القدس … الآن
لم أرَ في حياتي سماءً أكثرَ صفاءً من سماء القدس، وبخاصة في الليل عندما يكون الظلام نفسه شفافًا دون أن يشوبه أيُّ ضباب عالق بالجو، ودون أن يعترض شيء الطريقَ بين النجوم والأرض. وتمتد هذه المدينة في جمالٍ هادئ نبيل لتتموج على إيقاع تلالها الخضراء الداكنة. ويُطلِق العرب عليها مدينة «القدس»، ويسميها الإسرائيليون «أورشليم».
وحتى يونيو ١٩٦٧م كانت القدس مقسمة إلى جزأين. وكانت الأمم المتحدة قد قرَّرت تدويلَ المدينة في عام ١٩٤٧م بالنظر إلى طابَعها الخاص الفريد، وبالنظر إلى سكانها المتميزين. ولكنها أصبحت نصف إسرائيلية نصف أردنية على أثرِ حرب ١٩٤٨م. وقد أُلغيت الآن الحدودُ الداخلية في المدينة وأصبحت تحت السيطرة الكاملة لإسرائيل. ولم يتم ذلك دون عناء؛ فقد شهدت المدينة معاركَ عنيفةً لا تزال آثارها المادية واضحة.
وبمجرد وقف القتال، أعلنت حكومة أشكول بكل وضوح أن توحيدَ المدينة تحت لواء إسرائيل إجراء لا يمكن الرجوعُ فيه، تبرِّره اعتبارات تاريخية وروحية تعتمد على نصوص التوراة وعلى التراث اليهودي. ولكن من الواضح أن السبعين ألف عربي الذين يعيشون حتى الآن في القدس بعد أن تركها ثلاثون ألفًا، لا يوافقون على هذا الرأي. فبالرغم من توحيد المدينة إلا أنها تملي على المرء الإحساس بأنها مدينة ممزقة تمزيقًا عميقًا. لقد توقَّف القتال ولكن السلام لا يجد لنفسه مكانًا لا في القلوب، ولا في المناخ السائد. ويحسُّ المرء ذلك في الجو العام، وفي آلاف التفاصيل السائد الصغيرة. ففي كل غرف الفندق التابعِ لجمعية الشبان المسيحيين القائم بالمنطقة الإسرائيلية، يوجد منشور بالتعليمات الواجب اتباعُها في حالة وقوع غارة جوية. ويوضِّح المنشور أنه توجد شمعةٌ في دُرج الكومودينو لاستخدامها في حالة انقطاع التيار الكهربائي. وإذا أبدى المرء دهشته، جاءت الإجابة مصحوبةً بابتسامة مقتضبة: «لن يستمر الوضع على ذلك …»
فما هي «ذلك» هذه؟ إذا كانت المدينة الإسرائيلية لا تزال على حالتها، فإن المدينة الأردنية تعيش في خفوت. فعندما يهب الليل لا يطرق الشوارعَ إلا مشاةٌ قلائل يسرعون الخطى بالرغم من إنهاء حظر التجول. والمطاعم مقبضة وشبه خاوية، ويسود الصمت فيها فورَ دخول المرء بصحبة إسرائيليِّين. فكل شيء هنا يوحي بأن المدينة تمسك أنفاسها وتنتظر.
لا تزال المدينة العربية المسوَّرة تنبِض بالحياة، من خلال طرقها المتعرجة، وشوارعها المسقوفة، ودكاكينها المتلاصقة وأطفالها الذين ينتشرون يركضون في كل مكان، وحميرها الناهقة من أحواشٍ متوارية وروائحها ونداءاتها وأسرار نوافذها الحديدية. على أنَّ المرء يشعر أيضًا بحالة عدم استقرار تسود الجو. لا شك أن السياح يتوافدون، وتجارة «التذكارات» مستعدة للترحيب بهم وهي تقدِّم لهم مصنوعات من خشب الزيتون ومنسوجات مطرَّزة بالذهب وحليًّا … ولكنَّ المرافقين لا يدُلونهم إلا على ظاهر الأشياء فقط. إنهم لا يتوغَّلون في القدس الخفية والمتحركة تحت سطحٍ معتِم من المظاهر الكاذبة. وعلى كلٍّ، لم يحضُر سيَّاح أجانب هذا العام، حتى في أعياد الميلاد، لزيارةِ الأماكن المقدَّسة. أما السياحة الداخلية فقد نمَت إذ توافد الناس من كل أنحاء إسرائيل على القدس، ولكن هذه السياحة لا تقدِّم البديل لا من حيث العملات ولا من حيث الدعاية.
