الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

(١) تَمْهِيدُ الْقِصَّةِ

كَانَ الْمَلِكُ «غَالِبٌ» مُولَعًا بِفُنُونِ الرِّيَاضَةِ وَالسِّبَاحَةِ (الْعَوْمِ)، مَشْغُوفًا بِالصَّيْدِ وَالسِّيَاحَةِ، مُغْرَمًا بِاقْتِنَاءِ كَرَائِمِ الْجِيَادِ (الْخَيْلِ)، مُقْبِلًا عَلَى جَمْعِ الذَّخَائِرِ وَالْعَتَادِ (مَا أُعِدَّ مِنْ دَوَابَّ وَسِلَاحٍ، وَأَدَوَاتِ الْحَرْبِ وَالْكِفَاحِ).

وَكَانَ ثَاقِبَ الرَّأْيِ أَلْمَعِيًّا (يَظُنُّ الظَّنَّ كَأَنَّمَا رَأَى وَسَمِعَ)، كَرِيمَ النَّفْسِ أَحْوَذِيًّا (يَسُوقُ الْأُمُورَ أَحْسَنَ مَسَاقٍ، وَلَا يَعْيَا بِحَلِّ مَا تَعَقَّدَ مِنَ الْمَشَاكِلِ وَالْمُعْضِلَاتِ). كَانَ مِثَالَ الشَّجَاعَةِ وَالْحَزْمِ، وَنَمُوذَجَ الْإِقْدَامِ وَالْعَزْمِ. لَمْ يُقَصِّرْ يَوْمًا فِي إِسْدَاءِ مَعْرُوفٍ، وَلَمْ يَتَوَانَ لَحْظَةً عَنْ إِغَاثَةِ مَلْهُوفٍ.

شَرُفَتْ خِصَالُهُ، وَمَجُدَتْ خِلَالُهُ، وَتَجَلَّتْ فِيهِ فُتُوَّةُ الشَّبَابِ، وَأَنَاقَةُ الثِّيَابِ، وَجَمَعَ بَيْنَ جَمَالِ الْمَنْظَرِ، وَطَهَارَةِ الْمَخْبَرِ.

وَكَانَ جَوَادُهُ «الْبَرْقُ» يَمْتَازُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ مَشْهُورِي الْجِيَادِ، بِالسُّرْعَةِ وَالصَّبْرِ عَلَى مَشَاقِّ الْجِهَادِ، فِي مَيَادِينِ الْحَرْبِ وَالْجِلَادِ (الْمُضَارَبَةِ بِالسُّيُوفِ). فَاخْتَصَّهُ بِمَزِيدٍ مِنَ الرِّعَايَةِ وَالتَّكْرِيمِ، وَالْإِعْزَازِ وَالتَّعْظِيمِ، وَزَيَّنَ سَرْجَهُ بِالْعَسْجَدِ (الذَّهَبِ)، وَحَلَّاهُ بِنَفَائِسِ الْجُمَانِ وَالزُّمُرُّدِ. وَلَمْ تَقِلَّ عِنَايَتُهُ بِسَيْفِهِ «الْقَاطِعِ» عَنْ عِنَايَتِهِ بِجَوَادِهِ «الْبَرْقِ»؛ فَتَأَنَّقَ فِي صَقْلِ فِرِنْدِهِ (جَوْهَرِهِ)، وَتَزْيِينِ غِمْدِهِ (جِرَابِهِ)، وَحَلَّاهُ بِالْحِجَارَةِ الْكَرِيمَةِ، وَالدُّرَرِ الْيَتِيمَةِ.

وَكَانَ يَحْلُو لَهُ أَنْ يَخْرُجَ — وَحْدَهُ — بَيْنَ حِينٍ وَحِينٍ مُمْتَطِيًا (رَاكِبًا) فَرَسَهُ: «الْبَرْقَ»، مُتَقَلِّدًا سَيْفَهُ: «الْقَاطِعَ»؛ لِيَتَعَرَّفَ أَحْوَالَ الْعِبَادِ، وَيَرْتَادَ مَا شَاءَ مِنَ الْبِلَادِ.

