أصل العقل وتطوره

المتأمل لمظاهر الكون، بعد أن يتخلص من الغيبيات التي انحدرت إلينا من القرون السحيقة، لا يتمالك الإحساس بوحدته، فالمادة والقوة شيء واحد، أو القوة إحدى ظواهر المادة كما أن المادة إحدى ظواهر القوة، وكذلك الشأن في العقل، فإنه ظاهرة من ظواهر الحياة، والحياة نفسها إحدى ظواهر المادة.

ليس هناك عقل بلا جسم، كما ليس هناك جسم بلا عقل أو بذرة العقل، فإن الخلية الأولى «تعقل» في معنى ما من حيث إن لها رجوعًا واستجابات للوسط الذي تعيش فيه، فهي تصد أو تقبل بما لها من عصب بدائي مندغم في جسمها.

والأساس للعقل في الإنسان والحيوان هو الجهاز العصبي، والهدف الحيوي لهذا الجهاز هو الملائمة بين الجسم الحي وبين الوسط الذي يعيش فيه؛ أي: أنه لم يختلف في وظيفته في الإنسان، عما كان في الخلية الأولى، وكل ما هناك من فرق بين عقل الخلية الأولى وبين العقل في الإنسان أنه في الخلية غير مركز أو متحيز في مكان، أما في الإنسان فهو مركز متحيز في الدماغ والنخاع الشوكي وما يتفرع منها من خيوط عصبية تنتشر في أنحاء الجسم.

ولكن حتى هذا القول ليس دقيقًا في صحته، فإن كل خلية من الجسم البشري «تعقل» مثل الأميبة التي تمثل لنا الخلية الأولى في تاريخ الحياة، فالخلية في المعدة مثلا تقبل على بعض الأطعمة أو تصد عنها بعقل بدائي مثل عقل الأميبة.

وتطور العقل من الجهاز العصبي البدائي في الأميبة إلى الدماغ في الإنسان هو تاريخ طويل احتاج إلى نحو ٧٠٠ مليون سنة، ولكن يجب أن نكرر القول بأن الهدف في الاثنين، الأميبة والإنسان، واحد في الملائمة بين الحي والوسط.

الحياة كامنة في المادة وتنشأ منها، وكذلك العقل كامن في الحياة وينشأ منها، وهذا يتيح لنا القول بأن العقل كامن في المادة، ونحن لا نعرف حياة مطلقة بلا مادة كما لا نعرف عقلًا مطلقًا بلا حياة.

أول ما نعرف في الجهاز العصبي على أدنى صوره هو الانعكاس المباشر؛ أي: الانعكاس غير المكيف، وهو الانعكاس الذي نرثه ولا نحتاج إلى أن نتعلمه، فالضوء القوى إذا سلط على عين الطفل وعمره ساعة أو عين الرجل وعمره خمسون سنة يحمل كليهما على إغماض العين، هذا هو الانعكاس المباشر غير المكيف.

وأعلى الكائنات الحية وأدنى الكائنات الحية تستوي في هذا الانعكاس المباشر؛ إذ هو وراثي مثل مادة الجسم سواء.

وهذا الانعكاس المباشر هو الأصل الأول للعقل المركب في الإنسان.

ومركز العقل هو الدماغ الذي يحتويه الرأس، وموكب التطور في الأحياء يبرز لنا التقدم في العقل بالنمو في الدماغ، وليس لنا بذلك مقر من أن نربط نمو العقل بنمو الدماغ.

ومن الحسن في التعبير أن نميز بين النمو العقلي والنمو العصبي، ونقول «التعبير» فقط؛ لأن النمو العصبي هو عمليًّا نمو عقلي أيضًا، ولكن عندما نقول: إن الأميبة أو الدودة تُبدي كلتاهما نشاطًا عصبيًّا فإننا نفهم ما نقول؛ إذ إن كلًّا منهما تقبل وتصد وفق ما نحبه في الوسط من الحسن أو السيئ لحياتها، ولكن للإنسان والحيوانات العليا «عقلًا» يزيد على ما عند الأميبة والدودة من العصب الخفي أو الظاهر يزيد كمًّا ولكنه لا يزيد كيفًا، إذا اعتبرنا الأصل.

والأصل، عند الأميبة، والدودة، والإنسان؛ هو الملائمة بين الحي وبين وسطه، ووسط الأميبة والدودة بسيط؛ إذ هو الماء أو الطين وكلتاهما تقبل على ما في الماء أو الطين من غذاء وتأكله، وتصد عن الحرارة الشديدة أو الحمض اللاسع، أما وسطنا فمركب؛ إذ هو فضلًا عما يحتويه من طعام لنا نقبل عليه لحلاوته أو نصد عنه لمرارته كما تفعل الأميبة بالضبط، هذا الوسط يحتوي أشياء أخرى اجتماعية أو سياسية أو عائلية احتاجت إلى ملايين السنين قبل أن تنمو أدمغتنا للاشتغال بشئونها.

ليس للخلية الأولى، مثل الأميبة، عين أو أنف أو أذن أو لسان، ولكنها في معنى مصغر تميز بين الضوء والظلمة، وهي تصد عن الأحماض، ونكاد نقول: إنها تتذوق ما تأكل، ثم إن حاسة اللمس موجودة عندها.