وقد بدأت عمليةُ تهويد القدس على نطاقٍ واسع. وأعلن رئيس الوزراء بنفسه خططَ الحكومة بهذا الصدد. وهي تتضمَّن سياسةَ إسكان تهدُف إلى توطين الأهالي اليهود على نطاق واسع ونقل مقر الحاخام الأكبر، وهو أعلى سلطة دينية، من تل أبيب إلى القدس. وتشرِف الشرطة على المستشفى الإسلامي وقد أقيم بالمدينة احتفالٌ كبير بمناسبة العيد السنوي للشرطة؛ ولا يخلو هذا الاحتفال من مغزًى. وقد خصَّصت جريدة «جيروساليم بوست» مقالًا افتتاحيًّا للشرطة ومرشديهم (الذين يُسمَّون في أي مكان آخر «الوشاة») لِما بذلته من جهودٍ من أجل إتمام عمليات القبض.
وبمناسبة الكلام عن توحيد القدس، كتب شاعر عربي قصةً جديرة حقًّا بالتأمُّل. فقد دخل السجَّان زنزانةَ رجلٍ أمضى في السِّجن عشرين عامًا، وقال له: «لك أن تفرح، ستتمكَّن من رؤية إخوتك»، فصاح السجين: «حقًّا؟ هل سيُفرَج عني إذن؟» غير أن السجَّان أجابه: «لا، ولكن إخوتك سيفِدون عليك في السِّجن.»
إن مشهد حائط المبكى مخيِّب لآمال كلِّ مَن لا ينظر إليه من خلال الإيمان فالحائط من حجارة غير متناسقة لفحتها الشمس، وهو مقسَّم إلى ثلاثة أجزاء: الجزء الأوسط، وهو الأكبر، مخصَّص للرجال، والجزءان الجانبيان مخصَّصان للنساء. وتوجد حواجزُ عند المدخل، ويقوم جندي شابٌّ بتوزيع أغطية للرءوس من الورق الأسود اللون على الذين لم يفكِّروا في إحضارِ ما يلزم لتغطية الرأس. وقد ألقى هذا الجندي نظرةً لا تنمُّ عن الود نحو صديقي الذي يرافقني، ولكنه تركنا نمر. وكان أحد العسكريين المتولِّين الحراسة قد رفض إدخال جماعة من السياح إلى المكان، بحجةِ وجودِ أفراد من غير اليهود بينهم. وقد أُلغيت هذه التعليمات بعد سلسلة من الاحتجاجات نشرتها جريدةُ «جيروساليم بوست» المواليةُ للحكومة على طول الخط.
ومع أن هناك أناسًا كثيرين يزورون حائطَ المبكى إلا أنهم لم يعودوا كالجماهير التي تدفَّقت في بداية الأمر. فقد وقفت إسرائيل بأسْرها أو أغلبيتها على الأقل أمام هذا الجدار بعد أن مرَّ الجيش أمامه. والواقع أن المواطنين الإسرائيليِّين كانوا لا يستطيعون دخولَ المنطقة الأردنية من القدس حيث توجد الأماكن المقدَّسة الخاصة بالأديان الثلاثة بسبب عدم اعتراف البلاد العربية بدولة إسرائيل. وقد جاء البعض بدافعٍ من الشعور الديني الصادق. وهؤلاء يقيمون الصلاةَ وقوفًا ويقبِّلون الحجارةَ. ووجودهم هنا يتمشَّى مع وجود مؤمنين آخرين ينتمون إلى عقائدَ أخرى، ويؤدون شعائرَ مختلفة في جامع عمر أو في كنيسة القبر المقدَّس. على أن عددًا كبيرًا من الذين حجُّوا إلى حائط المبكى لم يأتوا في الواقع إلا بدافع من الإحساس الوطني. لقد اعتبر الإسرائيليون القدسَ عاصمةً لدولة اليهود حتى في أيام التقسيم. ويوجد بالمدينة مقرُّ الحكومة والبرلمان. ويثور الإسرائيليون عند مجرد التشكيك في ملكيتهم لها؛ فالقدس هي صهيون، والعودة إلى صهيون هي الحُلم القديم للطوائف اليهودية المنتشرة في أنحاء العالم؛ إذ يردِّدون: «العام القادم في القدس …»
وتخفي هذه المثابرة الدءوبة مشكلةً مخيفة ذات تعقيدات سياسية ضخمة.
لقد قامت الصهيونية على فكرةِ أرض الميعاد والعودة إلى إسرائيل البلدِ الذي عيَّنه الله لإبراهام، ووعد به أعقابه والرجوع إلى أرض كنعان التي تتوِّجها أورشليم مدينتُها المقدَّسة.
