الفصل الثالث

الدِّين والدولة

يقوم سراي «الكنيست»، برلمان إسرائيل، على أحد تلال القدس على مقرُبة من الجامعة العبرية والمتحف القومي. وهو بناءٌ رائع الجمال، ذو خطوط نقية، ويتميَّز في الداخل بالأناقة والفخامة الشديدتين. وقد شارك شاجال بنصيبٍ وافرٍ في زخرفة المبنى. ويوجد به نوافذُ من الزجاج المعشَّق وأعمال نحت ونسج وأوانٍ فخارية وأعمالٌ من الخشب والنُّحاس المنحوت؛ فالمكان جميل وفخم. ويرجع كل ذلك أيضًا إلى سخاء أسرة روتشيلد.

وتحتل الصدارةَ في قاعة اجتماعات النواب (وعددهم ۱۲۰ فقط) صورةٌ لتيودور هرتزل مؤسِّس الصهيونية. وجلسات البرلمان علنية، ولكن حضورها يستلزم ترْك المِعطف والحقيبة في غرفة الملابس. أما السيدات، فيجب أن يتخلين عن حقيبة اليد … أو أي شيء آخر يمكن أن يُخفى فيه سلاح أو قنبلة. وتخضع الأماكن المخصَّصة للجمهور لرقابةٍ مستمرة من جانب الحجَّاب. وهى معزولة على أي حال عن مقاعدِ النواب بزجاج لا ينفذ منه الرصاص يمتد من السقف حتى الأرض.

وتتَّبع إسرائيل نظامَ الديموقراطية البرلمانية، ولكنه يختلف عن النظام القائم في فرنسا؛ إذ يقدِّم كل حزب ۱۲۰ اسمًا مرشحًا في قائمةٍ تشمل النطاق القومي، من أجل اﻟ ۱۲٠ مقعدًا، أي إن كل نائب لا يمثل مدينة أو جهة معينة، بل يمثِّل حزبًا من الأحزاب على الصعيد القومي. وهكذا يحتل كلُّ حزب عددًا من المقاعد يتناسب مع حجم الأصوات التي حصل عليها.

وللحزب الشيوعي الإسرائيلي ثلاثةُ نواب «يهودي وعربيان»: ماير فيلنر وتوفيق طوبي وأميل حبيبي. وقد شنَّ الجنرال ديان بالذات حملةً عنيفة من أجل تطبيق نظام التصويت على نطاق الدائرة، مما يؤدي من الناحية العملية إلى إلغاء أي معارضة في الحياة التشريعية بالنظر إلى الأوضاع الخاصة القائمة في إسرائيل.

•••

ويسيطر على الائتلاف الوزاري الحالي حزبُ العمال الإسرائيلي الذي تكوَّن في منتصف يناير ١٩٦٧م بتوحيد الأحزاب الثلاثة، وهي حزب الماباي الذي ينتمي إليه السيد أشكول، وحزب أشدوت هافودا وحزب رافي. ولا مجال للخوض في متاهات هذه الأحزاب في حدود هذا الكتيب؛ ولذا نكتفي بأن نقول إن هذه الوحدة الأخيرة تصحِّح أوضاعًا كان السيد بن جوريون قد ساهم بنصيبٍ كبيرٍ في خلقها، لمحاربة عدوِّه اللدود ليفي أشكول. فعندما انفصل بن جوريون عن حزب الماباي (أقوى حزب في إسرائيل ويسيطر بالأخص على الهستدروت)، وأسَّس حزب رافي في عام ١٩٦٥م، ضمَّ إلى صفوفه رجالًا من أمثال موشي ديان الذين كانوا يتصوَّرون أن أطماعهم ستنمو وتزدهر بعيدًا عن هياكل الحزب القديم الذي يتقاسم مناصبه الرئيسية قادةٌ عقدوا العزمَ على ألا يتركوا مكانًا للذئاب الناشئة. ولكن التقدير جاء خاطئًا. فالحياة السياسية الإسرائيلية متداخلة مع الأجهزة الانتخابية للأحزاب التقليدية ومقيَّدة بها حتى إن الوصول في المجال السياسي يُعَد أمرًا مستحيلًا خارج نطاقها. وقد أدرك ديان هذه الحقيقةَ بسرعة، وهو الذي يرمي إلى الاستيلاء على الحكم بوسيلةٍ أو أخرى؛ ولذا فقد سارع إلى الدعوة إلى جمع الشمل، وجرَّ وراءه كلَّ نواب هذه المجموعة تاركًا بن جوريون يزأر وحدَه على الشاطئ. ولا يزال الزعيم العجوز متمتعًا بتقدير واحترام كبيرين بين مواطنيه، ولكنه أقرب إلى أن يكون أثرًا تاريخيًّا من أن يمثِّل قوة سياسية.

