الفصل الثاني

فَاتِحُ الْكَنْزِ

(١) أَرْصَادُ «الشَّمَرْدَلِ»

فَقَالَ «جَابِرٌ»: «هَنِيئًا لَكَ مَا ظَفِرْتَ بِهِ، وَبَارَكَ اللهُ فِي سَعْيِكَ.»

فَقَالَ السَّاحِرُ: «لَنْ يُكَلِّلَ اللهُ سَعْيِي بِالنَّجَاحِ، إِلَّا إِذَا صَحِبْتَنِي إِلَى مَقَرِّ الْكَنْزِ فِي بِلَادِ الْمَغْرِبِ.»

فَحَاوَلَ «جَابِرٌ» أَنْ يَعْتَذِرَ لَهُ؛ فَلَمْ يَقْبَلْ عُذْرَهُ، وَقَالَ:

«إِنَّ أَرْصَادَ الْكَنْزِ قَدْ أَخْبَرَتْنِي أَنَّ الْكَنْزَ لَا يَفْتَحُهُ غَيْرُكَ، وَلَا يَفُضُّ أَقْفَالَهُ سِوَاكَ. فَإِذَا صَحِبْتَنِي إِلَيْهِ ظَفِرْنَا بِخَيْرٍ عَمِيمٍ، وَنَجَاحٍ عَظِيمٍ. فَلَا تُحْجِمْ عَنْ فَضْلٍ سَاقَهُ اللهُ عَلَى يَدَيْكَ.» فَقَالَ لَهُ «جَابِرٌ»: «إِنَّنِي رَجُلٌ فَقِيرٌ، أَسْعَى طُولَ يَوْمِي جَاهِدًا لِأَحْصُلَ عَلَى قُوتِ أُمِّي وَأَخَوَيَّ. فَكَيْفَ أَتْرُكُهُمْ نَهْبَ الْفَاقَةِ، وَفَرِيسَةَ الْجُوعِ؛ وَلَيْسَ لَهُمْ عَائِلٌ سِوَايَ؟»

فَقَالَ السَّاحِرُ: «مَا أَهْوَنَ مَا طَلَبْتَ يَا «جَابِرُ بْنَ عُمَرَ»! هَاكَ أَلْفَ دِينَارٍ. وَهِيَ — بِلَا شَكٍّ — كَافِيَةٌ لِلْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ، وَالتَّرْفِيهِ عَنْهُمْ، فِي أَثْنَاءِ غَيْبَتِكَ. وَلَنْ يَنْقَضِيَ عَلَى سَفَرِكَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ حَتَّى تَعُودَ إِلَيْهِمْ وَمَعَكَ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالنَّفَائِسِ مَا يُغْنِيكَ وَيُغْنِيهِمْ وَيُغْنِي أَوْلَادَكُمْ وَحَفَدَتَكُمْ مِنْ بَعْدِكُمْ، جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ.»

فَلَمْ يَتَرَدَّدْ «جَابِرٌ» فِي إِجَابَةِ السَّاحِرِ إِلَى طِلْبَتِهِ. وَأَسْرَعَ إِلَى دَارِهِ، فَأَخْبَرَ أُمَّهُ بِكُلِّ مَا حَدَثَ، وَأَعْطَاهَا أَلْفَ الدِّينَارِ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَهَا فِي السَّفَرِ.

فَاسْتَوْحَشَتْ أُمُّهُ لِفِرَاقِهِ. وَخَافَتْ عَلَيْهِ مِنْ أَخْطَارِ الطَّرِيقِ، وَحَاوَلَتْ جُهْدَهَا أَنْ تَثْنِيَهُ «تَرْجِعَهُ» عَنِ السَّفَرِ؛ فَلَمْ تَجِدْ مِنْهُ إِلَّا إِصْرَارًا عَلَى تَنْفِيذِ عَزْمَتِهِ، وَتَحْقِيقِ رَغْبَتِهِ.

وَطَالَ الْحِوَارُ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ انْتَهَى بِاقْتِنَاعِهَا، حِينَ خَتَمَ «جَابِرٌ» حَدِيثَهُ قَائِلًا: «لَقَدْ وَعَدْتُ الرَّجُلَ — يَا أُمَّاهُ — بِالسَّفَرِ مَعَهُ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى نَقْضِ الْوُعُودِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَعْمَارَ بِيَدِ اللهِ. وَهَذِهِ فُرْصَةٌ نَادِرَةٌ لَا تَحْدُثُ فِي الْعُمْرِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلَا سَبِيلَ إِلَى إِضَاعَتِهَا. وَطَالَمَا سَمِعْتُ مِنْكِ وَمِنْ أَبِي: أَنَّ الْفُرْصَةَ إِذَا ضَاعَتِ انْقَلَبَتْ غُصَّةً.

figure

وَمَهْمَا تَعَظُمِ الْعَقَبَاتُ فَلَنْ تَرُدَّ طَالِبَ الْكَنْزِ عَنْ غَايَتِهِ؛ لِأَنَّ ثَمَنَ الْمَجْدِ غَالٍ — كَمَا تَعْلَمِينَ — وَلَيْسَ يَقْدِرُ عَلَى أَدَاءِ تَكَالِيفِهِ إِلَّا شَمَرْدَلٌ «فَتًى كَرِيمُ الْخُلُقِ» مِنَ الْأَبْطَالِ ذَوِي الْهِمَمِ مِنْ أَفْذَاذِ الرِّجَالِ.» فَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: «لَكَ مَا تَشَاءُ. فَاذْهَبْ عَلَى بَرَكَةِ اللهِ.»

ثُمَّ شَيَّعَتْهُ بِالدَّعَوَاتِ الصَّالِحَاتِ.

وَلَمَّا عَادَ «جَابِرٌ» إِلَى صَاحِبِهِ السَّاحِرِ، ابْتَدَرَهُ سَائِلًا:

«هَلْ أَذِنَتْ لَكَ أُمُّكَ بِالسَّفَرِ؟»

فَأَجَابَهُ «جَابِرٌ»: «لَقَدْ طَالَ فِي ذَلِكَ تَرَدُّدُهَا، ثُمَّ انْتَهَتْ إِلَى الْمُوَافَقَةِ. وَقَدْ بَارَكَتْ رِحْلَتِي، وَزَوَّدَتْنِي بِدَعَوَاتِهَا.»

(٢) الْخُرْجُ الْمَسْحُورُ

فَأَرْكَبَهُ السَّاحِرُ بَغْلَتَهُ مَعَهُ، وَسَارَا فِي طَرِيقِهِمَا إِلَى بِلَادِ الْمَغْرِبِ، حَتَّى جَاءَ وَقْتُ الْعَصْرِ؛ فَاسْتَوْلَى عَلَيْهِمَا التَّعَبُ، فَجَلَسَا يَسْتَرِيحَانِ.

وَاشْتَدَّ بِـ «جَابِرٍ» الْجُوعُ، وَلَكِنَّهُ خَجِلَ أَنْ يُفَاتِحَ صَاحِبَهُ فِي ذَلِكَ. وَأَدْرَكَ السَّاحِرُ مَا كَانَ يَدُورُ بِخَاطِرِهِ، فَقَالَ لَهُ: «لَقَدِ اشْتَدَّ بِنَا الْجُوعُ، يَا ابْنَ أَخِي. فَمَاذَا تَخْتَارُ مِنَ الْأَطْعِمَةِ؟» فَقَالَ «جَابِرٌ» لَهُ:

«لَمْ أَتَعَوَّدْ أَنْ أَخْتَارَ طَعَامًا فِي حَيَاتِي، وَقَدْ أَلِفْتُ — مُنْذُ نَشْأَتِي — أَنْ أَرْضَى بِمَا قَسَمَهُ لِيَ اللهُ مِنْ زَادٍ. وَطَالَمَا سَمِعْتُ مِنْ أَبِي: أَنَّ الْعَاقِلَ يَأْكُلُ لِيَعِيشَ، وَالْجَاهِلَ يَعِيشُ لِيَأْكُلَ؛ فَاتَّخَذْتُ مِنْ ذَلِكَ الْمَثَلِ الْحَكِيمِ شِعَارِي وَدَيْدَنِي!»

فَأُعْجِبَ السَّاحِرُ بِقَنَاعَةِ «جَابِرٍ» وَأَصَالَةِ رَأْيِهِ، وَصِدْقِ حُجَّتِهِ. وَأَخْرَجَ مِنْ خُرْجِهِ صُنْدُوقًا حَافِلًا بِمَا لَذَّ وَطَابَ.

وَدَهِشَ «جَابِرٌ» مِمَّا رَآهُ عَلَى مَائِدَةِ السَّاحِرِ مِنْ دَجَاجٍ مَقْلِيٍّ بِالسَّمْنِ، وَفَطَائِرَ وَقَطَائِفَ مَحْشُوَّةٍ بِالْجَوْزِ وَاللَّوْزِ، فِي صُحُونٍ مِنَ الذَّهَبِ الْخَالِصِ.

