الفصل الأول

دولة صغيرة … ومشكلة ضخمة

عندما بدأت الكتابة عن إسرائيل، وأقدمت على هذه المحاولة غير الكاملة حتمًا، تذكَّرت كثيرًا من النظرات والوجوه … وجوه عرب ووجوه يهود. لا شك أن تلك الأرض يتركَّز فيها، دون سائر أركان المعمورة، أكبرُ قدْر من المآسي الفردية على رقعةٍ محدودة للغاية. فلكل أنواعِ الاضطهاد صداها هنا: الاستعمار والإقطاع اللذين تردَّى فيهما العالم العربي لسنوات طويلة، والفاشية الهتلرية التي اجتاحت أوروبا، والعنصرية في أشكالها المتباينة، وأخطبوط البنتاجون … كلُّ ذلك يتشابك ويتداخل في هذه الأرض الواقعة على مفترَق الطرق بين الشعوب والحضارات.

وزيارة إسرائيل طوال شهر، يَزيد عن اللازم كما يقل عنه في آنٍ واحد؛ فهي تزيد عن اللازم لأننا بصدد بلدٍ صغير. وهي أقصر من اللازم لأننا حيال مشكلة ضخمة؛ فقد شهدت إسرائيل ثلاث حروب في مدى عشرين عامًا (١٩٤٨م، ١٩٥٦م، ١٩٦٧م). كما نشأت حالةٌ مسمومة في الشرق الأوسط، ومأساةٌ هائلة يعيشها اللاجئون، واحتلال عسکري لجزء من الأراضي المصرية والسورية والأردنية، ولكن هناك أيضًا أعمال الاضطهاد الموجَّهة ضد اليهود والمذابح النازية التي لا تزال ماثلة في الأذهان. فمجرد الكلام عن إسرائيل يثير خليطًا من المشاعر، وردود الأفعال العاطفية القادرة على بلبلة العقليات الصافية ظاهريًّا حتى إنها تميل نحوَ ما يخالف التفكير السليم، وبالتالي نحو الظلم.

يرفرف اليوم العلمُ ذو اللونين الأزرق والأبيض والمدموغ بنجمة داود على أرضٍ تبلغ مساحتها ضِعف الرقعة التي منحتها الأممُ المتحدة للدولة اليهودية في عام ١٩٤٧م. ولا يمكن تقديرُ الوزن الصحيح لهذه الحقيقةِ الواقعةِ إلا بملاحظة عن كثَب. لقد تمكَّنتُ من التَّجول في أنحاء إسرائيل، وداخل الأراضي المحتلة، ولم تُغلق في وجهي إلا المناطق التي لا يمكن ارتيادها إلا بمصاحبة حرسٍ عسکري؛ أي مرتفعات جولان على الحدود السورية، وممر الأردن وسيناء، فيما بعد العريش، في اتجاه قناة السويس وقد صاحبني في جولاتي مرشدون يهود وعرب، وسأروي ببساطةٍ ما رأيتُ وسمِعت.

على بُعد عشرين كيلومترًا من تل أبيب يوجد مدخلُ إسرائيل الجوي المتمثل في مطار اللُّد ذي النشاط الدولي — تمامًا كما تشكِّل حيفا مدخلَها البحري.

وتبدو المدن من الطائرة ليلًا كإشاراتٍ صادرة من الأرض ننظر إليها دائمًا بنفس الإحساس بالدهشة. فكلُّ شيء يتغير تمامًا بعد ساعات قليلة من الطيران. لقد كنت في أوروبا وفي الشتاء، فإذا بي الآن في الشرق بعذوبةِ أمسياته. لست في آسيا تمامًا كما أني لستُ في أفريقيا ولكن في البحر الأبيض المتوسط بسواده الداكن الغريب رغم النجوم اللامعة. وتل أبيب تعني بالعبرية تلَّ الربيع. ويقال إنها كانت كثبانَ رمالٍ يجري وسطها نهر «العوجة» الصغير، ولكنها الآن مدينةٌ حديثة تُعتبر أكبرَ مدن إسرائيل، ويسكنها ٤٠٠ ألف نسمة.

