ذيل ثانٍ

مكتبة الكتاب، أي: مصادره
يهتم كتاب الغرب بذكر المصادر التي اعتمدوا عليها في تأليف كتاب من الكتب وخصوصًا التاريخية منها، فينشرون بيانًا للكتب والتقارير والمذكرات وجميع المصادر التي استقوا معلوماتهم منها، ويسمون ذلك مكتبة الكتاب Bibliographie؛ أي: مصادره، وقد زاد بعضهم اهتمامًا بالمصادر إلى درجة أن خصص لها بحثًا مستفيضًا عن أصحاب تلك المصادر ومبلغ ما لهم من القيمة في تصوير الحقائق وتقريرها، ومن هؤلاء اللورد روزيري في كتابه عن نابوليون في سانت هيلانة؛ فإنه خصص الفصول الأولى من كتابه للبحث في المصادر ووصفها بأنها كالأساس الذي يُبنى عليه المنزل.

ولقد أعجبني هذا الرأي حتى إنني قلت عنه في رسائل «من والد إلى ولده»، في باب دراسة التاريخ، ما يأتي:

ومما تجب العناية به في دراسة التاريخ والاشتغال به، تمحيص المستندات والمصادر التي اعتمد الكاتب المؤرخ عليها، وتقدير ما لتلك المستندات والمصادر من القيمة الحقيقية، ولم أر من المؤرخين من فحص مصادر مؤلفه وعرضها على القراء بنقد صحيح، ليكون القارئ على بصيرة بقيمة ما يسند إلى تلك المصادر، مثل اللورد روبري في كتابه العظيم عن نابوليون بونابرت في منفاه بجزيرة سانت هيلين، فإنه بدأ بذكر المصادر التي اعتمد عليها، وهم أولئك القواد والضباط ورجال حاشية الإمبراطور المنفي الذين كتبوا عنه ونقلوا أقواله أو أحاديثه وتصريحاته، وما كان بينه وبين حاكم الجزيرة من المشادة والخلاف والمشاكل، فبعد أن وصف منزلة كل كاتب منهم لدى الإمبراطور، وكيف كان من الممكن أن يكون موضع سره، وإلى أي حد يصح الاعتماد على رواية للكاتب في موقف من المواقف، ومسألة من المسائل وما هو ماضي ذلك الكاتب، وما هي صفاته وأخلاقه، وما هي آراؤه السياسية والحزبية، كيما تقدر قيمة الثقة التي يحق له التمتع بها، وعلى هذه الطريقة وضع اللورد روزبري قاعدة جديدة في كتابه التاريخ، وقد عولت إن شاء الله أن اسلك هذه الطريقة في مقدمة الكتاب١ الذي وضعته عن تاريخ الحملة الفرنساوية ونابوليون في مصر؛ إذ يتحتم أن يقف القارئ على القيمة الحقيقية لأكبر المصادر العربية في تلك الفترة التاريخية، وهو كتاب الشيخ عبد الرحمن الجبرتي وإلى أي حد تمكن الثقة بروايته، وكيف كانت علاقة ذلك المؤرخ بالمماليك أولًا، وبالفرنساويين ثانيًا، وما هي منزلته في درجة التحقيق وصدق الرواية، وما يصح الاعتماد فيه على قوله، وما لا يصح منه، في الظروف المختلفة، ثم مقارنة ذلك بالمصدر العربي الآخر، وهو رسالة المعلم نقولا الترك، وبيان الفارق بينهما من وجهة نظر الشيخ الأزهري المسلم، والمسيحي اللبناني، إلى تلك الحوادث والحالة السياسية، ويتبع ذلك مقابلة هذين المصدرين العربيين بالمصادر الفرنسية رسمية وغير رسمية …

•••

على هذا النحو كنت أطمع في دراسة، ووصف وتحليل، المصادر التي اعتمدت عليها في هذا الكتاب، ولكن أراني عاجزًا عن تناول هذا البحث وإيفائه حقه كما تصبو إليه نفسي.

