الفصل الثالث

جَرَائِمُ السِّنْجَابِ

(١) بَيْنَ الْأَبِ وَابْنَتِهِ

وَهُنَا صَاحَتْ «صَفِيَّةُ» قَائِلَةً وَقَدِ ارْتَمَتْ عَلَى قَدَمَيْهِ: «اصْفَحْ عَنِّي وَسَامِحْنِي — يَا أَبَتِ — فَقَدْ كُنْتُ أَجْهَلُ فَدَاحَةَ الْكَارِثَةِ الَّتِي جَلَبْتُهَا عَلَيْكَ.» فَقَالَ لَهَا أَبُوهَا مُتَحَسِّرًا: «هَذِهِ نَتِيجَةُ مَنْ يُخَالِفُ النَّصِيحَةَ دَائِمًا. هَذِهِ آخِرَةُ مَنْ لَا يَحْرِصُ عَلَى الطَّاعَةِ. وَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَذْهَبُ بِهِ الظَّنُّ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَرْتَكِبْ إِلَّا جُرْمًا خَفِيفًا هَيِّنَ الْأَثَرِ، ثُمَّ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَتَجَلَّى لَهُ أَنَّ ذَنْبَهُ عَظِيمٌ، وَجُرْمَهُ خَطِيرٌ، حِينَ تَبْدُو لَهُ نَتَائِجُهُ الْمُرَوِّعَةُ الَّتِي تَحِيقُ بِهِ وَبِغَيْرِهِ مِنَ الْأَبْرِيَاءِ.»

فَقَالَتِ الْأَمِيرَةُ: «وَلَكِنْ أَيُّ فَأْرَةٍ هَذِهِ يَا أَبَتِ؟ وَأَيُّ سُلْطَانٍ لَهَا عَلَيْكَ فَتَجْلُبَ لَكَ كُلَّ هَذَا الْخَوْفِ الشَّدِيدِ؟ وَكَيْفَ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَسْجُنَهَا إِذَا كَانَ لَهَا مِثْلُ هَذِهِ الْقُوَّةِ وَذَلِكَ السُّلْطَانِ؟ وَلِمَاذَا لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَسْجُنَهَا ثَانِيَةً وَثَالِثَةً وَرَابِعَةً كَمَا سَجَنْتَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ؟»

(٢) حَقِيقَةُ «غَالِبٍ»

فَقَالَ لَهَا «غَالِبٌ»: «إِنَّ هَذَا السِّنْجَابُ — يَا ابْنَتِي — لَيْسَ مِنَ السَّنَاجِيبِ الْمَعْرُوفَةِ، وَالْفِيرَانِ الْمَأْلُوفَةِ، بَلْ هُوَ جِنِّيَّةٌ حَمْقَاءُ، تَجْمَعُ — إِلَى لُؤْمِهَا وَسُخْفِهَا — شَرَاسَةَ الطَّبْعِ، وَلُؤْمَ النَّفْسِ، وَقُوَّةَ الْبَأْسِ. وَلَقَدْ كُنْتُ عَلَى وَشْكِ أَنْ أُفْضِيَ إِلَيْكِ بِقِصَّتِي — بَعْدَ أَيَّامٍ — حِينَ تَبْلُغِينَ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ مِنْ عُمُرِكِ. أَمَّا الْآنَ وَقَدْ أَنْقَذْتِ عَدُوَّتِيَ اللَّدُودَ وَخَلَّصْتِهَا مِنَ الْأَسْرِ، فَفِي وُسْعِي أَنْ أُكَاشِفَكِ بِمَا كَانَ يَجِبُ أَنْ أُخْفِيَهُ عَنْكِ إِلَى أَنْ يَحِينَ عِيدُ مِيلَادِكِ الْخَامِسَ عَشَرَ. إِنَّ قِصَّتِي عَجِيبَةٌ مِنْ عَجَائِبِ الْقِصَصِ. فَأَنَا جِنِّيٌّ مِنَ الْجِنِّ، لَا إِنْسِيٌّ مِنَ الْإِنْسِ، كَمَا يَظُنُّ مَنْ يَرَانِي مِنَ النَّاسِ. أَنَا جِنِّيٌّ مِنْ أَبْنَاءِ الْجِنَّانِ، وَإِنْ كَانَتْ أُمُّكِ إِنْسِيَّةً مِنْ بَنَاتِ الْإِنْسَانِ. فَأَنْتِ نِصْفُ إِنْسِيَّةٍ وَنِصْفُ جِنِّيَّةٍ؛ لِأَنَّ أُمَّكِ إِنْسِيَّةٌ مِنْ نَسْلِ آدَمَ، وَأَبَاكِ جِنِّيٌّ مِنْ نَسْلِ الشَّيْصَبَانِ، وَلَكِنَّ مَا امْتَازَتْ بِهِ أُمُّكِ مِنَ الْفَضَائِلِ الْعَالِيَةِ اجْتَذَبَ إِلَيْهَا قَلْبَ مَوْلَاتِنَا «الزُّهَرَةِ»، مَلِكَةِ الْجِنِّيَّاتِ، فَاخْتَارَتْهَا لِي زَوْجًا، وَكَانَ اخْتِيَارًا مُوَفَّقًا سَعِيدًا.»