وتضم الوزارة، إلى جانب الأحزاب الثلاثة المكوِّنة لحزب العمال الجديد (٥٥ نائبًا في البرلمان)، «المتدينون»، وحركة «جاهال» والمابام. ويتميَّز أعضاء الحزب القومي الديني بالتطرف الرجعي والإسراف في الدجل السياسي … لقد استمعت إلى وكيل وزارة الداخلية، مساعد السيد شابيرو وهو يتحدَّث إلى بعض الطلبة في القدس. كان يضع فوق رأسه الطاقيةَ السوداء الصغيرة الشعائرية، وكان يبدو كئيبًا بلحيته الصغيرة المدببة. أما خطابه فكان يفيض بالضحالة الفكرية في نقطتين:

النقطة الأولى هي الإنكار التام لوجود فلسطين عربية إذ قال: «كل العرب في جميع أنحاء إسرائيل يعيشون على أراضي إسرائيل الشرعية.» أما النقطة الثانية فهي في مجمل قوله: «لقد عشنا عشرين عامًا دون أن يعترف بنا جيراننا، وبحدودٍ أرحبَ من تلك التي منحتها إيانا منظمة الأمم المتحدة. وبوسعنا أن نعيش عشرين عامًا أخرى بالأراضي الجديدة التي حصلنا عليها دون أن يعترفَ بنا أحد.» أما النتيجة التي توصَّل إليها للأسف وسط عاصفة من التصفيق المدوي، أثارها ٦٠٠ شابٍّ، فهي: «يجب ألا نتنازل عن أي شبر من الأراضي.» ولمَّا كان أحد الحاضرين قد سأل على استحياء: «وماذا بعد عشرين سنة أخرى؟» أجاب رجل الدِّين المبجَّل: «سنسحقهم مرةً أخرى.»

وتضم حركة «جاهال» الأحرارَ المستقلين وحزبَ حيروت. وقد انبثقت هذه الحركة بشكلٍ مباشر من «الإيرجون»، وهي منظَّمة إرهابية يهودية اغتالت، فيمن اغتالت، الكونت برنادوت وسيطَ الأمم المتحدة في سنة ١٩٤٨م؛ والورقة التي تلعبها هي «الحدود التاريخية» الذائعة الصيت. وهي تمجِّد الاستخدامَ السافر للعنف اعتمادًا على «انجذاب» التوراة التي استبدَّت بكيانها. وتحتل حركةُ جاهال ٢٦ مقعدًا في الكنيست، بينما لا يمتلك حزب مابام سوى ۸ مقاعد.

