تصدير

بقلم حضرة صاحب السمو الأمير الجليل عمر طوسون

تفضلتم فأطلعتمونا على أكثر موضوعات كتابكم عن السودان قبل تمام طبعه، فدلَّنا الكثير الذي فرغتم منه على القليل الباقي الذي تعملون فيه، وخرجنا من هذا الاطلاع مقتنعين بعظم ما تبذلون في إخراجه من البحث والتحري، مع الإحاطة بالموضوع من جميع أطرافه، وهذا العمل المفيد والصنيع الحميد هو بلا شك وليد سفركم بالبعثة الاقتصادية المصرية إلى السودان، التي كنتم عضوًا من أعضائها.

نعم، إننا نعد هذا الكتاب الجليل المحيط بتاريخ السودان المصري، من ألفه إلى يائه، من ثمرات هذه البعثة، ونتفاءل بأن ثمارها الجنية ستتكاثر وتنمو وتنضج على ممر الأيام والسنين، وتعمُّ القطرين جميعًا، وإذا قدَّرنا هذه الثمرات المنتظرة بهذه الثمرة، وقسناها عليها، ذهب بنا الخيال كل مذهب في تصوُّر فوائد هذه البعثة المباركة، أمَّا إذا جاءت الحوادث بغير ما نشتهي، وجرت الأمور على غير ما نحب، ولم يكن لهذه البعثة ما قدَّرناه، وعصفت السياسة الإنجليزية مرة ثانية بهذه الآمال، وقطعت علينا هذه الأحلام اللذيذة، فإن كتابكم سيبقى حجة ناطقة على هذه السياسة الغاشمة، وسيكون دليلًا جديدًا على التواء سبلهم، وأنهم حقًّا عقبة في كل سبيل، وبلاء على كل أمة مُنيت بتَسَيْطُرِهم ليس كمثله بلاء؛ بلاء شامل ماحق لكل خير، لا لشيء سوى العدوان وحب الأثرة والإضرار بالشعوب التي تقع تحت نيرهم.

وبعد، فلا مراء في أن المصريين خليقون بتعرُّف أحوال السودان، حريُّون بقراءة تاريخه، ومعرفة ما جرى عليه، وما هو فيه، ما داموا متعلقين به، وهم لا غنى لهم عن هذا التعلق، ولا مندوحة لهم عن ذلك الارتباط؛ فإن الطبيعة قضت به فأصبح حاجة من حاجهم، لا سبيل لهم إلى التخلص منها.

وإذا كان هذا شأن السودان منهم، وجب عليهم أن يعرفوه، ويلمُّوا بحوادثه الماضية والحاضرة، ويقرءوا ما كُتب عنه، ووجب على القادرين من كتَّابهم ومؤرِّخيهم أن يسعفوهم بهذه الطُّلْبة، ويقدِّموا لهم الغذاء وينوِّعوه لهم؛ ليُقبِلوا عليه، ويأخذ كلٌّ منهم ما يستطيبه منه.

وقد انقضت حقبة طويلة لم يخرج فيها أحد من المصريين كتابًا عن السودان يعتدُّ به ويستحق أن يُطلق اسم الكتاب عليه، وانقضت عدة من السنين على ما أُلِّف في شأنه وكتب عنه، حتى نفدت نسخه أو كادت، وأصبحت من الندرة بحيث لا تعثر عليها الأيدي عند الورَّاقين وباعة الكتب، وإذا وجدها راغب منهم لم يحصل عليها إلا بالثمن الغالي، وهي مع ذلك قد فاتها بطبيعة وضعها من عشرات السنين ذكرُ ما حصل بعد وضعها، وتدوين الحال التي عليها السودان الآن؛ خصوصًا من الوجهتين السياسية والاقتصادية.

وإننا لا نريد أن نفاضل بينها وبين كتابكم؛ إذ يكفيه أن يكون حاويًا لما لم تحوِهِ من مباحث وفصول، وأنه مؤلف حديث وُضع على النمط الحديث، ودُعِّم بالوثائق والأسانيد، وعُزِيَ أغلب ما فيه إلى مصادره، وهذه المزيَّة الأخيرة لا نزاع في أنها مزيَّة كبيرة في المؤلَّفات التاريخية خاصة؛ لأن هذا العلم ليس ككل العلوم، بل هو علم متجدِّد ما تجدَّدت الحوادث، فالشأن فيه أن يتجدَّد فيه التأليف ويتنوع، وقد أصبح ما كُتب فيه حديثًا أفضل مما كُتب فيه قديمًا، وإن كان هذا الحديث لا غنى له عن ذلك القديم.

وهذا الفضل يرجع للمزايا التي اعتمد عليها المؤلِّفون المتأخِّرون في وضع هذا العلم؛ فبعد أن كان روايات تُروى محتملة للصدق والكذب، أصبح بهذه المزايا حقائق لا يتطرَّق إليها الشك.

فعلينا أن نرحِّب بكل جديد من التآليف التاريخية إذا اشتمل على هذه المزايا، وأن نشكر مؤلفه ونثني عليه؛ خصوصًا إذا سدَّ لنا فراغًا كان يُخشى أن يبقى ثلمة مفتوحة إلى ما شاء الله، وقيَّد لنا أوابد ربما ظلَّت شاردة عنا.

ومناط الرغبة في المؤلفات التاريخية وغيرها أن تكون الحاجة ماسَّة إليها؛ فإذا كان تعلقنا بالسودان متغلغلًا في القلوب كما نزعم، فقيسوا ذلك بإقبال المصريين على كتابكم وتهافتهم على إحرازه وقراءته.

أما أنتم، فقد قمتم بالواجب، وحُقَّ لكم الشكر من المصريين والسودانيين جميعًا؛ لإخراجكم هذا المؤلف العظيم، وتحمُّلكم في تأليفه ما يعرفه المزاولون لصنعة التأليف من الجهد والمشقة والعنت، وبذلكم في هذا السبيل ثمينَ وقتكم ومالكم، وأما الأمة، فستجزيكم على ذلك بالإقبال على كتابكم، واستقباله بما هو أهلٌ له من الحمد والثناء إن شاء الله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