(٣) غَضَبُ «سُنْعُبَةَ»

وَرُفِعَتِ الْأَعْلَامُ، وَأُقِيمَتِ الزِّينَاتُ الْبَاهِرَةُ احْتِفَالًا بِزَوَاجِي، وَلَكِنْ فَاتَنِي — لِسُوءِ الْحَظِّ — أَنْ أَدْعُوَ الْجِنِّيَّةَ «سُنْعُبَةَ»؛ فَغَاظَهَا ذَلِكَ مِنِّي، وَأَحْفَظَهَا عَلَيَّ، وَمَلَأَ نَفْسَهَا الشِّرِّيرَةَ حِقْدًا. وَضَاعَفَ مِنْ غَيْظِهَا أَنَّنِي تَزَوَّجْتُ أُمَّكِ بَعْدَ أَنْ أَبَيْتُ أَنْ أَتَزَوَّجَ إِحْدَى بَنَاتِهَا، بِرَغْمِ إِلْحَاحِهَا عَلَيَّ فِي ذَلِكَ، فَأَضْمَرَتْ لِي «سُنْعُبَةُ» حِقْدًا كَمِينًا، وَأَلَمًا دَفِينًا، وَامْتَلَأَ قَلْبُهَا سُخْطًا عَارِمًا عَلَيَّ وَعَلَى أَهْلِي وَأَبْنَائِي. وَمَا كُنْتُ أَرْتَاعُ لِوَعِيدِهَا وَأَجْزَعُ مِنْ تَهْدِيدِهَا حِينَئِذٍ؛ فَقَدْ كَانَتْ لِي قُوَّةٌ تَرْجَحُ قُوَّتَهَا إِنْ لَمْ تُمَاثِلْهَا، وَقَدْ أَفْرَدَتْنِيَ «الزُّهَرَةُ»، مَلِكَةُ الْجِنِّيَّاتِ، مِنْ بَيْنِ حَاشِيَتِهَا جَمِيعًا، بِعَطْفٍ وَرِعَايَةٍ لَا مَثِيلَ لَهُمَا. وَكِثيرًا مَا وَقَفَتْ حَائِلًا تَرُدُّ عَنِّي كَيْدَ هَذِهِ الشِّرِّيرَةِ، وَتُفْسِدُ عَلَيْهَا تَدْبِيرَهَا الْخَبِيثَ، وَتُحْبِطُ مُؤَامَرَاتِهَا الْمُهْلِكَةَ.

(٤) انْتِقَامُ «سُنْعُبَةَ»

ثُمَّ حَدَثَ مَا لَمْ يَكُنْ فِي الْحُسْبَانِ، فَلَمْ يَكَدْ يَنْقَضِي عَلَى وِلَادَتِكِ بِضْعُ سَاعَاتٍ حَتَّى أَحَسَّتْ أُمُّكِ آلَامًا شَدِيدَةً مُبَرِّحَةً، لَمْ أَسْتَطِعْ لَهَا دَفْعًا وَلَا تَخْفِيفًا، فَتَغَيَّبْتُ عَنْهَا لَحْظَةً لِأَسْتَمِدَّ مَعُونَةَ «الزُّهَرَةِ»، وَمَا كِدْتُ أَعُودُ حَتَّى وَجَدْتُ أُمَّكِ قَدْ فَارَقَتِ الْحَيَاةَ.

فَقَدِ انْتَهَزَتِ الْجِنِّيَّةُ الشَّقِيَّةُ الْحَمْقَاءُ «سُنْعُبَةُ» فُرْصَةَ غِيَابِي، فَأَمَاتَتْهَا عَبْطَةً (صَحِيحَةً شَابَّةً) لَيْسَ بِهَا مِنْ مَرَضٍ.

(٥) غَرِيزَةُ الْفُضُولِ

وَكَانَتْ «سُنْعُبَةُ» عَلَى وَشْكِ أَنْ تَغْرِسَ فِي نَفْسِكِ كُلَّ مَا انْطَبَعَ فِي نَفْسِهَا مِنْ رَذَائِلَ وَمَسَاوِئَ، لَوْلَا أَنَّنِي أَسْرَعْتُ فِي الْعَوْدَةِ إِلَيْكِ — لِحُسْنِ الْحَظِّ — فَحَالَ ذَلِكَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ آرَابِهَا (مَقَاصِدِهَا) الْخَبِيثَةِ، وَأَحْبَطَ (أَبْطَلَ) عَمَلَهَا الْأَحْمَقَ. وَقَدْ أَفْلَحْتُ فِي رَدِّهَا عَنْكِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي بَدَأَتْ فِيهِ تَبُثُّ فِي نَفْسِكِ حُبَّ الْفُضُولِ، وَمُطَاوَعَةَ هَوَى النَّفْسِ فِي تَعَرُّفِ مَا لَا يُفِيدُهَا، وَالْجَرْيِ وَرَاءَ مَا لَا يَعْنِيهَا. وَلَنْ يَنْفَكَّ عَنْكِ سِحْرُهَا وَيَزُولَ سُلْطَانُهَا إِلَّا إِذَا بَلَغْتِ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ مِنْ عُمُرِكِ.

(٦) سِجْنُ «سُنْعُبَةَ»

وَقَدْ أَمْكَنَتْنِي قُوَّتِي — تُؤَازِرُهَا قُوَّةُ مَلِكَةُ الْجِنِّيَّاتِ — مِنْ إِحْبَاطِ كَيْدِهَا لَكِ، وَإِبْعَادِ سُلْطَانِهَا عَنْكِ. وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّكِ سَتُصْبِحِينَ نَاجِيَةً مِنْ كَيْدِهَا وَنُفُوذِهَا مَتَى أَتْمَمْتِ خَمْسَةَ عَشَرَ عَامًا، عَلَى شَرِيطَةٍ وَاحِدَةٍ: هِيَ أَلَّا تَنْدَفِعِي فِي طَرِيقِ الْفُضُولِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، مَهْمَا تَكُنِ الْمُغْرِيَاتُ. وَرَأَتِ «الزُّهَرَةُ» فِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ أَنْ تُعَاقِبَ «سُنْعُبَةَ» عَلَى مَا جَلَبَتْهُ لَكِ مِنْ شَقَاءٍ وَتَعَبٍ، فَتُحَوِّلَهَا سِنْجَابًا صَغِيرًا وَتَسْجُنَهَا فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ الصَّغِيرِ الَّذِي رَأَيْتِهِ الْيَوْمَ.