وقد كتب تيودور هرتزل، المؤسِّسُ الحقيقي للصهيونية الحديثة في مذكِّراته في بداية هذا القرن، كتب يقول بخصوص وضرورة مدِّ حدود الدولة اليهودية المرتقبة حتى قناة السويس: «يجب أن يكون شعارنا: فلسطين داود وسليمان.» وقد أوضح هرتزل في فقرةٍ أخرى الحدودَ الجغرافية للدولة التي يتمنَّاها: «المساحة: من نهر مصر (النيل) إلى الفرات.» وقد قام المؤتمر الصهيوني الأول المنعقِد في مدينة بازل سنة ١٨٩٧م، على أسسٍ لم يتنكَّر لها أحدٌ حتى الوقت الراهن، بل إن هناك على العكس فيضًا من التصريحات الرسمية المؤكِّدة لقرارات المؤتمر. ففي عام ١٩٥٥م حرص الكتاب السنوي لدولة إسرائيل على إيراد الملحوظة التالية: «إن إنشاء الدولة الجديدة لا يلغي بأي حال من الأحوال الحدودَ التاريخية لأرض إسرائيل.» وعلى أثر حرب ١٩٥٦م أنكر بن جوريون حدوثَ أي عدوان؛ لأن سيناء في مفهومه «ترتبط تاريخيًّا بفلسطين»، وأنه لا يمكن أن يرتكب الإنسان عدوانًا على نفسه.
وقد وُلد تيودور هرتزل في بودابست عام ١٨٦٠م. وتوصَّل إلى الصهيونية بعد أن حضر محاكمةَ دريفوس في باريس كمراسل لجريدة «نيوفري برس» النمساوية، وقد أثارته هذه المحاكمةُ وهزَّته حتى دمغت حياته بأسْرها. ويجب أن نتذكَّر أن هذا التحوُّل حدَث في فترةٍ كانت الظروف تسمح فيها للكاتبة الروائية الفرنسية «جيب» أن تجيبَ على المحكمة من منصة الشهود عند سؤالها عن مهنتها، فتقول: «معادية للسامية» … ومنذ هذا العهد زادت ألوانُ العذاب التي لاقاها اليهود مع جرائم الهتلريِّين، مما أضاف مزيدًا من المآسي إلى ملف القضية، ولكن يجب ألا تتصوَّر هذه الدولة اليهودية التي قالت في إعلان تأسيسها إنها «ستساهم في تقدُّم الشرق الأوسط في مجموعه» أن هذا التقدُّم يتمثَّل في أكثرَ من توسُّعها الذاتي على حساب جيرانها.
وتختلف وجهات نظر الأحزاب الداخلية في التآلف الوزاري الحالي في إسرائيل حول مستقبل هذه الدولة، ولكن القوى القائدة للدولة تؤيد بشكلٍ أو آخر التوسُّع في أراضي إسرائيل، سواء باسم «الحقوق التاريخية» أو باسم «الحدود الآمنة»، ويتضح ذلك من التصريحات المتعدِّدة على اختلاف لهجاتها. ويكرِّر كلٌّ من السيد أشكول والسيد إيبان، وزير الخارجية «نحن لا نريد أن نتوسَّع في أراضينا». وقد ردَّد ذلك أخيرًا سفير إسرائيل في باريس باسم حكومته. ولكنَّ هناك تعقيبًا لا بد وأن يصحب هذه التصريحات؛ فكل هؤلاء المتكلمين يعلنون بنفس القوة أنه يستحيل «العودة» إلى أوضاعِ ما قبل يونيو ١٩٦٧م، عند الإشارة إلى مرتفعات جولان وشبه جزيرة سيناء، بل وحتى الضفة الغربية لنهر الأردن. ولا داعيَ للكلام عن القدس التي تم ضمها بالفعل بتحدٍّ صريح لقرار مجلس الأمن الإجماعي الذي ينص على الجلاء عن كل الأراضي المحتلة. ومن هنا يحق لنا أن نتساءل عما يمكن أن نتوقَّعه في المستقبل.