ولا ينكرن القارئ عليَّ أنني تعرضت في متن الكتاب للحكم على أشخاص المؤلفين الذين اعتمدت عليهم، ونقلت عنهم، واستشهدت بهم، فيما كتبته عن عبد الرحمن الجبرتي والمعلم نقولا الترك وعن الشيخ الشرقاوي، وعلى غيرهم من الكتاب الإفرنج، ولكن تلك الإلمامات البسيطة الخفيفة لا تشبع مطمعي الأدبي.

فأمام هذا المطمع، ومع الشعور بذلك العجز، لا أرى مناصًا من التوسط بين الممكن والمستعصي، فاكتفي بكلمات موجزة عمن لا مناص من التكلم عنهم لإيضاح قيمتهم التاريخية، ومكانتهم في التحقيق والتدقيق، مع بيان لتاريخ حياتهم ولظروفهم الخاصة.

ولست من رأي الذين ينشرون في مقدمة الكتاب أو في آخره، قائمة بأسماء الكتب التي قرءوها أو اعتمدوا عليها كمصادر لكتابهم، ما داموا قد أشاروا إلى تلك المصادر وذكروها في ذيل الصحائف أو في متنها، وإنما أردت في هذا البحث أن أبين للقارئ قيمة المصادر وتاريخ أصحابها، ومنزلتهم في درجة تقرير الحقائق، وبعدهم أو قربهم من الأشخاص الذين كتبوا عنها فأقول: إن المصدر الذي يصح الاعتماد عليه، والثقة به أو الاقتباس منه والنقل عنه واحد من اثنين: إما معاصر وشاهد عيان — حتى ولو كان متحيزًا أو ضالعًا مع فريق دون فريق — وإما حجة ثقة، وباحث مفكر ممتاز بعبقرية خاصة.

فالأول من دون الحوادث والوقائع التي رآها بعينه، أو سمعها من معاصريه بأذنه، وأهل المعرفة لا يعدون ما يضعه المعاصرون من المذكرات والأخبار تاريخًا بالمعنى الصحيح، لأسباب كثيرة أهمها قربهم من الحوادث، وتأثرهم بالأشخاص، واقتصارهم على تدوين الحوادث، دون إبداء الآراء، أو استنتاج الأحكام، ويصفون كتب المعاصرين بأنهم مذكرات تصلح لأن تكون مادة أو غذاء كما وصف «ميو» مذكراته متواضعًا بقوله: Memoires pour servir a l’histoire.

وأما الثاني فهو الباحث المدقق المفكر المشهود له بسعة الاطلاع والنبوغ، والذي تهيئ له الظروف، الوقوف على المعلومات والمخطوطات والمحفوظات، من الوثائق الرسمية وغير الرسمية، مما لا يتيسر لسواه من الكتاب، فإذا قيل مثلًا إن «إدوارد جيبون» أو أن «اللورد ماكولي» قال كذا وكذا في تاريخه، أو إن موتتسكيو أو جيزو أو تيير، قال كيت وكيت، وأبدى رأيه في حادث أو أمر «لم يقع في زمانه»، فلا مناص من الثقة بذلك الرأي، وإحناء الرأس إجلالًا لمنزلة قائله؛ لأنه حجة ثقة وآراؤه نتيجة بحث عويص مستفيض.

وليس لدينا في اللغة العربية، عن الفترة التي كتب عنها هذا الكتاب، من الفريق الأول سوى الشيخ عبد الرحمن الجبرتي الأزهري والمعلم نقولا بن يوسف الترك «أو التركي» البيروتي اللبناني:

وليس عندنا في هذه الفترة، مع الأسف الشديد، واحد من الصنف الثاني.