(٧) فُرَصٌ ثَلاثٌ

وَقَدْ كُتِبَ عَلَى هَذِهِ الشِّرِّيرَةِ أَنْ تَظَلَّ سَجِينَةً إِلَّا إِذَا فَتَحْتِ أَنْتِ لَهَا الْبَابَ رَاضِيَةً مُخْتَارَةً، وَقَدْ كُتِبَ عَلَيْهَا أَلَّا تَعُودَ جِنِّيَّةً كَمَا كَانَتْ إِلَّا إِذَا طَاوَعْتِ فُضُولَكِ مَرَّاتٍ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ تَبْلُغِيَ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ مِنْ عُمُرِكِ. فَإِذَا أَنْتَ قَاوَمْتِ هَذِهِ النَّزْعَةَ، وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً؛ تَحَرَّرْتِ مِنَ الْأَسْرِ، وَخَلَصْتِ مِنْ سُلْطَانِ «سُنْعُبَةَ» وَنُفُوذِهَا إِلَى الْأَبَدِ. وَاعْلَمِي أَنَّنِي لَمْ أُوَفِّرْ لَكِ جَمِيعَ هَذِهِ الْمَزَايَا إِلَّا بِمَا صَبَرْتُ عَلَيْهِ مِنْ شَدِيدِ الْعَنَاءِ، وَمَا بَذَلْتُ مِنْ كَبِيرِ الْمَجْهُودِ، وَمَا أَفْضَلَتْ بِهِ مَوْلَاتُنَا «الزُّهَرَةُ» مِنْ صَادِقِ الْمَعُونَةِ. وَثِقِي أَنَّنِي لَمْ أَظْفَرْ بِهَذِهِ الْغَايَةِ إِلَّا بَعْدَ أَنِ ارْتَضَيْتُ أَنْ أُقَاسِمَكِ حَظَّكِ مِنَ السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاءِ، فَأُصْبِحَ مِثْلَكِ عَبْدًا رَقِيقًا خَاضِعًا ﻟ «سُنْعُبَةَ» إِذَا تَغَلَّبَ عَلَيْكِ الْفُضُولُ مَرَّاتٍ ثَلَاثًا. وَقَدْ أَخَذْتُ نَفْسِي بِالْعِنَايَةِ بِتَهْذِيبِ نَفْسِكِ، وَتَجْنِيبِكِ نَقِيصَةَ الْفُضُولِ، فَلَمْ آلُ جُهْدًا فِي هَدْمِ هَذِهِ الرَّذِيلَةِ الْمَشْئُومَةِ الَّتِي لَا تَجْلُبُ عَلَى مَنْ يُطَاوِعُهَا إِلَّا جِسَامَ الْمَتَاعِبِ، وَثِقَالَ الْمَصَائِبِ.

(٨) قَبْلَ أَيَّامٍ

وَقَدِ اخْتَرْتُ لَكِ هَذَا الْقَصْرَ، بَعْدَ أَنْ أَفْرَدْتُكِ فِيهِ، وَلَمْ أَتَسَمَّحْ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي أَنْ أُمَكِّنَكِ مِنْ رُؤْيَةِ وَاحِدَةٍ مِنَ الْجِنِّيَّاتِ وَالْإِنْسِيَّاتِ عَلَى السَّوَاءِ، وَغَلَوْتُ فِي ذَلِكَ فَلَمْ أُمَكِّنْكِ مِنْ رُؤْيَةِ أَحَدٍ مِنَ الْخَدَمِ وَالْوَصَائِفِ.

وَأَعْدَدْتُ لَكِ — بِمَا لِي مِنْ سُلْطَانٍ وَنُفُوذٍ — كُلَّ مَا يُعْوِزُكِ مِنْ مَطَالِبِ الْعَيْشِ، وَحَاجَاتِ الْحَيَاةِ، وَأَسْبَابِ التَّرْفِيهِ وَالتَّسَلِّي. وَقَدِ ارْتَاحَتْ نَفْسِي حِينَ رَأَيْتُنِي نَجَحْتُ فِي هَذَا الْمُهِمِّ، وَانْتَصَرْتُ فِي تِلْكَ الْمَعْرَكَةِ. وَكُنْتِ عَلَى وَشْكِ أَنْ تُدْرِكِي الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ مِنْ عُمُرِكِ، فَلَمْ يَكُنْ بَيْنَكِ وَبَيْنَ تَمَامِهَا إِلَّا أَيَّامٌ قَلِيلَةٌ، فَتَتَحَرَّرِي مِنْ نِيرِ «سُنْعُبَةَ» وَتَخْلُصِي مِنْ أَسْرِهَا إِلَى الْأَبَدِ. وَلَكِنَّ سُوءَ الْحَظِّ أَبَى عَلَيْكِ إِلَّا أَنْ تَسْأَلِينِي عَنْ ذَلِكَ الْمِفْتَاحِ الْمَشْئُومِ الَّذِي لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِكِ مَرَّةً وَاحِدَةً قَبْلَ هَذَا الْيَوْمِ الْأَنْكَدِ. وَقَدْ أَعْجَلَتْنِي الْمُفَاجَأَةُ، وَأَذْهَلَنِي وَقْعُهَا، فَلَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَكْتُمَ عَنْكِ مَا سَاوَرَنِي مِنَ الْقَلَقِ، وَأُخْفِيَ مَا تَرَكَهُ سُؤَالُكِ فِي نَفْسِي مِنْ سَيِّئِ الْأَثَرِ، وَمُوجِعِ الْأَلَمِ.