كان يتعيَّن علينا تأخيرُ التوقيت ساعةً بمجرد هبوطنا. وفي قاعة المطار الفسيحة كانت العائلات تتلاقى. فالبعض يستقبل أبناءَ خالٍ قادمين من بروكسل أو من فيينا، ويتحدث القادمون مع مستقبليهم ويتبادلون الأخبارَ بأكثرَ من لغة، منها العبرية واليديش والألمانية والفرنسية. على أن كلمة «سالوم» كانت تترَّدد باستمرار وسط جلبة الترحيب بالقادمين، وهي كلمة تعني «السلام». وقبل أن أترك فرنسا قال لي صديق مناصر لإسرائيل بلا أي تحفُّظات: «سترى بنفسك أن كلمة «السلام»، هي التي ستسمعها في أغلب الأحوال … ولقد سمعتُها بالفعل، ولكني لم آتِ هنا سعيًا وراء الكلمات. كنت أريد أن أتفهَّم الحقيقةَ التي تعبِّر عنها الألفاظ، فالكلمات تستر الحقيقةً أحيانًا، فماذا كانت تعني بالضبط كلمة «سالوم» هذه؟»

لن أنسى أبدًا هذه الليلة الأولى. كان التاكسي عبارةً عن سيارة أمريكية ضخمة قديمة زُودت بمقاعدَ إضافية. كنت أستقلُّ وحدي تلك الكاديلاك التي فقدَت أبَّهتها الغابرة. وعلمتُ فيما بعدُ أن تصرُّفي هذا كان ضربًا من الرفاهية، وأن الناس يشتركون هنا عادةً معًا في ركوب التاكسيات. كانت المنازل المسطَّحة والمتشابهة تبرُز أمامي في الظلام. ومع الاقتراب من المدينة زاد عدد الإعلانات المكتوبة بحروفٍ عبرية مضاءة بالنيون. كانت حركة المرور نشطة، وكان هناك عددٌ كبير من مستوقفي السيارات، وأغلبهم شبان وشابات من العسكريين، يرفعون الخِنصِر، مستخدمين تلك الإيماءة المتعارَف عليها دوليًّا للركوب. كان العسكريون في أعدادٍ هائلة.

كان السائق لا يتكلَّم سوى العبرية والبولندية. أما الإنجليزية فكان لا يعرف منها سوى كلمةٍ واحدة It is beautiful (شيء رائع). والحق أن إضفاء هذه الصفة على مدينة تل أبيب ضربٌ من التفاؤل الساذَج. كان السائق يعرف أيضًا الحساب بالدولارات، المفضَّلة لديه بكل وضوح عن الجنيهات الإسرائيلية (٧ جنيهات مقابل دولارين بالتحويل الرسمي. وإن كانت القوة الشرائية لكليهما مختلفة إلى حدٍّ كبير).

ووقع أولُ حادث لي في مدخل الفندق، فترك في نفسي إحساسًا عميقًا بالضيق. وكثيرًا ما تردَّدت في روايته لفرط منافاته للياقة في مفاهيم الفرنسيين. كان حامل الحقائب يُدعى «عزرا». وكان ودودًا، ثرثارًا، لطيفًا، ككلِّ مَن قابلتهم هنا بوصفي زائرة عابرة. وقال لي موظف الاستقبال: «هذا هو عزرا، وهو سيرافقك.» وأردف قائلًا بعد ذلك مباشرةً، بلا أي فاصلٍ آخرَ، كما لو كان الأمر طبيعيًّا للغاية: «عزرا جاويش في صفوف جيشنا.» ونظرت إلى عزرا الذي بدا عليه بعضُ الحرج. وقد أشعرني هذا التقديمُ غير المتوقَّع بالضيق، وخاصة عندما أكَّد لي موظف الاستقبال بابتسامةٍ جديرةٍ بأمٍّ تُعدِّد محاسنَ ابنتها التي بلغت سنَّ الزواج: «وهو بالطبع مستعد لتكرار الأمر، أليس كذلك يا عزرا؟»