تريد حكومة إسرائيل أن تستغل إلى أقصى حدٍّ ممكن مركزَ القوة الذي تتمتَّع به اليوم، معتمدةً على تفوُّقها العسكري، وعلى تأييد الولايات المتحدة، وعلى مساندة المنظمات الصهيونية النشيطة والفعَّالة في أنحاء العالم. وكل شعب يريد السلام، ولا يختلف في ذلك الإسرائيليون عن غيرهم من الشعوب. وإني لأتذكَّر الآن امرأة قابلتها في «ديمونة» بالقرب من البحر الميت حيث يقيم عددٌ كبير من المهاجرين الوافدين من شمال أفريقيا، كانت تكلمني بكل توجُّس عن الحرب. وكانت تبدي استياءها من حديثٍ أدلى به بن جوريون في الإذاعة. كانوا قد سألوه ما هي توقُّعاته بالنسبة للمستقبل، فأجاب «الحرب»، وسأله المذيع مرةً أخرى «وماذا بعد»، فأجاب بن جوريون «وحرب أخرى» … كانت المرأة تنظر لأطفالها الثلاثة والدموع تطفر من عينيها، وهي تتكلم. ولكن عندما سألتها عن الطريق المؤدي الى السلام لم تجِد سوى كلمات الازدراء والعنف.
والحكومة نفسها، تعي تمامًا ما تريد. وكانت تعرِف بالأخص حقيقةَ قوى الطرفين. كانت أجهزتها السِّرية التي تتفاخر بها بلا تواضع وتقول عنها صحافة إسرائيل إنها «أحسن أجهزة مخابرات في العالم قاطبة»، قد قدَّمت لها معلومات دقيقة وكاملة. ولم تعلن حرب الأيام الستة إلا لأن القيادة العليا الإسرائيلية كانت تعرف بلا أي لبس، ما ستواجه به وأين ستواجه به. ويثور الإسرائيليون إذا قيل لهم إنهم كانوا غزاةً معتدين، ولا يتصورون أنفسهم إلا في هيئة داود الصغير المنتصر على المارد جالوت الشرير، بفضل شجاعته وذكائه وانتمائه إلى الشعب المختار. ولا شك في أن هذه النظرية على جانب كبير من المثالية. فعندما نكون بصدد حرب من هذا النوع، وبصدد جيش حديث متفوِّق من حيث التدريب، ومعتمد على عنصر المفاجأة فإن فرص الانتصار تكون في جانبه في أغلب الأحوال، وقد قال لي أحد الضباط المتصلين عن قرب بأركان الحرب: «كانت لعبة بوكر، ولكننا استطعنا أن نرى أوراق العدو.»
يقضي كل مواطن إسرائيلي جزءًا من حياته في الجيش، ولا يُعفى من ذلك إلا في حالات نادرة. وتشمل الخدمة العسكرية الرجالَ والنساء، وهي تمتد ٢٦ شهرًا للشبان و۲۰ شهرًا للشابات، ولا يُستثنى منهن إلا الفتيات المنتميات إلى الأسر اليهودية الشديدة التمسُّك بالتقاليد الدينية، وبناءً على طلبهن. ويجدُر بنا أن نذكر أن مدة الخدمة زادت ستة أشهر لمواجهة الاحتياجات الجديدة التي فرضتها المناطق المحتلة. ويتفق سنُّ أداء الخدمة مع انتهاء الدراسة الثانوية. وتؤدي النساء المتزوجات الخدمةَ شأنهن شأن بقية المواطنين، ولا يعفيهن من إدائها إلا إنجاب الأطفال. ولا يتمتَّع بالتأجيل إلا عدد محدود للغاية من طلبة الجامعة العبرية بالقدس والكلية الفنية (تكنيكون) في حيفا.
ويظل الرجال تابعين لقوات الاحتياط حتى سن التاسعة والأربعين. أما النساء اللاتي ليس لهن أبناء، فيبقين في الاحتياط حتى الرابعة والثلاثين. ومن جهةٍ أخرى يلتزم كل أفراد الاحتياط بالخدمة مدة ٣٠ يومًا متواصلًا ويومًا كاملًا كل شهر أو ثلاثة أيام متواصلة كل ثلاثة شهور. وفي الحالات الاستثنائية، كما هو الوضع الآن، يمكن استدعاء أفراد الاحتياط حسب احتياجات القيادة. والغرض من فترات الاستدعاء «الحفاظ على المستوى العسكري ورفعه، والتدريب على استخدام الأسلحة الجديدة». وفي فترات السِّلم، تُجرى تدريبات على التعبئة على فترات متقاربة. وتوجد تحت تصرُّف كل وحدة احتياطية مخازنُ الأسلحة والذخائر والمعدَّات المختلفة الخاصة بها.