حقيقة أنه يوجد معاصر آخر وضع رسالة جاء فيها على شيء من تاريخ الحملة الفرنسية في مصر ونعني به الشيخ عبد الله الشرقاوي شيخ الجامع الأزهر في ذلك الحين، وصاحب رسالة «تحفة الناظرين فيما ولي مصر من الولاة والسلاطين».

وقد سبق لنا أن جئنا على ترجمة حياة الشيخ الشرقاوي، وأشرنا إلى رسالته التي لا قيمة لها على الإطلاق، اللهم إلا من وجهة صدورها من رجل كانت له صفة العلماء، وكان شيخًا للجامع الأزهر، ورئيسًا للديوان في أيام الفرنسيين، ولما كانت رسالته لا تعتبر من المصادر التاريخية، وسبق لنا الكلام عنها فليس لها دخل في بحث تقدير المصادر التاريخية.

بقي الكلام عن المصدرين الآخرين وهما كتاب «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» للشيخ عبد الرحمن الجبرتي، وكتاب «ذكر تملك الفرنساوية للديار المصرية» تأليف المعلم نقولا الترك اللبناني.

هذان هما المصدران العربيان اللذان يصح الاعتماد عليهما؛ لأن صاحبيهما عاشا في تلك المدة، وشهدا بأعينهما، وسمعا بآذانهما، الحوادث التي دوناها، وإن كان كل واحد منهما يختلف عن الآخر اختلافًا بينًا؛ لأن الأول «الجبرتي» كان من علماء الأزهر وشيخ رواق الجبرتية، وكانت له علاقات وصلات بكبار المماليك، وأما الثاني فقد كان سوريًّا لبنانيًّا نزيلًا في هذه الديار، وكانت له صلات بالتراجمة والمستشرقين من رجال الحملة الفرنسية.

ولننته أولًا من المعلم نقولا لقصر موضوع الكلام في شأنه، فنقول: كل ما استطعت أن أحصل على معرفته من تاريخ هذا الرجل، هو أنه ولد في دير القمر بلبنان سنة ١٧٦٣ وتُوفي سنة ١٨٢٨؛ أي: أنه كان يبلغ من العمر نحو ٣٥ سنة حين كان في مصر أيام الحملة وأصل عائلته من الآستانة، واسم أبيه يوسف الترك أو التركي، ويظهر أنه حضر لمصر قبل الحملة بزمن قصير، وأنه كان في خدمة الأمير بشير الشهابي الدرزي الذي أرسله لمصر، وأذكر أني قرأت له أبياتًا من الشعر في مدح الأمير بشير الشهابي في كتاب تاريخ الأمير حيدر.

أما رسالته عن الحملة الفرنسية فقد سبقت الإشارة إلى وصفها في مواضع كثيرة من هذا الكتاب، وعبارتها مسجعة، وفيها ركاكة، والغريب أنها لم تطبع في مصر ولا في سوريا كرسالة مستقلة ذات قيمة تاريخية، ولولا أن مسيو «ديجرانج إينية» حفل بها وطبعها في باريس مع ترجمتها الفرنسية لضاع أثرها بتاتًا، وقد ذكر ديجرانج أنه نقل هذه النسخة من ثلاث؛ واحدة بخط المؤلف، أهداها لأحد مشايخ المارونية، والثانية أعطاها له مسيو كوسين ده برسيفال، والثالثة وجدها في المكتبة الملكية في باريس.

والرسالة في رأيي جديرة بالثقة في مواضع كثيرة، وخاصة في الحوادث والمسائل التي كانت في الجانب الفرنسي، والجالية الأجنبية في مصر، حيث البيئة التي يعيش حولها مثل المعلم نقولا الترك، وفضلًا عن ذلك فإنه من مزايا هذه الرسالة أن صاحبها حفظ لنا بعض المنشورات التي أهملها الجبرتي عمدًا أو سقطت من أوراقه.