وَكَأَنَّ مَا بَدَا عَلَيَّ مِنْ دَهْشَةٍ وَاضْطِرَابٍ قَدْ أَثَارَ ثَائِرَةَ فُضُولِكِ، وَأَذْكَى مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ نَفْسُكِ مِنْ تَشَوُّقٍ لِتَعَرُّفِ سِرِّ الْمِفْتَاحِ.

(٩) فُرْصَةُ الاخْتِبَارِ

وَلَئِنْ تَظَاهَرْتُ أَمَامَكِ بِالْمَرَحِ وَالابْتِهَاجِ، وَتَكَلَّفْتُ الصَّبْرَ وَالِاسْتِخْفَافَ وَفِقْدَانَ الْمُبَالَاةِ، لَقَدْ عَرَفْتُ غَرَضَكِ، وَلَمْ أُخْطِئْهُ أَوَّلَ وَهْلَةٍ، وَوَقَفْتُ عَلَى كُنْهِ مَا تُضْمِرِينَ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ، وَأَدْرَكْتُ حَقِيقَةَ مَا يَهْجِسُ فِي نَفْسِكِ مِنَ الْفُضُولِ مُنْذُ رَأَيْتُكِ تُلْحِفِينَ فِي السُّؤَالِ عَمَّا يَحْوِيهِ الْبَيْتُ الصَّغِيرُ. وَضَاعَفَ عَلَيَّ الْأَلَمَ مَا رَأَيْتُهُ مِنْ إِصْرَارِ «الزُّهَرَةِ» عَلَى أَنْ أُيَسِّرَ لَكِ طَرِيقَ الْإِغْرَاءِ، فَأَتْرُكَ الْمِفْتَاحَ فِي مُتَنَاوَلِ يَدِكِ مَرَّةً وَاحِدَةً عَلَى الْأَقَلِّ، لِتَخْتَبِرَ مَدَى إِرَادَتِكِ، وَتَتَعَرَّفَ مِقْدَارَ نَجَاحِكِ فِي مُقَاوَمَةِ الْفُضُولِ لِتَكُونِي جَدِيرَةً بِثَنَائِهَا وَإِعْجَابِهَا. وَهَكَذَا حَتَمَتِ «الزُّهَرَةُ» عَلَيَّ أَنْ أَتْرُكَ الْمِفْتَاحَ، مُتَظَاهِرًا بِنِسْيَانِهِ؛ لِأُيَسِّرَ لَكِ — فِي أَثْنَاءِ غِيَابِي — فُرْصَةً لاخْتِبَارِ قُوَّةِ إِرَادَتِكِ، وَرَجَاحَةِ عَقْلِكِ وَحَزَامَتِكِ. وَلَمْ يَكُنْ مِنْ ذَلِكَ الِامْتِحَانِ بُدٌّ وَلَا مَفَرٌّ؛ فَلَا عَجَبَ إِذَا اسْتَوْلَى عَلَيَّ الْحُزْنُ وَالْأَلَمُ مُنْذُ تَرَكْتُكِ وَحْدَكِ نَهْبًا لِلْأَقْدَارِ، وَهَدَفًا لِلْأَخْطَارِ.

(١٠) نَتِيجَةٌ لَا تَسُرُّ

وَعِنْدَمَا رَأَيْتُ مَا بَدَا عَلَى أَسَارِيرِ وَجْهِكِ — بَعْدَ عَوْدَتِي — مِنَ الْحَيْرَةِ وَالارْتِبَاكِ وَحُمْرَةِ الْخَجَلِ، عَرَفْتُ صِدْقَ مَا حَدَسْتُ، وَتَأَكَّدَتْ لِي صِحَّةُ مَا ظَنَنْتُ، وَكَانَ مَا خِفْتُ أَنْ يَكُونَ، فَقَدْ أَخْفَقْتِ فِي الِامْتِحَانِ، وَضَعُفَتْ إِرَادَتُكِ — يَا بُنَيَّةُ — فَعَجَزْتِ عَنِ الثَّبَاتِ، وَتَغَلَّبَ عَلَيْكِ حُبُّ الْفُضُولِ، فَانْدَفَعْتِ فِيمَا نَهَيْتُكِ عَنْهُ، فِي غَيْرِ تَبَصُّرٍ وَلَا تَرَوٍّ، وَجَلَبْتِ عَلَيْكِ وَعَلَى أَبِيكِ بِهَذَا التَّسَرُّعِ الطَّائِشِ مَصَائِبَ لَا يَعْلَمُ عَوَاقِبَهَا إِلَّا الله. وَلَمْ يَكُنْ فِي قُدْرَتِي أَنْ أَكْشِفَ لَكِ هَذِهِ الْعَاقِبَةَ، أَوْ أُطْلِعَكِ عَلَى سِرِّهَا، وَمَكْنُونِ أَمْرِهَا، أَوْ أَبُوحَ لَكِ بِشَيْءٍ مِنْ تَفْصِيلِهَا قَبْلَ أَوَانِهَا. وَلَمْ يُؤْذَنْ لِي فِي ذَلِكَ إِلَّا يَوْمَ تَبْلُغِينَ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ مِنْ عُمُرِكِ. وَلَمْ يَكُنْ لِي مِنْ سَبِيلٍ إِلَى كَشْفِ مَا اسْتُودِعْتُهُ مِنْ أَسْرَارٍ قَبْلَ أَنْ يَحُلَّ هَذَا الْيَوْمُ الْمُوشِكُ.

