الْفَصْلُ الرَّابِعُ
(١) مُفَاجَأَةٌ مُذْهِلَةٌ
وَأَعَدَّ الْوَزِيرُ «عَلِيٌّ» عُدَّةَ السَّفَرِ لِيَرْحَلَ فِي صَبَاحِ الْيَوْمِ التَّالِي. وَلَكِنَّ مُفَاجَأَةً مُذْهِلَةً لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَتَوَقَّعُهَا حَالَتْ دُونَ سَفَرِهِ: مُفَاجَأَةً أَشْبَهَ بِحُلُمٍ صَاخِبٍ عَنِيفٍ مَا أَحْسَبُنِي أَفَقْتُ مِنْ هَوْلِهِ.
كُنْتُ جَالِسَةً عَلَى إِحْدَى الْأَرَائِكِ فِي حُجْرَتِي، مُسْتَغْرِقَةً فِي الْقِرَاءَةِ عَلَى مَأْلُوفِ عَادَتِي. حَتَّى إِذَا رَنَّقَ النَّوْمُ فِي عَيْنِي (خَالَطَهَا)، ذَهَبْتُ إِلَى مَخْدَعِ نَوْمِي. فَرَأَيْتُ مَا أَخَافَنِي، وَأَطَارَ الْوَسَنَ مِنْ عَيْنِي وَرَعَبَنِي. رَأَيْتُ، وَيَا لَهَوْلِ مَا رَأَيْتُ، شَبَحًا يَمْثُلُ أَمَامِي ثُمَّ يَسْتَخْفِي وَشْكَ اللَّمْحِ بِالْبَصَرِ.
(٢) حَيْرَةُ الْمَلِكِ
فَنَدَّتْ مِنِّي صَرْخَةٌ عَالِيَةٌ سَمِعَهَا الْمَلِكُ. فَلَمَّا سَأَلَنِي عَنْ سَبَبِ صُرَاخِي، سَرَتِ الطُّمَأْنِينَةُ إِلَى قَلْبِي بَعْدَ أَنْ سَمِعْتُ صَوْتَهُ، وَأَنِسْتُ بِقُرْبِهِ. وَخُيِّلَ إِلَيَّ أَنَّ الشَّبَحَ الَّذِي رَأَيْتُ كَانَ وَهْمًا لَا حَقِيقَةَ لَهُ. وَأَنَّ ذِهْنِيَ الْمَكْدُودَ الَّذِي أَتْعَبَتْهُ الْقِرَاءَةُ قَدْ مَثَّلَ لِي هَذَا الشَّبَحَ. فَأَفْضَيْتُ بِذَلِكَ إِلَى الْمَلِكِ، وَرَأْيُتُه يُصْغِي إِلَى حَدِيثِي فِي اهْتِمَامٍ وَقَلَقٍ وَحَيْرَةٍ. وَكُنْتُ أَتَوَقَّعُ مِنْهُ أَنْ يُزِيلَ فَزَعِي، وَيُهَدِّئَ مِنْ ثَائِرَتِي وَهَلَعِي؛ وَلَكِنْ شَدَّ مَا شَغَلَ بَالِي، وَخَيَّبَ آمَالِي؛ حِينَ رَأَيْتُهُ يَبْتَدِرُنِي فِي انْزِعَاجٍ قَائِلًا: «إِنَّ مَا أُكَابِدُهُ مِنَ الْحَيْرَةِ أَضْعَافُ مَا تُكَابِدِينَ، وَلَسْتُ أَدْرِي لِهَذَا اللُّغْزِ تَفْسِيرًا. خَبِّرِينِي — قَبْلَ كُلِّ شَيءٍ — مِنْ أَيْنَ أَتَيْتِ؟ وَكَيْفَ قَدِمْتِ فِي هَذِهِ اللَّحْظَةِ إِلَى حُجْرَتِي؟»
(٣) «عَجِيبَةُ» الْجَدِيدَةُ
فَزَادَ حَدِيثُ الْمَلِكِ فِي ارْتِبَاكِي وَحَيْرَتِي، وَضَاعَفَ مِنْ فَزَعِي وَدَهْشَتِي، فَقُلْتُ لَهُ مَذْعُورَةً، مُخْتَنِقَةَ الْأَنْفَاسِ مَبْهُورَةً: «أَوْضِحْ مَا تَعْنِيهِ يَا سَيِّدِي؛ فَمَا أَرَانِي أَفْهَمُ مِمَّا تَقُولُ شَيْئًا.» فَقَالَ الْمَلِكُ: «لَا حَاجَةَ إِلَى إِيضَاحٍ؛ فَقَدْ جَلَّ الْأَمْرُ عَنِ الْعَبَثِ وَالْمُزَاحِ. تَعَالَيْ فَانْظُرِي، وَفَسِّرِي إِنِ اسْتَطَعْتِ أَنْ تُفَسِّرِي.»
وَحَانَتْ مِنِّيَ الْتِفَاتَةٌ إِلَى سَرِيرِي؛ فَرَأَيْتُ — وَيَا لَهَوْلِ مَا رَأَيْتُ — فَتَاةً غَرِيبَةً لَا عَهْدَ لِي بِرُؤْيَتِهَا، تَنَامُ فِي سَرِيرِي؛ وَقَدْ أَشْبَهَتْنِي أَتَمَّ شَبَهٍ، أَشْبَهَتْنِي فِي كُلِّ شَيْءٍ: طُولًا وَعَرْضًا وَهَيْئَةً وَلَوْنًا، وَجِيدًا (رَقَبَةً) وَعَيْنًا. لَا فَرْقَ بَيْنَ إِحْدَانَا وَالْأُخْرَى فِي قَلِيلٍ وَلَا كَثِيرٍ، وَلَا إِجْمَالٍ وَلَا تَفْصِيلٍ.