على أن انغلاق أبواب المصعد الأوتوماتيكية أعفت عزرا من الإجابة. وقد تحدثتُ معه فيما بعد، وأستطيع أن أقول إن حماسه الحربي لم يكن طاغيًا. غير أن هذه الحكاية أثارت قلقي على ضآلتها. لقد انتهت الحرب منذ ستة شهور أو بالأحرى، لقد توقَّفت المعارك. فلماذا إذن هذا التحبيذ بكل بساطة «لتكرار الأمر»؟

من الواضح طبعًا أن موظف الاستقبال غبيٌّ عن جدارة، ولكن المسألة لا تنحصر في هذه الحدود فقط. فما تيار العقلية الذي ينتمي إليه هذا الموظف وما القوة الحقيقية لهذا التيار؟ هل يتمرَّغ رجل الشارع العادي في نفس هذه المياه العدوانية أم إنه متشكك في حقيقة أمرها؟

تكره الشعوب الحربَ بطبيعتها، على أنه من الممكن خداعها حول أسبابها وحول شرعيتها. فما رأي رجل الشارع الإسرائيلي في حرب الأيام الستة الخاطفة؛ وما توقُّعاته بالنسبة للمستقبل؟

يقول التعداد الرسمي الذي تم في سبتمبر ١٩٦٦م إن إسرائيل تضم ٢٦٤٣١٠٠ نسمة من بينها ٢٣٣٣٧٠٠ يهودي. وتحتل تل أبيب المركزَ الأول بين المدن الكبيرة بسكانها الذين يبلغون ٤٠٠ ألف، كلهم من اليهود تقريبًا. وهي تسبق حيفا في هذا المضمار؛ إذ إن سكان حيفا يقدَّرون بحوالي ۲۰۰ ألف. ومن الصعب أن يقول المرء عن مدينة إنها قميئة؛ فالمدن كالنساء، وهناك دائمًا محبُّون لا يرتاحون لمثل هذا الوصف. أما بالنسبة لي شخصيًّا، فإن تل أبيب لا تستطيع أن تصمد في نظري أمام حيفا الساحرة، أو أمام أورشليم النبيلة.

لا شك أن تل أبيب مدينةٌ تجارية حية، بها عددٌ خارق للعادة من المحال المتلاصقة، ومن الباعة الذين يعرضون سلعَهم في الطريق العام، وبها حركةٌ دائبة على الأرصفة، وفي الشوارع، وجرائد تصدر بخمس عشرة لغة، وسيارات نقل عام تغص بالركَّاب، ومقاهٍ وأطفال يتدحرجون بين سيقان المارة. وهناك أيضًا هذا الخليط الذي يؤكِّد — بشكل مناقض للظاهر — الشخصيةَ الخاصة لهذه المدينة ذات الطابع المهجَّن الذي يجمع بين أفريقيا ووسط أوروبا. وهناك السيدات المسنات اللاتي يقدِّمن الحلوى المكسوَّة بطبقة من الكريمة، بينما تقوم عاملات يمينيات بعيونهن السوداء الواسعة التي تخفي الأسرار، بتطريز الذهب والفضة … ومن وجهة النظر المعمارية، يشعر المرء بانعدام الابتكار إلى حدٍّ مُيئس؛ فهناك عدد من ناطحات السحاب المنبثقة وسط بِركة «من المكعَّبات البيضاء الرتيبة المتشابهة». أما برج هرتزل، وهو يحمل اسم مؤسِّس الصهيونية الذي يحظى بتكريمٍ خاص، فهو لا يتناسب إطلاقًا مع كلِّ ما يحيط به حتى إنه يبدو كالزرافة التائهة. وهناك فنادقُ كبيرة، وإن كانت تفتقد الرشاقة، ومنها فندق «دان»، وهو كتلة ضخمة تبدو بالرغم من ذلك هزيلةً بجانب الهيلتون الهائل المبنى برءوس أموال أمريكية على أرضٍ كانت من قبلُ مدافنَ للمسلمين. وهكذا يخلق الواقع أحيانًا رموزًا تتخطَّى حدودَ الخيال، أما فندق «ديبورا»، فهو أكثرُ تواضعًا، وإن كان يتميز بطابَع خاص ملفت للنظر؛ فهو يتبَع من الناحية المالية جماعةً دينية، وهو الوحيد الذي يحترم بدقةٍ قيودَ عطلة يوم السبت من بين كل الفنادق الراقية.

