الفصل الخامس

سِتَارُ الْقُبَّةِ

(١) بَيْنَ الخَمَائِلِ

وَلَمَّا أَصَابَتْ مِنَ الْمَأْكَلِ مَا أَرَادَتْ، صَحِبَهَا الْأَمِيرُ إِلَى الْحَدِيقَةِ، وَأَرَاهَا مَا تَزْدَانُ بِهِ مِنْ بَدِيعِ الْخَمَائِلِ الْحَالِيَةِ بِنَاضِرِ الْأَزْهَارِ. وَكَانَ فِي طَرَفِ إِحْدَاهَا مَبْنًى أَخْضَرُ صَغِيرٌ، مُسْتَدِيرٌ مِنَ الدَّاخِلِ وَالْخَارِجِ، يَزْدَانُ بِالرَّيَاحِينِ، وَفِي وَسَطِهِ قُبَّةٌ يُخَيَّلُ لِرَائِيهَا أَنَّهَا تَحْوِي شَجَرَةً، وَلَكِنَّ سِتَارًا قَدْ سُدِلَ عَلَيْهَا وَلُفَّ حَوْلَهَا، وَخِيطَ فَوْقَهَا؛ فَسَتَرَهَا عَنِ الْعُيُونِ. وَلَمْ يَكُنِ النَّاظِرُ يَرَى مِنْ خِلَالِ السِّتْرِ إِلَّا بِضْعَةَ ثُقُوبٍ ضَيِّقَةٍ يَنْبَعِثُ مِنْ خِلَالِهَا عَلَى ضِيقِهَا بَرِيقٌ شَدِيدٌ لَا عَهْدَ لِأَحَدٍ بِمِثْلِهِ.

(٢) غِطَاءُ الشَّجَرَةِ

وَأُعْجِبَتِ الْأَمِيرَةُ الْفَتَاةُ أَيَّمَا إِعْجَابٍ بِكُلِّ مَا يَكْتَنِفُهَا مِنْ خَمَائِلَ وَأَشْجَارٍ، وَوُرُودٍ وَأَزْهَارٍ، وَبَلَابِلَ وَأَطْيَارٍ، وَكَانَتْ تَتَرَقَّبُ مِنَ الْأَمِيرِ الْفَتَى أَنْ يَعْمِدَ إِلَى ذَلِكَ السِّتْرِ الَّذِي يَلُفُّ الشَّجَرَةَ وَيَحْجُبُهَا عَنِ الْأَنْظَارِ، فَيَرْفَعَهُ أَوْ يُمَزِّقَهُ؛ لِتَرَى مَا يُخْفِيهِ مِنْ بَدَائِعَ وَرَوَائِعَ.

وَلَكِنْ شَدَّ مَا خَابَ ظَنُّهَا حِينَ رَأَتْهُ يَهُمُّ بِمُغَادَرَةِ الْخَمِيلَةِ دُونَ أَنْ يُحَدِّثَهَا بِشَيْءٍ.

(٣) هَدِيَّةُ الزِّفَافِ

فَقَالَتْ لَهُ: «تُرَى لِمَاذَا حَجَبْتَ هَذِهِ الشَّجَرَةَ؟ وَمَا بَالُ هَذَا السِّتْرِ يُخْفِيهَا فَلَا يَدَعُ لِأَحَدٍ سَبِيلًا إِلَى رُؤْيَتِهَا؟ أَلَا تُحَدِّثُنِي عَنْهَا قَلِيلًا — أَيُّهَا الْأَمِيرُ — وَتُخْبِرُنِي بِحَقِيقَتِهَا، وَأَيَّ نَوْعٍ مِنَ الْأَشْجَارِ تَكُونُ؟ وَلِمَاذَا حَجَبُوهَا بِهَذَا السِّتْرِ؟» فَقَالَ لَهَا الْأَمِيرُ وَالْفَرَحُ بَادٍ عَلَى أَسَارِيرِهِ: «إِنَّها — يَا عَزِيزَتِي — هَدِيَّةُ الزِّفَافِ الَّتِي أَعْدَدْتُهَا لَكِ، وَخَصَصْتُكِ بِهَا، وَلَكِنْ يَنْبَغِي لَكِ أَلَّا تَرَيْهَا قَبْلَ أَنْ يَحِينَ يَوْمُ مِيلَادِكِ الْخَامِسَ عَشَرَ.»