وهكذا تسيرُ الحياة الإسرائيلية كلُّها على إيقاع العسكرية فلا يُفلِت منها أيُّ مواطن. والجيش قادرٌ على استيعاب أيِّ مواطن في أيِّ لحظة وعلى إخضاعه لقوانينه. وهو يقوم بدور كبير في التكوين الذهني والأخلاقي للفرد، باعتباره استمرارًا للمرحلة الدراسية، ويرمي إلى تطويع الفرد وطبْعه بعقلية الدولة. ويُخضِع الجيش أفراده للقانون الديني، شأنه في ذلك شأن الدولة؛ فهناك معبد لكل تشكيل عسكري، كما يتسلَّم كل جندي نسخةً من التوراة بوصفها «التراث المشترك الذي تقوم على أساسه وحدةُ الأمة»، على حدِّ قول المصادر الرسمية. ومن جهةٍ أخرى، يلتزم كل جندي بأن يأكل «كاشير»، وأن يخضع لقيود الطعام اليهودية المطبَّقة في كل مطابخ الجيش.
لا شك أن الجيش الإسرائيلي يميل إلى تفضيل القوة على المفاوضة، والهجوم على المناقشة. ويحتل الجيش وقوَّاده مركزًا متضخمًا، وليس سرًّا على أحد أن هناك على الأقل جنرالين؛ وهما إيجال آلون وزير العمل، وموشي ديان وزير الدفاع، يسعيان إلى الحلول في رئاسة الوزارة. على أن وجودَ أكثرَ من طامع في هذا المنصب يقلِّل من فرص وصول القادة العسكريِّين إليه. ولكنهم يفكِّرون في الأمر، وهم متمتِّعون بشعبيةٍ واسعة وبالأخص ديان، وكلُّ تدهور في الموقف يكون في صالح القادة العسكريين.
أما الجنرال ألوف حاييم بارليف الذي حلَّ في ديسمبر الماضي محلَّ الجنرال رابين في قيادةِ أركان الحرب، فقد أعلن يوم تعيينه في منصبه الجديد أنه «لا يستطيع أن يتصوَّر عملًا يرضي الإنسان بقدْر ما ترضيه الخدمة العسكرية في هذا البلد.» وبعد أن أشار الجنرال بحزن إلى المصير البائس لجنود الجيش السويسري الذين لن تواتيهم فرصة القتال، راح يعدِّد الحروبَ التي خاضها بنفس اللذة التي تَذكُر بها فتاةٌ عددَ المرات التي قابلت فيها شبانًا بناءً على موعد سابق. وأنا أذكر ذلك لأن الجنرال بارليف كان قد بدأ حديثه بقوله: «أنا لست من أنصار العسكرية، ولكن …»
وتؤكد دولة إسرائيل في نفس الوقت أنها ليست دولةً عسكرية، ودليلها على ذلك أن كل جنودها أو أغلبهم من المدنيين. وإذا كان ذلك هو الأساس فإنه بوسعنا أن نعكسَ الآيةَ، وأن نقول إن كل المدنيين في إسرائيل أو أغلبهم جنود و«لكن» … كما يقول الجنرال بارليف …
ولما كانت إسرائيل تحرص على أن يكون جيشها على أعلى مستوًى في استخدام الأسلحة الحديثة للغاية، فإنها تهتم عن كثَب بالمسائل النووية. وهي تحتفظ جيدًا بأسرارها في هذا المجال. وقبل أن تتخذ الحكومة الفرنسية موقفَها الراهن المعروف، كانت هناك اتصالات وأشكال من التعاون مؤكَّدة؛ وينطبق ذلك على ألمانيا الفدرالية أيضًا. فالحصول على أسلحة ذرية لم يَعُد مقصورًا على الدول الكبرى.
وعندما يذهب المرء إلى ميناء إيلات على البحر الأحمر، فإنه يلاحظ على الطريق مصنعًا (أو ما يشبه ذلك) منعزلًا في صحراء النقب. وهذه المنطقة عسكرية بحتة لا يمكن الاقتراب منها. واذا وجَّهت السؤال إلى مَن يستطيعون تقديمَ الإجابة، فإنهم يراوغون ويحاولون الظهور في سيماء جيمس بوند. وقد قال لي أحدُ الضباط: «أستطيع أن أقول لكِ ما هو، وأن أقول لكِ ما ليس هو. إنه مبنًى عسكريٌّ، ولكنه ليس ذريًّا.» ولم تقنعني كلماته … وهناك إشارات، لا تكاد تستتر، صادرة من الدوائر المطَّلعة تسمح للمرء بأن يؤكد أن إسرائيل متقدِّمة للغاية من حيث المنشآت والدراسات. ولكن هل تملك القنبلة الذرية؟ وهل هي قادرة على صنْعها؟ إننا ندخل هنا في مجال الفروض المعقولة، مما يزيد من المتاعب التي يعانيها الشرق الأوسط.