وَهَكَذَا اضْطُرِرْتُ إِلَى إِخْفَاءِ الْمُسْتَقْبَلِ عَنْكِ، وَلَمْ يَكُنْ لِي عَنْ ذَلِكَ مَنْدُوحَةٌ وَلَا مَهْرَبٌ؛ فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي أَنْ أُحَذِّرَكِ مِمَّا تَسْتَهْدِفِينَ لَهُ مِنَ الْمَتَاعِبِ وَالْأَخْطَارِ. وَلَوْ أَنَّنِي خَالَفْتُ لَانْعَكَسَتِ الْآيَةُ، وَوَقَعْتُ تَحْتَ طَائِلَةِ الْجِنِّيَّةِ الشِّرِّيرَةِ «سُنْعُبَةَ» فَأَصْبَحْتُ لَهَا أَسِيرًا ذَلِيلًا، بَعْدَ أَنْ كَانَتْ عِنْدِي أَسِيرَةً ذَلِيلَةً.

(١١) بَارِقَةُ الْأَمَلِ

وَالْآنَ — يَا فَتَاتِي الْعَزِيزَةَ — لَقَدْ أَخْطَأْتِ، وَجَلَبْتِ عَلَيْنَا بِخَطَئِكِ شَرًّا مُسْتَطِيرًا. وَلَكِنَّنَا — مَعَ ذَلِكَ — لَمْ نَفْقِدِ الرَّجَاءَ فِي تَلَافِي هَذَا الْخَطَأِ الشَّنِيعِ، وَلَا تَزَالُ أَمَامَنَا بَارِقَةُ أَمَلٍ فِي النَّجَاةِ وَالْفَوْزِ عَلَى عَدُوَّتِنَا «سُنْعُبَةَ». فَفِي وُسْعِكِ أَنْ تُكَفِّرِي عَنْ ذَنْبِكِ، وَتَسْتَغْفِرِي مِنْ جُرْمِكِ، إِذَا حَزَمْتِ أَمْرَكِ، وَتَغَلَّبْتِ عَلَى فُضُولِكِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا كَامِلَةً. فَهَلْ تَعِدِينَنِي بِالِانْتِصَارِ عَلَى تِلْكَ النَّقِيصَةِ الْمَشْئُومَةِ الْمُهْلِكَةِ الَّتِي تُرَاوِدُ نَفْسَكِ وَتُسَاوِرُ هَوَاكِ؟

(١٢) الْأَمِيرُ «صَفَاءٌ»

«وَاعْلَمِي أَنَّ الْأَمِيرَ «صَفَاءً» الَّذِي اخْتَارَهُ الْحَظُّ السَّعِيدُ زَوْجًا كَرِيمًا لَكِ، لَا يَزَالُ يَتَرَقَّبُ عِيدَكِ الْخَامِسَ عَشَرَ بِفَارِغِ الصَّبْرِ، وَلَا يَزَالُ يُؤَمِّلُ فِي نَجَاحِكِ، وَهُوَ عَلَى مِثْلِ حَرِّ الْجَمْرِ؛ فَلَا تُخَيِّبِي الظُّنُونَ، وَاجْتَازِي الاخْتِبَارَ الْهَيِّنَ الْمَيْسُورَ بِمَا عَرَفْتُهُ فِيكِ مِنْ فِطْنَةٍ وَتَدَبُّرٍ، وَحَزَامَةٍ وَتَبَصُّرٍ، آهٍ. يَا صَفِيَّةُ! أَشْفِقِي عَلَى نَفْسِكِ إِنْ لَمْ تُشْفِقِي عَلَيَّ، وَاعْتَصِمِي بِالشَّجَاعَةِ وَالرَّأْيِ وَالثَّبَاتِ وَالْمُقَاوَمَةِ. وَلَا زَالَ الْأَمِيرُ «صَفَاءٌ»، وَهُوَ أَنْبَلُ شَابٍّ فِي أُسْرَتِنَا، وَاثِقًا بِرَجَاحَةِ عَقْلِكِ وَدِقَّةِ فَهْمِكِ.»

(١٣) اسْتِغْفَارُ النَّدَمِ

وَكَانَتْ «صَفِيَّةُ» جَاثِيَةً عِنْدَ قَدَمَيْ أَبِيهَا، مُخْفِيَةً وَجْهَهَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَهِيَ تَبْكِي بُكَاءً حَارًّا، عَلَى أَنَّهَا اسْتَعَادَتْ شَيْئًا مِنَ الشَّجَاعَةِ وَالْقُوَّةِ عِنْدَمَا طَرَقَتْ سَمْعَهَا الْكَلِمَاتُ الْأَخِيرَةُ، وَعَانَقَتْ أَبَاهَا مُسْتَعْطِفَةً مُسْتَغْفِرَةً، نَادِمَةً مُسْتَعْبِرَةً. ثُمَّ قَالَتْ لَهُ: «أُقْسِمُ لَكَ — يَا أَبِي — أَنَّنِي لَنْ أُقَصِّرَ فِي تَدَارُكِ مَا صَدَرَ عَنِّي مِنْ خَطَأٍ، وَإِصْلَاحِ مَا فَرَطَ مِنِّي مِنْ غَلَطٍ؛ فَالْبَثْ مَعِي، وَابْقَ إِلَى جَانِبِي، وَلَا تَتْرُكْنِي وَحْدِي؛ فَإِنَّ الْقُرْبَ مِنْكَ لِنَفْسِي عَزَاءٌ، وَلِهِمَّتِي مَضَاءٌ، وَلَنْ تُعْوِزَنِي الشَّجَاعَةُ إِذَا ضَمِنْتُ لِزَامَكَ الْأبَوِيَّ، وَإِرْشَادَكَ الْحَكِيمَ.»