(٤) حِوَارُ الْأَمِيرَيْنِ

فَاشْتَدَّ شَوْقُ الْأَمِيرَةِ «صَفِيَّةَ» إِلَى أَنْ تَعْرِفَ حَقِيقَتَهَا، وَدَفَعَهَا الْفُضُولُ إِلَى تَعَجُّلِ رُؤْيَتِهَا، قَبْلَ الْأَوَانِ، فَأَلَحَّتْ عَلَى الْأَمِيرِ «صَفَاءٍ» تَسْأَلُهُ: «وَلَكِنْ أَيُّ نَوْعٍ مِنَ الْأَحْجَارِ الْكَرِيمَةِ يَتَلَأْلَأُ مِنْ خِلَالِ الثُّقُوبِ الصَّغِيرَةِ الَّتِي يَحْجُبُهَا هَذَا السِّتْرُ؟ فَمَا إِخَالُهَا إِلَّا فُصُوصًا مِنَ اللُّؤْلُؤِ النَّادِرِ الْبَدِيعِ.» فَأَجَابَهَا الْأَمِيرُ: «لَا تَتَعَجَّلِي — يَا عَزِيزَتِي — فَإِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ وَقْتًا، وَسَتَعْرِفِينَ جَوَابَ مَا تَطْلُبِينَ بَعْدَ أَيَّامٍ قَلِيلَةٍ. وَلْتَكُونِي عَلَى ثِقَةٍ أَنَّ هَذِهِ الْهَدِيَّةَ لَيْسَتْ مِنْ مَأْلُوفِ الْهَدَايَا، بَلْ هِيَ مِنْ نَفَائِسِ الطُّرَفِ الْجَلِيلَةِ الْقَدْرِ، الَّتِي لَمْ يَظْفَرْ بِمِثْلِهَا أَحَدٌ.»

(٥) تَحْذِيرٌ وَإِنْذَارٌ

فَتَمَلَّكَهَا الْفُضُولُ، وَانْدَفَعَتْ تُسَائِلُهُ: «أَلَيْسَ لِي مِنْ سَبِيلٍ إِلَى رُؤْيَتِهَا قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ هَذِهِ الْأَيَّامُ الْبَاقِيَةُ؟» فَقَالَ لَهَا «صَفَاءٌ»: «كَلَّا، لَا سَبِيلَ إِلَى ذَلِكَ، فَقَدْ حَتَمَتْ عَلَيْنَا مَوْلَاتُنَا «الزُّهَرَةُ» أَلَّا نُطْلِعَكِ عَلَى سِرِّهَا قَبْلَ يَوْمِ الزِّفَافِ، وَتَوَعَّدَتْنَا إِذَا خَالَفْنَا نُصْحَهَا بِشُرُورٍ فَادِحَةٍ لَا قِبَلَ لَكِ بِاحْتِمَالِهَا. وَإِنِّي لَعَلَى ثِقَةٍ بِحِكْمَتِكِ، وَرَجَاحَةِ عَقْلِكِ، وَمَوْفُورِ حَزَامَتِكِ. وَفِي هَذِهِ الْخِلَالِ ضَمَانٌ مِنَ اقْتِحَامِكِ طَرِيقِ الْفُضُولِ، وَأَمَانٌ مِنْ تَعَرُّضِكِ لِمَا يَتَهَدَّدُ الْفُضُولِيِّينَ مِنْ وَخِيمِ الْعَوَاقِبِ. وَلَسْتُ أَشُكُّ فِي أَنَّ مَا تَتَحَلَّى بِهِ نَفْسُكِ مِنَ الْفَضَائِلِ، وَمَا تُضْمِرِينَهُ لِي مِنْ وَفَاءٍ وَإِخْلَاصٍ، كَفِيلَانِ بِالتَّغَلُّبِ عَلَى هَذِهِ الرَّغْبَةِ الْجَامِحَةِ الَّتِي تَدْفَعُكِ إِلَى سُلُوكِ طَرِيقٍ مَخُوفَةٍ وَعْرَةٍ، لَا تُحْمَدُ عُقْبَاهَا، وَلَا تُرْضَى نَتَائِجُهَا.»