وَقَدْ خَرَجَ الْمَلِكُ «غَالِبٌ» — فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ — يَحْدُوهُ شُعُورٌ خَفِيٌّ لَا يَعْرِفُ لَهُ مَصْدَرًا، وَيُلْهِبُهُ إِحْسَاسٌ غَامِضٌ لَا يَدْرِي لَهُ سَبَبًا، وَتَحْفِزُهُ رَغْبَةٌ جَامِحَةٌ لَا يُطِيقُ لَهَا دَفْعًا؛ إِلَى التَّعْجِيلِ بِالْخُرُوجِ وَالْإِسْرَاعِ فِي السَّيْرِ، كَأَنَّمَا يَدْفَعُهُ الْقَدَرُ إِلَى غَايَةٍ مَجْهُولَةٍ؛ يُحِسُّ فِي أَعْمَاقِ نَفْسِهِ أَنَّ وَرَاءَهَا مُفَاجَأَةً غَرِيبَةً لَا عَهْدَ لَهُ بِمِثْلِهَا؛ فَلَا يَفْتَأُ يَحْتَثُّ جَوَادَهُ «الْبَرْقَ» لِبُلُوغِهَا، حَتَّى لَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ مَسُوقٌ إِلَى إِدْرَاكِ هَدَفٍ (غَايَةٍ)، أَوْ مَدْفُوعٌ لِنَجْدَةِ غَرِيقٍ مُشْرِفٍ عَلَى التَّلَفِ.

(٢) الْفَتَاةُ التَّاعِسَةُ

وَمَا زَالَ يَطْوِي الْفَيَافِيَ وَيَجْتَازُ الْأَوْهَادَ وَالْآكَامَ، حَتَّى غَادَرَ حُدُودَ بِلَادِهِ وَأَصْبَحَ فِي بِلَادِ جَارِهِ الْمَلِكِ «بِسْطَامٍ». وَكَانَ التَّعَبُ قَدْ حَلَّ بِهِ؛ فَتَرَجَّلَ عَنْ جَوَادِهِ، وَجَلَسَ يَسْتَرِيحُ فِي ظِلَالِ شَجَرَةٍ كَبِيرَةٍ وَارِفَةٍ (مُمْتَدَّةِ الظِّلَالِ).

وَسُرْعَانَ مَا صَدَقَهُ شُعُورُهُ وَتَحَقَّقَتْ ظُنُونُهُ؛ فَلَمْ يَكَدْ يَسْتَقِرُّ بِهِ الْجُلُوسُ حَتَّى رَأَى فَتَاةً فِي مُقْتَبَلِ شَبَابِهَا — عَلَى قِيدِ (مَسَافَةِ) خُطُوَاتٍ مِنْهُ — يَبْدُو عَلَى أَسَارِيرِهَا أَنَّهَا لَمْ تَتَجَاوَزِ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ مِنْ عُمُرِهَا؛ وَقَدْ جَلَسَتْ إِلَى جِذْعِ الشَّجَرَةِ التَّالِيَةِ، فِي أَسْمَالِهَا الْبَالِيَةِ، مَحْزُونَةً يَائِسَةً، مُتَجَهِّمَةَ الْوَجْهِ عَابِسَةً، تَلُوحُ عَلَى مُحَيَّاهَا (وَجْهِهَا) دَلَائِلُ الْأَلَمِ وَالضِّيقِ، وَالتَّفْكِيرِ الْعَمِيقِ. وَقَدْ دَعَمَتْ رَأْسَهَا بِرَاحَتِهَا (كَفِّهَا)؛ مُسْتَسْلِمَةً لِهُمُومِهَا وَأَحْزَانِهَا؛ فَلَمْ يَشُكَّ مَنْ رَآهَا فِي أَنَّهَا تُكَابِدُ مِنْ فَادِحَاتِ الْأَهْوَالِ وَخُطُوبِهَا، مَا أَيْأَسَهَا وَغَلَبَهَا عَلَى أَمْرِهَا، وَأَذْهَلَهَا عَمَّا يَكْتَنِفُهَا (أَنْسَاهَا مَا يُحِيطُ بِهَا)؛ فَلَمْ تَفْطُنْ لِقُدُومِ الْمَلِكِ «غَالِبٍ» الَّذِي أَدْهَشَهُ مَا رَآهُ مُرْتَسِمًا عَلَى وَجْهِهَا، مِنْ هُمُومِهَا وَآلَامِهَا، وَحَزَنَهُ مَا تَرْتَدِيهِ (مَا تَلْبَسُهُ) مِنْ أَسْمَالٍ مُخَرَّقَةٍ، وَهَلَاهِيلَ مُمَزَّقَةٍ؛ بِرَغْمِ مَا يَبْدُو عَلَى قَسِمَاتِهَا مِنْ جَمَالٍ رَائِعٍ، وَشَبَابٍ يَانِعٍ.