فَقَالَ «غَالِبٌ»: «كَلَّا، لَا سَبِيلَ إِلَى ذَلِكَ، وَلَيْسَ فِي مَقْدُورِي أَنْ أَبْقَى إِلَى جَانِبِكِ؛ فَقَدْ أَصْبَحْنَا الْآنَ تَحْتَ سُلْطَانِ عَدُوَّتِيَ اللَّدُودِ «سُنْعُبَةَ»، وَلَنْ تَسْمَحَ لِي هَذِهِ الشِّرِّيرَةُ أَنْ أَبْقَى إِلَى جِوَارِكِ لِأُبَصِّرَكِ بِالْأَخْطَارِ، وَأُحَذِّرَكِ مَكَايِدَ الأَشْرَارِ.»

(١٤) وَعِيدُ «سُنْعُبَةَ»

«وَاعْلَمِي أَنَّ «سُنْعُبَةَ» لَنْ تَأْلُوَ جُهْدًا فِي الْإِيقَاعِ بِكِ، وَالْإِسَاءَةِ إِلَيْكِ، بِكُلِّ مَا تَزْخَرُ بِهِ نَفْسُهَا مِنْ حَمَاقَةٍ وَشَرٍّ. وَإِنِّي لَيُدْهِشُنِي أَلَّا أَرَاهَا بِجِوَارِكِ إِلَى الْآنَ. فَالْحَمْدُ لِله عَلَى بُعْدِهَا وَالْخَلَاصِ مِنْ رُؤْيَتِهَا؛ فَلَوْ كَانَتْ قَرِيبَةً مِنَّا وَسَمِعَتْ هَذَا الْحِوَارَ لَامْتَلَأَتْ نَفْسُهَا شَمَاتَةً وَابْتِهَاجًا بِمَا حَلَّ بِنَا.»

وَهُنَا ظَهَرَ أَمَامَهُ السِّنْجَابُ الصَّغِيرُ يَقُولُ بِصَوْتِهِ الْوَاهِنِ الْمُزْعِجِ: «إِنَّ «سُنْعُبَةَ» لَا زَالَتْ قَرِيبَةً مِنْكَ، عِنْدَ قَدَمَيِ ابْنَتِكَ. وَلَقَدْ فَاضَتْ نَفْسِي سُرُورًا مِمَّا سَمِعْتُهُ مِنْ شَكْوَاكَ الْمَرِيرَةِ وَآلَامِكَ الْمُبَرِّحَةِ. وَلَيْسَ أَبْهَجَ لِنَفْسِي مِنْ تَكْدِيرِ عَيْشِكَ، وَتَنْغِيصِ حَيَاتِكَ. وَقَدِ اسْتَخْفَيْتُ عَنْكَ، فَلَمْ أُبَادِرْ بِالظُّهُورِ حَتَّى لَا أَحْرِمَ نَفْسِي لَذَّةَ الْإِنْصَاتِ إِلَى شَكْوَاكَ، وَالْفَرَحِ بِمُصِيبَتِكَ. فَوَدِّعِ ابْنَتَكَ الْعَزِيزَةَ فَإِنِّي آخِذَتُهَا مِنْكَ لَا مَحَالَةَ، وَمَانِعَتُكَ مِنْ مُصَاحَبَتِهَا مُنْذُ الْيَوْمِ.»

(١٥) هَزِيمَةُ «غَالِبٍ»

وَلَمْ يَكَدِ السِّنْجَابُ يُتِمُّ وَعِيدَهُ حَتَّى اقْتَرَبَ مِنْ ثَوْبِهَا، وَأَنْشَبَ أَسْنَانَهُ الصَّغِيرَةَ الْحَادَّةَ فِي ذَيْلِهَا لِيَسْحَبَهَا وَرَاءَهُ، فَصَرَخَتِ الْفَتَاةُ الْمِسْكِينَةُ صَرَخَاتٍ حَزِينَةً مُؤْلِمَةً، وَقَدْ أَمْسَكَتْ بِجِلْبَابِهَا وَتَعَلَّقَتْ بِهِ، وَرَاحَتْ تَشُدُّهُ لِتُخَلِّصَهُ مِنْهُ، وَلَكِنَّ قُوَّةً لَا قِبَلَ لَهَا بِهَا جَذَبَتْهَا فِي عُنْفٍ، فَتَنَاوَلَ الْأَمِيرُ «غَالِبٌ» التَّاعِسُ الْحَظِّ هِرَاوَةً (عَصًا ضَخْمَةً) وَرَفَعَهَا عَلَى السِّنْجَابِ، وَلَكِنَّ السِّنْجَابَ عَاجَلَهُ قَبْلَ أَنْ يُهْوِيَ عَلَيْهِ بِهِرَاوَتِهِ، فَوَضَعَ قَدَمَهُ الصَّغِيرَةَ عَلَى قَدَمِ «غَالِبٍ» فَأَعْجَزَهُ عَنِ الْحَرَكَةِ، فَوَقَف «غَالِبٌ» جَامِدًا لَا حَرَاكَ بِهِ كَأَنَّهُ تِمْثَالٌ مِنَ الصَّخْرِ. وَتَعَلَّقَتِ الْأَمِيرَةُ بِقَدَمَيْ أَبِيهَا، وَرَاحَتْ تَسْأَلُ «سُنْعُبَةَ» أَنْ تَرْحَمَ أَبَاهَا وَتُشْفِقَ عَلَيْهِ. وَلَكِنْ، مَا أَبْعَدَ الرَّحْمَةَ وَالشَّفَقَةَ عَنْ قُلُوبِ الْأَشْرَارِ! فَقَدْ هَزِئَتْ بِهَا الْخَبِيثَةُ ضَاحِكَةً مِنْ سَذَاجَتِهَا، سَاخِرَةً مِنْ بَلَاهَتِهَا. ثُمَّ أَتْبَعَتْ ضَحِكَتَهَا وَسُخْرِيَتَهَا قَوْلَهَا: «إِلَيَّ يَا «صَفِيَّةُ». هَلُمِّي أَيَّتُهَا الْفُضُولِيَّةُ الرَّعْنَاءُ. تَعَالَيْ أَيَّتُهَا الْغَبِيَّةُ الْبَلْهَاءُ، فَلَيْسَ بِمُسْتَطَاعٍ أَنْ نَخْدَعَكِ فِي هَذَا الْمَكَانِ خُدْعَتَيْنِ، وَنُوقِعَكِ هُنَا فِي شِبَاكِنَا مَرَّتَيْنِ. كَلَّا، بَلْ نَطُوفُ بِكِ، وَنُرِيكِ مِنْ بِلَادِ الْعَالَمِ مَا لَمْ يَخْطُرْ لَكِ عَلَى بَالٍ، حَتَّى نَقْضِيَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا.»