(٦) ذِكْرَيَاتٌ مُؤْلِمَةٌ

فَاضْطَرَبَتِ الْأَمِيرَةُ الْفَتَاةُ حِينَ سَمِعَتْ هَذَا التَّحْذِيرَ، وَسُرْعَانَ مَا ذَكَرَتْ مَا جَرَّهُ عَلَيْهَا الْفُضُولُ مِنْ فَكَاكِ السِّنْجَابِ الصَّغِيرِ، وَخَلَاصِهِ مِنَ الْأَسْرِ، وَمَا أَعْقَبَ ذَلِكَ مِنَ الْكَوَارِثِ الْقَاصِمَةِ الَّتِي حَاقَتْ بِهَا وَبِأَبِيهَا فَدَمَّرَتْ قَصْرَهُمَا، وَشَرَّدَتْهُمَا كُلَّ مُشَرَّدٍ، وَنَصَرَتْ عَلَيْهِمَا عَدُوَّتَهُمَا الْحَاقِدَةَ الشِّرِّيرَةَ «سُنْعُبَةَ»، وَجَلَبَتْ عَلَيْهِمَا مِنَ الْمِحَنِ مَا لَمْ يَكُونَا لِيَتَعَرَّضَا لَهُ لَوْ لَمْ يَدْفَعْهَا فُضُولُهَا إِلَى مُخَالَفَةِ أَبِيهَا، وَالتَّهَوُّرِ فِي تَعَرُّفِ مَا لَا يَعْنِيهَا. فَهِيَ لَوْ لَمْ تَفْتَحِ الْبَيْتَ الصَّغِيرَ لَمَا أَتَاحَتْ ﻟ «سُنْعُبَةَ» سَبِيلَ الْخَلَاصِ، وَيَسَّرَتْ لَهَا وَسَائِلَ الْكَيْدِ وَالِانْتِقَامِ.

(٧) أَيَّامُ السَّعَادَةِ

وَهَكَذَا كَفَّتِ الْأَمِيرَةُ عَنْ فُضُولِهَا، وَأَقْلَعَتْ عَنِ التَّفْكِيرِ فِيمَا يَعُودُ عَلَيْهَا بِالْأَذَى، فَوَاصَلَتْ نُزْهَتَهَا مَعَ الْأَمِيرِ، وَقَضَتْ يَوْمَهَا فِي سُرُورٍ وَانْشِرَاحٍ، وَقَدَّمَ لَهَا الْأَمِيرُ بَقِيَّةَ نِسَاءِ حَاشِيَتِهِ بَعْدَ أَنْ أَفْضَى إِلَيْهِنَّ بِأَنَّهَا سَتَكُونُ زَوْجَهُ، إِذِ اخْتَارَتْهَا لَهُ «الزُّهَرَةُ» شَرِيكَةً لِحَيَاتِهِ، فَأَقْبَلْنَ عَلَى أَمِيرَتِهِنَّ فَرِحَاتٍ مُهَنِّئَاتٍ. وَكَانَتِ الْأَمِيرَةُ مِثَالًا لِلدَّمَاثَةِ وَاللُّطْفِ، فَأَحْبَبْنَهَا جَمِيعًا. وَلَا تَسَلْ عَنِ ابْتِهَاجِهِنَّ بِاخْتِيَارِهَا مَلِكَةً عَلَيْهِنَّ، فَقَدْ رَأَيْنَ مِنْ مَزَايَاهَا مَا حَبَّبَهَا إِلَيْهِنَّ. وَمَضَى الْغَدُ، وَمَضَتْ فِي أَثَرِهِ أَيَّامٌ، بَيْنَ أَعْيَادٍ وَحَفَلَاتٍ وَصَيْدٍ وَنُزْهَةٍ. وَكَانَ الْأَمِيرُ «صَفَاءٌ» وَخَطِيبَتُهُ يَسْتَقْبِلَانِ أَيَّامَ السَّعَادَةِ وَالْغِبْطَةِ فَرِحَيْنِ، وَيَتَرَقَّبَانِ عِيدَ الْمِيلَادِ مُبْتَهِجَيْنِ. وَلَا عَجَبَ فِي ذَلِكَ، فَقَدْ كَانَ «صَفَاءٌ» يُخْلِصُ لِبِنْتِ عَمِّهِ الْإِخْلَاصَ كُلَّهُ، وَيُعْجَبُ بِمَا مَنَحَهَا اللهُ مِنْ كَرِيمِ الصِّفَاتِ وَالْمَزَايَا، وَنِبيلِ الْخِلَالِ وَالشِّيَمِ، كَمَا كَانَتْ «صَفِيَّةُ» تُعْجَبُ بِمَا وَهَبَهُ اللهُ مِنْ رَجَاحَةِ الْعَقْلِ، وَكَرَمِ النَّفْسِ، وَمَا مَيَّزَهُ بِهِ مِنَ الْخِلَالِ النَّبِيلَةِ العَالِيَةِ، وَتَتَرَقَّبُ خَلَاصَ أَبِيهَا عَلَى يَدَيْهِ، وَانْتِصَارَهُ عَلَى السِّنْجَابِ الصَّغِيرِ.