ولا أدري بالضبط متى كتب المعلم رسالته، وما أظن أنه كان يكتبها في أثناء وقوعها حوادثها وهو في مصر، ولكن يظهر أنه جمع مذكرات وأوراقًا ومنشورات، وصنف رسالته بعد عودته إلى سوريا حيث ترك النسخة الخطية لدى أحد شيوخ الموارنة، ولم يذكر في مقدمة رسالته شيئًا عن تاريخ وضعها، ولا إشارة إلى أنه شهد حوادثها بنفسه، ولا متى حضر لمصر، ولا متى برحها، فإن من الجائز أنه لم يحضر الأيام الأولى من الاحتلال الفرنسي، ولم يشهد بنفسه واقعة إمبابة، وإن كانت روايته عن اجتماع المماليك في دار إبراهيم بك في القصر العيني، عند وصول خبر نزل الفرنسيين في الإسكندرية، تدل على أنه كان بالقاهرة وعارفًا بأسماء كبار المماليك الذين شهدوا تلك الجلسة التاريخية.

ويؤكد ديجرانج مترجم رسالة المعلم نقولا إلى الفرنسية وطابعها بالعربية أنه قابل المعلم نقولا الترك في دير القمر بلبنان قبل وفاته، ولم يذكر لنا في أي وقت بالضبط قدم المؤلف القاهرة، ولكنه أكد لنا أن الذي أوفده إلى مصر هو الأمير بشير الشهابي حوالي عهد الحملة الفرنسية٢ «كذا» وأنه بقي في مصر مدة الحملة الفرنسية لغاية دخول الترك مع الإنجليز، كما هو ظاهر من الرسالة إذ ورد في آخرها ثناء على الأتراك «بعد الثناء على الفرنسيين»، وبعض أبيات قالها في مدح يوسف باشا الصدر الأعظم القائد للجيوش التركية.
أتى صدر الصدور لأرض مصر
بنصر أشرقت فيه الديانة
بعام قد كساه النور أرخ
به فتحت بيوسف الكنانة

وكما مدح من قبل نابوليون ورثى كليبر، مدح يوسف باشا!!

وفي رواية «كاردين»٣ إن الأمير بشير الشهابي زعيم الدروز أوفد المعلم نقولا الترك لإيقافه على حوادث مصر واحتلال الفرنسيين لها؛ لأنه كان يتوقع حملتهم على الشام، وكان يرغب الانضمام إلى الفرنسيين لو أن نابوليون نجح في الاستيلاء على عكا «كما انضم فعلًا الأمير بشير إلى إبراهيم باشا بعد سقوط عكا في يد المصريين» وذكر «كاردين» أن الأمير بشير لما أوفد المعلم نقولا أمره بالإقامة في دمياط لموافاته بالأخبار منها، ولكني أعتقد أنه برح دمياط وجاء إلى القاهرة في خلال الحوادث التي كتب عنها، وذكر «كاردين» أيضًا أن أحمد باشا الجزار ضبط كتابًا من الكتب التي كان يبعث بها المعلم نقولا لمولاه الأمير بشير، فكان ذلك سببًا في إلحاق الأذى بأخ المعلم نقولا كان مقيمًا في عكا.

ومما رواه كاردين أيضًا عن المعلم نقولا أنه بعد جلاء الفرنسيين عن مصر عاد إلى دير القمر، وفقد بصره في أواخر أيامه فكان يملي شعره على ابنته «ورده»، وليس في مقدمة الرسالة ولا في ختامها إشارة إلى زمن وضعها، ولا إلى السبب الذي دعاه للحضور إلى هذه الديار، وكيفما كان الحال فإنه كتب عن حوادث شهدها بنفسه ورآها بعينه.

ومن هذه الملاحظات وما نقدمها بحق للقارئ والباحث المدقق والمؤرخ المحقق، أن يقدر منزلة رسالة المعلم نقولا الترك من الوجهة التاريخية.