ويوجد في القدس مقر الحكومة والكنيست (البرلمان الإسرائيلي)، أما تل أبيب فهي المركز الاقتصادي والثقافي الأساسي؛ ففيها جامعة ومتاحفُ ونشاط مسرحي وموسيقي واسع. وتتَّسع قاعة «مان» الموسيقية لثلاثة آلاف مستمع، وهي تقع في نهاية شارع روتشيلد! والقاعة رائعة، ولكنها نتاج الهِبات المغدَقة من الخارج شأنها شأن أغلب المنشآت العامة. وقد تبرَّع ببناء هذه القاعة بالذات أمريكيٌّ يُدعى فردريك مان. وتل أبيب مقر السفارات أيضًا. وهناك مكتبةٌ ضخمة ملحقة بالسفارة الأمريكية مزوَّدة بلوحاتٍ دعائية، من بينها لوحة لتمثال الحرية الأمريكي، وهو يعلن حقَّ إسرائيل في «حدودها التاريخية» … التي جاءت في التوراة. أما سفارة فرنسا فيقف أمامها من آنٍ لآخر حاملو اللافتات الذين يحتجُّون بلا حماس على السياسة الديجولية … وقد رأيت سيدةً شابة تحوَّلت إلى امرأة «في هيئة سندويتش»، وعلى ظهرها لافتة مزخرفة بعددٍ كبير من علامات التعجُّب. وتقول اللافتة: «لقد طردتني بالأمس يا ديجول من الجزائر. فهل تريد فنائي اليوم؟!»

وفي الليل لا تُغمض تل أبيب إلا عينًا واحدة. وتظل المطاعم والمقاهي مفتوحةً حتى ساعة متأخرة لتُغرِق الساهرين في الفولكلور وأضواء النيون، بل هناك أيضًا جولات سياحية لمشاهدة تل أبيب في الليل، فتطوف المدينة مجموعاتٌ من الأمريكيين والكنديين الباحثين عن ملَكات سبأ. ويتميز هذا النوع من النشاط بنفس القدْر من الضحالة الذي يُعرف به مثيله في العواصم الغربية.

كل ذلك قائمٌ ومتحرك ومتطور. ولكن يجب ألا تخدعنا المظاهر؛ فنسيج تل أبيب قوامه شيء آخر مختلف عن ذلك. لسنا هنا بصدد انتقالةٍ عفوية؛ فقد نشأت تل أبيب من خلال يافا لتطغى عليها ثم تستوعبها. واسم يافا يذكِّر الفرنسيين بلوحةٍ للمصوِّر «جرو» تمجِّد بونابرت؛ إذ تصوَّروه وهو يواجه بكل جسارة المصابين بالطاعون، بوجهٍ سافر وأساريرَ هادئة بينما يدير ضباطه وجوههم أو يخفون أنوفهم في مناديلهم … على أن يافا ترجع إلى أصولٍ بعيدة موغِلة في ظلمات التاريخ. وهي تُعتبر من أقدم مدن العالم ويحتمل أن تنبُع تسميتها أصلًا من اللغة الفينيقية ومعناها «الجمال».

