الْفَصْلُ السَّادِسُ

(١) عِقَابُ الْأَثِيمِ

كَانَ الْمَلِكُ «بِسْطَامٌ» يَكَادُ يَتَمَيَّزُ (يَتَقَطَّعُ) مِنَ الْغَيْظِ، وَهُوَ يُنْصِتُ لِسَمَاعِ مَا ارْتَكَبَهُ الشَّقِيُّ مِنْ شُنَعٍ. فَلَمَّا انْتَهَى مِنْ قِصَّتِهِ قَالَ لَهُ: «مَا أَجْدَرَكَ أَنْ تَلْحَقَ بِزَوْجَتِكَ لِتَطْهُرَ الْأَرْضُ مِنْ جَرَائِرِكَ وَآثَامِكَ، وَيَخْلُصَ الْعَالَمُ مِنْ شَرِّكَ وَإِجْرَامِكَ. وَلَوْ لَمْ يَسْبِقْ مِنِّي وَعْدٌ لَكَ بِالْإِبْقَاءِ عَلَى حَيَاتِكَ لَمَثَّلْتُ بِكَ وَقَطَّعْتُ جِسْمَكَ إِرْبًا إِرْبًا. عَلَى أَنَّنِي لَنْ أُعْفِيَكَ مِنَ الْعِقَابِ عَلَى أَيِّ حَالٍ، وَسَأَكْتَفِي بِقَطْعِ لِسَانِكَ لِأُرِيحَ الْعَالَمَ مِنْكَ، فَمَا أَجْدَرَ مِثْلَكَ بِأَنْ يَقْضِيَ شَيْخُوخَتَهُ فِي هَمٍّ وَبَلَاءٍ، وَعَذَابٍ وَشَقَاءٍ.»

وَاسْتَوْلَى الْمَلِكُ عَلَى خَاتَمَهِ الْمَسْحُورِ، ثُمَّ تَرَك الشَّقِيَّ — بَعْدَ أَنْ قَطَعَ لِسَانَهُ — يَتَلَوَّى مِنَ الْأَلَمِ، وَتَكَادُ تَقْتُلُهُ الْحَسْرَةُ وَالنَّدَمُ.

وَهُنَا أَقْبَلَ عَلَيْهِ الْمَلِكُ «غَالِبٌ» يَحْمِلُ إِلَيْهِ أَنْبَاءَ الْمَلِكَةِ «عَجِيبَةَ»، فَلَمْ يَتَمَالَكْ أَنْ يَصِيحَ — مِنْ فَرْطِ الدَّهْشَةِ — قَائِلًا: «أَوَاثِقٌ أَنْتَ مِمَّا تَقُولُ؟ أَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الْمَلِكَةُ «عَجِيبَةُ» بَاقِيَةً عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ، بَعْدَ مَا حَلَّ بِهَا مِنْ فَظَائِعَ وَكَوَارِثَ؟» ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى الْمَلِكِ «غَالِبٍ» وَقَالَ: «بِرَبِّكَ خَبِّرْنِي قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ: مَنْ تَكُونُ أَنْتَ يَا مَنْ يَحْمِلُ إِلَيَّ أَسْعَدَ الْأَنْبَاءِ وَأَبْهَجَ الْبُشْرَيَاتِ؟ وَأَيَّ مُكَافَأَةٍ تَتَمَنَّى لِأُحَقِّقَهَا لَكَ؟» فَأَجَابَهُ قَائِلًا: «لَسْتُ إِلَّا ضَيْفًا حَلَّ بِبِلَادِكَ، وَأَسْعَدَهُ الْحَظُّ بِلِقَائِكَ، وَسَاقَتْهُ الْمُصَادَفَاتُ إِلَى لِقَاءِ الْمَلِكَةِ «عَجِيبَةَ»؛ فَأَفْضَتْ إِلَيْهِ بِقِصَّتِهَا، وَأَخْبَرَهُ وَزِيرُكَ بِبَقِيَّتِهَا.»

فَلَمْ يُطِقِ الْمَلِكُ «بِسْطَامٌ» صَبْرًا عَلَى الْبَقَاءِ.

