قصة سامراء١

قصة مدينة سامراء من أغرب وأمتع قصص المدن في التَّارِيخ؛ «قطعة أرض قفراء» على ضفةٍ مرتفعة من نهر دجلة «لا عمارة فيها ولا أنيس بها، إلا ديرًا للنصارى» … تتحول — في مثل لمْح البصر — إلى مدينةٍ كبيرة لتكون عاصمة لدولة من أعظم الدول التي عرفها التَّارِيخ، في دور من ألمع أدوار سؤددها … تنمو هذه المدينة الجدِيدة وتزدهر بسرعة هائلة، لم يرَ التَّارِيخ مثلها في جميع القرون السابقة، ولم يذكر ما يماثلها بعض المماثلة إلا في القرن الأخير — في بعض المدن التي نشأت تحت ظروفٍ خاصة — في بعض الأقسام من العالم الجدِيد.

غير أن هذا الازدهار العجيب لم يستمر مدةً طويلة؛ لأن المدينة تفقد «صفة العاصمة» التي كانت علة وجودها وعامل كيانها، قبل أن يمضي نصف قرن على نشأتها، فتأخذ في الاقفرار والاندراس بسرعة هائلة، لا تضاهيها سرعة سوى تلك السرعة الشاذة التي كان تم بها تأسُّسها.

وبعد أن كان النَّاس يُسمُّونها باسم «سُرَّ من رأى» أضحوا يُسمُّونها باسم «ساء من رأى»، وبعد أن كان الشعراء يتسابقون في مدح قصورها أخذوا يسترسلون في رثاء أطلالها.

فبعد أن قال ابن الجهم في وصف أحد قصورها:

بدائعُ لم تَرَها فارسٌ
ولا الرومُ في طولِ أعمارِها
صحونٌ تُسافر فيها العيونُ
إذا ما تجلَّت لأبصارِها
وقبة مُلْكٍ كأن النجُوم
تضيءُ إليها بأَسرارِها

صار يرثيها ابن المعتز بقوله:

قد أقفرَتْ سُرَّ من رأى
وما لشيءٍ دوامُ
فالنقض يُحملُ منها
كأنها آجامُ
ماتت كما مات فيلٌ
تُسَلُّ منه العِظامُ

وفي الواقع ماتت سامراء ميتةً فجائية، بعد عمرٍ قصير، لم يبلغ نصف القرن، وأمست رموسًا وأطلالًا هائلة، تمتد اليوم أمام أنظار الزائر، وتتوالى تحت أقدام المسافر إلى أبعادٍ شاسعة، لا يقل امتدادها عن الخمسة والثلاثين من الكيلومترات.

عندما يتجوَّل المرء بين هذه الأطلال المترامية الأطراف، ويتأمل في السرعة العظيمة التي امتاز بها تأسُّس مدينة سامراء وتوسُّعها من جهة، واقفرارها واندراسها من جهةٍ أخرى … لا يتمالك نفسه من التساؤل عن العوامل التي سيطَرتْ على مقدَّرات هذه المدينة العظيمة، وصيَّرت قصة حياتها بهذا الشكل الغريب …

إن العوامل السياسية لَعِبَت دورًا هامًّا في هذا المضمار، لم تكن كثيرة التعقيد، بل إنها تتجلى لنا بكل وضوح، عندما نُلقي نظرةً عامة على أهم الحوادث التي وقعَت في عهود الخلفاء الثمانية الذين توالَوا على أريكة الخلافة العباسية في سامراء.

يجابه الخليفة المعتصم — وهو ابن هارون الرشيد — مشاكل كبيرة في إدارة البلاد، فيرى أن يتغلب عليها باستخدام جيش من الموالي والمماليك، فيُكثر من شراء الغلمان من بلاد المغرب والمشرق، وعلى الأخص من بلاد ما وراء النهر، بُغْية تكوين جيشٍ مطيع، ينزل على إرادته على الدوام … غير أن تكاثر هذا الجيش الغريب في العاصمة القَديمة — بغداد — المزدحمة بالسكان، يؤدى إلى حدوث بعض الوقائع بين العساكر والأهلين، فيُقرِّر الخليفة إزاء هذا الحال إحداث عاصمةٍ جديدة — بعيدة عن القَديمة — ينتقل إليها بعساكره وقُوَّاده ووزرائه وندمائه وكُتَّابه وأتباعه، ويدعو النَّاس إليها، على أن يُرتِّب كل شيء فيها حسب ما يتراءى له «مفيدًا» لتوطيد دعائم مُلْكه من جهة، ولزيادة جلال عاصمته من جهةٍ أخرى.