(٤) حِوَارُ «عَجِيبَةَ» وَ«عَجِيبَةَ»
فَخُيِّلَ إِلَيَّ أَنَّنِي أَرَى خَيَالِي فِي الْمِرْآةِ؛ لَوْ لَمْ تُبَادِرْنِي بِالْكَلَامِ. وَنَدَّتْ مِنِّي صَيْحَةُ خَوْفٍ وَهَلَعٍ، كَادَ يَخْنُقُهَا الرُّعْبُ وَالْفَزَعُ، وَغَمْغَمْتُ مُسَائِلَةً: «رُحْمَاكَ يَا رَبَّاهُ! أَيُّ حُلْمٍ هَائِلٍ أَرَاهُ؟»
فَقَاطَعَتْنِيَ الْمَرْأَةُ بِصَوْتٍ يُحَاكِي صَوْتِي فِي جَرْسِهِ وَرَنِينِهِ، وَصَخَبِهِ وَلِينِهِ. وَسَمِعْتُهَا تَقُولُ لِي فِي جُرْأَةِ الصُّفَقَاءِ: «يَا لَكِ مِنْ دَعِيَّةٍ خَرْقَاءَ. تُرَى أَيُّ دَاهِيَةٍ قَذَفَتْ بِكِ إِلَيْنَا، وَأَيُّ شَيْطَانٍ سَلَّطَكِ عَلَيْنَا؟ كَيْفَ تَتَمَثَّلِينَ فِي صُورَتِي؛ لِتُنَغِّصِي عَلَيَّ سَعَادَتِي، وَتُكَدِّرِي صَفْوَ هَنَاءَتِي؟ أَيُّ خُطَّةٍ غَادِرَةٍ، تُرِيدِينَنِي بِهَا أَيَّتُهَا السَّاحِرَةُ؟ شَدَّ مَا خَابَ فَأْلُكِ، يَا مَاكِرَةُ.
أَتَحْسَبِينَ أَنَّ زَوْجِيَ الْعَظِيمَ يُمْكِنُ أَنْ تَجُوزَ عَلَيْهِ حِيلَتُكِ، وَتَرُوجَ عِنْدَهُ خُدْعَتُكِ؟ إِنَّ أَلْمَعِيَّةَ زَوْجِي لَتَسْتَشِفُّ مَا يَرْتَسِمُ عَلَى أَسَارِيرِكِ مِنْ بُهْتَةٍ مُرِيبَةٍ، وَمَا يَتَمَثَّلُ فِي ضَمِيرِكِ مِنْ خِدَاعٍ وَرِيبَةٍ.»
ثُمَّ الْتَفَتَتْ إِلَى الْمَلِكِ تَقُولُ: «رُحْمَاكَ، يَا زَوْجِيَ الْعَزِيزَ. عَجِّلْ بِطَرْدِ هَذِهِ السَّاحِرَةِ. عَجِّلْ بِطَرْدِ هَذِهِ الْمَاكِرَةِ. كَلَّا، بَلِ اسْتَبْقِهَا، لِتُعَذِّبَهَا وَتُنْكِّلَ بِهَا. أَلْقِهَا فِي غَيَابَةِ السِّجْنِ الْأَسْوَدِ؛ لِنُحَرِّقَهَا فِي صَبَاحِ الْغَدِ!» وَهَكَذَا انْدَفَعَتِ السَّاحِرَةُ جَرِيئَةً فِي بُهْتَانِهَا وَافْتِرَائِهَا، تَصِفُنِي بِأَوْصَافِهَا، وَتَرْمِينِي بِدَائِهَا.
(٥) جُرْأَةُ الْكَاذِبَةِ
وَكَانَ الْمَلِكُ «بِسْطَامٌ» يُنْصِتُ إِلَى حَدِيثِهَا، وَيُرْهِفُ أُذُنَيْهِ لِسَمَاعِ أَكَاذِيبِهَا. وَقَدْ أَشْكلَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ وَاسْتَبْهَمَ؛ فَصَمَتَ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ. وَلَمْ تَكُنْ حَيْرَتِي مِمَّا رَأَيْتُ وَسَمِعْتُ، بِأَيْسَرَ مِنْ حَيْرَةِ الْمَلِكِ مِمَّا رَأَى وَسَمِعَ. وَلَمْ يَكُنْ يَعْدِلُ ارْتِبَاكَنَا فِي أَمْرِنَا، إِلَّا جُرْأَةُ السَّاحِرَةِ وَسَلَاطَةُ لِسَانِهَا، وَتَمَادِيهَا فِي بُهْتَانِهَا. وَلَمْ أَتَمَالَكْ أَنْ أَقُولَ لِزَوْجِي مُتَحَسِّرَةً: «كَانَتْ نَفْسِي تُحَدِّثُنِي — بَعْدَ أَنْ رَأَيْتُ مَا غَمَرْتَنِي بِهِ مِنْ عَطْفٍ وَمَوَدَّةٍ — أَنَّ النَّحْسَ قَدْ فَارَقَنِي إِلَى غَيْرِ عَوْدَةٍ. كَانَ قَلْبِي يَفِيضُ ثِقَةً بِحَاضِرِي، وَاطْمِئْنَانًا إِلَى مُسْتَقْبَلِي. كُنْتُ عَلَى يَقِينٍ أَنَّ حَيَاةَ السَّعَادَةِ قَدْ بَدَأَتْ، وَأَنَّ حَيَاةَ الشَّقَاءِ قَدِ اخْتُتِمَتْ. كُنْتُ مَخْدُوعَةً فِي خَيَالِي وَاهِمَةً. سَابِحَةً فِي ضَلَالِي هَائِمَةً، مُسْتَغْرِقَةً فِي آمَالِي حَالِمَةً. ثُمَّ حَلَّتْ بِدَارِنَا الدَّاهِيَةُ الدَّهْوَاءُ، وَالسَّاحِرَةُ الرَّقْطَاءُ؛ فَتَمَثَّلَتْ عَلَى هَيْئَتِي؛ لِتُخَيِّلَ إِلَيْكَ بِسِحْرِهَا أَنَّهَا أَنَا؛ فَتُكَدِّرَ صَفْوَ عَيْشِنَا. رُحْمَاكَ يَا زَوْجِيَ الْعَزِيزَ رُحْمَاكَ، وَحَاشَاكَ أَنْ تُخْدَعَ فِيهَا حَاشَاكَ. إِنَّ مَا أَعْرِفُهُ مِنْ وَفَائِكَ لِي. وَحَدَبِكَ عَلَيَّ، وَبِرِّكَ بِي، كَفِيلٌ أَنْ يُلْهِمَكَ الرَّأْيَ الصَّحِيحَ، وَيَهْدِيَ قَلْبَكَ الْحَنُونَ إِلَى طَرِيقِ الْحَقِّ الْوَاضِحِ، وَيُنِيرَ سَبِيلَ الرُّشْدِ لِعَقْلِكَ الرَّاجِحِ، وَيَكْشِفَ لِبَصِيرَتِكَ النَّفَّاذَةِ مَا يَرْتَسِمُ عَلَى وَجْهِ السَّاحِرَةِ مِنْ بُهْتَانٍ وَغَدْرٍ، وَخَدِيعَةٍ وَمَكْرٍ. خَبِّرْنِي بِرَبِّكَ: أَيُسَاوِرُكَ الشَّكُّ فِي أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ دَعِيَّةٌ غَرِيبَةٌ، وَأَنَّنِي أَنَا زَوْجَتُكَ الْحَبِيبَةُ؟ أُقْسِمُ لَكَ إِنَّنِي زَوْجَتُكَ وَصَفِيَّتُكَ، وَإِنَّ هَذِهِ السَّاحِرَةَ عَدُوَّتِي وَعَدُوَّتُكَ!»
فَنَظَرَتْ إِلَيَّ الْمَرْأَةُ عَابِسَةً مُتَجَهِّمَةً، سَاخِطَةً مُتَبَرِّمَةً، وَقَالَتْ لِي وَهِيَ تَحْرُقُ الْأُرَّمَ (تَحُكُّ أَنْيَابَهَا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ)، وَتَتَلَوَّى مِنَ الْغَيْظِ وَتَتَأَلَّمُ: «أَيُّ سُخْفٍ وَحَمَاقَةٍ، وَتَمَادٍ فِي الصَّفَاقَةِ؟ حَسْبُكِ بُهْتَانًا، وَكَفَاكِ هَذَيَانًا. أَتَشْرَكِينَنِي فِي صُوَتِي وَهَيْئَتِي؟ وَتَنْتَحِلِينَ اسْمِي وَتُحَاكِينَ صُورَتِي؟ وَتَبْهَتِينَنِي فِي وَجْهِي، ثُمَّ تُشَكِّكِينَ زَوْجِي فِي أَمْرِي، عَامِدَةً إِلَى أَذِيَّتِي وَضُرِّي؟ أَتَزْعُمِينَ أَنَّكِ «عَجِيبَةُ» بِنْتُ الْمَلِكِ «نَادِرٍ»؟ فَمَنْ أَكُونُ أَنَا إِذَا صَحَّ وَهْمُكِ، وَصَدَقَ زَعْمُكِ؟ هَا أَنْتِ ذِي تَفْضَحِينَ نَفْسَكِ بِنَفْسِكِ؛ إِذْ تُتْبِعِينَ الْمَيْنَ (الْكَذِبَ) وَالْبُهْتَانَ، بِالْحَلِفِ وَمُحْرِجَاتِ الْأَيْمَانِ، شَأْنَ الْكَاذِبَاتِ، الْحَانِثَاتِ الْجَرِيئَاتِ، يُعَزِّزْنَ بِالْقَسَمِ أَكَاذِيبَهُنَّ، وَيَسْتَجْدِينَ الدُّمُوعَ مِنْ مَآقِيهِنَّ (أَعْيُنِهِنَّ). وَالدَّمْعُ سِلَاحٌ فَاتِكٌ قَهَّارٌ، طَالَمَا خَدَعَ الْأَبْرَارَ، وَغَرَّرَ بِالْأَطْهَارِ! لَوْ نَظَرْتِ فِي الْمِرْآةِ، وَرَأَيْتِ مَا أَرَاهُ؛ لَتَفَزَّعْتِ مِمَّا يَرْتَسِمُ عَلَى سَحْنَتِكِ مِنْ أَلْوَانِ الزُّورِ، وَفُنُونِ الشُّرُورِ، وَمَا يَعْلُوهَا مِنْ غَبَرَةٍ، تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (غُبَارٌ)! هَلُمِّي فَانْظُرِي، إِنْ كُنْتِ تَجْرُئِينَ؟»
(٦) حَيْرَةٌ وَارْتِبَاكٌ
وَهُنَا اشْتَدَّتْ حَيْرَةُ الْمَلِكِ؛ فَصَاحَ بِنَا قَائِلًا: «كُفَّا عَنِ الْمُلَاحَاةِ وَالْمُهَاتَرَةِ، وَأَقْلِعَا عَنِ الْمُمَارَاةِ (النِّزَاعِ وَاللَّجَاجِ) وَالْمُكَابَرَةِ. شَدَّ مَا حَيَّرْتُمَانِي فِي أَمْرِي. فَمَا أَدْرِي: كَيْفَ أُصْدِرُ عَلَيْكُمَا حُكْمِي. أَنْتِ «عَجِيبَةُ»، وَهَذِهِ «عَجِيبَةُ». فَأَيَّتُكُمَا الْمُخْلِصَةُ الصَّادِقَةُ، وَأَيَّتُكُمَا الْخَادِعَةُ الْمُمَاذِقَةُ؟ أَيَّتُكُمَا الْأَصِيلَةُ وَأَيَّتُكُمَا الدَّخِيلَةُ؟ أَيَّتُكُمَا «عَجِيبَةُ» وَأَيَّتُكُمَا الْأَجْنَبِيَّةُ الْغَرِيبَةُ؟ كِلْتَاكُمَا صُورَةٌ لِصَاحِبَتِهَا وَمِثَالٌ. لَا فَرْقَ بَيْنَكُمَا عَلَى أَيِّ حَالٍ، فِي تَفْصِيلٍ وَلَا إِجْمَالٍ: صَوْتَاكُمَا كَالْجَرْسِ وَصَدَاهُ، وَصُورَتَاكُمَا كَالْأَصْلِ وَخَيَالِهِ فِي الْمِرْآةِ.