ومن يافا استقلَّ يونس قاربَه ليقوم برحلته داخل جوف الحوت. وتقول الأسطورة إن فرساوس أنقذ أندروميدا من براثن وحش البحار على إحدى صخور خليج يافا. وهكذا ترتبط الأساطير بهذا الميناء الذي استخدمه الملِك سليمان في نقل مواد البناء للمعبد الذي أقامه. وعلى مرِّ التاريخ تعاقب على هذه البلاد يهوذا المكابي والرومان والصليبيون والفرنسيون والإنجليز والأتراك؛ فترك كلٌّ منهم أثرًا له فيها إلى أن وفد إليها في عام ١٨٩٦م عددٌ من المهاجرين الإسرائيليين، حيث أسَّسوا حيَّين يهوديَّين والمدينة لا تزال تحت الحكم العثماني.

وفي عام ١٩٠٩م، تبادر إلى أذهان سكان الحيَّين إقامةُ مركز يهودي صِرف على الساحل وخارج حدود المدينة، واشترَوا أراضي واستقروا نهائيًّا في عام ١٩١٠م على تسميتها «تل أبيب».

وتزايدت حركة الهجرة بعد هزيمة العثمانيين في عام ١٩١٨م وفرْض الوصاية البريطانية على فلسطين. وفي عام ۱۹٢٣م استقلَّت تل أبيب إداريًّا عن يافا. وكانت الخلافات بين الطائفتَين العربية واليهودية قد تفاقمت، واتخذت طابعًا عنيفًا يتعدَّى السياسة الدءوبة التي انتهجتها إنجلترا. ووصلت الاصطدامات المسلَّحة بين الطرفين إلى ذروتها في سنة ١٩٤٨م عندما قامت فرق الكوماندوز الإسرائيلية بغارات ليلية على الأحياء العربية، فنسفتها الواحد تلو الآخر. وفي ١٣ مايو ١٩٤٨م، أي قبل أن تشنَّ الدول العربية الحربَ بصفة رسمية على إسرائيل بيومين، كانت يافا قد تم احتلالها وهرب سكانها العرب بطريق البحر. ولا يوجد الآن في يافا سوى خمسة آلاف عربي على أقصى تقدير. وفي الطريق من تل أبيب إلى يافا التي لم تَعُد سوى ضاحية لها، يجتاز المرء أراضي فضاء أقربَ إلى أن تكون منطقة حرام تغطيها آثار التخريب، وتشبه ما نراه في المدن التي دمَّرتها الغارات الجوية.

وهناك أشياءُ أخرى يستشعرها المرء وهو في تل أبيب. فهناك المهاجرون الهاربون من حركات الاضطهاد ومعسكرات الاعتقال وأفران حرق الأحياء، وأيضًا الرجال والنساء المجرَّدون من أية مِلكية والمطرودون من أوطانهم منذ عشرين سنة ليعيشوا كلاجئين في أراضٍ صديقة، ولكنها غريبة على أي حال. ولكن هناك إحساس يسيطر على كل أساليب التفكير وعلى كل التقديرات السياسية؛ إذ يسود بين الناس هنا يقينٌ متأصل وراسخ فحواه أن استخدامَ القوة مع العرب هو الأسلوب الواقعي الوحيد. ويسود هذا التفكير في جميع أنحاء إسرائيل ولكنه ملحوظ بشكل خاص في هذه المدينة التي تكوِّن مع القدس جناحَي الواجهة التي ترمز لإسرائيل.

وإذا أبدى المرء تشكُّكه في صحة هذا التقدير أو عارضه فإنه يُقابل فورًا باعتراض ساخط، تصحبه السخرية أو إبداء الأسف، حسب اختلاف الحالات والأمزجة. وقد تتفاوت الآراء إلى حدٍّ ما، ولكنها تسير كلها في خط واحد، اللهم إلا حالات نادرة. وقد عبَّر لي عن هذا التفكير بكل عنف صاحب مكتبة بالرغم من أنه مثقَّف ويتكلم الفرنسية بإتقانٍ يدعو للإعجاب. قال لي الرجل: «هؤلاء القوم لا يُجدي معهم سوى استخدام العصا.»