يمضي الخليفة في تحقيق فكرته هذه بعزمٍ قوي وفق خطةٍ محكمة، فينتخب موقع سامراء بعد التحري والبحث، ويؤسِّس عاصمته الجدِيدة هناك، على أساس القطائع المنظَّمة، فيجعل كل مجموعة من القطائع التي فيها قائمة بنفسها، مستقلة عن غيرها بمساجدها وأسواقها وحماماتها.

و«يُفرِد قطائع الأتراك عن قطائع النَّاس جميعًا، ويجعلهم منعزلين عنهم لا يختلطون بقوم من المولودين» ولو كانوا من التجار … حتى إنه يفكر في أمر ذريتهم و«يشتري لهم الجواري فيزوجهم منهن، ويمنعهم أن يتزوَّجوا ويُصاهِروا أحدًا من المولودين، إلى أن ينشأ لهم الولد فيتزوج بعضهم من بعض».

لا شك في أن هذه الخطة كانت تنطوي على محاولةٍ سياسية خطيرة، بل إنها كانت بمثابة تجربةٍ اجتماعية جريئة. كما لا شك في أن التدابير التي اتخذها المعتصم في سبيل تنفيذ هذه الخطة كانت دقيقةً وحازمة. ومع هذا فإنها لم تأتِ بالفوائد التي كان يتوخَّاها منها، بل أفضت إلى نتائجَ معاكسة للأهداف التي كان قد استهدفَها معاكسةً تامة … ونستطيع أن نقول: إن المعتصم كان حسب حسابًا لكل شيء في هذا الباب، غير شيءٍ واحد، وهو التطور الذي يحدث في نفسية الجيش — بطبيعة الحال — عندما يتكون أفراده وقُوَّاده من الغرباء ولو كانوا — في الأصل — من الأَرِقَّاء.

أراد المعتصم — بخطَّته هذه — أن يتخلص من مشاغبات الأهالي، غير أنه لم يدرك بأن هذه الخطة ستؤدي — عاجلًا أم آجلًا — إلى جعْل الخلافة ألعوبةً في أيدي الجنود الغرباء وقُوَّادِهم الطامعين.

وهذا ما حدث فعلًا؛ فقبل أن تمضي عشرون سنة على وفاة الخليفة المعتصم، الذي وضع هذه الخطة وشرع في تطبيقها، تفاقمت سيطرة القُوَّاد، ووصلَت بهم الجرأة إلى درجة قتْل الخليفة المتوكل قتلًا فظيعًا. وبعد ذلك تتابعَت الأحداث والاضطرابات وأفضت إلى قتْل الخلفاء وخلْعهم ثلاث مراتٍ متواليات خلال عشر سنوات، إلى أن تولَّى الخلافة المعتمد … وبعد أن صرف بعض الجهود في سبيل توطيد دعائم مُلْكه في سامراء نفسها، رأى أن يُنهِي هذه المحاولات كلها، فقرر أن يترك سامراء بالكلِّيَّة، وأن يعيد كرسي الخلافة إلى بغداد بصورةٍ نهائية.

ولذلك نستطيع أن نقول إن الخطة السياسية التي وضعها المعتصم — والتجربة الاجتماعية التي قام بها تنفيذًا لهذه الخطة — انتهت بفشلٍ تام.

غير أن قصة هذه المدينة العجيبة إذا انتهت من الوْجهة السياسية بفشلٍ أليم، فإنها تكلَّلَت — من الوِجهة العمرانية — بنجاحٍ كبير، يُسجِّله تاريخ الفن والعمران بمداد الإجلال والإكبار.

إن إقدام الخليفة المعتصم على تأسيس عاصمته الجدِيدة كان حدَث إبان شوكة السلطنة العباسية وعظمتها، فكان من الطبيعي أن تتمثل في هذه العاصمة تلك الشوكة والعظمة أحسن تمثيل.