وَأَكَلَ «جَابِرٌ» حَتَّى شَبِعَ، وَاشْتَدَّ بِهِ الْعَجَبُ فَسَأَلَ صَاحِبَهُ مُتَحَيِّرًا:

«كَيْفَ وَسِعَ الْخُرْجُ كُلَّ هَذِهِ الْأَطْبَاقِ الذَّهَبِيَّةِ، الْحَافِلَةِ بِلَذَائِذِ الْأَطْعِمَةِ الشَّهِيَّةِ؟ وَكَيْفَ بَقِيَ مَا فِيهَا سَاخِنًا إِلَى الْآنِ، كَأَنَّمَا خَرَجَ مِنَ الْفُرْنِ فِي هَذِهِ اللَّحْظَةِ؟» فَقَالَ لَهُ السَّاحِرُ: «إِنَّهُ خُرْجٌ مَسْحُورٌ وَرِثْتُهُ مِنْ أَبِي.»

فَقَالَ «جَابِرٌ»: «مَا أَعْجَبَ مَا يَحْوِيهِ هَذَا الْخُرْجُ الْمَسْحُورُ، عَلَى صِغَرِهِ! فَإِنَّ فِيهِ — عَلَى مَا أَرَى — مَطْبَخًا وَطَبَّاخِينَ، قَلَّ أَنْ يُوجَدَ مِثْلُهُمْ فِي قُصُورِ الْمُلُوكِ وَالسَّلَاطِينِ.» فَقَالَ لَهُ السَّاحِرُ: «صَدَقْتَ يَا «جَابِرُ» فَهُوَ يُخْرِجُ لِصَاحِبِهِ كُلَّ مَا يُرِيدُ مِنْ لَذَائِذِ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ.»

ثُمَّ أَخْرَجَ السَّاحِرُ مِنْ خُرْجِهِ إِبْرِيقًا ثَمِينًا مِنَ الذَّهَبِ، فَشَرِبَا مِنْهُ حَتَّى ارْتَوَيَا مِنَ الْمَاءِ الْعَذْبِ، ثُمَّ غَسَلَا أَيْدِيَهُمَا وَرَكِبَا الْبَغْلَةَ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَا سَيْرَهُمَا؛ حَتَّى إِذَا حَانَ اللَّيْلُ، تَرَجَّلَا، وَجَلَسَا يَسْتَرِيحَانِ، ثُمَّ اسْتَسْلَمَا لِلنَّوْمِ إِلَى الصَّبَاحِ، بَعْدَ أَنْ تَعَشَّيَا. وَمَا كَادَتِ الشَّمْسُ تَنْشُرُ ضَوْءَهَا فِي الْآفَاقِ، حَتَّى أَكَلَا فَطُورَهُمَا.

(٣) بَغْلَةُ السَّاحِرِ

ثُمَّ اسْتَأْنَفَا السَّيْرَ إِلَى الْمَسَاءِ. وَظَلَّا عَلَى ذَلِكَ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ، حَيْثُ انْتَهَيَا إِلَى بِلَادِ الْمَغْرِبِ، بَعْدَ أَنْ قَطَعَا — فِي أَيَّامِهِمَا الْأَرْبَعَةِ — مَا يَعْجِزُ الْحِصَانُ السَّرِيعُ عَنْ قَطْعِهِ فِي أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ كَامِلَةٍ. وَدَهِشَ «جَابِرٌ» حِينَ عَرَفَ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ؛ وَلَكِنَّ دَهْشَتَهُ زَالَتْ حِينَ أَخْبَرَهُ الشَّيْخُ «عَبْدُ الصَّمَدِ» أَنَّ تِلْكَ الْبَغْلَةَ لَيْسَتْ — عَلَى الْحَقِيقَةِ — إِلَّا مَارِدًا مِنَ الْجِنِّ.

وَلَمَّا وَصَلَ السَّاحِرُ إِلَى بَلَدِهِ، أَقْبَلَ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ سَرَاةِ الْقَوْمِ وَأَعْيَانِهِمْ، يُهَنِّئُونَهُ بِسَلَامَةِ الْعَوْدَةِ. فَأَدْرَكَ «جَابِرٌ» — مِنْ إِقْبَالِهِمْ عَلَيْهِ، وَإِجْلَالِهِمْ لَهُ — عُلُوَّ مَكَانَتِهِ، وَرِفْعَةَ مَنْزِلَتِهِ. وَرَأَى قَصْرَ السَّاحِرِ مُؤَثَّثًا بِأَفْخَرِ الرِّيَاشِ، وَأَبْدَعِ الْأَثَاثِ؛ فَخُيِّلَ إِلَيْهِ أَنَّهُ قَصْرٌ لِمَلِكٍ أَوْ سُلْطَانٍ.

وَاسْتَبْقَى السَّاحِرُ ذَلِكَ الْخُرْجَ، ثُمَّ أَمَرَ الْبَغْلَةَ بِالانْصِرَافِ، بَعْدَ أَنْ شَكَرَ لَهَا صَنِيعَهَا الْجَمِيلَ. وَلَمْ يَكَدِ السَّاحِرُ يَلْفِظُ هَذِهِ الْجُمْلَةَ حَتَّى انْشَقَّتِ الْأَرْضُ بِهَا وَغَاصَتْ، ثُمَّ عَادَتِ الْأَرْضُ كَمَا كَانَتْ.

وَمَكَثَ «جَابِرٌ» فِي ضِيَافَةِ «عَبْدِ الصَّمَدِ» عِشْرِينَ يَوْمًا كَامِلَةً. فَلَمَّا جَاءَ الْيَوْمُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ قَالَ لَهُ: «هَلُمَّ فَاصْحَبْنِي — يَا «جَابِرُ بْنَ عُمَرَ» — فَقَدْ جَاءَ الْيَوْمُ الَّذِي لَا يُفْتَحُ «كَنْزُ الشَّمَرْدَلِ» إِلَّا فِيهِ.»

(٤) عَهْدُ الْمَارِدَيْنِ

وَأُعِدَّتْ لِكُلٍّ مِنْهُمَا بَغْلَةٌ فَاخِرَةٌ؛ فَرَكِبَا وَسَارَا يَتْبَعُهُمَا خَادِمَانِ مِنَ الزِّنْجِ. وَمَا زَالَا يَجِدَّانِ فِي السَّيْرِ إِلَى الْكَنْزِ، حَتَّى جَاءَ وَقْتُ الظُّهْرِ؛ فَأَشْرَفَا عَلَى نَهْرٍ كَبِيرٍ قَدْ غُرِسَتِ الْأَشْجَارُ عَلَى جَانِبَيْهِ. فَتَرَجَّلَا بِالْقُرْبِ مِن شَاطِئِهِ. ثُمَّ أَشَارَ السَّاحِرُ إِلَى الزِّنْجِيَّيْنِ، فَذَهَبَا بِالْبَغْلَتَيْنِ وَغَابَا عَنْهُ زَمَنًا قَلِيلًا، ثُمَّ عَادَا إِلَيْهِ وَمَعَهُمَا خَيْمَةٌ كَبِيرَةٌ، وَأَبْسِطَةٌ وَفُرُشٌ وَمِخَدَّاتٌ فَاخِرَةٌ. ثُمَّ أُعِدَّتْ لِغَدَاءِ السَّاحِرِ وَضَيْفِهِ مَائِدَةٌ حَافِلَةٌ، عَلَيْهَا لَذَائِذُ مِنَ الْأَطْعِمَةِ الْفَاخِرَةِ، فَتَغَدَّيَا مَعًا. ثُمَّ أَعْطَاهُ أَحَدُ الزِّنْجِيَّيْنِ الصُّنْدُوقَيْنِ اللَّذَيْنِ حَبَسَ فِيهِمَا السَّمَكَتَيْنِ الْحَمْرَاوَيْنِ. فَجَمْجَمَ السَّاحِرُ قَوْلًا مِنَ السِّحْرِ غَيْرَ مَفْهُومٍ، سَاعَةً مِنَ الزَّمَنِ. وَإِذَا بِالصُّنْدُوقَيْنِ يَنْفَتِحَانِ، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْهُمَا مَارِدَانِ مُقَيَّدَانِ بِالسَّلَاسِلِ وَالْأَغْلَالِ، وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ بِالسَّاحِرِ وَيَصْرُخَانِ، طَالِبَيْنِ مِنْهُ السَّلَامَةَ وَالْأَمَانَ. فَقَالَ لَهُمَا: «لَكُمَا مَا تُرِيدَانِ، إِذَا عَاهَدْتُمَانِي — أَيُّهَا الْمَارِدَانِ — عَلَى فَتْحِ هَذَا الْكَنْزِ الَّذِي تَرَيَانِ.» فَقَالَا لَهُ: «لَا سَبِيلَ إِلَى تَحْقِيقِ مَا تُرِيدُ، إِلَّا إِذَا جَاءَ مَعَكَ «جَابِرٌ» الصَّيَّادُ، ابْنُ التَّاجِرِ «عُمَرَ بْنِ حَمَّادٍ». فَإِنَّ الْكَنْزَ — كَمَا تَعْلَمُ — لَا يَدْخُلُهُ غَيْرُ «جَابِرِ بْنِ عُمَرَ»، وَلَا يُفْتَحُ بَابُهُ إِلَّا إِذَا حَضَرَ.»