وَنَادَاهَا الْمَلِكُ فَلَمْ تُجِبْ، فَاقْتَرَبَ مِنْهَا مُتَلَطِّفًا، وَحَيَّاهَا مُتَعَطِّفًا؛ فَكَأَنَّمَا أَيْقَظَهَا صَوْتُهُ الرَّفِيقُ، مِنْ سُبَاتٍ (نَوْمٍ) عَمِيقٍ.

وَمَا كَادَتِ الْفَتَاةُ تَنْتَبِهُ مِنْ نَوْمِهَا وَتُفِيقُ، حَتَّى أَسْرَعَتْ فَرَدَّتْ تَحِيَّةَ الْقَادِمِ الْكَرِيمِ، بِمَا هُوَ أَهْلُهُ مِنْ حَفَاوَةٍ وَتَكْرِيمٍ، وَإِجْلَالٍ وَتَعْظِيمٍ.

(٣) الْمَجْنُونَةُ الْعَاقِلَةُ

سَأَلَهَا الْمَلِكُ: «مَنْ تَكُونُ الْفَتَاةُ؟» فَالْتَفَتَتْ إِلَيْهِ شَارِدَةَ اللُّبِّ ذَاهِلَةً، وَأَجَابَتْهُ قَائِلَةً: «تَسْأَلُنِي يَا سَيِّدِي مَنْ أَنَا؟ أَنَا أَنَا. كَلَّا، بَلْ أَنَا لَسْتُ إِيَّايَ! أَنَا أَصْبَحْتُ شَخْصًا سِوَايَ! وَسَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، أَمْ كَانَ هُنَالِكَ أَمْرٌ غَيْرُ ذَلِكَ، فَأَنَا أَجْهَلُ النَّاسِ بِجَوَابِ سُؤَالِكَ! تَحْسَبُنِي هَاذِيَةً أَوْ هَازِلَةً، أَوْ مَسْلُوبَةَ الْعَقْلِ ذَاهِلَةً! لَوْ سَأَلْتَنِي قَبْلَ أَيَّامٍ لَأَجَبْتُكَ فِي غَيْرِ تَرَدُّدٍ وَلَا إِحْجَامٍ. أَمَّا الْآنَ، فَمَا أَدْرِي مَا يُقَالُ، وَلَا أَعْرِفُ كَيْفَ أُجِيبُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ. أَنَا مَلِكَةٌ بِنْتُ مَلِكٍ. أَنَا مَلِكَةٌ زَوْجُ مَلِكٍ. كُنْتُ مَلِكَةً زَوْجَ مَلِكٍ. أَنَا «عَجِيبَةُ». كُنْتُ «عَجِيبَةَ». كُنْتُ الْمَلِكَةَ «عَجِيبَةَ». أَلَمْ تَسْمَعْ بِي؟ أَنَا بِنْتُ «نَادِرٍ»: الْمَلِكِ «نَادِرٍ». أَلَمْ تَسْمَعْ بِأَبِي؟ أَنَا «عَجِيبَةُ». كُنْتُ «عَجِيبَةَ». كُنْتُ الْمَلِكَةَ «عَجِيبَةَ»: زَوْجَةَ «بِسْطَامٍ»: الْمَلِكِ «بِسْطَامٍ». كُنْتُ زَوْجَةَ الْمَلِكِ «بِسْطَامٍ». أَلَمْ تَسْمَعْ بِزَوْجِي؟

كَانَتْ هَذِهِ حَقَائِقَ لَا يَرْقَى إِلَيْهَا الشَّكُّ مُنْذُ أَيَّامٍ، ثُمَّ أَصْبَحَتِ الْيَوْمَ فِي عِدَادِ الْأَبَاطِيلِ وَالْأَوْهَامِ. كَانَ النَّاسُ يَرَوْنَهَا حَقَائِقَ ثَابِتَاتٍ، فَالْيَوْمَ يَرَوْنَهَا مُفْتَرَيَاتٍ وَخُزَعْبَلَاتٍ (أَكَاذِيبَ تَافِهَاتٍ وَأَخْبَارًا مُضْحِكَاتٍ). أَلَا مَا أَعْجَبَ تَصَارِيفَ الْقَدَرِ، وَمَا تُطَالِعُنَا بِهِ الْأَيَّامُ مِنْ عِظَاتٍ وَعِبَرَ! لَقَدْ كَادَتْ تُشَكِّكُنِي فِي حَقِيقَةِ أَمْرِي، وَتُقْنِعُنِي أَنَّ «عَجِيبَةَ» شَخْصٌ غَيْرِي!»