إن الأراضي التي انتخبها المعتصم لتشييد المدينة الجدِيدة كانت مُنبسِطةً وواسعة، ولم يكن فيها من المباني القَديمة ما يُعرقل خطط المباني الجدِيدة، ولا من التلول والوديان ما يُحدِّد ساحات البناء، فكان باستطاعة الخليفة أن يجعل القطائع كبيرة وفسيحة، والطرق عريضة وطويلة … وسيكون باستطاعة أخلافه أن يُوالُوا عمله هذا ويُمدِّدوا الشوارع ويُوسِّعوا المدينة.

إن السلطنة التي يحكمها الخليفة المشار إليه كانت غنية وكثيرة الموارد جدًّا، فكان باستطاعته أن ينفق أموالًا طائلة لتشييد القصور والمساجد وسائر المرافق العامة، كما أنه سيكون في استطاعة أبنائه أيضًا أن يستمروا على الإنفاق في هذا السبيل بدون حساب.

إن المملكة التي تبوَّأ كرسيها المعتصم كانت فسيحة الأرجاء ومترامية الأطراف، فكان بإمكانه أن يجلب أمهر الفَعَلة والبنَّائين، وأشهر المهندسين والفنانين، من جميع أقطار مُلْكه العظيم، وفي استطاعته أن يضع تحت تصرُّف هؤلاء كل ما يطلبونه من مواد الزخرفة والبناء، ولو كانت مما يجب جلبها من البلاد البعيدة.

إن اجتماع كل هذه العوامل الثمينة بهذه الوجوه المساعدة، سيُفسِح أمام المهندسين والفنانين مجالًا واسعًا للعمل والإبداع، وسيُتحِف العاصمة الجدِيدة بأوسع القصور وأجملها، وأعظم المساجد وأبدعها.

وكان من الطبيعي ألا تقف هذه الحركة الإنشائية عند حد القصور والمساجد وحدها … بل تتعدَّاها إلى الدور والشوارع والبساتين أيضًا؛ لأن المعتصم لم يستهدف بعمله هذا إيجاد «مقر خلافة» و«معسكر جيش» فحسب، بل كان يستهدف — فوق ذلك — إيجاد «عاصمة مملكة» بكل معنى الكلمة. إنه أراد إنشاء عاصمة جديدة تُنافس بغداد في السعة والنفوس والعمران، فكان من المتحتم عليه أن يستقدم جماعاتٍ كبيرة من النَّاس ومن أصحاب المهن — على اختلاف أنواعهم وأصنافهم — وأن يقطنهم الأراضي ويجزل عليهم العطايا ويحثهم على البناء، وكان من الطبيعي أن تتولَّد من جرَّاء ذلك حركةٌ إنشائية واسعةُ النطاق شديدةُ النشاط.

غير أنه من البديهي أن بناء الحوانيت والدور لا يمكن أن يُحاكي بناء المساجد والقصور، فإذا كان في استطاعة الخلفاء، وفي مكنة الأمراء أن يُزوِّدوا المعمارين والفنانين، بكل ما يطلبونه من النفقات، فلم يكن في إمكان النَّاس أن يقتدوا بهم في هذا المضمار … وإذا جاز لمعماريي المساجد والقصور أن يبنوا ما يبنونه بأجود المواد الإنشائية — ولو كانت كثيرة الكلفة — وأن يُزيِّنوه بأجمل المواد الزخرفية، ولو كانت باهظة الثمن، فلم يكن معقولًا لبنَّائي الدور أن يَطْمعوا بشيء من ذلك بوجه من الوجوه، بل كان عليهم أن يتسابقوا في إيجاد الطُّرق والأساليب التي تضمن البناء بأقلِّ ما يمكن من النفقة وأعظمِ ما يمكن من السرعة، دون أن يتباعَدُوا عن مقتضيات البداعة والجمال … كان يتحتم عليهم أن يستعملوا المواد المبذولة في محيطهم، ويُظهروا قوة ابتكارهم في كيفية استفادتهم من خواصِّ تلك المواد في الزخرفة والبناء … ومن حُسْن حظهم أن الطبيعة في سامراء كانت مُساعِدةً على ذلك مُساعَدةً كبيرة؛ لأن موقع المدينة يرتفع عن الضفة الأخرى بعض الارتفاع، والطبقة الترابية فيه تُكوِّن قشرة قليلة الثخن تستر طبقةً صخرية، فالأرض لا تتعرض إلى خطر الغرق حتى في أشد حالات الفيضان، كما أنها تبقى مصونة من الرطوبة على الدوام، وهناك مناطقُ طينية واسعة تساعد على صُنْع اللَّبِن الجيد، وهناك أتربةٌ كلسية كثيرة تصلح لتحضير الجصِّ القوي … فباستطاعة البنَّائين أن يستفيدوا من هذه الشروط المساعدة … فإنهم يستطيعون أن يَبْنوا المباني الكبيرة باللَّبِن دون أن يخشَوْا تأثير الرطوبة والمياه عليها. كما أنهم يستطيعون أن يضمنوا متانة تلك الأبنية باستعمال الجص مُونةً لاحمة بين قطعات اللَّبِن وسافاتها، وبعقد الطوق بالآجُر أو بطابوقاتٍ مصنوعة من الجص. وفي الأخير إنهم يستطيعون أن يستروا رداءة مادة البناء بطلاء الجدران بالجص، كما يستطيعون أن يُزخرِفوا هذا الطلاء بالتلوين أو بالنقش أو بالحفر.