فَقَالَ لَهُمَا السَّاحِرُ: «هَا هُوَ ذَا «جَابِرٌ» يَسْمَعُ مَا تَقُولَانِ، فَحَقِّقَا مَا وَعَدْتُمَانِي بِهِ.» فَأَقْسَمَ لَهُ الْجِنِّيَّانِ إِنَّهُمَا لَنْ يَتَأَخَّرَا عَنْ تَحْقِيقِ طِلْبَتِهِ، وَإِجَابَتِهِ إِلَى رَغْبَتِهِ. فَلَمَّا اسْتَوْثَقَ مِنْهُمَا وَاطْمَأَنَّ إِلَى وَفَائِهِمَا بِمَا عَاهَدَاهُ عَلَيْهِ وَتَثَبَّتَ مِنْ إِخْلَاصِهِمَا لَمْ يَتَرَدَّدْ فِي إِطْلَاقِ سَرَاحِهِمَا.

(٥) تَحْذِيرٌ وَتَنْبِيهٌ

ثُمَّ أَخْرَجَ السَّاحِرُ مِنَ الْخُرْجِ مَوْقِدًا صَغِيرًا، وَأَلْقَى فِيهِ أَعْوَادًا مِنَ الْقَصَبِ، وَأَلْوَاحًا مِنَ الْعَقِيقِ الْأَحْمَرِ. ثُمَّ وَضَعَ عَلَيْهَا قَلِيلًا مِنَ الْفَحْمِ، وَنَفَخَ فِي الْقَصَبَةِ؛ فَاشْتَعَلَتِ النَّارُ فِي الْمَوْقِدِ. وَأَمْسَكَ فِي يَدَيْهِ بِحُفْنَةٍ مِنَ الْبَخُورِ.

وَقَبْلَ أَنْ يُلْقِيَهَا فِي الْمَوْقِدِ الْتَفَتَ إِلَى «جَابِرٍ» قَائِلًا:

«اعْلَمْ يَا ابْنَ أَخِي: أَنَّنِي مَتَى أَلْقَيْتُ الْبَخُورَ فِي الْمَوْقِدِ وَبَدَأْتُ السِّحْرَ، عَجَزْتُ عَنِ الْكَلَامِ مَعَ أَيِّ إِنْسَانٍ. فَاحْذَرْ أَنْ تُحَدِّثَنِي حِينَئِذٍ حَتَّى لَا تَشْغَلَنِي عَنْ مُرَاقَبَةِ حُرَّاسِ الْكَنْزِ وَأَرْصَادِهِ. وَهَأَنَذَا أَشْرَحُ لَكَ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ، لِتُنْجِزَ هَذَا الْعَمَلَ الْجَلِيلَ. فَأَقْبِلْ عَلَيَّ بِسَمْعِكَ، وَأَعِرْنِي انْتِبَاهَكَ، وَلَا تَنْسَ كَلِمَةً وَاحِدَةً مِمَّا أَقُولُهُ لَكَ، وَإِلَّا خَابَ سَعْيُنَا، وَرُبَّمَا تَعَرَّضْنَا لِلْهَلَاكِ مَعًا.»

فَقَالَ «جَابِرٌ»: «لَنْ أُخَالِفَ لَكَ رَأْيًا. وَلَنْ تَرَى مِنِّي إِلَّا سَامِعًا مُطِيعًا. قُلْ، فَأَنَا أَسْمَعُ.»

(٦) أَسْرَارُ الْكَنْزِ

فَقَالَ السَّاحِرُ: «سَتَرَى أَنَّنِي مَتَى أَطْلَقْتُ الْبَخُورَ جَفَّ مَاءُ النَّهْرِ كُلُّهُ، وَكُشِفَ أَمَامَنَا — فِي الْحَالِ — بَابٌ مِنَ الذَّهَبِ الْإِبْرِيزِ «الْخَالِصِ»، يُخَيَّلُ إِلَى مَنْ يَرَاهُ أَنَّهُ بَابُ مَدِينَةٍ كَبِيرَةٍ. ذَلِكَ: هُوَ بَابُ «كَنْزِ الشَّمَرْدَلِ»، وَفِيهِ حَلْقَتَانِ مِنَ الْمَعْدِنِ النَّفِيسِ. فَإِذَا بَلَغْتَ هَذَا الْبَابَ، فَأَمْسِكْ بِالْحَلْقَةِ الْأُولَى، وَاطْرُقْهُ بِهَا طَرْقَةً خَفِيفَةً. ثُمَّ اصْبِرْ دَقِيقَتَيْنِ، وَاطْرُقْهُ بِالْحَلْقَةِ الثَّانِيَةِ طَرْقَةً أَثْقَلَ مِنَ الْأُولَى. ثُمَّ اطْرُقْهُ بَعْدَ خَمْسِ دَقَائِقَ بِكِلْتَا الْحَلْقَتَيْنِ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مُتَتَابِعَاتٍ.

وَلَنْ تَنْتَهِيَ مِنَ الدَّقَّةِ الثَّالِثَةِ حَتَّى تَسْمَعَ صَائِحًا يَسْأَلُكَ: «مَنْ أَنْتَ، يَا طَارِقَ الْكَنْزِ؟ هَلَكْتَ إِذَا عَجَزْتَ عَنْ فَكِّ الْطِّلَّسْمِ وَحَلِّ الرَّمْزِ.»

فَبَادِرْهُ بِالْجَوَابِ فِي غَيْرِ تَرَدُّدٍ وَلَا خَوْفٍ، وَقُلْ لَهُ بِصَوْتٍ فَصِيحِ اللَّهْجَةِ، وَاضِحِ النَّبَرَاتِ: «لَبَّيْكَ يَا سَيِّدَ التَّوَابِعِ، وَأَمِيرَ الزَّوَابِعِ! أَنَا جَابِرٌ الصَّيَّادُ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَمَّادٍ.» فَإِذَا سَمِعَ قَوْلَكَ فَتَحَ لَكَ بَابَ الْكَنْزِ عَلَى مِصْرَاعَيْهِ. ثُمَّ يَظْهَرُ أَمَامَكَ مَارِدٌ قَبِيحُ الْخِلْقَةِ، مُشَوَّهُ السَّحْنَةِ، فِي مِثْلِ ارْتِفَاعِ الْمِئْذَنَةِ. فَلَا يَكَادُ الْمَارِدُ يَرَاكَ حَتَّى يَشْمَخَ بِأَنْفِهِ، مُتَظَاهِرًا بِاحْتِقَارِكَ وَإِنْكَارِكَ. فَلا تَكْتَرِثْ بِهِ، وَلَا تَأْبَهْ لَهُ. فَإِذَا رَآكَ مُعْرِضًا عَنْهُ، نَظَرَ إِلَيْكِ فَي صَلَفٍ وَكِبْرِيَاءَ، وَسُخْرِيَةٍ وَاسْتِهْزَاءٍ، وَقَالَ لَكَ فِي تَهَكُّمٍ وَازْدِرَاءٍ: «أَأَنْتَ جَابِرٌ الصَّيَّادُ؟» فَأَجِبْهُ فِي الْحَالِ، وَأَتْمِمْ لَهُ مَا قَالَ: «نَعَمْ: أَنَا جَابِرٌ الصَّيَّادُ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَمَّادٍ.» فَيَسْأَلُكَ: «مَا اسْمُ حَارِسِ الْكَنْزِ؟» فَقُلْ لَهُ: «عَنْزٌ يَصْحَبُهُ عَنْزٌ.»

فَيَقُولُ مُتَظَاهِرًا بِالدَّهْشَةِ: «أَهُمَا حَارِسَانِ؟» فَقُلْ لَهُ: «إِنَّهُمَا عَنْزَانِ، لِكَنْزِ الشَّمَرْدَلِ حَارِسَانِ.» فَيَقُولُ: «أَتَعْنِي مَاعِزَيْنِ، تَعِيشَانِ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ، تَرْعَيَانِ الْحَشَائِشَ، وَتَقْتَاتَانِ النَّبَاتَ فِي الْبَرِّ؟» فَتَقُولُ: «بَلْ هُمَا سَمَكَتَانِ كَبِيرَتَانِ، تَأْكُلَانِ اللَّحْمَ، وَتَلْتَهِمَانِ السَّمَكَ فِي قَاعِ الْيَمِّ (الْبَحْرِ) فَيَقُولُ:

«فَمَا هَذَانِ الْعَنْزَانِ؟» فَتَقُولُ: «الْعَنْزَانِ سَمَكَتَانِ هَائِلَتَانِ، لَا يَقْدِرُ عَلَى تَحْرِيكِهِمَا فَارِسَانِ، وَيَعْجِزُ عَنْ حَمْلِهِمَا ثَوْرَانِ، وَيَنُوءُ بِهِمَا بَغْلَانِ.»