•••

أما وضع حزب المابام «الحزب الاشتراكي»، فهو غير مريح. يعيش هذا الحزب على التنوُّع القائم في صفوفه. فجناحه الأيسر يتجاهل باستحياء ما يفعله جناحه الأيمن. وقد قال لي أحدُ نواب هذا الحزب: في استطاعة المرء أن يفكِّر عندنا كما يحلو له. فأنا مثلًا، غير متَّفق على الإطلاق مع قيادة الحزب. وبدا لي أن هذا الوضع لا يقلقه أبدًا. فحزب المابام يؤيد الوزارة التي يشترك فيها وهو يصوِّت في صفها في البرلمان، ولكنه ينتقدها خارجه. ولمَّا كان هذا الحزب موزعًا بين اتجاهات مختلفة، فهو قادر على أن يتشكَّل في صورٍ متباينة أمام مَن يتعامل معهم. فهو يمنح اليسارَ ما يريد ويزوِّد اليمينَ بما يحقِّق له الطمأنينة. وحزب المابام متغلغل في حركة «الكيبوتز»، ويحاول بذلك أن يحقِّق التوافق المستحيل بين الاشتراكية والرأسمالية، وبين الفكر القومي المتطرف والفكر التقدُّمي. ولا يقول هذا الحزب في تعريفه لنفسه إنه «حزب صهيوني»، بل «نصير تجمُّع الشعب اليهودي». على أن وزراءه يجلسون بجوار ديان وبيجين.

ويضم المابام كلَّ الأصناف بين صفوفه؛ ففيه الانتهازيون والديمقراطيون المخلصون، الباحثون حقًّا عن حلٍّ مشرِّف للنزاع اليهودي العربي، والذين يتظاهرون فقط بالرغبة في الوصول إلى هذا الحل. وكثيرًا ما يتردَّد الكلام عن الروح الدولية عند حزب المابام، ولكنه (أي هذا الكلام) لا يلقى ترحيبًا من إنسان تشبَّع بالعقلية الدولية.

وقد وجَّهت سؤالي بخصوص تنفيذ قرار مجلس الأمن، والجلاء عن الأراضي المحتلة لرجالٍ يعتبرون أنفسَهم من أقصى يسار حزب المابام، فلم يوافق واحدٌ منهم على ذلك بشكلٍ كامل. كانت الموافقة مرهونةً دائمًا بشروط ومشمولة بتحفُّظات … والحق أنه من العسير الحصولُ على إجابات واضحة من حزب المابام المحاصَر وسط تناقضاته. وهو يعاني حاليًّا من تدهور نفوذه مما يؤكد مرةً أخرى أن التذبذب نادرًا ما يكون مجديًا.

•••

وقد مرَّ الحزبُ الشيوعي بتجربةٍ قاسية؛ فقد توصَّل جناحٌ منه (جماعة ميكونيس-سينيه) إلى تقويضِ وحدتِه بعد أن خرج على فكرةِ الأهمية البروليتارية، وعلى تضامُن العمال اليهود والعرب، وعلى الصداقة مع الاتحاد السوفييتي. وقد أدَّى هذا الانقسام إلى إضعاف الحركة العمالية الإسرائيلية بأسْرها، وساهم في توسيع الهوة بين اليهود والعرب. ويوجد حاليًّا في إسرائيل حزبان شيوعيان إسرائيليان بالاسم، أحدهما حزب جماعة ميكونيس-سينية، والآخر يتولَّى سكرتاريته العامة الرفيق ماير فيلنر. وحزب فيلنر هو الحزب الوحيد في إسرائيل الذي يكافح حقًّا من أجل المصالح الحقيقية لشعب إسرائيل، ومن أجل الحفاظ على السلام في الشرق الأوسط، بينما أيَّد حزبُ سينيه عدوانَ يونيو ١٩٦٧م. ويحتاج المرء إلى قدْر كبير من وضوح الرؤية والشجاعة للدفاع عن الموقف السليم وسط جو التطرُّف القومي السائد في إسرائيل. والشجاعة المطلوبة أدبية ومادية في آنٍ واحد؛ ففي ١٥ أكتوبر الماضي تسبَّب قاتلٌ شابٌّ في إصابة ماير فيلنر بجِراح خطيرة في محاولةٍ لاغتياله بسكين أمام منزله بتل أبيب.