إن هذه الزخرفة يمكن أن تُعمل خلال البناء، كما يمكن أن تُعمل بعد إتمام البناء، والقشرة الجصية التي تتكوَّن عليها هذه الزخارف يمكن أن تُرفع بسهولة، كما يمكن أن تُعوَّض بقشرةٍ جديدة، تُزخرَف بأشكال تختلف عن الأشكال السابقة.

إن الزخرفة على هذه الطريقة تكون رخيصة؛ ولذلك تتعمم بسهولة، فكل واحد من أصحاب الدور يستطيع أن يزخرف البعض من غُرَفه بمقدار ما تسمح له موارده، كما يستطيع أن يُعمِّم الزخرفة في الغُرَف الأخرى متى ما صلَحَت أحواله المالية، أو يستبدلها بغيرها متى ما ملَّها وأراد الأبدع والأكمل منها.

ولهذه الأسباب كلها سيكون أمام الفنانين مجالٌ واسع للعمل في هذا المضمار … حيث هناك عشرات الألوف من الدور يطلب أصحابها الزخرفة لمئات الألوف من غُرَفها، ومن الطبيعي أن هذا الطلب الشديد المستمر سيؤدي إلى تنشئة جماعةٍ كبيرة من الفنانين الماهرين في الزخرفة، وسيحملُهم على التسابُق في طريق التفنُّن والإبداع على الدوام.

ولهذا كان من الطبيعي أن تزدهر في سامراء صنعة الزخرفة الجصية ازدهارًا كبيرًا، وتُولِّد طرازًا خاصًّا مع أشكال لا تُعَدُّ ولا تُحصى، فيرتبط اسم سامراء — في تاريخ الفن — بهذا الطراز الخاص من الزخرفة … وتمتاز هذه المدينة، بجانب عظمة قصورها العديدة، وفخامة مساجدها الفسيحة، وامتداد شوارعها العظيمة، ونضارة بساتينها الجميلة … بزخارف دورها الكثيرة.

وكان من الطبيعي ألا يبقى هذا الطراز من الزخرفة محصورًا بسامراء وحدها، بل ينتقل — بواسطة قُوَّاد المعتصم وأخلافه — إلى القاهرة أيضًا، ويُخلِّف هناك آثارًا باهرة في جامع ابن طولون من جهة، وفي المنازل المبنية في العهد الطولوني من جهةٍ أخرى.

لقد مضى على قصة هذه المدينة العجيبة أكثر من عشرة قرون.

وأما الآثار والأطلال الباقية منها إلى الآن فتضيف ذيلًا جديدًا إلى غرابة مقدَّراتها المتسلسلة؛ إذ من الغريب أن آثار دورها المبنية من اللَّبِن المزخرفة بالجبس، قاومَت حدثان الدهر أكثر من قصورها المبنية بالآجُر المزخرفة بالرخام. والسَّبب في ذلك هو أن القصور تعرَّضَت إلى تخريبات النَّاس الذين اعتبروها بمثابة مقالعَ غنية بالمواد الإنشائية الصالحة للاستعمال، في حين أن الدور سَلِمَت من تخريبات النَّاس ولم تتعرض إلى تخريبات أيدٍ غير أيدي الطبيعة والزمان … ويظهر أن أيدي الإنسان قادرة على التخريب أكثر من أيدي الزمان.