(٨) الْيَوْمُ الْأَخِيرُ

عَلَى أَنَّ شَغَفَهَا بِرُؤْيَةِ مَا يَحْجُبُهُ ذَلِكَ السِّتْرُ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ وَصَلَ إِلَى غَايَتِهِ، وَبَلَغَ مُنْتَهَاهُ، فَلَمْ يَهْدَأْ لَهَا خَاطِرٌ، وَلَمْ يَرْتَحْ لَهَا قَلْبٌ، وَظَلَّتْ دَائِمَةَ التَّفْكِيرِ فِيهِ، وَالشَّوْقِ إِلَى تَعَرُّفِ مَا يَحْوِيهِ. وَاشْتَدَّ بِهَا الْفُضُولُ فَرَاحَتْ تَحْلُمُ بِهِ لَيْلًا، وَتُفَكِّرُ فِيهِ نَهَارًا كُلَّمَا خَلَتْ إِلَى نَفْسِهَا. وَكَانَتْ تَشْعُرُ بِأَلَمٍ شَدِيدٍ وَحُزْنٍ عَظِيمٍ لِعَجْزِهَا عَنِ اكْتِنَاهِ هَذَا اللُّغْزِ، وَالْوُصُولِ إِلَى سِرِّهِ، وَتَمَلَّكَتْهَا رَغْبَةٌ جَامِحَةٌ، وَشَوْقٌ جَارِفٌ إِلَى تَعَرُّفِهِ. وَانْقَضَتِ السَّاعَاتُ، وتَعَاقَبَتِ الْأَيَّامُ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا يَوْمٌ وَاحِدٌ تُشْرِقُ شَمْسُ غَدِهِ لِتُنِيرَ عِيدَ مِيلَادِهَا الْخَامِسَ عَشَرَ.

أَمَّا الْأَمِيرُ «صَفَاءٌ» فَكَانَ حِينَئِذٍ مُنْهَمِكًا فِي إِعْدَادِ مَا يَتَطَلَّبُهُ الِاحْتِفَالُ بِزَوَاجِهِ، وَقَدْ أَقَامَ سُرَادِقًا عَظِيمًا لِمَدْعُوَّاتِهِ وَضُيُوفِهِ مِنْ كَرِيمَاتِ الْجِنِّ وَأَمِيرَاتِهِنَّ، مِمَّنْ دَعَتْهُنَّ «الزُّهَرَةُ» إِلَى مُشَارَكَتِهِ فِي الْبَهْجَةِ وَالسُّرُورِ.

(٩) عِنْدَ القُبَّةِ

وَبَقِيَتِ الْأَمِيرَةُ الْفَتَاةُ خَالِيَةً بِنَفْسِهَا فِي صَبَاحِ الْيَوْمِ الْأَخِيرِ، ثُمَّ سَاقَتْهَا قَدَمَاهَا إِلَى الْحَدِيقَةِ وَهِيَ تُفَكِّرُ فِي السَّعَادَةِ الَّتِي تَسْتَقْبِلُهَا فِي غَدِهَا. وَظَلَّتْ سَائِرَةً — عَلَى غَيْرِ انْتِبَاهٍ مِنْهَا — حَتَّى اقْتَرَبَتْ مِنَ القُبَّةِ. وَلَمْ تَدْرِ كَيْف يَمَّمَتْ هَذَا الْمَكَانَ وَلَمْ تَكُنْ قَاصِدَةً إِلَيْهِ؟ فَجَلَسَتْ إِلَى جِوَارِ الْقُبَّةِ وَهِيَ بَاسِمَةٌ مُفَكِّرَةٌ فِيمَا يَغْمُرُهَا مِنْ سُرُورٍ وَبَهْجَةٍ.

(١٠) وَسْوَاسُ الْفُضُولِ

وَلَمْ تَكَدْ عَيْنَاهَا تَقَعَانِ عَلَى ذَلِكَ السِّتْرِ الْبَدِيعِ الَّذِي يُغَطِّي هَدِيَّةَ الْعُرْسِ حَتَّى عَاوَدَتْهَا الرَّغْبَةُ فِي تَعَرُّفِ ذَلِكَ الْكَنْزِ الثَّمِينِ، وَلَكِنْ سُرْعَانَ مَا عَدَلَتْ عَنْ فُضُولِهَا وَقَالَتْ لِنَفْسِهَا: «لَا حَاجَةَ إِلَى الْعَجَلَةِ، فَلَنْ يَنْقَضِيَ الْيَوْمُ وَتُشْرِقُ شَمْسُ غَدٍ حَتَّى أَعْرِفَ كُلَّ مَا يَحْتَوِيهِ السِّتْرُ، وَأُبْصِرَ مَا يَنْطَوِي عَلَيْهِ مِنْ كَرِيمِ اللآلِئِ، وَنَفِيسِ الْيَوَاقِيتِ.»

ثُمَّ عَاوَدَهَا وَسْوَاسُ الْفُضُولِ فَقَالَتْ: «وَلَكِنْ مَاذَا يَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَ تَعَرُّفِهِ الْآنَ؟ إِنَّنِي أَرَى ثُقُوبًا ضَيِّقَةً صَغِيرَةً، فَمَاذَا عَلَيَّ إِذَا وَصْوَصْتُ مِنْ خِلَالِهَا فَعَرَفْتُ شَيْئًا مِمَّا تَحْجُبُهُ؟» وَمَا زَالَ الْوَسْوَاسُ الْخَنَّاسُ يُغْرِيهَا، وَيَهْجِسُ فِي صَدْرِهَا، وَيُزَيِّنُ لَهَا مُخَالَفَةَ النُّصْحِ، حَتَّى انْدَفَعَتْ خُطْوَةً أُخْرَى فِي طَرِيقِ الْفُضُولِ وَقَالَتْ: «وَمَاذَا عَلَيَّ إِذَا أَدْخَلْتُ أَنَامِلِي الرَّفِيقَةَ، فَزَحْزَحْتُ بِهَا ذَلِكَ السِّتْرَ قَلِيلًا؛ لَعَلِّي أَتَعَرَّفُ حَقِيقَةَ مَا يَحْجُبُهُ عَنِّي؟ وَمَا أَظُنُّ أَحَدًا سَيَفْطُنُ إِلَى مَا صَنَعْتُ، وَلَنْ يَشْعُرَ أَحَدٌ بِمَا فَعَلْتُ؛ فَلَنْ يَتَزَحْزَحَ السِّتْرُ عَنْ مَكَانِهِ، لِأَنَّنِي لَنْ أَرْفَعَهُ كُلَّهُ، بَلْ أَكْتَفِي بِإِزَاحَتِهِ بِأَصَابِعِي بِمِقْدَارِ مَا يُتِيحُ لِعَيْنِي أَنْ تَنْفُذَ مِنْ خِلَالِهِ. وَلَسْتُ أَدْرِي: أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ الْيَوْمِ وَالْغَدِ؟ وَمَا أَظُنُّنِي مُخْطِئَةً إِذَا تَعَجَّلْتُ يَوْمًا وَاحِدًا، وَمَا أَحْسَبُنِي أُغْضِبُ أَحَدًا بِذَلِكَ، فَقَدْ حَزَمْتُ أَمْرِي، وَكَبَحْتُ رَغْبَتِي، وَصَبَرْتُ هَذِهِ الْأَيَّامَ الطِّوَالَ دُونَ أَنْ يَهُزَّنِي الْفُضُولُ إِلَى رُؤْيَتِهِ.»

