الْفَصْلُ الثَّانِي

(١) وَصِيُّ الْمَلِكَةِ

«أَنَا «عَجِيبَةُ». هَذَا هُوَ اسْمِي. أَنَا وَحِيدَةُ الْمَلِكِ «نَادِرٍ» وَهُوَ أَبِي، لَمْ يُنْجِبْ سِوَايَ. فَلَمَّا مَاتَ اجْتَمَعَ سَرَاةُ الدَّوْلَةِ (أَعْيَانُهَا) وَمُمَثِّلُو الشَّعْبِ، وَنَادَوْا بِي مَلِكَةً، وَاخْتَارُوا لِي وَصِيًّا يَقُومُ بِأَعْبَاءِ الْمُلْكِ رَيْثَمَا أَبْلُغُ سِنَّ الرُّشْدِ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ بُدٌّ (مَفَرٌّ)، فَلَمْ أَكُنْ — حِينَئِذٍ — أَعْدُو (أُجَاوِزُ) الرَّابِعَةَ مِنْ عُمْرِي.

وَقَدِ اخْتَارُوا «عَلِيًّا» وَزِيرَ أَبِي لِلْوِصَايَةِ. وَلَمْ يَمْضِ زَمَنٌ قَلِيلٌ حَتَّى تَزَوَّجَ مُرْضِعَتِي. وَكَانَ مَعْرُوفًا بِالدُّرْبَةِ وَالْكِفَايَةِ، وَحُسْنِ الْفَهْمِ وَالدِّرَايَةِ، كَمَا كَانَ مَوْصُوفًا بِالْحَزْمِ وَبُعْدِ الْهِمَّةِ، وَالْعَزْمِ وَطَهَارَةِ الذِّمَّةِ، فَلَمْ يُقَصِّرْ فِي الْعِنَايَةِ بِأَمْرِي، وَلَمْ يَدَّخِرْ وُسْعًا فِي الْإِشْرَافِ بِنَفْسِهِ عَلَى تَرْبِيَتِي وَتَثْقِيفِي وَتَزْوِيدِي — مِنْ فُنُونِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ — بِمَا يُؤَهِّلُنِي لِلِاضْطِلَاعِ — فِي قَابِلِ أَيَّامِي — بِأَعْبَاءِ الْمُلْكِ. وَمَا زَالَ يُولِينِي صَادِقَ النُّصْحِ، وَيَمْحَضُنِي خَالِصَ الْوُدِّ، حَتَّى بَلَغْتُ سِنَّ الرُّشْدِ، وَأَصْبَحْتُ قَادِرَةً عَلَى الْقِيَامِ بِشُئُونِ الدَّوْلَةِ، وَالنُّهُوضِ بِأَعْبَاءِ الْمُلْكِ، وَلَمْ يَبْقَ عَلَى ارْتِقَائِي عَرْشِ أَبِي غَيْرُ أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ.

(٢) نُشُوبُ الثَّوْرَةِ

وَهُنَا تَنَكَّرَ لِيَ الدَّهْرُ، وَجَانَبَنِي التَّوْفِيقُ، وَخَذَلَنِيَ الْحَظُّ، فَانْقَلَبَ السَّعْدُ نَحْسًا، وَتَحَوَّلَ الْهَنَاءُ شَقَاءً.

كَانَ لِي عَمٌّ يُدْعَى الْأَمِيرَ «مُوَفَّقًا»، قُتِلَ فِي إِحْدَى الْمَعَارِكِ الْحَرْبِيَّةِ الَّتِي كَانَ يَتَوَلَّى قِيَادَتَهَا، وَلَمْ يَرْتَبْ (لَمْ يَشُكَّ) أَحَدٌ فِي أَنَّهُ فَارَقَ الْحَيَاةَ، بَعْدَ أَنْ وُلِدْتُ بِعَامَيْنِ. وَمَرَّتْ عَلَى وَفَاتِهِ السِّنُونَ وَالْأَعْوَامُ، ثُمَّ ظَهَرَ فَجْأَةً فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ. ظَهَرَ — وَمَا أَدْرِي كَيْفَ ظَهَرَ — بَعْدَ أَنْ قُبِرَ وَانْدَثَرَ!

وَمَا كَادَ أَصْدِقَاؤُهُ وَأَصْفِيَاؤُهُ يَرَوْنَهُ عَائِدًا إِلَى مَمْلَكَتِهِ، بَعْدَ أَنْ قَطَعُوا الْأَمَلَ مِنْ عَوْدَتِهِ، حَتَّى انْحَازُوا إِلَيْهِ وَنَاصَرُوهُ، وَهَتَفُوا بِهِ مَلِكًا عَلَى عَرْشِ أَبِي.

