كلمة المؤلف

تفضَّل حضرة صاحب السمو الأمير العظيم عمر طوسون بتحلية جِيد الكتاب بكلمة التصدير التي استهللنا بها الكتاب، وتفاءلنا بها يمنًا وخيرًا، ونعدُّها فخرًا وشرفًا من لدن ذلك الأمير البحَّاثة العلَّامة الحجَّة الثَّبْت في مسائل السودان والمسائل العامة الأخرى، ولسموِّه منَّا كثير الشكر، ومن الله تعالى عظيم الأجر.

وتكرَّم حضرة صاحب العزة فؤاد أباظة بك، المدير العام للجمعية الزراعية الملكية، بوضع المقدمة النفيسة لهذا الكتاب، وتفضَّل علينا بثناء نقبله على اعتبار أنه تشجيع وصداقة وتعاون في توثيق العلاقات بين مصر والسودان، وإلا فنحن لا نرى أننا فعلنا إلا واجبًا من واجبات كثيرة علينا نحو العلم والتاريخ والسودان ومصر.

وشاء أدب صديقنا الحميم وأخينا الوفي العالم الأريب واللوذعي الأديب الأستاذ محمد عبد الرحمن الجديلي أن يتفضَّل على أخيه المؤلِّف بترجمة حياته وفاءً منه، بل كرمًا وتقدمة، وإلا فإن المؤلف دون ما وصف الصديق، ولا يعدُّ تلك الصفات التي خُلعتْ عليه إلا نبراسًا له، ومثلًا أعلى يرجو أن يتحقق على طول الزمان.

•••

وما كان بي — بعد هذا — حاجة لتقديم الكتاب إلى القراء، غير أن لي كلمة أقولها عن الأسباب التي دعتني إلى تأليفه؛ ذلك أنه منذ الطفولة وأنا أسمع أخبار السودان وحوادثه؛ لأن سنَّ طفولتي قد اقترنت باستعادة السودان، وبالسنين التي تلتها، ولأن قضية شهيرة اسمها قضية التلغرافات — وقصتها في صفحة ٨٨ من الجزء الثاني من هذا الكتاب — كانت حديثًا يُذكر ويتناوله المرحوم والدي وأسرتنا. كما أنني طالعت وأنا في مستهل الدراسة الابتدائية كتاب «السودان بين يدي غوردون وكتشنر»، تأليف المرحوم اللواء إبراهيم فوزي باشا، وكما أن الصحف المصرية، وفي مقدمتها جريدتنا «المؤيد»، كانت تواصل الكتابة عن السودان وأخباره وعلاقاته، وتنشر في كل عام الاحتجاج على اتفاقية سنة ١٨٩٩ وعدها باطلة.

فكنت أتابع الاطلاع على مؤلفات كُتبت عن السودان، وكتابات الصحف، وكان عمي وآخرون من بلدتنا «بني عديات» يذكرون التجارة التي كانت قائمة بطريق القوافل بين أسيوط والسودان عن طريق درب الأربعين، وأن أغنى الأسر الأسيوطية وأشهرها قد أَثْرَتْ من الاتجار بمحاصيل السودان ومنتجاته وتصدير البضائع المصرية إليه، وقد أتاحت لي بيئة جريدة «المؤيد» الوقوف على السياسة الوطنية المصرية والحالة العالمية منذ الصغر، فوجَّهت عناية خاصة إلى السودان وشئونه، حتى إنني فكرت أن أجعل إقامتي في السودان عقب إتمام دراستي العالية، ولكن عندما انتهيت من هذه الدراسة أصبح السودان غير صالح لتوظُّف المصريين فيه؛ إذ كنت أروم أن أُعيَّن قاضيًا مدنيًّا من قضاته؛ لأغتنم الفرصة للوقوف على البلاد السودانية ودراستها دراسة وافية.

•••

واصلت مراجعاتي واطلاعي على الكتب المؤلفة عن السودان باللغات المختلفة، ولكنني كنت أجد في تاريخ السودان ثغرات ينقصها البحث والتقصي، واتصلت، في أثناء حضوري محاضرات القسم الجنائي في الجامعة المصرية القديمة، ببطل السودان حضرة الدكتور محجوب ثابت؛ إذ كان أستاذًا لنا في الطب الشرعي، ثم اتصلت بجريدة «الأهرام»، فأنمى هذان الاتصالان رغبتي في دراسة الشئون السودانية؛ لأن كلًّا من جريدة «الأهرام» والدكتور محجوب الذي كان يكتب فيها مقالاته السودانية، كان يُعنى بالسودان عناية ممتازة.

لكن مطالعاتي كان ينقصها زيارة السودان، وطالما فكرت في زيارته، ولكن العمل المضني المتواصل الذي نزاوله بغير انقطاع شغلني عن الزيارة، إلى أن كانت رحلة البعثة المصرية؛ فأظهرت رغبتي في الاشتراك فيها، وقد تفضَّل صاحب المقام العظيم حضرة صاحب السمو الأمير عمر طوسون بالإذن لحضرة صاحب العزة فؤاد أباظة بك، الذي كان أول مرحِّب باشتراكي، بقبولي في البعثة، حتى إنني نُدِبتُ من قِبَل البعثة مندوبًا عن الصحافة المصرية كلها، لولا أن رغبت صحف أخرى في أن يكون لها مندوبون، فصرت مندوبًا خاصًّا «للأهرام».

بعد عودتي من البعثة طلب إليَّ الكثيرون أن أجمع مقالاتي عن الرحلة في كتاب، فرأيت أن أضع كتابًا كاملًا عن السودان من التاريخ القديم، وأنتهي به إلى رحلتنا، وها أنا أقدِّمه للقراء الكرام، شاكرًا لجميع حضرات الذين تفضَّلوا بإعطائي البيانات الوافية، وعلى رأسهم سمو الأمير الجليل عمر طوسون.

والجزء الأول عن تاريخ السودان منذ الفراعنة إلى الثورة المهدية، والثاني من قمع الثورة إلى الحكم الحاضر، والثالث في رحلة البعثة مع البيانات الشاملة.

وأرجو أن يحقِّق هذا الكتاب الغرض الذي قصدتُ، والنحو الذي أردتُ، وهو وضع تاريخ شامل للسودان، وشئونه الجغرافية والاقتصادية والزراعية والاجتماعية والأدبية والعلمية، ولولا ضيق الوقت وكثرة النفقات لكان كتابي أضعاف ما صدر من الصفحات، على أن في باب المراجع الغناء لطلاب المزيد، وإنني لأرجو أن يكثر القادرون من التأليف في السودان؛ لأنه من الأسف أن نرى نصيب المصريين والسودانيين والناطقين بالعربية أقل من نصيب غيرهم في هذا الباب من التأليف.
figure

والله أرجو أن يوفِّقني لمواصلة الاشتراك في خدمة مصر والسودان وأهلهما، ففي هذا كل فخري وأكبر آمالي.

٢٠ أكتوبر سنة ١٩٣٥

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