(٢) فَرْحَةُ اللِّقَاءِ

وَلَا تَسَلْ عَنْ فَرْحَةِ الْمَلِكَيْنِ بِاللِّقَاءِ. وَقَدْ حَاْوَلَ «بِسْطَامٌ» أَنْ يَعْتَذِرَ لِـ«عَجِيبَةَ» عَمَّا أَسْلَفَهُ إِلَيْهَا مِنْ إِسَاءَةٍ غَيْرِ مُتَعَمَّدَةٍ. فَقَاطَعَتْهُ قَائِلَةً: «لَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى ذِكْرِ الْمَاضِي؛ فَإِنَّ السِّحْرَ هُوَ الْمَسْئُولُ وَحْدَهُ عَنْ كُلِّ مَا أَلَمَّ بِنَا مِنْ مَصَائِبَ وَمِحَنٍ.» فَقَالَ «بِسْطَامٌ»: «هَيْهَاتَ أَنْ أَغْفِرَ لِنَفْسِيَ مَا وَقَعْتُ فِيهِ مِنْ تَسَرُّعٍ وَغَفْلَةٍ. مَا كَانَ أَجْدَرَنِي أَنْ أَسْتَلْهِمَ قَلْبِي لِتَعَرُّفِ حَقِيقَتِكِ. وَا حَسْرَتَاهُ! لَقَدِ اسْتَسْلَمْتُ لِمَا حَكَمَتْ بِهِ عَيْنَايَ، فَاخْتَلَطَ عَلَيَّ الْمَظْهَرُ. وَلَوْ حَكَّمْتُ قَلْبِي لَكَانَ أَصْدَقَ فِي الْحُكْمِ وَأَخْبَرَ؛ فَقَلَّمَا يُخْطِئُ الْقَلْبُ، وَمَا أَكْثَرَ أَنْ تُخْطِئُ الْعَيْنَانِ.» وَطَالَ حِوَارُهُمَا بَعْدَ أَنْ غَمَرَتْهُمَا السَّعَادَةُ بِلِقَائِهِمَا، فَلَمْ يُقَصِّرَا فِي الشُّكْرِ لِلهِ عَلَى خَفِيِّ أَلْطَافِهِ وَعَظِيمِ آلَائِهِ، وَسَابِغِ أَفْضَالِهِ وَنَعْمَائِهِ. ثُمَّ أَقْبَلَتْ «عَجِيبَةُ» عَلَى «بِسْطَامٍ» تَسْأَلُهُ: «كَيْفَ عَرَفْتَ تِلْكَ الشَّيْطَانَةَ؟» فَقَالَ: «كَانَ مِنْ غَرَائِبِ الِاتِّفَاقِ أَنْ صَعِدْتُ إِلَى الْقَصْرِ مِنْ سُلَّمٍ خَفِيٍّ يُوصِلُ إِلَى حُجْرَةِ الْمَلِكَةِ. فَلَمَّا فَتَحْتُ الْبَابَ فُوجِئْتُ بِرُؤْيَةِ رَجُلٍ يُشْبِهُنِي — كَمَا أَشْبَهَتْكِ الشَّيْطَانَةُ — أَتَمَّ الشَّبَهِ. رَأَيْتُهُ يَهُمُّ بِارْتِدَاءِ بَعْضِ مَا أَرْتَدِيهِ مِنْ حُلَلٍ، وَسَمِعْتُ الشَّيْطَانَةَ تُشَجِّعُهُ عَلَى ذَلِكِ؛ فَتَمَلَّكَنِيَ الْغَضَبُ وَعَزَمْتُ عَلَى قَتْلِهِمَا. وَمَا إِنْ رَآنِيَ الشَّقِيُّ حَتَّى أَسْرَعَ إِلَى الْهَرَبِ، وَنَجَا بِأُعْجُوبَةٍ. وَبَسَطَتِ الْخَبِيثَةُ ذِرَاعَيْهَا إِلَيَّ تَلْتَمِسُ مِنِّي الْعَفْوَ وَالرَّحْمَةَ، فَقَطَعَ السَّيْفُ يَدَهَا، وَكَانَ بِهَا الْخَاتَمُ الْمَسْحُورُ. فَلَمَّا هَوَتْ كَفُّهَا إِلَى الْأَرْضِ اسْتَخْفَى وَجْهُهَا الزَّائِفُ، وَتَبَدَّتْ عَلَى حَقِيقَتِهَا عَجُوزًا حَيْزَبُونًا قَبِيحَةَ الْوَجْهِ دَمِيمَةَ السَّحْنَةِ. فَاشْتَدَّ عَجَبِي مِمَّا رَأَيْتُ. فَقَالَتْ لِي ضَارِعَةً مُتَحَسِّرَةً: «لَا تَعْجَبْ مِمَّا تَرَى، فَقَدْ قَطَعْتَ يَدِي وَفِيهَا الْخَاتَمُ الْمَسْحُورُ الَّذِي أَكْسَبَنِي الْقُدْرَةَ عَلَى التَّحَوُّلِ إِلَى صُورَةِ الْمَلِكَةِ «عَجِيبَةَ». وَسَتَرَى فِي يَمِينِ زَوْجِي الْهَارِبِ خَاتَمًا مِثْلَهُ، أَتَاحَ لَهُ أَنْ يَتَمَثَّلَ فِي صُورَتِكَ.» وَارْتَمَتِ الْخَادِعَةُ عَلَى قَدَمَيَّ ضَارِعَةً مُسْتَغْفِرَةً، تَتَوَسَّلُ إِلَيَّ أَنْ أُبْقِيَ عَلَى حَيَاتِهَا. فَقُلْتُ لَهَا حَانِقًا: «لَا تُعَلِّلِي نَفْسَكِ بِالْمُحَالِ، وَكَاذِبِ الْآمَالِ، فَقَدْ ضَاقَتْ جَرِيمَتُكِ الشَّنْعَاءُ عَنِ الْعَفْوِ. وَلَوِ اقْتَصَرَتْ إِسَاءَتُكِ عَلَيَّ وَحْدِي لَهَانَ الْأَمْرُ، وَلَكَانَ لِلرَّحْمَةِ مَجَالٌ. وَلَكِنَّكِ دَمَّرْتِ حَيَاةَ سَيِّدَةٍ بَرِيئَةٍ آمِنَةٍ، فَبَدَّلْتِ نَعِيمَهَا جَحِيمًا، وَحَوَّلْتِ سَعَادَتَهَا عَذَابًا أَلِيمًا، وَانْتَهَى كَيْدُكِ بِطَرْدِهَا ذَلِيلَةً مَهِينَةً. وَهَيْهَاتَ أَنْ أَرَاهَا بَعْدَ ذَلِكِ.» وَلَمْ أُضِعِ الْوَقْتَ، فَأَهْوَيْتُ بِسَيْفِي عَلَى عُنُقِ الشِّرِّيرَةِ الْعَجُوزِ، وَانْطَلَقْتُ فِي أَثَرِ زَوْجِهَا.»