وَهَكَذَا نَشَبَتِ الثَّوْرَةُ (ثَارَتْ وَاشْتَبَكَتْ) بَغْتَةً بِلَا مُقَدِّمَاتٍ.

وَعَبَثًا حَاوَلَ الْوَزِيرُ «عَلِيٌّ»: الْوَصِيُّ الذَّكِيُّ، الْبَارِعُ الْوَفِيُّ، أَنْ يُهَدِّئَ مِنْ ثَائِرَةِ الْمُفْسِدِينَ، بَعْدَ أَنْ تَعَهَّدَتْهَا دَسَائِسُ الْمُغْرِضِينَ. وَجَانَبَهُ التَّوْفِيقُ؛ فَلَمْ يَسْلُكْ سَبِيلًا لِإِخْمَادِهَا إِلَّا أَلْهَبَهَا وَزَادَ أُوَارَهَا. وَسُرْعَانَ مَا انْخَدَعَ جُمْهُورُ الشَّعْبِ بِوُعُودِ الْأَمِيرِ «مُوَفَّقٍ»: فَآزَرُوهُ، وَبَذَلُوا لَهُ الْمَعُونَةَ وَنَاصَرُوهُ؛ حَتَّى ظَفِرَ بِالْمُلْكِ وَاسْتَتَبَّ لَهُ الْأَمْرُ. وَلَمْ يَبْقَ أَمَامَهُ إِلَّا أَنْ يَتَخَلَّصَ مِنِّي لِيَصْفُوَ لَهُ الْجَوُّ، فَلَا يَشْغَلَ بَالَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِنُشُوبِ ثَوْرَةٍ جَدِيدَةٍ، يُشْعِلُ نَارَهَا مَنْ بَقِيَ لِي مِنَ الْمُوَالِينَ الْمُخْلِصِينَ، مِنْ أَنْصَارِيَ الْقَلِيلِينَ.

(٣) خُطَّةُ الْهَرَبِ

وَلَكِنَّ الْوَزِيرَ «عَلِيًّا» وَزَوْجَتَهُ — وَهِيَ مُرْضِعَتِي كَمَا أَسْلَفْتُ لَكَ الْقَوْلَ — فَطِنَا إِلَى مَكْرِهِ، وَلَمْ يَفُتْهُمَا مَا دَبَّرَهُ مِنْ فُنُونِ شَرِّهِ. فَحَزَمَا أَمْرَهُمَا، وَعَقَدَا عَزْمَهُمَا، وَلَمْ يُضَيِّعَا شَيْئًا مِنْ وَقْتِهِمَا.

وَكَتَبَ اللهُ التَّوْفِيقَ لَهُمَا، قَبْلَ أَنْ يَبْطِشَ الْمُغْتَصِبُ بِهِمَا. فَتَسَلَّلَا بِي لَيْلًا مِنْ بَابٍ خَفِيٍّ فِي بَعْضِ سَرَادِيبِ الْقَصْرِ، وَمَشَيْتُ مَعَهُمَا فِي طَرَائِقَ مُتَشعِّبَةٍ مُلْتَوِيَةٍ، وَمَسَالِكَ غَيْرِ مَطْرُوقَةٍ لَا يَعْرِفُهَا أَحَدٌ غَيْرُهُمَا؛ حَتَّى بَلَغْنَا حَاضِرَةَ الْمَلِكِ «بِسْطَامٍ»، وَاسْتَقَرَّ بِنَا فِي أَرْضِهَا الْمُقَامُ.

وَكَانَ الْوَزِيرُ «عَلِيٌّ» مُسْتَخْفِيًا فِي ثِيَابِ مُصَوِّرٍ؛ لِيُوهِمَ مَنْ يَرَاهُ أَنَّه قَدِمَ إِلَى هَذِهِ الْمَدِينَةِ لِيَعِيشَ مِنْ فَنِّهِ، مَعَ زَوْجَتِهِ وَابْنَتِهِ، وَهُمَا كُلُّ أُسْرَتِهِ.

(٤) حَيَاةٌ وَادِعَةٌ

كَانَ الْوَزِيرُ «عَلِيٌّ» مُنْذُ طُفُولَتِهِ بَارِعًا فِي التَّصْوِيرِ؛ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ ذَاعَ صِيتُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ.

وَقَدْ آثَرْنَا حَيَاةَ الْعَمَلِ، بِرَغْمِ مَا كَانَ فِي حَوْزَتِنَا مِنْ نَفَائِسِ الْأَحْجَارِ الْكَرِيمَةِ الَّتِي تَضْمَنُ لَنَا — لَوْ شِئْنَا — أَرْغَدَ عَيْشٍ وَأَنْعَمَ حَيَاةٍ.