لَا جَرَمَ (لَا شَكَّ) أَنَّ إِحْدَاكُمَا زَوْجَتِي، وَالْأُخْرَى عَدُوَّتِي.
إِحْدَاكُمَا «عَجِيبَةُ»، وَالْأُخْرَى غَرِيبَةٌ، مُضَلِّلَةٌ مُرِيبَةٌ! أَنْتُمَا عَجِيبَتَانِ. أَنْتُمَا صِنْوَانِ. أَنْتُمَا شَبِيهَانِ. أَنْتُمَا لِيمَانِ، لَا تَخْتَلِفُ صُورَتَاكُمَا وَلَا تَفْتَرِقَانِ.
ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ مُتَحَيِّرًا وَقَالَ: «أَنْتِ لِيمُهَا (شَبِيهَتُهَا فِي قَدِّهَا وَشَكْلِهَا وَخَلْقِهَا)؛ فَكَيْفَ أُفَرِّقُ بَيْنَكِ وَبَيْنَهَا؟ إِنَّ أَخْشَى مَا أَخْشَاهُ، وَأُحَاذِرُهُ وَأَتَوَقَّاهُ، أَنْ أُخْطِئَ فِي الْحُكْمِ؛ فَأسْتَبْقِيَ الْخَادِعَةَ الْمُسِيئَةَ، وَأُعَاقِبَ الْمُحْسِنَةَ الْبَرِيئَةَ.»
وَهَكَذَا عَجَزَ الْمَلِكُ عَنِ التَّفْرِيقِ بَيْنِي وَبَيْنَ السَّاحِرَةِ. فَنَادَى كَبِيرَ الْخَدَمِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْتَبْقِيَنِي وَإِيَّاهَا فِي حُجْرَتَيْنِ مُنْفَصِلَتَيْنِ إِلَى الْيَوْمِ التَّالِي؛ لِيَنْظُرَ فِي حَالِهَا وَحَالِي.
(٧) حُكْمُ الْعُدُولِ
فَلَمَّا طَلَعَ الصُّبْحُ، أَمَرَ الْمَلِكُ بِاسْتِدْعَاءِ الْوَزِيرِ «عَلِيٍّ» وَزَوْجَتِهِ، وَرَوَى لَهُمَا تَفْصِيلَ هَذِهِ الْقِصَّةِ الْمُحَيِّرَةِ؛ فَالْتَمَسَا مِنْهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُمَا بِرُؤْيَتِنَا.
وَلَمْ يَكُنْ يُخَامِرُنِي شَكٌّ فِي قُدْرَتِهِمَا عَلَى الِاهْتِدَاءِ إِلَى حَقِيقَتِي، وَالتَّمْيِيزِ بَينِي وَبَيْنَ عَدُوَّتِي. وَلَكِنْ سُرْعَانَ مَا خَابَ ظَنِّي حِينَ رَأَيْتُهُمَا حَائِرَيْنِ مَشْدُوهَيْنِ، بَعْدَ أَنْ أَعْجَزَهُمَا تَطَابُقُ الشَّبَهِ، كَمَا أَعْجَزَ الْمَلِكَ مِنْ قَبْلِهِمَا.
وَأَطَالَتِ الْمُرْضِعَةُ تَفْكِيرَهَا، ثُمَّ قَالَتْ: «إِنَّ لِـ«عَجِيبَةَ» — مُنْذُ وُلِدَتْ — عَلَامَتَيْنِ تُفْرِدَانِهَا عَنْ أَتْرَابِهَا وَتُمَيِّزَانِهَا. فَعَلَى خَدِّهَا خَالٌ (عَلَامَةٌ سَوْدَاءُ بَارِزَةٌ)، وَعَلَى رُكْبَتِهَا شَامَةٌ (وَهِيَ نُقْطَةٌ سَوْدَاءُ صَغِيرَةٌ عَلَى سَطْحِ الْجِلْدِ).»