وكنت أتصور أن المعلم نقولا الترك يعرف الفرنسية حتى إن الأمير بشيرًا أوفده لمصر للاختلاط بالفرنسيين، ولموافاته بأخبارهم، وإيقافه على حقيقة أحوالهم، ولكن «ديجرانج» الذي قابله في دبر القمر وترجم رسالته، يؤكد أن المعلم نقولا لم تكن له أدنى معرفة باللغة الفرنسية، وهذه نقطة ذات أهمية؛ لأنها تفسر لنا كثيرًا من أسباب غلطاته وسقطاته.

ومما هو جدير بالذكر عن المعلم نقولا الترك أن قصيدته في مدح نابوليون ترجمها مسيو مارسل المستشرق الذي سبقت الإشارة إليه في هذا الكتاب، وأذكر إنني أطلعت على ديوان شعر له بخط اليد في مكتبة المرحوم مخلع باشا، ولا أدري ماذا جرى له.

ومما هو جدير بالذكر أيضًا وصف المعلم نقولا لنابوليون بونابرت كما رآه بعينيه في مصر، وهي صورة يحرص عليها المؤرخون لمقارنتها بالصورة التي صار إليها نابوليون حين أصبح إمبراطورًا عظيمًا، قال المعلم نقولا: «وكان نابوليون قصير القامة رقيق الجسم، أصفر اللون، باعة اليمين أطول من اليسار، مملوءًا من الحكمة، مشمولا بالسعد والنعمة، يبلغ من العمر ثمانية وعشرين سنة.»

•••

والآن ننتقل إلى المصدر التاريخي الثاني وهو كتاب «عجائب الآثار في والتراجم والأخبار» لمؤلفه الشيخ عبد الرحمن الجبرتي، أحد علماء الأزهر، وشيخ رواق الجبرتية في مدة الاحتلال الفرنسي، وما بعده حتى زمن محمد علي.

ولد الشيخ عبد الرحمن الجبرتي في مدينة القاهرة سنة ١١٦٧ هجرية «١٧٥٤م»، وكان جده السابع يُدعى أيضًا الشيخ عبد الرحمن الجبرتي، وهو أول من قدم مصر من الجبرتية «نسبة إلى جبرت إحدى المقاطعات الإسلامية في بلاد الحبشة» في أوائل القرن العاشر الهجري، فتكون أسرة الشيخ عبد الرحمن الجبرتي قد قضت في هذه الديار أكثر من ثلاثمائة عام، وانقرضت بوفاة المؤرخ في ٢٧ رمضان سنة ١٢٣٧ﻫ «١٨ يونيو سنة ١٨٢٣م.» لأن الشيخ عبد الرحمن لم يعقب من الأسر الجبرتية غير ابن وابنة، تُوفي الولد بعد وفاة والده ببضع سنوات، وعمرت الابنة ولا يعرف عنها ولا عن ذريتها شيء.

وأهم من اشتهر من الأسرة الجبرتية بالعلم والفضل، الشيخ حسن الجبرتي والد المؤرخ، فقد كان ممن يشار إليهم بالبنان في زمانه، وتلقى العلم عليه كثيرون من العلماء الذين ذكرت أسماؤهم في هذا الكتاب، وكانوا أعضاء في الديوان الذي أنشأه نابوليون، وصور بعضهم لا تزال معلقة في متحف في فرساي، مثل المشايخ الشرقاوي والمهدي والصاوي والفيومي وتُوفي الشيخ حسن سنة ١١٨٨ﻫ، ولم يترك من الذرية، على كثرة ما ولد له من الذكور والإناث، وعلى كثرة من تزوج من الحرائر وتسرى من الرقيقات الجركسيات والحبشيات، غير المؤرخ عبد الرحمن، ويظهر أن والدة المؤرخ كانت واحدة من تلك السراري التركية أو الجركسية الأصل، وذكر الذين ترجموا كتاب الجبرتي إلى الفرنسية أن والده ترك له ثروة كبيرة، وكانت له ضيعة في بلدة إبيار ذهب إليها — كما يقول كاردين — عند احتلال الفرنسيين، ولم يعد إلى القاهرة إلا بعد مدة من الزمن، وهي رواية إذا صحت فإنها تثبت أن الشيخ عبد الرحمن لم يشهد بنفسه كثيرًا من الحوادث التي وقعت في أوائل دخول الفرنسيين، ويكون ما كتبه عنها منقولًا من أفواه الناس، ويضعف الثقة بكثير من رواياته.