وَمَرَّتْ بِنَا الْأَيَّامُ مُتَعَاقِبَةً مُتَتَابِعَةً، فِي حَيَاةٍ هَانِئَةٍ وَادِعَةٍ؛ نُنْفِقُ مِمَّا نَكْسِبُهُ مِنْ مِرْقَمِ الْوَزِيرِ «عَلِيٍّ» (وَالْمِرْقَمُ: رِيشَةُ الرَّسَّامِ).

وَظَلِلْنَا آمِنِينَ مِنْ مُفَاجَآتِ الدَّهْرِ وَحَوَادِثِهِ، وَتَقَلُّبَاتِ الزَّمَنِ وَكَوَارِثِهِ، لَا يَشْغَلُ بَالَنَا — فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ — إِلَّا أَنْ يَهْتَدِيَ إِلَيْنَا مَنْ أَرْصَدَهُمْ «مُوَفَّقٌ» مِنْ عُيُونٍ وَأَعْوَانٍ، فِي كُلِّ مَكَانٍ.

وَمَضَى عَلَى هَذِهِ الْأَحْدَاثِ عَامَانِ؛ نَسِيتُ فِي خِلَالِهِمَا عَظَمَةَ الْمُلْكِ وَسَطْوَةَ الْجَاهِ، وَزَهِدْتُ فِيمَا يُحِيطُ بِهِمَا مِنَ الْأُبَّهَةِ وَمَفَاتِنِ الْحَيَاةِ. وَكَانَ لِنَصَائِحِ الْوَزِيرِ «عَلِيٍّ» وَآرَائِهِ الْحَكِيمَةِ أَحْمَدُ الْأَثَرِ فِيمَا غَمَرَ قَلْبِي مِنْ سَكِينَةٍ، وَغَمَرَ نَفْسِي مِنْ طُمَأْنِينَةٍ. فَامْتَلَأَتْ نَفْسِي قَنَاعَةً وَزَهَادَةً، فِيمَا فَقَدْتُهُ مِنْ هَنَاءَةٍ وَرَغَادَةٍ، وَلَمْ أَضِقْ بِمَا انْحَدَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ ذِرْوَةِ الْمُلْكِ وَالرِّيَاسَةِ، إِلَى حَضِيضِ الْخُمُولِ وَالتَّعَاسَةِ. وَسُرْعَانَ مَا تَعَوَّدْتُ الْعَيْشَ فِي ظِلَالِ الْفَاقَةِ، كَمَا تَعِيشُ أَيُّ فَتَاةٍ مِنْ أَوْسَاطِ النَّاسِ.

وَهَكَذَا اطْمَأَنَّتْ بِيَ الْحَالُ، فَلَمْ أَعُدْ أَذْكُرُ الْمُلْكَ الْمَسْلُوبَ، وَالْعَرْشَ الْمَنْهُوبَ. وَازْدَادَتْ أُلْفَتِي لِهَذِهِ الْحَيَاةِ، وَنَفَضْتُ عَنْ نَفْسِي أَوْهَامَ الْجَاهِ؛ فَصِرْتُ كُلَّمَا عَرَضَتْ لِي ذِكْرَاهُ، شَعَرْتُ بِالرَّاحَةِ لِتَخَلُّصِي مِنْ أَعْبَائِهِ الثِّقَالِ، وَمَا يَجُرُّهُ مِنْ مَتَاعِبَ وَأَهْوَالٍ. وَأَحْسَسْتُ السَّعَادَةَ تَمْلَأُ قَلْبِي، بَعْدَ أَنْ وَفَّقَنِي اللهُ لِطَرْحِ ذَلِكَ الْعِبْءِ الَّذِي ضَيَّقَ صَدْرِي، وَأَنْقَضَ ظَهْرِي. وَتَمَنَّيْتُ عَلَى اللهِ أَنْ يُحَقِّقَ رَغْبَتِي، وَيُبَلِّغَنِي أُمْنِيَّتِي؛ فَأَقْضِيَ حَيَاتِي كُلَّهَا عَلَى هَذِهِ الْحَالِ، رَاضِيَةَ النَّفْسِ هَانِئَةَ الْبَالِ. وَلَكِنَّ إِرَادَةَ اللهِ وَحُكْمَهُ غَالِبَانِ، لَا سَبِيلَ إِلَى رَدِّهِمَا، وَلَا حِيلَةَ لِأَحَدٍ فِي دَفْعِهِمَا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