(١١) إِزَاحَةُ السِّتَارِ

وَنَظَرَتِ الْأَمِيرَةُ الْفَتَاةُ حَوْلَهَا فَلَمْ تَرَ أَحَدًا يَرْقُبُهَا، فَاشْتَدَّ بِهَا الْفُضُولُ، وَتَمَلَّكَتْهَا رَغْبَةٌ ثَائِرَةٌ أَنْسَتْهَا نَصِيحَةَ الْأَمِيرِ الْكَرِيمِ، وَأَذْهَلَتْهَا عَنْ تَحْذِيرِهِ، فَلَمْ تُبَالِ مَا بَصَّرَها بِهِ مِنْ عَوَاقِبِ الْفُضُولِ، وَمَا يَجُرُّهُ مِنَ الْكَوَارِثِ وَالْأَخْطَارِ. لَقَدْ نَسِيَتِ الْأَمِيرَةُ كُلَّ شَيْءٍ، وَاسْتَهَانَتْ بِكُلِّ فَادِحَةٍ مِنَ المَصَائِبِ، فَأَدْخَلَتْ أُنْمُلَتَهَا فِي نُقْرَةٍ ضَيِّقَةٍ، ثُمَّ جَذَبَتْهَا فِي رِفْقٍ. وَلَمْ تَكَدْ تَلْمِسُ السِّتْرَ حَتَّى تَمَزَّقَ مِنْ أَعْلَاهُ إِلَى أَسْفَلِهِ، وَعَلَا ضَجِيجٌ كَالرَّعْدِ الْقَاصِفِ.

(١٢) شَجَرَةُ اللُّؤْلُؤِ

وَبَدَتْ أَمَامَ عَيْنَيْهَا هَدِيَّةُ الْعُرْسِ، وَهِيَ شَجَرَةٌ مِنَ اللُّؤْلُؤِ النَّفِيسِ، سَاقُهَا مِنَ الْمَرْجَانِ، وَأَوْرَاقُهَا مِنَ الزُّمُرُّدِ، وَفَاكِهَتُهَا مِنَ الْأَحْجَارِ الْكَرِيمَةِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَلْوَانِ: مِنْ مَاسٍ وَزُمُرُّدٍ وَيَاقُوتٍ، وَمَا إِلَى ذَلِكَ مِمَّا لَا يَخْطُرُ عَلَى بَالِ كَائِنٍ كَانَ. وَكَانَتِ الْأَحْجَارُ الْكَرِيمَةُ فِي أَمْثَالِ أَحْجَامِ الْفَاكِهَةِ الَّتِي رُكِّبَتْ عَلَى صُورَتِهَا، وَشُكِّلَتْ بِهَيْئَاتِهَا. وَقَدْ شَعَّ مِنْهَا بَرِيقٌ بَاهِرٌ يَكَادُ سَنَاهُ يَخْطَفُ الْأَبْصَارَ. وَلَمْ تَكَدِ الْأَمِيرَةُ تَرَى تِلْكَ الشَّجَرَةَ الْبَدِيعَةَ الَّتِي لَا يَتَمَثَّلُ الْخَيَالُ أَبْدَعَ مِنْهَا، حَتَّى سَمِعَتْ ضَجَّةً أَقْوَى مِنَ الْأُولَى وَأَعْنَفَ، فَتَيَقَّظَتْ مِنْ غَفْلَتِهَا، وَأَنْسَتْهَا الضَّجَّةُ مَا اسْتَوْلَى عَلَيْهَا مِنَ الْإِعْجَابِ وَالدَّهَشِ.