(١٦) احْتِرَاقُ الْبَيْتِ

وَكَانَتْ «سُنْعُبَةُ» لَا تَزَالُ تَسْحَبُ «صَفِيَّةَ» وَتَجْذِبُ ذَيْلَ ثَوْبِهَا، وَتَسُدُّ عَلَيْهَا سُبُلَ الْهَرَبِ، وَلا تُتِيحُ لَهَا فُرَصَةً لِلْخَلَاصِ مِنْهَا لَحْظَةً وَاحِدَةً.

وَلَمْ يَكُنْ فِي قُدْرَةِ الْفَتَاةِ أَنْ تَتَخَلَّصَ مِنْ هَذِهِ الْجَبَّارَةِ الْبَاطِشَةِ. وَمَا لَبِثَتْ «سُنْعُبَةُ» أَنْ صَرَخَتْ صَرْخَةً ضَعِيفَةً مُتَقَطِّعَةً، وَسُرْعَانَ مَا الْتَهَبَ الْبَيْتُ كُلُّهُ، وَدَمَّرَتْهُ النَّارُ. وَأَدْرَكَتْ «صَفِيَّةُ» حِينَئِذٍ أَنَّهَا لَوْ بَقِيَتْ فِي مَكَانِهَا لَأَحْرَقَهَا اللَّهَبُ، وَلَوْ تَمَّ ذَلِكَ لَفَقَدَ أَبُوهَا بِمَوْتِهَا كُلَّ أَمَلٍ فِي خَلَاصِهِ، وَظَلَّ طُولَ حَيَاتِهِ عَبْدًا ذَلِيلًا فِي أَسْرِ «سُنْعُبَةَ». وَلَكِنَّهَا إِذَا أَبْقَتْ «صَفِيَّةُ» عَلَى حَيَاتِهَا؛ فَإِنَّهَا لَمْ تَفْقِدِ الْأَمَلَ فِي إِنْقَاذِ أَبِيهَا مِنْ شَرِّ هَذِهِ الْعَجُوزِ الشَّرِسَةِ الشَّغْبَةِ.

(١٧) وَدَاعٌ وَافْتِرَاقٌ

فَقَالَتْ لأَبِيهَا مَحْزُونَةً: «الْوَدَاعُ يَا أَبِي! إِلَى الْمُلْتَقَى بَعْدَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَلَنْ تُقَصِّرَ بِنْتُكَ «صَفِيَّةُ» فِي إِنْقَاذِكَ مِنْ أَسْرِكَ، وَرَدِّ حُرِّيَّتِكَ الْمَسْلُوبَةِ إِلَيْكَ. لَقَدْ جَلَبْتُ عَلَيْكَ الشَّقَاءَ بِتَسَرُّعِي وَفُضُولِي وَحَمَاقَتِي. فَلَأَجْلِبَنَّ لَكَ الْهَنَاءَ بِصَبْرِي وَكِيَاسَتِي وَحَزَامَتِي.»

وَسُرْعَانَ مَا ابْتَعَدَتْ «صَفِيَّةُ» عَنِ اللَّهَبِ حَتَّى تَنْجُوَ مِنَ الْحَرِيقِ.