وَلَا تَسَلْ عَنْ دَهْشَةِ الْمُرْضِعَةِ حِينَ رَأَتِ الْعَلَامَتَيْنِ كَمَا عَهِدَتْهُمَا فِي جِسْمِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَّا: مِنْ خَدَّيْنَا وَرُكْبَتَيْنَا. فَلَمْ يَدِبَّ الْيَأْسُ إِلَى قَلْبِهَا وَقَلْبِ زَوْجِهَا؛ فَانْفَرَدَا بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَّا يَسْأَلَانِهَا عَنْ دَقَائِقَ لَا يَعْرِفُهَا أَحَدٌ مِنَ الْغُرَبَاءِ؛ فَلَمْ تَعْجِزْ إِحْدَانَا عَنِ الْإِجَابَةِ عَمَّا يَسْأَلَانِ فِي غَيْرِ تَرَدُّدٍ وَلَا نِسْيَانٍ. وَلَمَّا رَأَيَا إِحْكَامَ الشَّبَهِ بَيْنِي وَبَيْنَهَا. تَمَلَّكَتْهُمَا الْحَيْرَةُ فِي أَمْرِي وَأَمْرِهَا. عَلَى أَنَّ مُرَبِّيَتِي قَدِ اسْتَطَاعَتْ وَحْدَها أَنْ تُرَجِّحَ — مِنْ دِقَّةِ مَا فَصَّلْتُهُ لَهَا — أَنَّنِي «عَجِيبَةُ»، وَأَنَّ الْأُخْرَى دَعِيَّةٌ غَرِيبَةٌ. وَلَكِنَّ الْمَلِكَ لَمْ يَكْتَفِ بِرَأْيِهَا؛ فَاسْتَدْعَى جَمِيعَ خَاصَّتِهِ وَحَاشِيَتِهِ لِيُبَرِّئَ ضَمِيرَهُ. فَاجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ لِسُوءِ بَخْتِي، عَلَى الْعَكْسِ مِمَّا قَرَّرَتْهُ مُرْضِعَتِي. وَانْتَهَى حُكْمُهُمْ إِلَى أَنَّ السَّيِّدَةَ الَّتِي كَانَتْ رَاقِدَةً فِي سَرِيرِ الْمَلْكِ هِيَ وَحْدَهَا الصَّادِقَةُ، وَالْأُخْرَى خَادِعَةٌ مُمَاذِقَةٌ.
ثُمَّ قَرَّ قَرَارُهُمْ عَلَى أَنْ يَلْتَمِسُوا مِنَ الْمَلِكِ أَنْ يَأْمُرَ بِإِحْرَاقِي؛ لِأَكُونَ عِبْرَةً لِكُلِّ مَنْ تُسَوِّلُ لَهُ نَفْسُهُ مِثْلَ هَذَا الْخِدَاعِ مَرَّةً أُخْرَى.
(٨) طَرْدُ «عَجِيبَةَ»
وَلَكِنَّ قَلْبَ الْمَلِكِ الرَّحِيمِ لَمْ يُطَاوِعْهُ. فَقَدْ خَشِيَ أَنْ يُخْطِئَ فِي حُكْمِهِ، فَتَسُوءَ الْعُقْبَى، وَيَنْتَهِيَ قَضَاؤُهُ بِإِحْرَاقِ زَوْجَتِهِ وَاسْتِبْقَاءِ السَّاحِرَةِ عِنْدَهُ. فَقَصَرَ الْعِقَابَ عَلَى إِبْعَادِي عَنْ قَصْرِهِ.
فَانْتَزَعَ كَبِيرُ الْخَدَمِ ثِيَابِي الْغَالِيَةَ، وَأَلْبَسَنِي هَذِهِ الْأَسْمَالَ الْبَالِيَةَ. ثُمَّ قَذَفَ بِي إِلَى خَارِجِ الْعُمْرَانِ، فَوَاصَلْتُ السَّيْرَ حَتَّى بَلَغْتُ هَذَا الْمَكَانَ. وَلَوْلَاكَ — يَا سَيِّدِي — لَفَتَكَ بِيَ الْأَسَدُ، وَخَتَمَ حَيَاتِي إِلَى الْأَبَدِ!»