ثُمَّ أَفْضَى إِلَى «عَجِيبَةَ» بِمَا سَمِعَهُ مِنْ «مُقْبِلٍ» وَمَا أَلْحَقَهُ بِهِ مِنْ عِقَابٍ.

(٣) خَاتِمَةُ الْقِصَّةِ

وَكَانَ الْجَمِيعُ يُنْصِتُونَ إِلَى حَدِيثِ الْمَلِكِ «بِسْطَامٍ» وَقَدْ عَقَدَتِ الدَّهْشَةُ أَلْسِنَتَهُمْ، وَبَلَغَ الْعَجَبُ مِنْهُمْ كُلَّ مَبْلَغٍ. فَلَمَّا انْتَهَى مِنْ كَلَامِهِ الْتَفَتَ إِلَى الْمَلِكِ «غَالِبٍ» وَقَالَ لَهُ بَاسِمًا: «وَالْآنَ جَاءَ دَوْرُكَ أَيُّهَا السَّيِّدُ النَّبِيلُ، وَآنَ لِي أَنْ أُكَافِئَكَ عَلَى مَا أَسْدَيْتَ إِلَيَّ مِنْ جَمِيلٍ، فَتَمَنَّ عَلَيَّ مَا شِئْتَ مِنْ أُمْنِيَّاتٍ، فَقَدْ كُنْتَ أَوَّلَ مَنْ حَمَلَ إِلَيَّ أَسْعَدَ الْبُشْرَيَاتِ.»

وَسُرْعَانَ مَا أَفْضَتْ «عَجِيبَةُ» إِلَى زَوْجِهَا بِحَقِيقَةِ مَنْ يُحَدِّثُهُ، فَأَسْرَعَ بِالِاعْتِذَارِ إِلَيْهِ مُلْتَمِسًا مِنْهُ الصَّفْحَ عَنْ تَقْصِيرِهِ فِي الْقِيَامِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ مِنْ حَفَاوَةٍ وَإِعْظَامٍ. وَابْتَهَجَ الْمَلِكَانِ، وَذَهَبَ الْجَمِيعُ إِلَى الْقَصْرِ الْمَلَكِيِّ حَيْثُ نَزَلَ الْمَلِكُ «غَالِبٌ» ضَيْفًا عَلَى صَاحِبِهِ «بِسْطَامٍ»، عِدَّةَ أَيَّامٍ فِي إِجْلَالٍ وَإِكْرَامٍ. وَتَوَثَّقَتْ أَوَاصِرُ الْمَوَدَّةِ بَيْنَ الْمَلِكَيْنِ، فَأَصْبَحَا — مُنْذُ ذَلِكَ الْيَوْمِ — أَصْدَقَ جَارَيْنِ، وَأَكْرَمَ أَخَوَيْنِ، وَأَصْفَى خَلِيلَيْنِ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