فَيَقُولُ: «أَسَوْدَاوَانِ هُمَا؟» فَتَقُولُ: «وَلَا بَيْضَاوَانِ.» فَيَقُولُ: «هُمَا إِذَنْ خَضْرَاوَانِ!» فَتَقُولُ: «وَلَا زَرْقَاوَانِ.» فَيَقُولُ: «فَبِأَيِّ الْأَلْوَانِ تَظْهَرَانِ؟» فَتَقُولُ: «هُمَا سَمَكَتَانِ حَمْرَاوَانِ.» فَيَقُولُ: «فَأَيْنَ تَسْكُنَانِ؟»

فَتَقُولُ: «فِي قَاعِ الْبَحْرِ مُخْتَبِئَتَانِ، عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنْ صَخْرَةِ الْمَرْجَانِ.»

فَيَقُولُ: «هَلْ مَاتَ فِي سَبِيلِهِمَا إِنْسَانٌ؟» فَتَقُولُ: «هَلَكَ مِنْ أَجْلِهِمَا أَخَوَانِ شَقِيقَانِ، وَنَجَا ثَالِثُهُمَا بَعْدَ صِرَاعٍ طَوِيلٍ، كَادَ يَنْتَهِي بِهَلَاكِهِ، لَوْ لَمْ تُدْرِكْهُ عِنَايَةُ اللهِ، وَتَظْهَرْ عَلَى سَطْحِ الْمَاءِ يَدَاهُ. وَلَوْلَا شَبَكَةُ «جَابِرِ بْنِ عُمَرَ»، لَهَلَكَ مِنْ فَوْرِهِ عَلَى الْأَثَرِ.» فَيَقُولُ: «لَقَدْ نَجَحْتَ فِي حَلِّ الطَّلَاسِمِ وَفَكِّ الْأَلْغَازِ، وَلَمْ يَبْقَ أَمَامَكَ إِلَّا عَقَبَةٌ وَاحِدَةٌ.» فَتَقُولُ: «إِنَّ طَالِبَ الْكَنْزِ لَا تَثْنِيهِ عَنْ بُلُوغِهِ الْعَقَبَاتُ، وَلَا تُخِيفُهُ الْمُزْعِجَاتُ.» فَيَقُولُ: «إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فِيمَا تَزْعُمُ، فَامْدُدْ إِلَيَّ رَقَبَتَكَ لِأَقْطَعَهَا بِهَذَا الْخِنْجَرِ.» فَلَا تَخَفْ شَيْئًا، وَلَا يَتَزَعْزَعْ إِيمَانُكَ وَصَبْرُكَ. وَامْدُدْ لَهُ عُنُقَكَ؛ فَإِنَّهُ مَتَى ضَرَبَهَا بِالْخِنْجَرِ هَلَكَ، وَسَقَطَ أَمَامَكَ فِي الْحَالِ هَامِدًا لَا حَرَاكَ بِهِ، وَهَوَى إِلَى الْأَرْضِ بَعْدَ أَنْ زَايَلَتْهُ الْحَيَاةُ، دُونَ أَنْ يَنَالَكَ مِنْهُ أَذًى، أَوْ يَلْحَقَ بِكَ مَكْرُوهٌ.

وَلَنْ تَشْعُرَ بِضَرْبَةِ الْخِنْجَرِ؛ فَإِنَّهُ مِنَ الْوَرَقِ اللَّامِعِ، وَقَدْ صَاغَهُ سَاحِرُ الْكَنْزِ لِيَخْتَبِرَ بِهِ جُرْأَتَكَ، وَيَمْتَحِنَ بِهِ صَبْرَكَ عَلَى الشَّدَائِدِ وَشَجَاعَتَكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْجِنِّيَّ لَا يَقْتُلُهُ غَيْرُ الطَّاعَةِ وَالِامْتِثَالِ؛ فَإِذَا تَرَدَّدْتَ — فِي طَاعَتِهِ — لَحْظَةً وَاحِدَةً مَكَّنْتَهُ مِنْ قَتْلِكَ فِي الْحَالِ.

فَإِذَا دَخَلْتَ، وَجَدْتَ بَابًا مِنَ الذَّهَبِ الْخَالِصِ، مُرَصَّعًا بِأَثْمَنِ الْيَوَاقِيتِ وَاللَّآلِئِ. فَاطْرُقِ الْبَابَ طَرْقَةً خَفِيفَةً، يَنْفَتِحْ لَكَ، وَيَظْهَرْ أَمَامَكَ فَارِسٌ فَتِيٌّ. عَلَى فَرَسٍ مِنْ أَكْرَمِ الْخَيْلِ، وَمَعَهُ رُمْحٌ طَوِيلٌ. فَإِذَا لَوَّحَ لَكَ الْفَارِسُ بِرُمْحِهِ الطَّوِيلِ، وَسَأَلَكَ: «مَنْ أَنْتَ؟ وَكَيْفَ دَخَلْتَ الْكَنْزَ؟»

فَاصْمُتْ، وَلَا تُجِبْهُ بِشَيْءٍ، وَلَا تُبَالِ بِهِ. بَلِ افْتَحْ لَهُ صَدْرَكَ بَاسِمًا، وَتَلَقَّ ضَرْبَتَهُ بِعَزِيمَةِ الرِّجَالِ، وَشَجَاعَةِ الْأَبْطَالِ. فَلَنْ يُتِمَّ الْفَارِسُ ضَرْبَتَهُ حَتَّى يَنْخَلِعَ قَلْبُهُ، وَيَقَعَ صَرِيعًا فِي الْحَالِ. وَاعْلَمْ أَنَّكَ إِذَا تَرَدَّدْتَ لَحْظَةً وَاحِدَةً فِي إِجَابَةِ مَطْلَبِهِ، أَوْ ظَهَرَ عَلَى وَجْهِكَ شَيْءٌ مِنْ آثَارِ الْجُبْنِ، أَطْمَعْتَهُ فِيكَ، وَجَرَّأْتَهُ عَلَيْكَ، وَمَكَّنْتَ سِحْرَهُ مِنْكَ؛ فَنَفَذَ سِنَانُ الرُّمْحِ إِلَى قَلْبِكَ فَأَرْدَاكَ.

أَمَّا إِذَا اعْتَصَمْتَ بِالْجُرْأَةِ وَالشَّجَاعَةِ وَالصَّمْتِ؛ فَإِنَّ الرُّمْحَ يَرْتَدُّ إِلَى صَدْرِ صَاحِبِهِ، فَيَقْتُلُهُ عَلَى الْفَوْرِ. وَثَمَّ يَنْفَتِحُ أَمَامَكَ بَابٌ ثَالِثٌ؛ فَادْخُلْهُ.

وَمَتَى اجْتَزْتَ الْوَصِيدَ «مَتَى تَخَطَّيْتَ الْعَتَبَةَ»؛ اعْتَرَضَكَ عِمْلَاقٌ طُوَّالٌ «شَدِيدُ الطُّولِ» وَفِي يَدِهِ قَوْسٌ وَسِهَامٌ. فَإِذَا صَوَّبَ إِلَيْكَ الْعِمْلَاقُ سَهْمَهُ لِيَقْتُلَكَ، فَلَا تَجْزَعْ وَلَا تَكْتَرِثْ لَهُ، وَلَا يَتَزَعْزَعْ إِيمَانُكَ وَثِقَتُكَ. وَتَلَقَّ سَهْمَهُ كَمَا تَلَقَّيْتَ سَابِقَيْهِ، بِمَوْفُورِ شَجَاعَتِكَ، وَرَحَابَةِ صَدْرِكَ؛ فَلَنْ يَنْطَلِقَ سَهْمُهُ حَتَّى يَرْتَدَّ إِلَى صَدْرِهِ فَيَصْرَعَهُ، وَيُلْقِيَهُ أَمَامَكَ، وَيَسْقُطَ عَلَى أَرْضِ الْكَنْزِ جِسْمًا هَامِدًا بِلَا رُوحٍ.

فَإِذَا تَمَّ لَكَ ذَلِكَ، فَعَرِّجْ عَلَى يَسَارِ الْكَنْزِ، يَظْهَرْ أَمَامَكَ بَابٌ رَابِعٌ.

فَلَا تُضِعْ مِنْ وَقْتِكَ شَيْئًا، وَاطْرُقْهُ طَرْقَةً خَفِيفَةً، يَنْفَتِحْ لَكَ الْبَابُ.

وَثَمَّ يُقْبِلُ عَلَيْكَ أَسَدٌ هَائِلُ الْمَنْظَرِ، كَرِيهُ الْخِلْقَةِ، وَهُوَ فَاتِحٌ فَمَهُ لِابْتِلَاعِكَ. فَاثْبُتْ لِلِقَائِهِ وَلَا تَخَفْ، وَلَا يَتَزَعْزَعْ إِيمَانُكَ بِالنَّجَاحِ وَالْفَوْزِ. وَحَذَارِ أَنْ يَتَسَرَّبَ الْجُبْنُ إِلَى قَلْبِكَ فَيُغْرِيَكِ بِالْهَرَبِ، فَتَهْلِكَ عَلَى الْأَثَرِ. وَمَتَى اقْتَرَبَ الْأَسَدُ مِنْكَ، فَنَاوِلْهُ يَدَكَ مُصَافِحًا. وَلَا تَخْشَ أَنْ يَفْتِكَ بِكَ؛ فَإِنَّ أَنْيَابَهُ — عَلَى حِدَّتِهَا — عَاجِزَةٌ عَنْ أَنْ تَنَالَ مِنْكَ، أَوْ تُلْحِقَ بِكَ أَيَّ أَذًى.