وَلَمَّا انْتَهَتْ «عَجِيبَةُ» مِنْ قِصَّتِهَا، الْتَفَتَتْ إِلَى مُنْقِذِ حَيَاتِهَا، وَقَالَتْ لَهُ فِي ضَرَاعَةٍ وَخُشُوعٍ، وَعَيْنَاهَا تَغُصَّانِ بِالدُّمُوعِ: «هَذِهِ قِصَّةُ «عَجِيبَةَ» التَّاعِسَةِ، الْمَطْرُودَةِ الْبَائِسَةِ، الَّتِي أَوْهَمَكَ اضْطِرَابُهَا فِي كَلَامِهَا، وَتَخَبُّطُهَا فِي أَقْوَالِهَا، أَنَّهَا مَذْهُولَةٌ، أَوْ مَسْلُوبَةُ الْعَقْلِ مَخْبُولَةٌ. فَهَلْ عَذَرْتَنِي الْآنَ، وَعَرَفْتَ مَا عَنَيْتُ، حِينَ قُلْتُ لَكَ: إِنَّنِي مَلِكَةٌ وَلَسْتُ مَلِكَةً، وَإِنَّنِي زَوْجَةُ مَلِكٍ وَلَسْتُ زَوْجَةَ مَلِكٍ؟»
كَانَ الْمَلِكُ «غَالِبٌ» يُنْصِتُ إِلَى «عَجِيبَةَ» فِي دَهْشَةٍ بَالِغَةٍ وَحُزْنٍ شَدِيدٍ. وَقَدْ تَبَيَّنَ صِدْقَهَا وَسَلَامَةَ عَقْلِهَا؛ فَعَقَدَ عَزْمَهُ عَلَى مُنَاصَرَتِهَا، وَتَفْرِيجِ كُرْبَتِهَا. وَأَقْبَلَ عَلَيْهَا يُصَبِّرُهَا، وَيَضْرِبُ لَهَا الْأَمْثَالَ لِيُهَوِّنَ عَلَيْهَا خَطْبَهَا. ثُمَّ خَتَمَ حَدِيثَهُ قَائِلًا: «لَقَدْ تَلَاحَقَتْ مَصَائِبُكِ، وَعَظُمَتْ مَتَاعِبُكِ. وَقَدْ أَقْنَعَتْنَا التَّجَارِبُ أَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، وَأَنَّ الْبُؤْسَ إِذَا تَنَاهَى، وَبَلَغَتِ الشِّدَّةُ مُنْتَهَاهَا؛ كَانَ ذَلِكَ إِيذَانًا بِالْفَرَجِ، وَزَوَالِ الْحَرَجِ. وَلَا ثَبَاتَ عَلَى حَالٍ، وَكُلُّ أَمْرٍ مَآلُهُ إِلَى زَوَالٍ سِيَّانِ فِي ذَلِكِ بُؤْسٌ وَنَعِيمٌ، وَرَاحَةٌ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ. وَقَدِيمًا قَالُوا: إِنَّ الْبَدْرَ إِذَا تَمَّ بَدَأَ نُقْصَانُهُ، وَإِذَا تَمَّ نَقْصُهُ بَدَأَ رُجْحَانُهُ؛ وَالظُّلْمَةُ الْقَاتِمَةُ يَمْحُوهَا الضِّيَاءُ، وَالْيَأْسُ يَتْبَعُهُ الرَّجَاءُ، وَالشِّدَّةُ يَعْقُبُهَا الرَّخَاءُ: سُنَّةُ اللهِ فِي خَلْقِهِ. هَكَذَا رَتَّبَتِ الْأَقْدَارُ حَيَاةَ النَّاسِ، عَلَى اخْتِلَافِ الْأَزْمَانِ وَالْأَجْنَاسِ. وَلَا رَيْبَ فِي أَنَّ شِقْوَتَكِ الَّتِي بَلَغَتْ مَدَاهَا قَدْ آذَنَتْ بِالْفَرَجِ …»
(٩) الْهَارِبُ وَالطَّالِبُ
وَمَا إِنْ أَتَمَّ قَوْلَتَهُ حَتَّى رَأَى فَارِسًا مُقْبِلًا عَلَيْهِمَا وَهُوَ نِصْفُ عَارٍ، أَوْ نِصْفُ مَكْسُوٍّ، وَقَدْ أَطْلَقَ لِجَوَادِهِ الْعِنَانَ، فَلَمَّا دَانَاهُمَا صَاحَتْ «عَجِيبَةُ» لِفَرْطِ دَهْشَتِهَا قَائِلَةً: «رَبَّاهُ! إِنَّهُ زَوْجِي. إِنَّهُ الْمَلِكُ بِسْطَامٌ!» وَظَلَّتْ تُنَادِيهِ فَلَا يُجِيبُهَا بِحَرْفٍ، وَلَا يُومِئُ إِلَيْهَا بِطَرْفٍ (لَا يُشِيرُ إِلَيْهَا بِعَيْنٍ). وَشَغَلَهُ الْخَوْفُ، فَرَاحَ يَسْتَحِثُّ جَوَادَهُ مُلْتَفِتًا إِلَى الْوَرَاءِ، كَأَنَّمَا يُطَارِدُهُ عَدُوٌّ. وَمَا كَادَ يَبْلُغُ مَرْمَى الْأَبْصَارِ، حَتَّى فُوجِئَتْ «عَجِيبَةُ» وَ«غَالِبٌ» بِرُؤْيَةِ فَارِسٍ آخَرَ بَادِيَ الْفُتُوَّةِ، مُلْتَهِبِ الْحَمَاسَةِ شَدِيدِ الْقُوَّةِ، يَحْتَثُّ جَوَادَهُ — فِي عُنْفٍ وَقَسْوَةٍ — لِيُدْرِكَ عَدُوَّهُ. وَكَانَ الْفَارِسُ الثَّانِي فِي حُلَّةٍ فَخْمَةٍ، وَفِي يَدِهِ سَيْفٌ مُصْلَتٌ (مُجَرَّدٌ مِنْ غِمْدِهِ) يَقْطُرُ دَمًا. وَكَانَ مِنْ أَعْجَبِ مَا رَأَيَاهُ، أَنَّ كِلَا الْفَارِسَيْنِ: الْهَارِبِ وَالطَّالِبِ، عَلَى شَبَهٍ تَامٍّ بِصَاحِبِهِ، لَا يَفْتَرِقُ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ فِي شَيْءٍ غَيْرِ الثِّيَابِ. فَصَرَخَتْ «عَجِيبَةُ» مَدْهُوشَةً: «رُحْمَاكَ يَا رَبِّي: مَاذَا أَرَى؟ لَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا زَوْجِي.»