ولكن رويدًا رويدا في موكب التطور الصاعد نجد أن حاسة النظر قد تميزت في مكان من الجسم وصارت له عين أو عيون، وأن حاسة السمع قد صارت له أذن، وحاسة الشم قد نشأ لها أنف، ثم صار للذوق لسان.

والإحساس هو أول ما نجد في الدرجات الأولى نحو السلم العالي الذي يصل في قمة التطور إلى الإنسان حيث الدماغ.

الإحساس الذي يحدث لنا الانعكاس المباشر، ثم عن طريق التعليم، يحدث لنا الإحساس المكيف.

والحواس الخمس هي النوافذ التي نطل منها على العالم الخارجي وأهمها للإنسان والحيوان العالي هو حواس المسافات كالسمع والنظر والشم، فالدودة حين تلمس أو تتذوق لا تكاد تحس بالعالم الخارجي؛ لأن حاستي اللمس والتذوق لا تحتاجان إلى مسافة بعيدة أو قريبة.

ولذلك الوعي أو الوجدان لا يمكن أن ينشأ من حاستي اللمس والتذوق، ولكن العين التي تنظر من قمة الشجر إلى نحو كيلو متر أو كيلو مترين، والأذن التي تسمع زئيرًا بعيدًا وتعرف وجهته، والشم الذي ينبه الحيوان عن الفريسة المشتهاة أو العدو المخيف، هذه الحواس الثلاث تجعلنا نطل على الدنيا المحيطة ونحس ونقدر ونقارن ونتذكر.

والشم هو أقل الإحساسات في المسافة، وهو على أشده في الأسماك.

ولكن عندما خرجت الأحياء من الماء إلى اليابسة ظهرت أو بالأحرى كبرت الحاستان الأخريان، النظر والسمع، فجعلت الحيوان يراقب وسطه ويفهمه؛ أي: يحس الوعي أو الوجدان.

والعين بالطبع هي حاسة المسافة التي تكاد تتخصص في ذلك، وأعظم الأحياء نظرًا هو الإنسان، بل أكاد أقول: إنها حاسة الوعي؛ لأنها تبسط أمامنا مساحة كبيرة من العالم الخارجي تحوي لنا الطعام والعدو والأنثى والمهرب، وتعلمنا كيف نميز بين الأسد والغزال وتبعث استطلاعنا للوقوف على الأشياء والأحياء.

قلنا: إن أعظم الأحياء نظرًا هو الإنسان، ولكن ليس معنى هذا أنه أبعد الأحياء نظرًا، وإنما هو أدق وأحكم وأصح نظرًا، وذلك لأنه ينظر بعينين وليس بعين واحدة، فإن عينيه في وجهه وليستا في صدغيه كما هو الشأن في الحيوان حتى العليا منها باستثناء أبناء عمومتنا القردة ونعني القردة العليا الأربعة.

والرؤية بعينين اثنتين هي رؤية مجسمة، أما الرؤية بعين واحدة مثل الطيور فهي رؤية سطحية غير محكمة، ولذلك تنقل إلينا عيوننا العالم الخارجي نقلًا صحيحًا أو كالصحيح وتكبر مسافات الرؤية، ولذلك نحن نقارن بين ما نرى من الأشياء والأحياء على مسافة بعيدة محيطة فينشأ الوعي والتفكير.

الإحساس الذي ينشأ من الحواس الثلاث، حواس المسافات، يجعلنا نجمع إحساسات الشم والسمع والنظر، وهذا الجمع يحملنا على المقارنة والتقليب والتردد ومعاودة الفحص، فيكون الوعي أو يكون التفكير.

التفكير الأول عند الإنسان البدائي هو ربط المعاني الناشئة من الشم والسمع والنظر، وقيمة الشم في إيجاد الوعي ضعيفة ولكن قيمة النظر كبيرة، ونحن البشر حيوانات النظر، ولذلك نقول: «أرى أن هذا الموضوع»؛ أي: أعقل، ونقول: «ما رأيك» مات عقلك؟ ونقول: «تبصر في هذا الموضوع»؛ أي: تعقل، والروية مشتقة من الرؤية وهي التعقل في أناة.

والذوق واللمس «بل الشم أيضًا إلى حد كبير» كلها تجعلني ذاتيًّا في نظرتي للبيئة التي أعيش فيها، وعندئذ لا يطابق حكمي أو رأيي ماهية الأشياء، ولكن نظري الذي يمتد حولي مسافة كيلو متر مثلًا يجعلني أقارن، وعندئذ يكون حكمي أو رأيي موضوعيًّا يكاد يطابق حقيقة الأشياء.

•••

إحساس النظر وإحساس الشم وإحساس السمع، حين تتجمع هذه الإحساسات في دماغي أحس إدراكًا؛ أي: معرفة، ولكن ليست الإحساسات انطباعات فقط في مادة الدماغ، وإنما هي تنبيه لمادة الدماغ يبعث على نشاط بحيث يحدث رجع أو استجابة، صدود أو إقبال.