(١٣) الْأَمِيرُ الْجَرِيحُ

وَأَحَسَّتْ كَأَنَّهَا حُمِلَتْ إِلَى فَضَاءٍ يُشْرِفُ عَلَى قَصْرِ الْأَمِيرِ، وَلَاحَتْ مِنْهَا الْتِفَاتَةٌ فَرَأَتِ الْقَصْرَ الْبَدِيعَ وَهُوَ يُدَمَّرُ وَتَلْتَهِمُهُ النَّارُ، وَسَمِعَتْ قَعْقَعَةً كَأَنَّهَا قَصْفُ الرُّعُودِ، وَأَصْوَاتًا مُزْعِجَةً تُصِمُّ الْآذَانَ مُنْبَعِثَةً مِنْ خِلَالِ الْأَنْقَاضِ، ثُمَّ لَمْ تَلْبَثْ أَنْ رَأَتِ الْأَمِيرَ «صَفَاءً» نَفْسَهُ جَرِيحًا يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الْأَنْقَاضِ، وَالدَّمُ يَسِيلُ مِنْ جِسْمِهِ، وَهُوَ فِي أَسْمَالٍ بَالِيَةٍ، ثُمَّ يَدْنُو مِنْهَا مُتَأَلِّمًا مَحْزُونًا يَقُولُ: «صَفِيَّةُ … صَفِيَّةُ … لَكِ اللهُ … أَيَّتُهَا الْجَاحِدَةُ الْمُنْكِرَةُ لِلْجَمِيلِ. انْظُرِي إِلَى أَيَّةِ حَالٍ صَيَّرْتِنِي، أَنَا وَحَاشِيَتِي جَمِيعًا. أَلَا إِنَّنِي قَدْ يَئِسْتُ مِنْكِ، وَمَا أَظُنُّكِ — بَعْدَ أَنْ خَالَفْتِ النُّصْحَ مَرَّةً ثَانِيَةً — إِلَّا مُنْدَفِعَةً فِي طَرِيقِ فُضُولِكِ إِلَى الْمُخَالَفَةِ مَرَّةً ثَالِثَةً، دُونَ أَنْ تُبَالِيَ مَا جَلَبْتِ عَلَى نَفْسِكِ وَعَلَى أَبِيكِ وَعَلَى زَوْجِكِ مِنْ شَقَاءٍ. فَالْوَدَاعَ الْوَدَاعَ الْآنَ يَا صَفِيَّةُ. فَهَلْ أَنْتِ نَادِمَةٌ عَلَى مَا فَعَلْتِ؟ لَعَلَّ النَّدَمَ يُكَفِّرُ عَنْ إِنْكَارِ جَمِيلٍ أَسْدَاهُ إِلَيْكِ أَمِيرٌ تَاعِسٌ كَانَ يَمْحَضُكِ الْإِخْلَاصَ، وَيُصْفِيكِ الْوُدَّ، وَلَا يَتَوَخَّى غَيْرَ سَعَادَتِكِ!»