(٤) حِوَارٌ وَاسْتِفْسَارٌ

فَدَهِشَ الْمَلِكُ «غَالِبٌ» مِمَّا سَمِعَ، وَلَمْ يَفْهَمْ مَا تَعْنِيهِ الْفَتَاةُ، وَحَسِبَهَا مَجْنُونَةً تَهْذِي (تَتَكَلَّمُ بِغَيْرِ الْمَعْقُولِ). وَرَأَى أَمَامَهُ فَتَاةً تَاعِسَةً، مُتَبَرِّمَةً بِالْحَيَاةِ يَائِسَةً، جَهَدَهَا التَّعَبُ وَالْإِعْيَاءُ، وَرَنَّحَهَا الْبُؤْسُ وَالشَّقَاءُ، شَارِدَةَ اللُّبِّ ذَاهِلَةً، تَرْتَجِزُ قَائِلَةً:

«الدَّاهِيَةُ الدَّهْوَاءُ:
السَّاحِرَةُ الرَّقْطَاءُ
فِي بَيْتِي، وَهْيَ غَرِيبَهْ،
ظَهَرَتْ فِي شَكْلِ «عَجِيبَهْ»
غَيْرِي أَصْبَحَ إِيَّايَهْ
وَأَنَا أَصْبَحْتُ سِوَايَهْ.»

وَهُنَا ارْتَعَشَ صَوْتُهَا وَتَهَدَّجَ، وَاحْتَبَسَ الْكَلَامُ فِي حَلْقِهَا وَحَشْرَجَ، وَأَلَحَّ عَلَيْهَا السُّقْمُ وَالضَّنَى (اشْتَدَّ بِهَا الْمَرَضُ)، وَفَاضَتْ بِهَا اللَّوْعَةُ وَالْأَسَى (الْحُزْنُ)؛ فَكَادَتْ نَفْسُهَا تَتَسَاقَطُ أَنْفُسًا (كَادَتْ رُوحُهَا تَخْرُجُ نَفَسًا فِي إِثْرِ نَفَسٍ).

فَأَقْبَلَ عَلَيْهَا يُهَدِّئُ مِنْ رُوعِهَا (يُطَمْئِنُ قَلْبَهَا) وَيُؤَانِسُهَا، وَيُهَوِّنُ عَلَيْهَا وَيُلَاطِفُهَا؛ حَتَّى إِذَا هَدَأَتْ ثَائِرَتُهَا، وَرَقَأَتْ دُمُوعُهَا (جَفَّتْ)، سَأَلَهَا أَنْ تُفْضِيَ إِلَيْهِ (تُخْبِرَهُ) بِشِكَايَتِهَا، وَوَعَدَهَا أَنَّهُ لَنْ يُقَصِّرَ فِي مُنَاصَرَتِهَا، وَلَنْ يَدَّخِرَ جُهْدًا فِي مُعَاوَنَتِهَا. وَاسْتَشَفَّتِ الْفَتَاةُ مِنْ لَهْجَتِهِ، وَانْدِفَاعِهِ فِي حَمَاسَتِهِ، صِدْقَ مُرُوءَتِهِ. فَقَالَتْ: «شَدَّ مَا أَعْجَزَنِي شُكْرُكَ، وَإِنْ كَانَتْ نَظَرَاتُكَ الْمُسْتَرِيبَةُ (الْمُتَشَكِّكَةُ) تُشْعِرُنِي بِمَا يُضْمِرُهُ قَلْبُكَ مِنْ شَكٍّ وَرِيبَةٍ.

وَلَسْتُ أَلُومُ سَيِّدِي عَلَى مَا تَنْطِقُ بِهِ عَيْنَاهُ، وَإِنْ لَمْ تُصَرِّحْ شَفَتَاهُ. فَهَلْ يَأْذَنُ لِي سَيِّدِي فِي تَفْسِيرِ مَا أَلْغَزْتُ، وَتَفْصِيلِ مَا أَوْجَزْتُ؟»

فَقَالَ الْمَلِكُ: «مَا أَشْوَقَنِي إِلَى ذَلِكِ!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