أما عن الكتاب «كتاب عجائب الآثار» فأقول: إن الكثيرون من الأدباء وأهل الفضل لا يقدرون كتاب الشيخ عبد الرحمن الجبرتي حق قدره، كأثر تاريخي عظيم، وعمل أدبي مجيد، ومذكرات يومية ذات قيمة كبرى للمؤخر، والسبب في النظر إليه بهذه العين يرجع إلى أن الناس لا يميلون إلى هذا النوع من الأسلوب من جهة، ولأنه مجموعة من عبارات وروايات وحوادث غير متمازجة ولا متناسقة، من جهة أخرى!

ولكن الذين لا يأخذون الأمور بظواهرها، والذين يتعمقون في البحث، عن حوادث تلك الأيام وظروفها وأحوالها، لا يسعهم إلا الإعجاب بذلك السفر الجليل وواضعه، فالشيخ عبد الرحمن الجبرتي هو بلا نزاع مؤرخ هذه الفترة وجامع شتات أخبارها، بإخلاص وحسن نية ومجهود كبير، بل هو كاتبها العظيم وصحافيها الأمين، والذي لولاه لبقي تاريخ هذه الفترة، التي تبلغ نحو خمسين سنة — أي: من نهاية القرن الثاني عشر الهجري إلى أوائل القرن الثالث عشر — صحيفة بيضاء، أو قطعة جرداء، في اللغة العربية.

والذي يهمنا في كتابه «من حيث علاقته بهذا الكتاب» هو القسم الواقع في الجزء الثالث، وقليل مما تقدمه من أخبار كبار المماليك في النصف الأخير من الجزء الثاني، ومهمتنا في هذا البحث تنحصر في قيمة الأخبار الواردة فيه، وصدق الوثائق المحفوظة به من منشورات وتعليمات وغيرها، وقرب ذلك أو بعده من الحقيقة التاريخية.

ولا تردد مطلقًا في الحكم على أن الصدق في الرواية كان رائد الشيخ في كل ما كتبه، ولم يكن يحابي ولا يداجي، إلا في النادر من ميوله الشخصية وعلاقاته الخاصة بكبار المماليك كميله إلى إبراهيم بك ووقاره، ونفوره من مراد بك وطيشه وجرأته.

أما من وجهة أن كتاب عجائب الآثار، كتاب تاريخي فلا ندحة من الاعتراف بأنه ليس من التاريخ، على أسلوبه الصحيح، في شيء وإنما هو مذكرات وروايات قيد المؤلف شواردها، بغير ترتيب ولا تنسيق، تصلح أن تكون مادة للمؤرخ، مع شيء غير قليل من الصعوبة والعناء.

وكتاب الجبرتي في نظري أشبه بالتلول الأثرية لا تكاد تحفر فيها، أو تزيل الأتربة من جانب، حتى تعثر بجوهرة ثمينة، أو تحفة ناردة، وقد لا تعثر بشيء مطلقًا في جزء كبير منها، وهكذا لا تمكن الاستفادة من كتاب الجبرتي إلا إذا عالجته حفرًا، وبحثًا وغربلة، ومقارنة ومقابلة، واستخرجت الدر من الصدف، والمعدن من التراب، وميزت بين ما له قيمة وبين ما ليست له قيمة، ولا يسهل هذا إلا بعناء ومقارنة بينه وبين المصادر الأخرى، في اللغات الأجنبية — وهي قليلة ونادرة جدًّا في الجزء الخاص بالمماليك قبل الاحتلال الفرنسي — وكثيرة فيما يختص بالحملة من مذكرات ومؤلفات، وأوراق رسمية، وغير رسمية.