على أن الحزب الذي يقوده ماير فيلنر ضعيفُ التأثير للأسف بين الأوساط الإسرائيلية المشبَّعة بالعقلية الصهيونية، ولكنه يتمتَّع بتأثيرٍ عميق بين العرب. على أن حرصَ هذا الحزبِ الشديد على الحفاظ على طابعه اليهودي العربي، وعلى علاقاته الأخوية مع الحركة العالمية يلقي ضوءًا متميزًا على احتمالات المستقبل وأبعاده. ولذا لا يوجد ما يدعو إلى البحث في أي مجال آخرَ عن أسباب الحقد المجنون الذي تضمِره له بعض الأوساط الإسرائيلية.

•••

تنفي دولة إسرائيل عن نفسها أنها حكومة دينية. ومع ذلك فإن حياةَ المواطنين فيها مدموغةٌ بالدين. فإعلان الاستقلال متشرب بالديانة كما أن مؤسساتها الدينية وعاداتها وقوانينها الدينية تفرض نفسها على كل شيء، بل ولا يوجد سواها في أغلب الأحوال.

فمن المستحيل أن يتزوَّج المرء زواجًا مدنيًّا في إسرائيل. فاليهودي غير المتديِّن مجبرٌ على عَقد قرانه أمام حاخام ما لم يكن على درجة من الثراء تسمح له بالسفر إلى قبرص أو أي دولة أخرى يوجد فيها تشريعٌ علماني. وإذا كان أحد المتقدمين للزواج غير يهودي فإن وضْعَه هذا يثير مشاكلَ لا يمكن تخيُّلها في فرنسا، خاصة إذا كانت المرأة يهودية؛ لأن الانتماء إلى اليهودية ينتقل عن طريق الأم. فطبقًا للقانون ينجبُ غير اليهودي المتزوج من يهودية أبناءً يهودًا، ولكن إذا حدَث العكس فإن الأطفال لن يكونوا من أفراد الشعب المختار، وتلك مأساةٌ حقيقية في حدود المفاهيم الإسرائيلية. ويبرُز الطابَع الديني للدولة بقوة ويؤكد عن وعي حتى إنه يتخطى حدودَ المظهر القومي. فإعلان الاستقلال يضع على نفس المستوى الطابَع «الروحي» والديني لإسرائيل مع الطابَع «القومي» للعودة إلى أرض الميعاد. وقد أورد كتيب رسمي بعنوان «الحياة الدينية في إسرائيل» أورد مَثلًا يهوديًّا قديمًا يقول: عندما قاس الله كلَّ المدن، لم يجد سوى أورشليم جديرة بأن تضمَّ المعبدَ، لقد قاس الله كلَّ البلاد ووزنها فلم يجد أفضلَ من أرض إسرائيل للشعب اليهودي. فالمواطن اليهودي الذي يقبَل ألا يُعتبر أبناؤه يهودًا يستبعد أبناءه بهذه الطريقة عن حياة الأمَّة.

ومن هنا فإن قصةَ الفتاة «جاليا بن جوريون» حفيدة بن جوريون غنيةٌ عن كل بيان. فقد اعتنقت أمُّها ماري، زوجةُ ابن الزعيم الصهيوني، الديانةَ اليهودية وهي في لندن منذ اثنين وعشرين عامًا مضت. ولكن الحاخام الأكبر لمدينة حيفا لا يعترف بوثيقةِ اعتناقها الدينَ اليهودي، وبناءً عليه فهو يعترض على زواج الفتاة، وعمرها هي أيضًا اثنان وعشرون عامَا، بضابط من المظليِّين في الجيش الإسرائيلي. ولكي تحصُل «جاليا» على حق الزواج من الرجل الذي تحبُّه، فإنه يتعيَّن عليها أن تعتنق اليهودية. كما يجب أن تعتنق أمُّها أيضًا الديانةَ اليهودية بشكلٍ رسمي أمام حاخامات إسرائيل.