(١٤) سُخْرِيَةُ السِّنْجَابِ

وَلَمْ يَكَدْ يُتِمُّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ حَتَّى ابْتَعَدَ عَنْهَا، وَرَاحَ يَمْشِي فِي خُطُوَاتٍ بَطِيئَةٍ مُتَعَثِّرَةٍ، فَجَثَتِ الْأَمِيرَةُ عَلَى رُكْبَتِهَا وَالدُّمُوعُ تَهْطِلُ غَزِيرَةً مِنْ عَيْنَيْهَا، وَظَلَّتْ تُنَادِيهِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ قَدِ اسْتَخْفَى عَنْ عَيْنَيْهَا، دُونَ أَنْ يَلْتَفِتَ خَلْفَهُ لِيَشْهَدَ مَبْلَغَ أَلَمِهَا. وَكَانَتْ عَلَى وَشْكِ أَنْ يُغْمَى عَلَيْهَا لَوْلَا أَنَّهَا سَمِعَتْ ضَحِكَةً سَاخِرَةً مُتَقَطِّعَةً تَنْبَعِثُ مِنَ السِّنْجَابِ الصَّغِيرِ. وَرَأَتْهُ يَقِفُ أَمَامَهَا شَامِتًا بِهَا وَهُوَ يَقُولُ: «لَكِ أَنْ تَشْكُرِينِي يَا صَفِيَّةُ لِمُسَاعَدَتِي إِيَّاكِ؛ فَقَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكِ لَيْلًا بِتِلْكَ الْأَحْلَامِ اللَّذِيذَةِ، لِأُغْرِيَكِ بِمَا يَحْتَوِيهِ السِّتْرُ الَّذِي مَزَّقْتِهِ، وَكَانَ لِيَ الْفَضْلُ فِي قَرْضِ ذَلِكَ الثَّوْبِ؛ لِأُمَهِّدَ لَكِ سَبِيلَ النَّظَرِ مِنْ خِلَالِهِ، وَأُغْرِيَكِ بِرُؤْيَةِ مَا يَحْتَوِيهِ. وَلَوْلَا ذَلِكَ لَبَطَلَ سِحْرِي عَلَيْكِ، وَعَجَزْتُ عَنِ الانْتِقَامِ مِنْكِ كُلَّ الْعَجْزِ. وَلَمْ يَبْقَ — يَا حَبِيبَتِي — سِوَى خَطَأٍ وَاحِدٍ أَنْتِ لَا بُدَّ وَاقِعَةٌ فِيهِ، فَيَتِمُّ لِي بِهِ إِذْلَالُكِ، وَإِذْلَالُ أَبِيكِ وَزَوْجِكِ جَمِيعًا، وَتُصْبِحِينَ أَسِيرَتِي بَعْدَ ذَلِكَ مَدَى الْحَيَاةِ.»

•••

وَاسْتَوْلَى السُّرُورُ عَلَى السِّنْجَابِ، وَامْتَلَأَتْ نَفْسُهُ فَرَحًا بِمَا وُفِّقَ إِلَيْهِ مِنْ شَرٍّ، وَانْطَلَقَ يَرْقُصُ حَوْلَ «صَفِيَّةَ» رَقْصَةَ الشَّمَاتِ وَالابْتِهَاجِ.

(١٥) تَوْبَةٌ وَنَدَمٌ

وَلَمْ تَغْضَبِ الْأَمِيرَةُ «صَفِيَّةُ» لِمَا سَمِعَتْهُ مِنْ لَوْمِ «سُنْعُبَةَ»، بَلْ قَالَتْ فِي نَفْسِهَا نَادِمَةً: «هَذِهِ غَلْطَتِي، فَلَوْلَا فُضُولِي الْمَشْئُومُ، وَلَوْلَا إِنْكَارِي لِلْجَمِيلِ لَمَا نَجَحَتْ «سُنْعُبَةُ» الْخَبِيثَةُ فِي أَنْ تُغْرِيَنِي بِارْتِكَابِ هَذِهِ الْحَمَاقَةِ. وَمَا عَلَيَّ إِلَّا أَنْ أُكَفِّرَ عَنْهُ بِأَلَمِي وَصَبْرِي وَقُوَّةِ إِرَادَتِي، فِي مُقَاوَمَةِ الْإِغْرَاءِ الثَّالِثِ، مَهْمَا يَكُنْ مِنَ الصُّعُوبَةِ. وَلَيْسَ أَمَامِي سِوَى سَاعَاتٍ تَمُرُّ، ثُمَّ لَا تَكُونُ بَعْدَهَا إِلَّا سَعَادَةُ أَبِي وَزَوْجِي، وَسَعَادَتِي بِهِمَا.»

•••

وَلَبِثَتِ الْأَمِيرَةُ الْفَتَاةُ فِي مَكَانِهَا ثَابِتَةً لَا تُبْدِي حَرَكَةً، وَبَذَلَتْ «سُنْعُبَةُ» أَقْصَى مَا فِي وُسْعِهَا لِتَحْمِلَهَا عَلَى السَّيْرِ، وَلَكِنَّ الْأَمِيرَةَ أَصَرَّتْ عَلَى أَنْ تَبْقَى أَمَامَ أَنْقَاضِ الْقَصْرِ، فَلَمْ تَتَزَحْزَحْ عَنْهُ خُطْوَةً وَاحِدَةً.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