فالعالم الخارجي حين تصل تفاصيله بالحواس إلى دماغي، يحث إدراكًا مركبًّا وليس انطباعًا بسيطًا، وهذا الإدراك المركب يعين إلى السلوك الذي يجب أن اتخذه أو أسلكه لقاء عدو أو صديق، طعام أو شراب، إقدام أو نكوص.

ونحن والحيوانات العليا سواء في ذلك، وإذا كان هناك فرق فهو فرق التفاوت في الكم وليس الاختلاف في النوع.

•••

الإدراك الحسي؛ أي: الإدراك الناشئ من الحواس، يؤدي، بالمقارنة، إلى إدراك تصوري، وامتيازنا على الحيوان في الإدراك التصوري كبير جدًّا.

الإدراك التصوري هو التعقل.

ونحن والحيوانات العليا نتعقل لا شك في ذلك، والقول بأن الحيوان، ونعني الرواضع والطيور، وأقل من ذلك الزواحف والأسماك، لا يتعقل لا يختلف من الخرافة القديمة التي تنشأ في المناقشات الدينية، وهي أن للإنسان روحًا أما الحيوان فليست له روح، وفكرة الروح هي أولى الفكرات الدينية في مصر ممثلة في كل من الروحين «كـا» و«بـا» إحداهما تحرسنا ونحن أحياء، والأخرى ترعانا ونحن موتى، خرافة قديمة انحدرت إلينا ولا تزال العامة تؤمن بها.

ولكن العقل ليس خرافة؛ إذ هو حقيقة في الإنسان والرواضع والطيور والزواحف والأسماك، وجميعها تمتاز بالقدرة على التعلم، ولكنها تتفاوت في مقدار التعلم، وأقلها بالطبع هو الأسماء التي تسترشد بالشم أقل الحواس بعثًا للوعي.

كلها تمتاز بالإدراك الحسي، وكلها أيضًا على شيء صغير أو كبير بالإدراك التصوري.

ولكن هذا الإدراك التصوري يبلغ أعلى مستواه في الإنسان وأقله في الأسماك.

نحن على إدراك تصوري يجعلنا نفهم الأشياء والأحياء عن طريق التعميم، أما الحيوان «ربما باستثناء القردة العليا» فلا يعرف التعميم.

الإنسان يعرف أن هناك حيوانات تسعى على الأرض وتأكل، وقد تفترس غيرها وتفر وتدخل في الجحور أو تطير إلى أعلى القمم في الأشجار أو نحو ذلك، وكلها أمام الإنسان «حيوانات».

ولكن الأسد لا يعرف هذا التعميم.

والتعميم في الإنسان هو الأصل في الخرافات الدينية القديمة، ثم صار بعد ذلك أصلًا للنظريات العلمية.

الخرافة الدينية هي فرض مخطئ، ولكنه تعميم.

والنظرية العلمية هي فرض صحيح، وهو تعميم.

ونحن البشر، بثقافتنا الحاضرة، نفهم الأشياء والناس بالتعميم؛ أي: بالنظريات.

وعلومنا هي تعميمات؛ أي: نظريات.

كيف وصلنا إلى هذا؟ ولماذا لم يصل الحيوان إلى درجتنا في هذا الفهم التعميمي؟

هذا السؤال ينطوي على سؤال آخر هو: لماذا كبرت أدمغتنا إلى حد شاذ بالمقارنة إلى الحيوان، بل حتى إلى القردة العليا الأربعة: الشمبنزي، والغوريلا، والأروانج أوتان، والجيبون؟

الجواب هو اللغة.

اللغة هي التي جعلت التذكير التصوري ممكنًا وعميقًا؛ لأن الكلمات أفكار، كل كلمة فكرة، ونحن حين نرث الكلمات من المجتمع نرث مئات الفكرات التي أوجدت لنا ثقافة بدائية ساذجة أولًا ثم متحضرة مركبة ثانيًا، ولو أن القردة الأربعة العليا كانت قد عرفت اللغة لما تأخر نمو أدمغتها وكانت قادرة على إيجاد حضارة وثقافة.

ولكن لأمر ما لا نفهمه لم تعرف اللغة.

اللغة أوجدت عندنا تصورات اجتماعية مثل الصدق والكذب والحب والكراهة، وتصورات علمية مثل الكرة والمربع والهرم والأسطوانة.

واللغة، بكلماتها كانت أعظم الأسباب، بل لعلها السبب الوحيد لنمو أدمغتنا وتفوقنا على الأرض.

ولكن أساس تفكيرنا هو الإحساس الذي نشترك فيه مع الحيوانات كلها تقريبا ثم اعتمادنا على حواس المسافات، ثم اعتمادنا أكثر على النظر، ونشأ عندنا الإدراك الحسي الذي كبر «بالعيون» إلى إدراك تصوري، وأحدث الإدراك التصوري ما نسميه التعقل.

ثم جاءت اللغة فأحدثت التعميم؛ أي: النظر الكلي العام للأشياء إذ كان منها الكلمات، كل كلمة منها فكرة، والفكرة التعميمية هي نظرية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