(١٠) الْفَارِسُ الثَّالِثُ
وَمَرَّ «بِسْطَامٌ» فِي مِثْلِ انْطِلَاقِ السَّهْمِ. وَقَدْ شَغَلَتْهُ مُتَابَعَةُ غَرِيمِهِ عَنْ رُؤْيَةِ أَحَدٍ. وَاسْتَوْلَى الْعَجَبُ عَلَى الْمَلِكِ «غَالِبٍ» لِغَرَابَةِ الْمُفَاجَأَةِ؛ فَالْتَفَتَ إِلَى «عَجِيبَةَ» مُسَائِلًا: «أَلَيْسَ مَا نَرَاهُ الْآنَ أَعْجَبَ مِمَّا قَصَصْتِهِ عَلَيَّ وَأَغْرَبَ؟» فَأَجَابَتْهُ «عَجِيبَةُ»: «يَا لَهُ مِنْ لُغْزٍ غَامِضٍ! لَعَلَّكَ تَبَيَّنْتَ صِدْقَ مَا حَدَّثْتُكَ بِهِ.» وَبَيْنَا هُمَا غَارِقَانِ فِي دَهْشَتِهِمَا، مَأْخُوذَانِ بِمَا مَرَّ بِهِمَا فِي يَوْمِهِمَا، إِذْ بَدَا لِأَعْيُنِهِمَا فَارِسٌ ثَالِثٌ يَحْتَثُّ جَوَادَهُ مُسْرِعًا؛ حَتَّى إِذَا قَارَبَهُمَا حَانَتْ مِنْهُ الْتِفَاتَةٌ، فَثَنَى عِنَانَ فَرَسِهِ إِلَيْهِمَا، وَتَرَجَّلَ فَحَيَّاهُمَا، وَهُوَ يَعْجَبُ لِلْمُصَادَفَةِ الَّتِي جَمَعَتْهُ بِهِمَا.
وَأَسْرَعَ إِلَى «عَجِيبَةَ» يَقُولُ: «حَمْدًا لِلهِ الَّذِي حَفِظَ لَنَا حَيَاتَكِ الثَّمِينَةَ، وَنَجَّاكِ — يَا مَوْلَاتِي — مِنْ كَيْدِ الْغَادِرَةِ اللَّعِينَةِ. لَقَدْ شَاءَ اللهُ أَنْ يَنْصُرَ الْحَقَّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيُبَدِّدَهُ كَمَا يُبَدِّدُ النُّورُ الظَّلَامَ. لَقَدْ هَلَكَتِ السَّاحِرَةُ مُنْذُ لَحَظَاتٍ، وَمَا زَالَ سَيْفُ مَلِيكِنَا يَقْطُرُ بِدِمَائِهَا الدَّنِسَةِ. وَلَنْ يَلْبَثَ أَنْ يُلْحِقَ بِهَا شَرِيكَهَا الَّذَي تَمَثَّلَ فِي صُورَتِهِ، كَمَا تَمَثَّلَتْ صَاحِبَتُهُ فِي صُورَتِكِ. وَلَوْلَا ضِيقُ الْوَقْتِ لَفَصَّلْتُ لَكِ مَا حَدَثَ مُنْذُ فَارَقْتِ قَصْرَكِ إِلَى الْآنَ. أَلَا مَا أَسْعَدَ الْمَلِكَ بِلُقْيَاكِ، وَمَا أَشْوَقَهُ إِلَى رُؤْيَةِ مُحَيَّاكِ! هَلُمِّي يَا مَوْلَاتِي، فَارْكَبِي جَوَادِي لِنَلْحَقَ بِهِ.»
فَقَالَ الْمَلِكُ «غَالِبٌ»: «كَلَّا يَا سَيِّدِي. بَلْ تَبْقَى أَنْتَ إِلَى جِوَارِ مَلِيكَتِكِ، وَأَلْحَقُ أَنَا بِالْمَلِكِ «بِسْطَامٍ»، وَأَعُودُ بِهِ إِلَيْكُمَا هُنَا.»
وَسُرْعَانَ مَا قَفَزَ «غَالِبٌ» إِلَى جَوَادِهِ «الْبَرْقِ» فَاعْتَلَاهُ، وَانْطَلَقَ يَجِدُّ فِي اللِّحَاقِ بِأَثَرِ الْمَلِكِ «بِسْطَامٍ»، دُونَ أَنْ يُصْغِيَ إِلَى شُكْرِ «عَجِيبَةَ».
وَسَأَلَ الْوَزِيرُ مَلِيكَتَهُ عَنْ هَذَا الْفَتَى الْمُتَحَمِّسِ لِنُصْرَتِهَا؛ فَأَخْبَرَتْهُ بِقِصَّتِهِ، وَكَيْفَ نَجَّاهَا مِنَ الْأَسَدِ.