وليس من السهل معرفة كيف كان يكتب الجبرتي مذكراته هذه، ولكن المعقول المستنتج من كثير من رواياته أنه كان يجلس لنفسه بعد مرور بضعة أيام فيدون ما يكون قدره أو سمعه أو وصل إلى علمه، وهو يعترف في مقدمة كتابه فيقول:

كنت سودت أوراقًا في حوادث آخر القرن الثاني عشر، وما يليه وأوائل القرن الثالث عشر الذي نحن فيه، جمعت فيها بعض المواقع إجمالية، وأخرى محققة تفصيلية، وغالبها محن أدركناها، وأمور شاهدتها، واستطردت في ضمن ذلك سوابق سمعتها، ومن أفواه الشيخة تلقيتها، فأحببت جمع شملها وتقييد شواردها في أوراق منسقة النظام، مرتبة على السنين والأعوام … وما بعدها إلى التسعين أمور شاهدناها ثم نسيناها وتذكرناها، ومنها إلى وقتنا أمور تعقلناها وقيدناها وسطرناها، وسنورد أن شاء الله تعالى ما ندركه من الوقائع، بحسب الإمكان والخلو من الموانع، إلى أن يأتي أمر الله، وأن مردنا إلى الله، ولم أقصد بجمعه خدمة ذي جاه كبير أو طاعة وزير أو أمير، ولم أداهن فيه دولة بنفاق، أو مدح أو ذم مباين للأخلاق، لميل نفساني، أو غرض جسماني.

والشيخ الجبرتي نفسه يعترف في كتابه أنه ابتدأ في جمع أوراق كتابه وتنسيقه في السنة السادسة والعشرين، بعد المائتين والألف؛ أي: بعد ثلاثة عشر عامًا من خروج الفرنسيين من مصر، فتأمل مقدار الأغلاط التي يقع فيها رجل أزهري يجمع أوراقه المتناثرة بعد مرور ثلاثة عشر عامًا على الحوادث التي يكتب عنها! وليكن ذلك منك على بال، لتقدير روايات الجبرتي حين تنقل عنه، أو تعتمد عليه.

ومما تجب ملاحظته أن كتاب الشيخ عبد الرحمن، عن الفترة التي شهدها بنفسه، إنما هو تاريخ للقاهرة، أكثر مما هو تاريخ لمصر؛ لأنه لم يقف إلا على النادر جدًّا من الحوادث التي وقعت خارج القاهرة في الوجهين القبلي والبحري، فهو لم يذكر ثورة «المهدي» في البحيرة إلا بكلام لا قيمة له، كما أوضحنا ذلك عند الكلام عليها، ولم يعرف أكان المهدي هو «مولاي محمد» من أمراء الغرب، الذي سبق له ذكره في الجزء الثاني من كتابه، أم كان شخصًا آخر؟ مع أن «مولاي محمد» دخل القاهرة مع الإنجليز والأتراك عند جلاء الفرنسيين، ولا يعقل أن الشيخ عبد الرحمن الجبرتي لم يقابله ولم يتعرف به.

ومما يثبت أن معلومات الجبرتي لم تتعد القاهرة أنه لم يشر إلى محاربات الصعيد ولا غيرها إلا بعبارات قصيرة متقطعة، ليس فيها شيء من المعلومات الصحيحة.

ومع أنه من كبار العلماء في القاهرة، فإنه لم يذكر اسم الشيخ المسيري كبير علماء الإسكندرية، الذي كان موضع ثقة نابوليون، وكانت كلمته النافذة في ذلك الثغر، ولم يشر إليه إلا حين جاء ذكره في أيام حكم محمد علي،٤ والشيخ عبد الرحمن معذور في قصر أخباره على ما يصل إلى علمه، وهذا هو شأن المذكرات أو اليوميات التاريخية، ولكن ليس للمؤرخ في هذا الزمن أدنى عذر في قصر اعتماده على ما كتبه الجبرتي، وهذا شأنه.

