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً تَهُمُّكِ مِمَّا يَحْرِصُ أَبُوكِ عَلَى كِتْمَانِهِ وَإِخْفَائِهِ عَنْكِ.»

وَلَمْ تَكَدْ أَمِيرَتُنَا الْفَتَاةُ تَسْمَعُ هَذَا الْكَلَامَ حَتَّى تَمَلَّكَهَا الْفُضُولُ، فَصَحَّتْ عَزِيمَتُهَا عَلَى تَعَرُّفِ مَا يَحْتَوِيهِ الْبَيْتُ الصَّغِيرُ، فَلَمْ تَتَرَدَّدْ فِي تَنْفِيذِ هَذِهِ الرَّغْبَةِ، وَسُرْعَانَ مَا أَدَارَتِ الْمِفْتَاحَ فِي الْقُفْلِ، وَلَمْ تَكَدْ تَفْعَلُ حَتَّى انْفَتَحَ الْبَابُ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