(١١) حَدِيثُ الْوَزِيرِ
ثُمَّ سَأَلَتِ الْوَزِيرَ أَنْ يُفَصِّلَ لَهَا مِنْ قِصَّةِ السَّاحِرَةِ مَا أَجْمَلَهُ. فَقَالَ: «لَقَدِ اجْتَمَعَتِ الْآرَاءُ — كَمَا عَلِمْتِ — عَلَى تَصْدِيقِ السَّاحِرَةِ، وَاطْمَأَنَّ الْمَلِكُ إِلَى قَرَارِهِمْ. وَمُنْذُ أَيَّامٍ قَلَائِلَ انْتَقَلَ الْمَلِكُ بِهَا إِلَى قَصْرِهِ الرِّيفِيِّ. وَخَرَجْنَا الْيَوْمَ إِلَى الصَّيْدِ. وَمَا كِدْنَا نَبْتَعِدُ قَلِيلًا حَتَّى أَمَرَنِي بِالرُّجُوعِ مَعَهُ إِلَى الْقَصْرِ. وَكَانَ قَدْ نَسِيَ فِي مَخْدَعِ نَوْمِهِ شَيْئًا. وَصَعِدَ الْمَلِكُ إِلَى حُجْرَةِ الْمَلِكَةِ مِنْ سُلَّمٍ خَفِيٍّ. وَسُرْعَانَ مَا فُوجِئْتُ بِرَجُلٍ يُشْبِهُهُ أَتَمَّ الشَّبَهِ يَخْرُجُ مِنَ الْقَصْرِ مُسْرِعًا بِلَا عِمَامَةٍ، جِسْمُهُ نِصْفُ عَارٍ، لَا يَسْتُرُهُ إِلَّا لِبْسَةُ الْمُتَفَضِّلِ (ثَوْبٌ وَاحِدٌ). فَصِحْتُ بِهِ أُنَادِيهِ وَأَنَا أَحْسَبُهُ الْمَلِكَ؛ فَلَمْ يَحْفَلْ بِنِدَائِي، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيَّ؛ بَلْ أَسْرَعَ إِلَى جَوَادِهِ خَائِفًا مُنْزَعِجًا يَسْتَحِثُّهُ عَلَى الْفِرَارِ. وَسَاوَرَنِي الْقَلَقُ عَلَى مَلِيكِي، وَخَشِيتُ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَلَمَّ بِهِ مَكْرُوهٌ، فَأَسْرَعْتُ إِلَى نَجْدَتِهِ. وَمَا كِدْتُ أَسْتَقِرُّ عَلَى ظَهْرِ جَوَادِي حَتَّى سَمِعْتُ الْمَلِكَ يُنَادِينِي: «قِفْ، يَا عَلِيُّ!» وَتَلَفَّتُّ فَرَأَيْتُهُ خَارِجًا مِنَ الْقَصْرِ وَسَيْفُهُ مُصْلَتٌ فِي يَدِهِ، وَعَيْنَاهُ تَكَادَانِ تَرْمِيَانِ بِالشَّرَرِ، وَهُوَ يَقُولُ: «شَدَّ مَا خَذَلَنَا التَّوْفِيقُ! طَرَدْنَا الْمَلِكَةَ «عَجِيبَةَ»، وَأَبْقَيْنَا السَّاحِرَةَ الْمُرِيبَةَ. وَا أَسَفَاهُ! لَقَدْ ظَهَرَتِ الْحَقِيقَةُ بَعْدَ فَوَاتِ الْأَوَانِ. الْآنَ قَتَلْتُ السَّاحِرَةَ، وَلَا بُدَّ مِنْ قَتْلِ شَرِيكِهَا الَّذِي تَمَثَّلَ فِي صُورَتِي.»
وَسُرْعَانَ مَا خَفَّ الْمَلِكُ إِلَى جَوَادِي وَانْطَلَقَ فِي أَثَرِ غَرِيمِهِ.
(١٢) الْخَاتَمُ الْمَسْحُورُ
كَانَتِ الْمَلِكَةُ «عَجِيبَةُ» تُرْهِفُ أُذُنَيْهَا لِسَمَاعِ مَا يَرْوِيهِ الْوَزِيرُ حِينَمَا كَانَ الْمَلِكُ «بِسْطَامٌ» يَسْتَحِثُّ جَوَادَهُ لِلِّحَاقِ بِعَدُوِّهِ. وَمَا إِنْ أَدْرَكَهُ حَتَّى انْدَفَعَ إِلَيْهِ لِيَقْتُلَهُ. فَقَذَفَ الْجَبَانُ بِنَفْسِهِ إِلَى الْأَرْضِ خَوْفًا مِنَ الْهَلَاكِ. وَتَرَجَّلَ الْمَلِكُ لِيُزْهِقَ رُوحَهُ؛ فَلَمَحَ فِي إِصْبَعِهِ مِثْلَ خَاتَمِ الشَّقِيَّةِ الَّتِي خَضَبَ سَيْفَهُ بِدَمِهَا؛ فَبَدَا عَلَيْهِ التَّرَدُّدُ. وَرَأَى أَنْ يَسْتَوْضِحَ مِنَ الشَّقِيِّ قِصَّتَهُ، قَبْلَ أَنْ يَعْلُوَهُ بِسَيْفِهِ. وَأَدْرَكَ الشَّقِيُّ مَا يَجُولُ بِخَاطِرِ الْمَلِكِ مِنْ رَغْبَةٍ فِي الِاسْتِطْلَاعِ؛ فَارْتَمَى عَلَى قَدَمِيْهِ مُتَوَسِّلًا إِلَيْهِ أَنْ يَسْتَبْقِيَ حَيَاتَهُ، لِيَسْتَمِعَ إِلَى قِصَّتِهِ، وَيَعْلَمَ مِنْ غَامِضِهَا مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ، وَيَتَعَرَّفَ مِنْ أَحْدَاثِهَا مَا دَقَّ عَنْ فَهْمِهِ وَاسْتَبْهَمَ. فَاشْتَدَّ شَوْقُ الْمَلِكِ إِلَى تَعَرُّفِ جَلِيَّةَ الْقِصَّةِ. فَقَالَ لِلشَّقِيِّ: «لَنْ أُعْفِيَكَ مِنَ الْمَوْتِ إِلَّا إِذَا صَدَقْتَنِيَ الْحَدِيثَ، وَفَسَّرْتَ لِي هَذِهِ الْأَحَاجِيَّ وَالْمُعَمَّيَاتِ.
وَسَيَكُونُ الْهَلَاكُ نَصِيبَكَ إِذَا كَذَبْتَ، أَوْ غَيَّرْتَ الْحَقِيقَةَ وَبَدَّلْتَ.»