هل يعني ذلك أن كل العرب مبرَّءون من الخطيئة؟ لا بالقطع؛ فالاندفاعات الملتهبة للشقيري الذي تخلَّص منه الفلسطينيون أخيرًا بعد أن كان يدَّعي أنه يمثلهم، والحِدة الوحشية لبعض الرسامين والمعلِّقين الإذاعيين تعبِّر عن تصرُّفاتٍ غير مسئولة وغير محتملة، وقد لا يحق لنا أن نبرِّر ما لا يقبل التبرير، ولكن يجب أن نتصوَّر في نفس الوقت ما يمكن أن تمثِّله بالنسبة للشعوب العربية سياسةُ دولة تتجاهل بكلِّ وقاحة مشكلةَ اللاجئين وتتفاخر جهارًا بانتشار وفعالية شبكات التجسُّس التي أقامتها في الدول المجاورة لها، وتُناور بكل الوسائل لإسقاط الحكومات التي لا تروق لها، وتسمح لوزرائها أن يعلنوا عن مطالبهم المتعسِّفة بضم أراضٍ لهم باسم الحدود التي رسمتها التوراة منذ ثلاثة آلاف سنة.

ولكنَّ الإسرائيليين لا يريدون أن يدركوا ذلك؛ فالتناقض الأساسي عند أغلبهم، هو أنهم يعيشون في قلب العالم العربي داخل نواة مثبتة وسطه فيتصرفون لا كشركاء يساهمون في عمليةِ تطوُّر مشتركة، ولكن كغرباء يسيطر عليهم إحساسهم بالتفوُّق على جيرانهم. ويترتَّب على ذلك عددٌ من النتائج، على رأسها الدور الأساسي الذي يقوم به الجيش في هذا البلد. كما ينبُع من هنا أيضًا الاعتقاد الراسخ بأن هجمات عام ١٩٥٦م و١٩٦٧م كان لها ما يبرِّرها، وأن كلمة «عدوان» تفقد معناها عندما يتعلَّق الأمر بإسرائيل. ومن هذا التناقض ينبثق ذلك الترحيب المطْلق الذي تُصادفه الأفكار التوسعية والمغامِرة التي ينادي بها رجلٌ مثل «موشي ديان».

وتعيش إسرائيل اليومَ على عبادة حرب الأيام الستة. ويكفي المرء أن يتكلم مع الناس هناك ليلاحظ ذلك. فإذا ذهبت إلى مطعم قدَّموا لك «سلطة موشي ديان» وخضروات «٦ أيام من يونيو» وكوكتيل «الحرب الخاطفة». ويصادف المرء نفس الشيء إذا ألقى نظرةً على واجهات المحلات. ففي كل المكتبات أماكنُ مخصَّصة لعرض مطبوعاتٍ ذات عناوين وأغلفة موحية، مثل «الحرب الخاطفة» و«الستة الأيام الحاسمة» و«الساعات الفاصلة في حياة إسرائيل» و«ريح السيف»، وهي تشيد جميعها بالانتصار وتفيض بتمجيد الجيش. وفي وُسع المرء أن يشتري عند باعة التذكارات تماثيلَ صغيرة للجنرال ديان أو رابين أو آلون أو غيرهم في كل الأشكال مثل: منافض السجائر، المناديل، الملاعق الصغيرة، الأكواب أدوات المائدة … وشاهدت في محلٍّ لبيع الملابس يقع في وسط تل أبيب تمثالًا لموشي ديان بالحجم الطبيعي يقف بين مجموعة من تماثيل عرض الملابس، يحمل في يده رقم ٦ وكأنه يقدِّم للجمهور موضةَ الشتاء.

إن إسرائيل تبحث عن الطمأنينة بالاستغراق في التأمُّل الذاتي لانتصارها؛ ذلك لأن القلق الشعبي كان عميقًا وحقيقيًّا. ومن هنا يبدأ التناقض؛ فهناك أشياءُ كثيرة يمكننا أن نجد تفسيرًا لها لا في ذلك القلق، ولكن في الاستخدام الواعي والمدروس لهذا القلق من جانب الرجال الذين يتولون زمام الأمور في إسرائيل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