حول تأسيس مدينة سامراء

قرأتُ في إحدى المجلات العربية مقالةً عن مدينة سامراء وجدتُ في مقدمتها فقرةً تحتاج إلى التأمُّل بصورةٍ جدية.

فقد جاء في الأسطُر الأُولى من المقالة المذكورة بأن سامراء «شُيِّدَت بأمر الخليفة المعتصم عام ٢٢١ (٨٣٦م) على يد أشناس أحد قُوَّاد التُّرك.»

إن هذه العبارة تعزو إلى أشناس اليد العليا في تشييد مدينة سامراء، بل تجعله المؤسس الحقيقي لها. في حين أن ذلك لا يتفق مع الحقائق الثابتة بوجهٍ من الوجوه.

من المعلوم أن أقدمَ المصادر المتعلِّقة بتأسيس مدينةِ سامراء، وأهمها هو «كتاب اليعقوبي» المعروف بكتاب «البلدان».

فقد وُضِعَ هذا الكتابُ بعد تأسيس مدينة سامراء بنحو نصف قرنٍ فقط، مما يدُل على أن المؤلِّف كان قريب العهد بدور تأسيسها، ومعاصرًا لدور ازدهارها، وكثير الاطِّلاع على تفاصيل شئونها. وهذا الذي مكَّنه من وصف شوارعها وقطائعها وصفًا شاملًا، قلَّما نجد ما يُماثِله في الكتب القَديمة دقةً وتفصيلًا.

يصف لنا اليعقوبي في كتابه هذا كيف اختار المعتصم الأرض التي شيَّد عليها عاصمته الجدِيدة، وكيف أحضر المهندسين وقال لهم: أرضُ هذه المواضع لبناء القصور. وكيف صيَّر إلى كل رجلٍ من أصحابه بناء قصرٍ من تلك القصور، وكيف استقدم الفَعَلة والبنَّائين وأهل المهن من بغداد والبصرة والكوفة وأنطاكية ومصر ومن سائر البلدان، وزيادة على ذلك يذكُر لنا — بتفصيل — مواضع القطائع التي أقطعها كبارَ رجالِه وقُوَّاده، والنواحي التي خصَّصها للناس وللأسواق المختلفة.

إن اليعقوبي يذكر «أشناس» بين القُوَّاد الكثيرين الذين أقطع المعتصم إليهم وإلى أصحابهم قطائعَ خاصة، ولا يُميِّزه عن غيره في هذا الباب.

ومما يَستلفِت الأنظار أن بين أطلال سامراء محلًّا يُعرَف بين النَّاس إلى اليوم باسم «سور شناس»، وهذا المحل يوافق تمام الموافقة موضع قطيعة أشناس التي يذكُرها اليعقوبي، وهو لا يمتاز عن سائر المحلات بأي امتيازٍ كان.

ولهذه الأسباب كلها أعتقدُ أن مضمون الفِقرة الآنفة الذِّكر لا يتفقُ والحقائقَ الثابتة بوجه من الوجوه.

هذا وأظن ظنًّا قويًّا أن الفِقرة المبحوث عنها مقتبسة من عبارة وردت في فصل سامراء من «المَعْلَمة الإسلامية». غير أنه يجب علينا أن نلاحظ أن الفصل المذكور مكتوب بقلم «فيوله»، والمومأ إليه لم يكن من المستشرقين الذين يجوز التعويل على بحوثهم التَّارِيخية، بل إنه كان من المهندسين الذين اشتَغَلوا في بغداد في العهد العثماني، ولا شك أنه استند فيما كتبه في هذا الباب إلى ما سَمِعَه من بعض الموظَّفين دون أن يستند إلى وثائقَ تاريخية.

وللتأكيد على ذلك يجدُر بي أن أُصرِّح في هذا المقام بأنني كنتُ وجَّهتُ إلى المومأ إليه كتابًا، أشرتُ فيه إلى الفقرة المبحوث عنها، وصرَّحتُ له بأنني لم أجد بين المصادر التي بين يدي ما يُبرِّر زعمه هذا، ورجوتُه أن يرشدني إلى المصدر الذي استند إليه في زعمه هذا، غير أني لم أتلقَّ منه جوابًا يذكُر مصدرًا ما، مع أن كتابي كان أُودع إليه على يد البروفسور ماسينيون.

١  نُشرت في مجلة الرسالة بالقاهرة سنة ١٩٣٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