•••

بقي علينا أن نشير إشارة موجزة إلى خاتمة صاحبنا الجبرتي وموته مقتولًا في طريق شبرا، فقد ذكروا أنه وظف إمامًا في سراي محمد علي باشا بشبرا، وأن محمد بك الدفتردار حقد عليه فسلط عليه من أودى بحياته وهو عائد من شبرا إلى القاهرة على حماره، وليس بصحيح ما ادعاه «كاردين» من أن الذي قتل بطريق شبرا هو ابن الشيخ عبد الرحمن وليس هو، وهذا غريب من «كاردين» مع أنه كان موظفًا بقنصلية فرنسا في القاهرة حوالي سنة ١٨٣٠؛ أي: بعد وفاة المؤرخ بنحو سبع سنين

ولا صحة لما يذاع أيضًا من أن هناك جزءًا خامسًا من كتاب «عجائب الآثار» لم يصرح بطبعه لما فيه من الطعن على محمد علي باشا؛ لأنه توجد نسخة خطية من تاريخ الجبرتي في مكتبة وزارة الحربية الفرنسية في باريس، ولو كان فيها شيء لم ينشر في الطبعة المصرية، لما خفي أمره على المستشرقين.

وفضلًا عن ترجمة الجزء الخاص بالحملة الفرنسية في مصر إلى اللغة الفرنسية بواسطة مسيو «كاردين» فقد ترجم كتاب الجبرتي إلى اللغة الفرنسية بأكمله في ثمان مجلدات جماعة من فضلاء المصريين، وعلى رأسهم المرحوم شقيق بك منصور يكن.

وترجم الجزء الخاص بالحملة الفرنسية إلى التركية مصطفى أفندي بهجت الطبيب الخاص للسلطان سليم الثالث تحت عنوان «إنقاذ مصر من الفرنساوية».

•••

وكنت أحب أن أتوسع في بيان المصادر الفرنسية والإنجليزية التي اعتمدت عليها في هذا الكتاب، ولكن المقام يضيق عن ذلك من جهة، ولأني مكتف بالإشارات والتعليقات والبيانات التي كتبتها عن هذه المصادر في متن الكتاب وفي حواشيه، فهي في هذا الباب كافية وافية.

هوامش

(١) بعد تردد كبير اخترت أن أضع هذا البحث ذيلًا للكتاب لا مقدمة له.
(٢) Vers l’epoch de notre expédition.
(٣) إسكندر كاردين كان مترجمًا بقنصلية فرنسا الجنرالية في مصر حوالي سنة ١٨٣٠م، وتُوفي في السنة التي طبعت فيها ترجمته للجبرتي، وخلاصة رسالة المعلم نقولا عن الحملة الفرنسية سنة ١٨٣٨، وعنوان كتابه بالفرنسية كما هو في ذيل الصحيفة التالية. Journal d’Abdurrahman Gabrfi: Pendât l’occupation Française en Egypte; suivi d’un précis de la même Campagne par Mou’anem Nicoula Et Turk:Traduite par Alexandre Cardin, Dragoman-Chancellier du Consulat, Gen; de France en Egypte, 1838.
(٤) كان الشيخ محمد المسيري كبير علماء الإسكندرية وله ذرية باقية فيها، ولما جاءت مدة محمد علي باشا عارضه الشيخ في كثير من المسائل التي كان يراها مخالفة للشرع، ففر إلى سوريا سنة ١٢٢٢ﻫ، وتُوفي في بيروت سنة ١٢٣٨؛ أي: بعد وفاة الجبرتي بعام واحد، ودفن في بيروت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