وَسَتَرَى مِصْدَاقَ ذَلِكَ حِينَ يَهُمُّ بِافْتِرَاسِكَ؛ فَلَا تَلْمَسُ شَفَتَاهُ يَدَكَ، حَتَّى يَخِرَّ صَرِيعًا مُجَدَّلًا عَلَى الْأَرْضِ، دُونَ أَنْ يَنَالَكَ مِنْهُ سُوءٌ.

فَإِذَا تَمَّ لَكَ ذَلِكَ فَعَرِّجْ عَلَى يَمِينِ الْكَنْزِ، يَنْفَتِحْ لَكَ الْبَابُ الْخَامِسُ، ثُمَّ يَخْرُجُ لَكَ مِنْهُ زِنْجِيٌّ قَصِيرٌ، ضَخْمُ الْجُثَّةِ، مَا إِنْ يَرَاكَ حَتَّى يَصْرُخَ فِيكَ غَاضِبًا: «مَنْ أَنْتَ، أَيُّهَا الطَّارِقُ الْجَرِيءُ؟ وَكَيْفَ سَوَّلَتْ لَكَ نَفْسُكَ الْكَذُوبُ أَنْ تَقْتَحِمَ هَذَا الْمَكَانَ الَّذِي لَا يَجْرُؤُ عَلَى اقْتِحَامِهِ كَائِنٌ كَانَ، مِنْ بَنِي الْإِنْسَانِ، وَلَا مِنْ أَبْنَاءِ الْمَرَدَةِ وَالْجَانِّ؟»

فَقَابِلْهُ بِقَلْبٍ شُجَاعٍ، وَعَاجِلْهُ بِجَوَابِ سُؤَالِهِ، غَيْرَ هَيَّابٍ وَلَا وَجِلٍ.

قُلْ لَهُ فِي أُسْلُوبٍ وَاضِحِ النَّبَرَاتِ: «أَنَا جَابِرٌ الصَّيَّادُ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَمَّادٍ.»

فَإِنَّهُ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَطْمَئِنَّ إِلَيْكَ، وَيَزُولَ غَضَبُهُ عَلَيْكَ، ثُمَّ يَقُولَ لَكَ، لِيُزِيلَ مَا بَقِيَ مِنْ آثَارِ الشَّكِّ فِي نَفْسِهِ، وَيَتَثَبَّتَ مِنْ حَقِيقَتِكِ:

«إِنَّ كُنْتَ صَادِقًا فِيمَا تَزْعُمُ، فَهَلُمَّ إِلَى الْبَابِ السَّادِسِ. فَإِذَا انْفَتَحَ لَكَ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، وَإِذَا اسْتَعْصَى عَلَيْكَ فَتْحُهُ صَرَعْتُكَ فِي الْحَالِ.»

(٧) الْحَظُّ السَّعِيدُ

فَقُلْ لِلزِّنْجِيِّ الْحَارِسِ: «لَبَّيْكَ يَا سَيِّدَ الزُّنُوجِ لَبَّيْكَ، وَسَتَرَى صِدْقَ مَا أَقُولُهُ لَكَ بِعَيْنَيْكَ.» ثُمَّ تَوَجَّهْ إِلَى الْبَابِ السَّادِسِ، وَلَا تَطْرُقْهُ — كَمَا طَرَقْتَ الْأَبْوَابَ السَّابِقَةَ — بَلْ قِفْ أَمَامَهُ لَحْظَةً قَصِيرَةً، ثُمَّ ارْفَعْ بَصَرَكَ إِلَى أَعْلَى مُنَادِيًا: «أَيُّهَا الْحَظُّ السَّعِيدُ، الَّذِي يُقَرِّبُ الْأَمَلَ الْبَعِيدَ، وَيُحَقِّقُ لِصَاحِبِهِ كُلَّ مَا يُرِيدُ، فُيَذَلِّلُ لَهُ الْمُحَالَ، وَيُخْضِعُ لَهُ الْجَبَابِرَةَ وَالْأَبْطَالَ، وَيُدَكْدِكُ لَهُ شَوَامِخَ الْجِبَالِ. هَلُمَّ — أَيُّهَا الْحَظُّ السَّعِيدُ — فَحَطِّمِ الْأَقْفَالَ، وَبَلِّغْنِي مَا لَا يُنَالُ مِنَ الْآمَالِ!»

فَلَنْ تُتِمَّ نِدَاءَكَ حَتَّى يَنْفَتِحَ لَكَ الْبَابُ السَّادِسُ. فَتَمَهَّلْ قَلِيلًا، وَلَا تُسْرِعْ بِالدُّخُولِ، وَقِفْ بِضْعَ دَقَائِقَ عَلَى الْوَصِيدِ «الْعَتَبَةِ».

وَلَا تَتَلَفَّتْ خَلْفَكَ وَلَا عَنْ يَمِينِكَ، وَلَا عَنْ يَسَارِكَ، بَلِ انْظُرْ أَمَامَكَ تَجَدْ أَفْعَيَيْنِ. فَلَا تَخْشَ هَذَيْنِ الثُّعْبَانَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ، وَلَا يَتَسَرَّبْ إِلَيْكَ الْخَوْفُ وَالْقَلَقُ، وَلَا تَبْرَحْ مَكَانَكَ حَتَّى يُؤْذَنَ لَكَ بِذَلِكَ. فَإِذَا اقْتَرَبَ الْأَفْعَيَانِ مِنْكَ، فَامْدُدْ يَمِينَكَ إِلَى الثُّعْبَانِ الْأَيْمَنِ، وَامْدُدْ يَسَارَكَ إِلَى الثُّعْبَانِ الْأَيْسَرِ، لِيَنْهَشَا يَدَيْكَ. فَإِنَّهُمَا مَتَى هَمَّا بِعَضِّهِمَا، مَاتَا فِي الْحَالِ.

وَاعْلَمْ أَنَّكَ إِذَا جَزِعْتَ وَبَدَتْ عَلَيْكَ الْحَيْرَةُ وَالتَّرَدُّدُ، نَهَشَا لَحْمَكَ وَعَظْمَكَ، وَازْدَرَدَاهُمَا فَلَمْ يُبْقِيَا مِنْهُمَا شَيْئًا. وَسَتَسْمَعُ صَوْتًا يَهْتِفُ بِكَ قَائِلًا: «الْآنَ يُؤْذَنُ لِـ «جَابِرِ بْنِ حَمَّادِ بْنِ عُمَرَ الصَّيَّادِ»، أَنْ يَسِيرَ إِلَى غَايَتِهِ الْبَعِيدَةِ؛ لَعَلَّهُ يَظْفَرُ بِتَحْقِيقِ رَغْبَتِهِ الْمَجِيدَةِ.» فَامْضِ إِلَى غَايَتِكَ.

(٨) شَيْطَانَةُ الْكَنْزِ

وَلَنْ تُتِمَّ عِشْرِينَ خُطْوَةً، حَتَّى يَظْهَرَ أَمَامَكَ الْبَابُ السَّابِعُ. فَاطْرُقْهُ سَبْعَ طَرَقَاتٍ خَفِيفَاتٍ، تَخْرُجْ لَكَ امْرَأَةٌ أَشْبَهُ إِنْسَانَةٍ بِأُمِّكَ. فَاحْذَرْ أَنْ تَنْخَدِعَ بِأَمْرِهَا؛ فَإِنَّكَ لَنْ تَتَرَدَّدَ — إِذَا رَأَيْتَهَا — فِي الِاعْتِقَادِ أَنَّهَا أُمُّكَ.

وَإِيَّاكَ أَنْ تُصَدِّقَ مَا تَرَاهُ، وَرَاقِبْهَا فِي حَذَرٍ وَانْتِبَاهٍ؛ فَإِنَّهَا سَتَلْقَاكَ — مَتَى وَقَعَتْ عَيْنُهَا عَلَيْكَ — مُتَظَاهِرَةً بِالْفَرَحِ وَالِابْتِهَاجِ، وَسَتُقْبِلُ عَلَيْكَ هَاشَّةً بَاشَّةً. فَقَابِلْ فَرَحَهَا بِالانْقِبَاضِ، وَابْتِهَاجَهَا بِالتَّجَهُّمِ، وَبَشَاشَتَهَا بِالْعُبُوسِ.

وَسَتَبْدَؤُكَ بِالتَّحِيَّةِ مُرَحِّبَةً بِقُدُومِكَ أَحْسَنَ تَرْحِيبٍ، فَقَابِلْهَا بِالاحْتِقَارِ.