(١٨) رَجَاءٌ خَائِبٌ

وَظَلَّتِ الْفَتَاةُ تَجْرِي إِلَى غَيْرِ غَايَةٍ وَهِيَ لَا تَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ؟ وَلَا إِلَى أَيِّ مَكَانٍ تَقْصِدُ؟ وَظَلَّتْ كَذَلِكَ عِدَّةَ سَاعَاتٍ، ثُمَّ أَعْيَاهَا التَّعَبُ، وَلَوَّعَهَا الْجُوعُ، وَبَحَثَتْ عَنْ مَكَانٍ تَأْوِي إِلَيْهِ، فَرَأَتْ عَجُوزًا جَالِسَةً أَمَامَ بَيْتِهَا، فَبَدَأَتِ الْعَجُوزَ بِالتَّحِيَّةِ، وَسَأَلَتْهَا رَاجِيَةً أَنْ تَأْذَنَ لَهَا فِي الْبَقَاءِ عِنْدَهَا، ثُمَّ خَتَمَتْ حَدِيثَهَا قَائِلَةً: «إِنَّنِي أَكَادُ أَمُوتُ جُوعًا وَتَعَبًا، وَلَسْتُ أَدْرِي مَاذَا أَصْنَعُ، إِذَا ضَنَنْتِ عَلَيَّ بِالدُّخُولِ وَلَمْ تَسْمَحِي لِي بِالْبَقَاءِ فِي بَيْتِكِ هَذِهِ اللَّيْلَةَ؟»

فَقَالَتِ الْعَجُوزُ مُتَعَجِّبَةً: «كَيْفَ تَخْرُجُ أَمِيرَةٌ مِثْلُكِ لِتَمْضِيَ فِي الطَّرِيقِ حَائِرَةً مُتَعَثِّرَةً؟ وَكَيْفَ انْطَلَقْتِ وَحْدَكِ مُنْفَرِدَةً دُونَ رَائِدٍ وَلَا أَنِيسٍ؟ أَلَيْسَ لَكِ بَيْتٌ تَأْوِينَ إِلَيْهِ؟ كَيْفَ تُطَوِّعُ لَكِ نَفْسُكِ أَنْ تُئْوِيَكِ بُيُوتُ الْغُرَبَاءِ دُونَ سَابِقِ مَعْرِفَةٍ؟ ثُمَّ مَا هَذَا السِّنْجَابُ الصَّغِيرُ الَّذِي يَبْدُو لِعَيْنِي كَأَنَّهُ عِفْرِيتٌ خَبِيثٌ؟»

فَالْتَفَتَتْ «صَفِيَّةُ» خَلْفَهَا، فَرَأَتْ «سُنْعُبَةَ» تَنْظُرُ إِلَيْهَا فِي تَهَكُّمٍ وَسُخْرِيَةٍ، فَأَرَادَتْ طَرْدَهَا، وَلَكِنَّهَا أَبَتْ أَنْ تُفَارِقَهَا، وَظَلَّتْ وَرَاءَهَا فِي إِصْرَارٍ وَعِنَادٍ. وَلَمَّا رَأَتِ الْعَجُوزُ أَنَّ السِّنْجَابَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ مُتَابَعَةِ الْفَتَاةِ هَزَّتْ رَأْسَهَا ثُمَّ قَالَتْ لَهَا: «امْضِي فِي طَرِيقِكِ أَيَّتُهَا الْأَمِيرَةُ، فَلَنْ يَحُلَّ بَيْتِي جِنِّيَّةٌ مِنَ الْجِنَّانِ، وَلَنْ أَقْبَلَ أَنْ أَسْتَضِيفَ مَنْ يَحْمِيهِمُ الشَّيْطَانُ!»
figure

(١٩) نَوْمٌ عَمِيقٌ

فَاسْتَأْنَفَتْ «صَفِيَّةُ» سَيْرَهَا تَبْكِي، وَكَانَتْ كُلَّمَا حَلَّتْ مَكَانًا وَالْتَمَسَتْ فِيهِ مَلْجَأً، لَقِيَتْ مِنَ الرَّفْضِ مِثْلَمَا لَقِيَتْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، لِمُتَابَعَةِ السِّنْجَابِ لَهَا، ثُمَّ أَدَّى بِهَا التَّجْوَالُ إِلَى غَابَةٍ لَفَّاءَ: تَتَشَابَكُ أَشْجَارُهَا، فَكَانَ مِنْ حُسْنِ حَظِّهَا أَنْ صَادَفَتْ غَدِيرَ مَاءٍ، فَأَقْبَلَتْ عَلَيْهِ هَائِمَةً عَطْشَى تَنْقَعُ غُلَّتَهَا. وَمَا هِيَ إِلَّا أَنْ وَجَدَتْ فَوَاكِهَ وَشَيْئًا مِنْ ثَمَرِ الْجَوْزِ الصَّغِيرِ، فَأَصَابَتْ مِنْهُ قَلِيلًا، ثُمَّ جَلَسَتْ إِلَى جِذْعِ شَجَرَةٍ، وَانْخَرَطَتْ فِي بُكَائِهَا مُسْتَرْسِلَةً فِي أَحْزَانِهَا وَهُمُومِهَا، وَظَلَّتْ تَنْدُبُ سُوءَ مَصِيرِهَا، وَقَدْ شَغَلَهَا مَا يَلْقَى أَبُوهَا عَمَّا تَلْقَاهُ. وَمَا زَالَتْ حَائِرَةً بَائِرَةً لَا تَدْرِي كَيْفَ يَنْتَهِي أَمْرُهَا بَعْدَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَأَيُّ ضَرْبٍ مِنْ ضُرُوبِ الامْتِحَانِ سَتُعَانِيهِ. وَظَلَّتْ غَارِقَةً فِي تأَمُّلِهَا مُغْمِضَةَ الْعَيْنِ، حَتَّى لَا تَتَأَذَّى بِمَنْظَرِ ذَلِكَ السِّنْجَابِ الصَّغِيرِ الْمَشْئُومِ.

وَلَمْ تَلْبَثْ أَنْ مَلَكَهَا النَّوْمُ لِمَا حَلَّ بِهَا مِنْ وَصَبٍ وَنَصَبٍ، وَمَا أَحَاطَ بِهَا مِنْ غَيَاهِبِ اللَّيْلِ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