•••

يمكننا أن نقدِّم العديدَ من الأمثلة على السيطرة الدينية على كل التصرُّفات اليومية في الحياة. فالطلاق ديني، شأنه شأن الزواج. وقد عرفنا من قبلُ أن الجندي الشاب يقع فورًا تحت السيطرة الصارمة للحاخامات. وفي حالة التقاضي، يكون من حقِّ الطرفين المتنازعين المنتميَين إلى نفس الطائفة الدينية أن يتقاضيا أمام محكمة الطائفة بالتراضي بينهما، بدلًا من اللجوء إلى القضاء المدني. وتطبَّق التعليمات الغذائية، وقيود يوم السبت بحذافيرها في القوات المسلَّحة. على أن الالتزامات التي يفرضها احترام طقوس يوم السبت تصطدم بقوةٍ بضرورات الحياةِ الحديثة حتى إن الأمر استدعى البحثَ عن بعض الاجتهادات. فمن المحرَّم مبدئيًّا استخدامُ وسائل المواصلات أثناء فترة محدودة من يوم السبت. ولذا لا توجد أتوبيسات في هذا اليوم بتل أبيب، ولكن التاكسيات الجماعية تنشط (وأسعارها أغلى بالطبع)، أما في حيفا (وأغلبُ سكانها من العمال) فتستمر الأتوبيسات في دورانها. وتهتم السلطات الدينية أساسًا بإغلاق المقاهي والمطاعم ودُور السينما والمسارح … إلخ. ولكن هناك استثناءات في هذا المجال أيضًا. كان في إمكاني مثلًا أن أتناول الشايَ أو القهوة بشكلٍ عاديٍّ في الفندق الذي أقيم فيه. على أن غلي الماء للحصول على بيضة مسلوقة يُعتبر ضربًا من الكفر.

•••

والهدف النهائي من كلِّ هذه القيود ليس احترام تعاليم الدِّين في حدِّ ذاتها، وإلا لمَا لجئوا إلى الاجتهادات، بقدْر ما هو تذكير المواطنين الإسرائيليين دائمًا وفي كلِّ مكان أنهم ينتمون إلى اليهودية. ويتم ذلك منذ دخول المدرسة.

فإذا انتهى إلى جيلٍ من الشباب وصل إلى الوعي الإنساني والسياسي وهو مواجه بالفظائع الفاشستية. وإني لأذكر الأطفالَ اليهود الذين كانوا يُساقون بالجملة في عربات النقل ليُرسلوا إلى معسكرات الإبادة، وهم أبرياء، رقيقون ومحرومون من أي إمكانية دفاع عن النفس … ولكن مما يثير الألم حقًّا أنه بدلًا من أن تثبت في أذهان الأطفال الإسرائيليين الرُّوح الإنسانية والعالمية، وبدلًا من أن يوجهوا نحو التقدُّم، فإنهم يؤسَرون في حدود التعليم المغلق الذي يبعدهم تمامًا عن مواجهة الحقائق.

لقد تكلَّمت مع بعض المدرِّسين، واطلعت على الكتبِ وبرامج الدراسة والموضوعات التي تطلب الوزارةُ منهم أن يطرقوها مع تلاميذهم؛ فدراسة التوراة إجباريةٌ لست ساعات في الأسبوع بالنسبة لتلاميذ السنة الثامنة؛ أي الذين يتراوح سنُّهم بين الثالثة عشرة والرابعة عشرة مقابلَ أربع ساعات للرياضيات وأربع ساعات للغة العبرية. ويلتزم مدرِّسوهم بتقديمِ عرضٍ أسبوعي يستغرق ساعةً كاملة حول الموضوعات التالية: «الحركة الصهيونية منذ سبعين عامًا»، الروح اليهودية وحرب الأيام الستة والنصر، تاريخ القدس، المدينة اليهودية منذ ثلاثة آلاف سنة.

وقد قالت لي إحدى المربيات بتل أبيب نحن مكلَّفون بالتحدُّث عن حرب الأيام الستة في حصص اللغة العبرية: كما «ينصحوننا»، بتأكيد مسئولية البلادِ العربية الكاملة عمَّا حدث، وتأكيد عدالة قضيتنا. أما دروس التاريخ، فتظهِر أن سيرتنا في نصاعة الثلج. وهناك فصول كاملة عن «الفظائع»، التي ارتكبها العرب، أما مذبحة دير يس فلا يرد ذكرُها شأنها شأن كل أعمال الاغتصاب والجور الإسرائيلية.

ودير يس، إذا لم تكن قد خانتنا الذاكرة، هي القرية العربية الكائنة غرب القدس والتي هاجمتها قوات الإيرجون١ اليهودية في السادس من أبريل عام ١٩٤٨م، حيث أبادت ٢٥٠ من الرجال والنساء والأطفال، وكان لهذا الحدَث دوي هائل حتى إن جون كيميش الكاتب والصحفي الإسرائيلي قال عنه إنه «أكبر وصمة في التاريخ اليهودي».

•••

ومن جهة أخرى، يتعلَّم التلميذ الإسرائيلي أن «الانصهار» هو أكبرُ خطر يتهدَّد الجاليات اليهودية في أي مكان في العالم. ويصوِّرون له كل الذين «تنكَّروا لدينهم، وتقبلوا ديانة لوثر أو الكاثوليك»، ومنهم المثقَّفون بالأخص، على أنهم خونة. ولا تقلُّ أحكامهم عن ذلك في قسوتها بالنسبة لليهود الذين انضموا في الماضي للحركات الأرشيدية الكبيرة، وساروا على نهج فولتير والموسوعيين (الإنسيكلوبيديين). وباختصار فإنهم ينظرون بعين الشك والريبة لكلِّ ما من شأنه المساهمة في إخراج اليهود في أي مكان من عزلتهم.

وإذا كانت الوطنية أمرًا يدعو إلى التقدير والاحترام، فإن هذا الانطواء المطلَق والمتفاني في ذاته يشكِّل خطرًا. وإني لأستطيع أن أقدِّر تمامًا ثورةَ تلك الأم التي تسمع ابنَها وهو يقول بكل جِدية إثر عودته من روضة الأطفال: «سآكل طعامي بالكامل حتى أصبح جنديًّا طيبًا وأحارب العرب»، وبالتقصي في الأمرِ اتضح أن المربية هي التي لقَّنت الأطفالَ هذه المفاهيم المثيرة. ولكن يجب أن أقول أيضًا إن نفس هذا الطفل المنتمي إلى أسرةٍ تكره العقلية العسكرية عاد في يومٍ آخرَ ليقول وهو في حيرةٍ شديدة: «المدرسة تقول لنا إننا يجب أن نحبَّ موشي ديان، ولكن بابا لا يحبه …»

وإذا كانت الدراسة العادية تتضمَّن برامجها عدةَ ساعات لتلقين النصوص الدينية، فهناك إلى جانب ذلك مدارس دينية بحتة تموِّلها الدولة؛ لأن هناك «علاقة خاصة بين الدِّين والدولة في إسرائيل» على حدِّ تعبير أحد المطبوعات الرسمية. ويقول نفس المطبوع: «والواقع أنه لا يوجد أحدٌ لا يعتبر أن التربية ليست مسألةً مبدئية ضرورية لتقرير الطابَع الروحاني للأجيال القادمة. وفي هذا المجالِ فإن الدِّين يعتبر عاملًا أساسيًّا. وكان على الدولة أن تلبيَ الاحتياجات الدينية والدنيوية للمجتمع …» ومنذ عام ١٩٥٧م تقرَّر تدريس «الوعي اليهودي»، في كل مدرسة تتبع الدولة.

وهكذا يتضح تمامًا طابَع التعليم حتى غدا الخلط بين الدِّين والدولة مسألةَ مبدأ، مما يدمغ المواطن الإسرائيلي بالطابَع اللاهوتي الضيِّق الأفق، الأمر الذي يثير حتمًا دواعيَ القلق.

١  منظمة إرهابية معادية للعرب كان يتولى زعامتها مناحم بيجين الوزير في حكومة إسرائيل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