وَسَتَمُدُّ يَدَهَا إِلَيْكَ مُحَاوِلَةً أَنْ تُسَلِّمَ عَلَيْكَ، فَأَعْرِضْ عَنْهَا مُزْدَرِيًا عَابِسًا، وَاحْذَرْ أَنْ تَنْخَدِعَ بِتَرْحِيبِهَا وَثَنَائِهَا.

وَإِيَّاكَ أَنْ تَمُدَّ إِلَيْهَا يَدَكَ، أَوْ تَهُمَّ بِالرَّدِّ عَلَى تَحِيَّتِهَا، وَإِلَّا عَرَّضْتَ حَيَاتَكَ لِلْخَطَرِ وَسَعْيَكَ لِلْإِخْفَاقِ. فَإِذَا أَلَحَّتْ عَلَيْكَ بِالرَّجَاءِ وَالِاسْتِعْطَافِ، فَأَصِمَّ أُذُنَيْكَ عَنْ سَمَاعِ مَا تَقُولُ. وَأَغْمِضْ عَيْنَيْكَ؛ حَتَّى لَا تَتَأَثَّرَ بِرُؤْيَتِهَا بَاكِيَةً دَامِعَةَ الْعَيْنَيْنِ. وَمَهْمَا تَبْذُلْ مِنْ جُهْدٍ فِي مُخَادَعَتِكَ وَاسْتِعْطَافِكَ وَالتَّوَسُّلِ إِلَيْكَ، وَمُنَاشَدَتِكَ أَنْ تَرْعَى حَقَّ الْأُمُومَةِ، وَعَهْدَ الرَّضَاعَةِ، وَفَضْلَ التَّرْبِيَةِ، وَوَاجِبَ الْبُنُوَّةِ؛ فَلَا تَنْخَدِعْ بِأَكَاذِيبِهَا؛ فَهِيَ شَيْطَانَةُ الْكَنْزِ.

وَقَدْ تَمَثَّلَتْ لَكَ فِي صُورَةِ أُمِّكَ لِتَعُوقَكَ عَنْ إِدْرَاكِ غَايَتِكَ الْجَلِيلَةِ، وَتَحُولَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الظَّفَرِ بِكَنْزِ الشَّمَرْدَلِ. وَهَذِهِ آخِرُ حِيلَةٍ يَلْجَأُ إِلَيْهَا حُرَّاسُ الْكَنْزِ، لِيُحَوِّلُوكَ عَنْ قَصْدِكَ؛ فَإِذَا نَجَوْتَ مِنْ كَيْدِ هَذِهِ الشَّيْطَانَةِ سَالِمًا، بَلَغْتَ غَايَتَكَ، وَأَدْرَكْتَ طِلْبَتَكَ. وَسَتَرَى — إِلَى يَمِينِكَ — سَيْفًا مُعَلَّقًا عَلَى الْحَائِطِ؛ فَاقْبِضْ عَلَيْهِ، وَلَوِّحْ بِهِ فِي الْهَوَاءِ، مُنْذِرًا مُخَوِّفًا، مُحَذِّرًا إِيَّاهَا أَنْ تَقْرُبَ مِنْكَ.

فَإِنَّهَا مَتَى رَأَتْكَ جَادًّا فِي عَزِيمَتِكَ، اسْتَوْلَى عَلَيْهَا الْخَوْفُ وَالرُّعْبُ فَأَسْرَعَتْ إِلَى الْهَرَبِ. فَلَا تَكَاَدُ تَهُمُّ بِالرُّجُوعِ مِنْ حَيْثُ أَتَتْ، حَتَّى تَهْوِي عَلَى الْأَرْضِ صَرِيعَةً، لَا رُوحَ فِيهَا وَلَا حَيَاةَ.

وَمَتَى أَنْجَزْتَ هَذِهِ الْأَعْمَالَ الْعَظِيمَةَ، أَصْبَحَ «كَنْزُ الشَّمَرْدَلِ» كُلُّهُ فِي قَبْضَةِ يَدِكَ، وَصَارَ مَا فِيهِ طَوْعَ أَمْرِكَ، وَرَهْنَ إِشَارَتِكَ. وَسَتَرَى أَكْوَامًا عَالِيَةً مِنَ الذَّهَبِ، وَأَكْدَاسًا لَا تُحْصَى مِنَ اللَّآلِئِ وَالْيَوَاقِيتِ؛ فَلَا تَحْفِلْ بِهَا، وَلَا تَأْبَهْ لَهَا، وَلَا تَشْغَلْكَ لَآلِئُ الْكَنْزِ وَيَوَاقِيتُهُ عَمَّا أَنْتَ بِسَبِيلِهِ.

وَسَتَرَى — عَلَى قِيدِ خُطُوَاتٍ قَلِيلَةٍ مِنْكَ — حُجْرَةً بَدِيعَةً فَاخِرَةً، عَلَيْهَا سِتَارٌ مِنَ السُّنْدُسِ الْأَخْضَرِ؛ فَاكْشِفِ السِّتَارَ تَرَ أُسْتَاذَنَا «الشَّمَرْدَلَ»: السَّاحِرَ الْعَظِيمَ — صَاحِبَ هَذَا الْكَنْزِ — مُضْطَجِعًا عَلَى سَرِيرٍ مِنَ الذَّهَبِ الْإِبْرِيزِ الْخَالِصِ، وَعَلَى رَأْسِهِ تَاجٌ بَدِيعٌ، لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ بَيْنَ تِيجَانِ الدُّنْيَا كُلِّهَا نَفَاسَةً، وَفِي وَسَطِهِ دَائِرَةٌ تَلْمَعُ فِيهِ، كَمَا يَلْمَعُ الْبَدْرُ فِي لَيْلَةِ التَّمِّ.

هَذِهِ هِيَ الْمِرْآةُ الْعَجِيبَةُ الَّتِي حَدَّثْتُكَ بِهَا.

وَسَتَرَى — إِلَى جَانِبِ «الشَّمَرْدَلِ» — سَيْفَهُ الْقَاطِعَ. كَمَا تَرَى فِي إِصْبَعِهِ خَاتَمَهُ النَّفِيسَ، ثُمَّ تَرَى فِي عُنُقِهِ سِلْسِلَةً قَصِيرَةً مُعَلَّقَةً فِيهَا الْمُكْحُلَةُ. فَقِفْ أَمَامَ «الشَّمَرْدَلِ» دَقِيقَتَيْنِ، بَعْدَ أَنْ تَبْدَأَهُ بِالتَّحِيَّةِ وَالشُّكْرِ عَلَى مَا أَسْدَاهُ إِلَيْكَ مِنْ جَمِيلٍ حِينَ أَوْصَى لَكَ بِهَذَا الْكَنْزِ، مُكَافَأَةً لَكَ عَلَى طِيبَةِ قَلْبِكَ، وَبِرِّكَ بِأُمِّكَ.

ثُمَّ أَحْضِرْ هَذِهِ النَّفَائِسَ كُلَّهَا إِلَيَّ، وَاحْذَرْ أَنْ تَنْسَى مِنْهَا شَيْئًا.

وَإِيَّاكَ أَنْ تُخَالِفَ كَلِمَةً وَاحِدَةً مِمَّا قُلْتُهُ لَكَ.

فَإِنَّكَ إِنْ تَهَاوَنْتَ فِي ذَلِكَ أَوْ نَسِيتَ، خَابَ سَعْيُكَ، وَضَاعَ تَعَبُكَ، وَانْتَهَتْ رِحْلَتُكَ بِالْإِخْفَاقِ وَالنَّدَمِ، وَرُبَّمَا عَرَّضْتَ حَيَاتَكَ لِلْخَطَرِ.»

(٩) فَضْلُ الشَّدَائِدِ

فَقَالَ لَهُ «جَابِرٌ»: «وَمَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَطِيعُ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى هَذِهِ الْمَكَارِهِ وَالْأَخْطَارِ، وَيَقْتَحِمَ كُلَّ هَذِهِ الشَّدَائِدِ وَالْأَهْوَالِ؟»

فَقَالَ لَهُ السَّاحِرُ: «إِنَّ دَرْكَ الْعَظَائِمِ لَيْسَ بِالْهَيِّنِ الْمَيْسُورِ. وَلَوْلَا الْمَشَقَّاتُ لَمَا تَفَاضَلَ النَّاسُ وَامْتَازَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلَأَصْبَحُوا كُلُّهُمْ سَوَاءً.

وَلَا يَجُوزُ لِمِثْلِكَ أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَيْهِ الْخَوْفُ وَالْجَزَعُ. فَيَعُوقَاهُ عَنِ انْتِهَازِ هَذِهِ الْفُرْصَةِ، الَّتِي يَهُونُ الْمَوْتُ فِي سَبِيلِهَا. عَلَى أَنَّ حَظَّكَ السَّعِيدَ، وَمَا مَيَّزَكَ اللهُ بِهِ مِنْ شَجَاعَةٍ وَثَبَاتٍ، كَفِيلَانِ بِتَذْلِيلِ كُلِّ مَا تَلْقَاهُ فِي حَيَاتِكَ مِنْ حَوَاجِزَ وَعَقَبَاتٍ، وَشَدَائِدَ وَأَزَمَاتٍ، وَأَهْوَالٍ وَمُنَازَعَاتٍ.

وَلَا تَنْسَ أَنَّ كُلَّ مَا تَلْقَاهُ فِي طَرِيقِكَ، إِنَّمَا هُوَ أَوْهَامٌ لَا حَقِيقَةَ لَهَا، وَأَشْبَاحٌ مِنَ الْوَرَقِ، صَاغَهَا «الشَّمَرْدَلُ» — صَاحِبُ الْكَنْزِ — وَأَعَدَّهَا، لِيَخْتَبِرَ شَجَاعَتَكَ، وَيَمْتَحِنَ بِهَا صَبْرَكَ عَلَى الْمَكَارِهِ وَجُرْأَتَكَ، وَيَضْمَنَ انْتِقَالَ كَنْزِهِ إِلَيْكَ وَحْدَكَ، بَعْدَ أَنْ يَحْمِيَهُ مِنْ كَيْدِ الطَّامِعِينَ.»

فَقَالَ «جَابِرٌ»: «لِيَكُنْ مَا تُرِيدُ، يَا عَمَّاهُ. وَهَأَنَذَا أَسْتَمِدُّ الْعَوْنَ مِنَ اللهِ.»

(١٠) خَطَأٌ لَا يُغْتَفَرُ

ثُمَّ أَلْقَى السَّاحِرُ بِالْبَخُورِ، وَظَلَّ يُجَمْجِمُ أَقْوَالًا غَيْرَ مَفْهُومَةٍ؛ فَلَمْ يَلْبَثْ مَاءُ النَّهْرِ أَنْ غَاضَ. وَرَأَى «جَابِرٌ» الصَّيَّادُ بَابَ الْكَنْزِ يَنْكَشِفُ أَمَامَهُ فِي قَاعِ النَّهْرِ، بَعْدَ أَنْ جَفَّ مَاؤُهُ. وَقَدْ وَعَى «جَابِرٌ» نَصِيحَةَ السَّاحِرِ فَلَمْ يَنْسَ مِنْهَا شَيْئًا؛ حَتَّى إِذَا بَلَغَ الْبَابَ السَّابِعَ، وَلَمْ يَبْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّجَاحِ إِلَّا خُطُوَاتٌ يَسِيرَةٌ، رَأَى الشَّيْطَانَةَ الَّتِي حَدَّثَهُ السَّاحِرُ عَنْهَا.

فَمَا إِنْ رَآهَا حَتَّى نَسِيَ كُلَّ مَا سَمِعَهُ مِنْ نُصْحٍ وَتَحْذِيرٍ، وَخَيَّلَ إِلَيْهِ الْوَهْمُ أَنَّهَا لَا شَكَّ أُمُّهُ. وَاسْتَوْلَتْ عَلَيْهِ الدَّهْشَةُ وَالْحَيْرَةُ وَالِارْتِبَاكُ.

وَانْتَهَزَتْ شَيْطَانَةُ الْكَنْزِ هَذِهِ الْفُرْصَةَ؛ فَأَسْرَعَتْ مُتَوَدِّدَةً إِلَيْهِ، مُسَلِّمَةً عَلَيْهِ، فَلَمْ يَتَمَالَكْ أَنِ ابْتَهَجَ بِلِقَائِهَا، وَطَغَى عَلَيْهِ الْفَرَحُ؛ فَأَقْبَلَ مُتَشَوِّقًا، وَمَدَّ إِلَيْهَا يَدَهُ مُتَلَهِّفًا. وَلَمْ يَكَدْ يَفْعَلُ ذَلِكَ حَتَّى صَرَخَتِ الشَّيْطَانَةُ الْخَبِيثَةُ صَرْخَةً مُفَزِّعَةً، وَنَادَتْ حُرَّاسَ الْكَنْزِ بِأَعْلَى صَوْتِهَا قَائِلَةً: «عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْأَبْلَهِ الْغَبِيِّ، فَقَدْ وَقَعَ فِي خَطَأٍ لَا يُغْتَفَرُ. هَلُمُّوا — يَا حُرَّاسَ الْكَنْزِ — إِلَى الْأَحْمَقِ فَأَدِّبُوهُ، وَعَلَى جُرْمِهِ الْفَظِيعِ فَعَاقِبُوهُ.»

فَانْهَالَ عَلَيْهِ خَدَمُ الْكَنْزِ ضَرْبًا وَلَكْمًا؛ حَتَّى كَادُوا يُسْلِمُونَهُ إِلَى الْهَلَاكِ. ثُمَّ قَذَفُوا بِهِ إِلَى خَارِجِ الْكَنْزِ، وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْمَوْتِ مِنْهُ إِلَى الْحَيَاةِ. وَسُرْعَانَ مَا أُغْلِقَ بَابُ الْكَنْزِ، وَعَادَ مَاءُ النَّهْرِ كَمَا كَانَ.

(١١) عِتَابُ السَّاحِرِ

وَرَأَى السَّاحِرُ مَا حَلَّ بِـ «جَابِرٍ»؛ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ مَحْزُونٌ لِمَا أَصَابَهُ، وَبَذَلَ كُلَّ مَا فِي وُسْعِهِ لِإِيقَاظِهِ مِنْ إِغْمَاءَتِهِ، حَتَّى أَفَاقَ مِنْ غَيْبُوبَتِهِ.

وَسَأَلَهُ السَّاحِرُ عَمَّا صَنَعَ، فَقَصَّ عَلَيْهِ «جَابِرٌ» كُلَّ مَا حَدَثَ لَهُ.

فَعَاتَبَهُ السَّاحِرُ عَلَى مُخَالَفَتِهِ النَّصَيحَةَ قَائِلًا: «لَقَدْ تَخَطَّيْتَ — يَا «جَابِرُ بْنَ عُمَرَ» — كُلَّ مَا لَقِيتَهُ مِنَ الْعَقَبَاتِ، وَكُنْتَ عَلَى وَشْكِ النَّجَاحِ.

فَمَا بَالُكَ — يَا ابْنَ أَخِي — تُضِيعُ فِي الْخُطْوَةِ الْأَخِيرَةِ كُلَّ مَا كَسَبْتَهُ فِي الْمَرَاحِلِ السَّابِقَةِ؟ أَلَا لَيْتَكَ وَعَيْتَ النُّصْحَ فَبَلَغْتَ كُلَّ مَا تُرِيدُهُ.

لَقَدْ أَخَّرْتَنَا بِهَذِهِ الْغَلْطَةِ — عَنْ بُلُوغِ غَايَتِنَا — عَامًا كَامِلًا. وَلَا سَبِيلَ لَنَا إِلَى فَتْحِ «كَنْزِ الشَّمَرْدَلِ» إِلَّا فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ مِنَ الْعَامِ الْقَابِلِ.»

ثُمَّ صَفَّقَ السَّاحِرُ بِيَدَيْهِ وَنَادَى الزِّنْجِيَّيْنِ؛ فَرَفَعَا الْفُسْطَاطَ الَّذِي أَقَامَاهُ، وَسَارَا بِهِ حَتَّى تَوَارَيَا عَنْ أَنْظَارِهِمَا، ثُمَّ عَادَا إِلَيْهِمَا بَعْدَ قَلِيلٍ، وَمَعَهُمَا الْبَغْلَتَانِ، فَرَكِبَهُمَا السَّاحِرُ وَصَاحِبُهُ، وَمَا زَالَا يَجِدَّانِ السَّيْرَ حَتَّى بَلَغَا الدَّارَ.

(١٢) بَعْدَ عَامٍ

وَلَمَّا انْقَضَى الْعَامُ، عَادَ السَّاحِرُ إِلَى الْكَنْزِ.

وَحَاوَلَ أَنْ يُذَكِّرَ «جَابِرًا» بِمَا أَوْصَاهُ بِهِ فِي الْعَامِ الْمَاضِي.

فَقَالَ لَهُ «جَابِرٌ» مُتَحَمِّسًا: «كَلَّا يَا عَمِّ كَلَّا، لَا تَخْشَ عَلَيَّ النِّسْيَانَ. فَمَا تَزَالُ آثَارُ الضَّرْبِ ظَاهِرَةً عَلَى جَسَدِي إِلَى الْيَوْمِ، وَلَا تَزَالُ ذِكْرَاهَا عَالِقَةً بِذِهْنِي مَا حَيِيتُ. وَلَنْ تَرَى مِنِّي — فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ — إِلَّا مَا يَسُرُّكَ.»

فَقَالَ لَهُ السَّاحِرُ: «تَذَكَّرْ مَا قُلْتُهُ لَكَ مِنْ قَبْلُ، حِينَ تَرَى شَيْطَانَةَ الْكَنْزِ مُتَمَثِّلَةً أَمَامَكَ فِي شَكْلِ أُمِّكَ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَخْدَعَكَ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ كَمَا خَدَعَتْكَ مِنْ قَبْلُ. وَلَا تَنْسَ أَنَّهَا شَبَحٌ مِنَ الْأَشْبَاحِ الَّتِي أَعَدَّهَا «الشَّمَرْدَلُ» — صَاحِبُ الْكَنْزِ — لِيَخْتَبِرَ مِقْدَارَ امْتِثَالِكَ وَطَاعَتِكَ، وَثَبَاتِكَ وَشَجَاعَتِكَ.

وَاعْلَمْ أَنَّكَ إِذَا أَخْطَأْتَ — فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ — لَنْ تَخْرُجَ مِنَ الْكَنْزِ سَالِمًا، فَقَدِ اعْتَزَمَ حُرَّاسُ الْكَنْزِ أَنْ يَقْتُلُوكَ إِذَا أَخْفَقْتَ فِي سَعْيِكَ.»

فَأَجَابَهُ «جَابِرٌ»: «إِذَا لَمْ يَتَّعِظِ الْإِنْسَانُ بِمَا رَأَى، كَانَ الْمَوْتُ بِهِ أَوْلَى. وَلَنْ أَقَعَ فِي الْخَطَإِ مَرَّتَيْنِ! وَسَتَرَى مَا يَسُرُّكَ، إِنْ شَاءَ اللهُ.»

(١٣) الْبَابُ السَّابِعُ

وَاجْتَازَ «جَابِرٌ» أَبْوَابَ الْكَنْزِ السِّتَّةَ — كَمَا اجْتَازَهَا فِي الْعَامِ السَّابِقِ — حَتَّى إِذَا بَلَغَ الْبَابَ السَّابِعَ ظَهَرَتْ أَمَامَهُ شَيْطَانَةُ الْكَنْزِ، وَوَقَفَتْ تَعْتَرِضُهُ — كَمَا اعْتَرَضَتْهُ فِي الْعَامِ الْمَاضِي — وَتُوهِمُهُ أَنَّهَا أُمُّهُ «صَفِيَّةُ»، وَتَتَوَسَّلُ إِلَيْهِ أَنْ يَعْطِفَ عَلَيْهَا وَيَرْحَمَهَا. فَلَمْ يَنْخَدِعْ بِمَا سَمِعَ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ، بَلْ زَجَرَهَا عَابِسًا مُنْذِرًا، وَأَقْصَاهَا عَنْهُ مُتَوَعِّدًا مُحَذِّرًا.

ثُمَّ أَسْرَعَ إِلَى سَيْفِ «الشَّمَرْدَلِ» وَمَا قَبَضَ عَلَيْهِ، حَتَّى هَمَّتِ الشَّيْطَانَةُ بِالْهَرَبِ؛ وَلَمْ تَخْطُ ثَلَاثَ خُطُوَاتٍ حَتَّى سَقَطَتْ عَلَى الْأَرْضِ مَيِّتَةً فِي الْحَالِ.

(١٤) الذَّخَائِرُ الْأَرْبَعُ

فَتَوَجَّهَ «جَابِرٌ» إِلَى صَاحِبِ الْكَنْزِ؛ فَنَزَعَ الْخَاتَمَ مِنْ إِصْبَعِهِ، وَالْمُكْحُلَةَ مِنْ صَدْرِهِ، وَالْمِرْآةَ مِنْ تَاجِهِ، وَأَبْقَى مَعَهُ سَيْفَ «الشَّمَرْدَلِ». ثُمَّ خَرَجَ بِتِلْكَ الذَّخَائِرِ الْأَرْبَعِ، وَعَادَ بِهَا إِلَى صَاحِبِهِ السَّاحِرِ؛ فَسَمِعَ هُتَافَ حُرَّاسِ الْكَنْزِ وَثَنَاءَهُمْ عَلَى مَا أَظْهَرَهُ مِنْ شَجَاعَةٍ، وَمَا ظَفِرَ بِهِ مِنْ تَوْفِيقٍ، كَمَا سَمِعَ تَهْنِئَاتِهِمْ عَلَى مَا أَحْرَزَهُ مِنْ نَفَائِسِ الْكَنْزِ الَّتِي لَمْ يَفُزْ بِهَا أَحَدٌ مِنْ قَبْلِهِ. وَلَمَّا رَآهُ السَّاحِرُ أَقْبَلَ عَلَيْهِ مُهَنِّئًا إِيَّاهُ بِمَا نَالَهُ — فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ — مِنْ نَجَاحٍ، بَعْدَ أَنْ لَقِيَ فِي سَبِيلِهِ الْأَهْوَالَ.

figure

ثُمَّ وَاصَلَا سَيْرَهُمَا حَتَّى بَلَغَا الْبَيْتَ. وَلَمَّا اسْتَقَرَّ بِهِمَا الْمُقَامُ، الْتَفَتَ إِلَيْهِ السَّاحِرُ قَائِلًا: «لَقَدْ أَتَمَّ اللهُ عَلَى يَدَيْكَ كُلَّ مَا تَمَنَّيْنَاهُ، وَلَمْ يَبْقَ عَلَيَّ — بَعْدَ أَنْ أَشْكُرَكَ — إِلَّا أَنْ أُكَافِئَكَ عَلَى مَا بَذَلْتَ مِنْ جُهْدٍ وَأَسْدَيْتَ مِنْ مَعْرُوفٍ؛ فَخَبِّرْنِي أَيُّ أُمْنِيَةٍ تَتَمَنَّاهَا وَأَيُّ هَدِيَّةٍ تَخْتَارُهَا وَتَرْضَاهَا؟»

فَقَالَ «جَابِرٌ»: «لَوْ أَنَّنِي ظَفِرْتُ بِالْخُرْجِ، لَضَمِنْتُ قُوتِي وَقُوتَ أُسْرَتِي، طُولَ الْحَيَاةِ.» فَأُعْجِبَ السَّاحِرُ بِقَنَاعَةِ «جَابِرٍ»، وَقَالَ لَهُ بَاسِمًا:

«مَا أَيْسَرَ مَا تَمَنَّيْتَ! وَلَكِنَّكَ اخْتَرْتَ هَدِيَّةً حَقِيرَةً لَا تَتَكَافَأُ مَعَ مَا قَدَّمْتَ لِي مِنْ نَفَائِسَ، لَا يَحْلُمُ بِامْتِلَاكِهَا السَّلَاطِينُ وَلَا الْمُلُوكُ.

وَلَا بُدَّ لِي مِنْ مُكَافَأَتِكَ عَلَى بَعْضِ مَا تَسْتَحِقُّ.»

(١٥) خَاتِمَةُ الْقِصَّةِ

وَلَمَّا جَاءَ الْيَوْمُ التَّالِي رَأَى «جَابِرٌ» أَرْبَعِينَ بَغْلَةً مُحَمَّلَةً بِأَثْمَنِ اللَّآلِئِ وَالْيَوَاقِيتِ. وَقَالَ لَهُ السَّاحِرُ وَهُوَ يُوَدِّعُهُ: «هَاكَ الْخُرْجَ الَّذِي طَلَبْتَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّكَ مَهْمَا تَأْخُذْ مِنْهُ لَا يَفْرُغْ. وَحَسْبُكَ أَنْ تُفَكِّرَ فِيمَا تَشْتَهِيهِ نَفْسُكَ، ثُمَّ تَذْكُرَ اسْمَ اللهِ، وَتَمُدَّ يَدَكَ؛ فَتَنَالَ مِنَ الْخُرْجِ مَا تَشَاءُ.

وَلَنَ يَنْفَدَ مَا فِي الْخُرْجِ، وَلَوْ طَلَبْتَ فِي كُلِّ يَوْمٍ أَلْفَ طَلَبٍ. وَهَاكَ أَرْبَعِينَ بَغْلَةً بِمَا حَمَلَتْ؛ مُكَافَأَةً لَكَ عَلَى مَا ظَفِرْتَ بِهِ مِنْ نَجَاحٍ وَتَوْفِيقٍ.»

ثُمَّ وَدَّعَهُ السَّاحِرُ بَعْدَ أَنْ أَعَدَّ لَهُ دَلِيلًا مَاهِرًا يَصْحَبُهُ فِي طَرِيقِهِ إِلَى بَلَدِهِ، وَأَوْصَاهُ أَنْ يَحْتَفِظَ بِسِرِّهِ فَيَكْتُمَهُ عَنْ جَمِيعِ النَّاسِ؛ حَتَّى يَنْجُوَ مِنْ حَسَدِهِمْ، وَلَا يَتَعَرَّضَ لِأَذَاهُمْ.

وَبَعْدَ أَيَّامٍ قَلِيلَةٍ وَصَلَ «جَابِرٌ» إِلَى دَارِهِ؛ فَوَجَدَ أُمَّهُ وَأَخَوَيْهِ فِي حَالٍ مِنَ الْفَقْرِ لَا تُوصَفُ. وَمَا إِنْ رَأَوْهُ حَتَّى ابْتَهَجُوا بِرُؤْيَتِهِ.

وَعَاشَ الْجَمِيعُ فِي سَعَادَةٍ وَهَنَاءَةٍ طُولَ الْحَيَاةِ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