الفصل الرابع

منبوذون في أرضهم

لا تقتصر مشكلةُ إسرائيل في علاقاتها بالعالم العربي على النطاق الخارجي فقط؛ لأن المشكلة قائمةٌ داخل حدودها أيضًا. فبالرغم من اتساع عملية الهجرة، فإن هناك حوالي ثلاثمائة ألف عربي يعيشون تحت الحكم الإسرائيلي، ويشكِّلون أكثرَ من ١٠٪ من مجموع السكان … وقد كثُر الكلام، وتردَّد مرارًا عن مأساة اللاجئين. وهذا صحيح، ولكن الكلام لن يكون كافيًا ما لم يرفع عنهم الظلم الأساسي الواقع عليهم. ومن الواضح تمامًا أنه لن يتأتَّى الحلُّ الدائم للنزاع ما لم تسوَّ قضيتهم.

على أن المعلومات المتوفِّرة قليلة عن هؤلاء الفلسطينيين المنتمين أصلًا إلى هذه البلادِ منذ آلاف السنوات، والذين لم تطاوعهم نفوسهم على ترْك الأرض التي نشئوا فيها. إنهم هنا، لا يزالون في أماكنهم، ولا يمكن اجتثاث جذورهم حتى إذا لم يعودوا يملكون الأراضي التي زرعها من قبلِ أجدادِهم أجدادُ أجدادهم.

وقد قابلت الكثيرين من هؤلاء العرب في إسرائيل. وسأتكلم فيما بعدُ عن الرجال والنساء الذين يعيشون في الأراضي المحتلة. أما الآن فأريد أن أتعرَّض لِما رأيت داخل إسرائيل نفسِها.

•••

ها هو ذا طاهر، المقيم في يافا، بالحي العربي بمدينة تل أبيب. إنه قابعٌ على أرضِ مسكنه العاري تمامًا. وهو عبارة عن غرفةٍ واحدة تكملها سقيفةٌ بها موقدُ غاز. والغرفة خالية من الأثاث اللهم إلا الأسِرَّة وحشيةً كبيرة وحشيتين صغيرتين ومهدًا يتأرجح. ولا يوجد في الغرفة دولاب أو منضدة، بل مجرَّد حقيبة منزوية في ركنٍ وبعض السِّلال الموثَّقة.

وقد جاء أحدُ أبنائه بمقعد شواطئ من عند الجيران. أما الصديق الذي رافقني فقد جلس القرفصاء على الأرض على نحوِ ما فعل مضيِّفنا.

وقامت الزوجة تَعُد لنا القهوة تحت السقيفة. فمقتضيات الضيافة شيء مقدَّس مهما تفاقمت درجةُ الفقر. والزوجة شابة، كان من الممكن أن تكون جميلةً لولا الإرهاق الشديد الذي تعانيه، كانت تحمل طفلًا بين ساعديها وتنتظر آخرَ في طريقه إلى الحياة. وراح يراقبنا خلف ظهر الأب المطمئن ثلاثةُ أطفال في غاية الجمال والهدوء. كان أكبرهم لا يتعدى السابعة من عمره.

وعلى جدران الغرفة أُلصِقت صور منزوعة من مجلات مصوَّرة وزهور من ورق وبجانبها صورة فوتوغرافية كبيرة فاخرة على ورق مصقول تبدو غريبةً على المكان. كانت الصورة لطفلةٍ في الثالثة أو الرابعة، رائعةَ الجمال ومتزينة بالحلي، جديرة بأن تنشر في مجلةٍ متخصصة في مبتكرات أزياء الأطفال.

وتكلَّم طاهر. كان يحكي لنا قصةَ حياته ونحن نرتشف القهوةَ المُرة اللذيذة الممزوجة بحبوبٍ لها طعمٌ غريب. لقد استولوا على الأرض في عام ١٩٤٨م، وحل الفقر بالقرية ولكنه تزوَّج بالرغم من ذلك وانتقل إلى حيفا سعيًا وراء العمل. وقد اشتغل كعامل في البناء. كان الأجر زهيدًا، ولكنه أجرٌ على أي حال، وسارت الأمور إلى حدٍّ ما لفترة من الزمن. كانت أعمال البناء مزدهرةً في تل أبيب، تمهيدًا لاستقبال المهاجرين الوافدين من الجزائر. ولكنَّ يهود الجزائر رحلوا إلى فرنسا، لا إلى إسرائيل. وبصفةٍ عامة فإن الهجرة تتراجع. وقد اقتضى الأمر إيقافَ العمل في بعضِ مواقع الميناء. ويعتبر طاهر نفسه محظوظًا إذا اشتغل عشرة أيام في الشهر … وهو قلِق على المستقبل، خاصة وأنه ينتظر طفله السادس القادم في الطريق.

ونظرتُ حولي. لم يكن هناك خمسة أطفال، وأدرك هو السؤال الذي تبادر إلى ذهني دون أن أتفوَّه به، فأشار إلى الصورة المعلَّقة على الحائط وراح يشرح لي. إنها صورة ابنته ولكنها لا تعيش معهم. كانت رائعة الجمال بشكلٍ مدهش منذ مولدها حتى إن سيدةً يهودية من أسرةٍ ثرية وقعت في حبها للوهلة الأولى. كانت السيدة عاقرًا فعرضت عليهم أن تتبناها. لم يقبلوا في بادئ الأمر، ولكنهم فكَّروا في فقرهم المدقع وفي استحالة إفلاتهم من الأوضاع التي يعيشون فيها. فلتنعم إذن بالسعادة هذه الطفلة الصغيرة على الأقل. واستقر رأيهم على قبول العرْض.

كانوا يحضِرونها لنا بشكلٍ منتظم في البداية. ولكنهم كفوا عن ذلك منذ سنة. إنها لم تَعُد تتكلم العربية … أنا أعرف بالطبعِ أنه ما كان يجب أن نتصرَّف على هذا النحو … ولكن الأوضاع كانت قاسية.

وكانت الطفلة الصغيرة المعلَّقة على الجدار الأبيض تبتسم في الفراغ. ونظرت الأم إلى الصورة التي تبهرها وتعذِّبها. كانت دموعها المنسابة في صمتٍ أولَ دموع شهدتها في هذا البلد، ولكنها لن تكون الأخيرة.

•••

مرةً أخرى في مدينة يافا. في هذه المرة توجد خمسة أسِرَّة من المعدن في غرفةٍ عارية. وتتوسَّط الغرفة منضدة. وهذا كلُّ ما هناك. ولا تتوفَّر المياه للرجال الخمسة المقيمين في هذه الغرفة أو أي إمكانيات لطهوِ الطعام … لقد نزحوا هم أيضًا من التربة بعد تجريدهم من أراضيهم. وكانوا عاطلين. وهم لا يجدون عملًا ثلاثة أرباع الوقت شأنهم شأن طاهر ويأكلون في أي مكان وأي شيء يستطيعون الحصولَ عليه. وإذا تقاضَوا أجرًا، فإنه يرسلونه بالكامل تقريبًا إلى ذويهم الذين يفتقدون كلَّ شيء. ويعتبر إيجار مسكنهم المتهالك عبئًا على كاهلهم بالرغم من توزيع قيمته عليهم.

لماذا لا تعودون إلى قراكم لتكونوا بين ذويكم؟ ستكون الأحوال أيسر.

– قرانا؟ وماذا نفعل في قرانا دون أرضٍ نفلحها؟

وقد انضموا منذ سنتين إلى النقابة؛ ففي عام ١٩٦٥م، قرَّر «الهستدروت» وهو الاتحاد العام الوحيد للنقابات في إسرائيل، وصاحب النفوذ الكبير، أن يغيِّر اسمَه من «الاتحاد العام للعاملين اليهود» إلى «الاتحاد العام للعاملين في إسرائيل».

وكان هذا التغيير مكسبًا عماليًّا، ولكنه ظل مجرد إجراء شکلي.

فهناك منشآتٌ كثيرة لا تقبل تشغيلَ العرب بأي حال من الأحوال، فضلًا عن أن العمال العرب لا تواتيهم أبدًا فرصةُ الحصول على التدريب المهني الذي يؤهلهم لأداء الأعمال الفنية ومن جهة أخرى، فإنهم مستبعدون بشكل حاسم من كلِّ ما يمس الدفاع الوطني من قريب أو بعيد، فلا يبقى أمامهم الشيء الكثير في دولة يغلُب عليها الطابع العسكري.

– والخارج؟ ألم تفكِّروا في الذهاب إلى مكانٍ آخر، في البلاد التي تحتاج إلى أيدٍ عاملة وتستطيع أن تستقبلكم؟

فنظروا إليَّ وأومئوا برءوسهم: أي مكان آخر؟ إنهم لا يريدون أن يعيشوا إلا في بلدهم، فلسطين.

– لأننا على الأقل هنا لسنا بعيدين عن الأرض …

•••

أما في تمرة، فقد دار حديثي مع النساء.

وتمرة قريةٌ معزولة من قرى الجليل في شمال شرق حيفا. ويُعتبر الجليل أكبرَ مركزٍ لتجمُّع السكان العرب، ويفوق في ذلك مناطقَ تل أبيب والقدس والنقب. وتقع هذه القريةُ الكثيرة المنخفضات والمرتفعات على نهايةِ طريق لا يؤدي إلى أي مكان آخرَ سوى المنازل المبعثرة على سفوح التلال. وتوجد حياتان داخل تمرة، تختلفان عن بعضهما البعض حتى إنهما لا تتسقان معًا؛ فهناك من ناحيةٍ قريةُ الفلاحين المنتمين أصلًا لتمرة من أبٍ لجَد منذ قرون عديدة، ومن ناحيةٍ أخرى قريةُ اللاجئين من القرى المجاورة الذين انتُزعت منهم أراضيهم بلا مقابل باسم «خطة التجهيز»، فأقاموا هنا على مسافة كيلومترات قليلة من مساكنهم القديمة.

كنت قد وصلت إلى القاهرة حيث أمضيت الليل، وكانت تصحبني صديقتان إحداهما عربية والأخرى يهودية. كانت سارة اليهودية قد جاءت من ليتوانيا منذ حوالي ثلاثين عامًا وراحت تقصُّ عليَّ أسطورةَ بحيرة الطبرية التي كنا قد عزمنا على زيارتها في اليوم التالي.

– إنهم يسمونها هنا بحر «کيزيت»، ومعناها بالعبرية «القيثارة»؛ لأن البحيرة تتخذ فعلًا شكل القيثارة وهي تحت مستوى البحر شأنها شأن البحر الميت. وتقول الأسطورة العبرية إنه بعد هلاك سدوم وعمورية زاد الملح في البحر الميت، فتوسَّلت الأسماك «ليهوه» حتى لا تحل نهاية العالم. وقد استجاب «يهوه» وحدَّ من ملوحة بحيرة طبرية ونقل الأسماك إليها … وهكذا تنتقل الأسماك بسهولةٍ أكبرَ من البشر خصوصًا في الأساطير.

كنا نتكلم بالإنجليزية، نحن الثلاث، وقالت سارة في ملاحظةٍ عابرة وقد قطَّبت جبينها «إنها من مخلَّفات عهد الوصاية»، كنا قد رحلنا في ساعةٍ مبكِّرة من النهار؛ لأنه كان يتعيَّن علينا أن نسرع حتى نصل إلى الناصرة قبل حلول الليل، وسأقول لكم بعد قليل سببَ هذا التعجُّل.

•••

لا توجد كهرباء في قرية تمرة، وهي تشارك في وضعها هذا قرًى عربية كثيرة، وتعيش في حالةٍ من الفقر أقربَ إلى البؤس. على أن ذكرى هذه القريةِ راسخةٌ في ذهني من خلال وجهين؛ وجه امرأة ووجه فتاة، كلاهما منقوش نقشًا دقيقًا على خلفيةٍ من الشقاء والكد. كانتا مليحتين، وجمالهما من النوع الفلسطيني المتميِّز بلطف الأسارير وحزمها ونبل القوام. على أني ألاحظ أني كتبت عنهما في مذكِّراتي: «الشابات الحزينات».

كانت أكبرهما في العشرين من عمرها، وهي لاجئة من قرية مجاورة. وأنقل لكم هنا حرفيًّا ما جاء على لسانها في حديثها معي:

كنت في الثامنة من عمري عندما اضطررنا إلى الرحيل. وأنا أذكر كلَّ شيء. المكان الذي كنتُ ألعب فيه والمكان الذي كنت أجمع منه الزهور والخضروات. كانت قريتي تسمَّى «دامون»، وهي تبعُد عن مكاننا هذا نصف ساعة سيرًا على الأقدام. كنت أحلُم دائمًا بالعودة إليها، ولكن العودة محظورة. وفي يوم من الأيام لم أقوَ على الانتظار؛ ففي ١٥ مايو، يوم الاستقلال يُرفع الحظر على التنقل في جميع أنحاء إسرائيل؛ ولذا قلت لصديقاتي: «لنذهب هناك ولو مرة واحدة، فلن يقولوا لنا شيئا …»

سِرنا في طريقنا، ونحن نغني، وحملنا معنا مئونتنا لنتناول وجبةَ الغداء هناك. كنت أذكر أنه يوجد ما يشبه البئر بجوار منزلنا، وأننا كنا نتناول عادةً طعامنا هناك مع أهلنا. كنت في غاية المرح، ولكني استرسلت في البكاء عندما شاهدت المكان وكل الموجودين هناك الآن. كانت صديقاتي حزيناتٍ أيضًا وجلسنا لنأكل، ولكن لم يكن لأي شيء طعم.

ثم جاء شرطي وسألنا عن سببِ تواجدنا في هذا المكان فقلت له «كان المنزل منزلي فيما مضى، وكنت ألعب هنا، وهو مکان مقدَّس بالنسبة لي»، فصرخ في وجهي «ارحلي من هنا، هذا المكان محرَّم عليك». قلت له إننا في يوم الاستقلال. ولكنه سخر مني وطردنا دون أن يسمح لنا بمواصلة الأكل. كنا نريد أن نشاهد المكان وأن نستعيد الذكريات. وعُدنا إلى تمرة وبكينا طوال الطريق.

ماذا أقول لها: إن منزلها جزءٌ من الأراضي التي استولت عليها إسرائيل. وقد سمِعت العديد من القصص المشابهة بتفاصيلَ لا تكاد تختلف، وتكرَّرت أمامي في مختلف المناطق العربية التي زُرتها، بما يؤكد مدى الاستغلال الفاضح للحقوق التي منحتها الأمم المتحدة لإسرائيل. فعندما تتواجد جاليتان على أرضٍ واحدة لا يمكن أن تستقر الأوضاع ما دامت إحداهما تفرض نفسها بالقوة على الأخرى. ومن الجنون أن تؤمن بذلك، ومن الجنون أيضًا أن تبني سياسة وطريقة حياة على هذا الأساس. وأنا أقول وأكرر مرةً أخرى أن الدول العربية ليست معصومةً من الأخطاء؛ فقد ارتكب قادةُ هذه الدول أخطاءً فاحشة في عام ١٩٤٨م، وأغلب هؤلاء القادة لم يَعُد لهم وجود. ولكن هذه الأخطاء لا تبرِّر سياسةَ السلب والنهب التي تنتهجها الدولة العبرية بكل وقاحة إزاء عرب فلسطين.

أما الوجه الآخر فكان لفتاةٍ في السادسة عشرة من عمرها. وقضيتها مختصرة وقائمة، فهي إحدى أفراد عائلة مكوَّنة من ثمانية أبناء. كان الأب مريضًا لا يكاد يقوى على العمل. وراحت الأم تكد. والمدارس تحتاج لنقود، والكتب والكراريس لها ثَمن. وكانت الفتاة، وهي أكبر إخوتها، ذكيةً، موهوبة ومتحمسة لدراسة اللغة الإنجليزية والعلوم، وكانت تريد أن تواصل تعليمها لتصبح طبيبة. كان أبواها موافقَين، ولكن مَن يتكفَّل بمصاريف الدراسة؟ كان لا بد أن تكسب بعضَ القروش بأسرعِ ما يمكن لتربية أشقائها وشقيقاتها الأصغر منها. ولذا فهي تقوم ببعض أعمال الحياكة والتفصيل، ولكنها تكره هذا العمل، وتمضي السنوات فتنسى ما تعلَّمته شيئًا فشيئًا بالرغم من الجهود التي تبذلها. وهي لا تجد أيَّ مخرج من هذا الوضع؛ ولذا فهي تعاني في الواقع يأسًا صامتًا.

ألم تحصلي على منحةٍ بوصفك أفضلَ طالبة في فصلك؟

ولكنها ابتسمت في مرارة دون أن تجيبَ على سؤالي.

و قالت لي سارة بصوتٍ ينضح بالغضب: «كان يمكنها أن تحصل على منحة لو لم تكن عربية فقيرة من قرية تمرة.»

•••

يمكنني أن أصطحبكم معي في هذا المعرض المليء بالصور الشخصية؛ فقد شاهدت بنفسي العشرات منها، وكلها من نفس الطراز. وتبقى الأضواء هي ذاتها حتى إذا اختلف المنظر. لا شك أن كل عرب إسرائيل لا يعيشون جميعًا في نفس المستوى. ففي مثل هذه الظروف توجد دائمًا فئة تنتمي عادةً إلى الطبقات المحظوظة ترى أن مسايرةَ الحكم القائم من مصلحتها. ولا شك أن هذه الفئة تحصل على مكاسبَ ماديةٍ أكيدة كمكافاة لها على خضوعها السافر أو الضمني. وأذكر بهذا الصدد أحدَ هؤلاء الأفراد، وهو نائب في البرلمان وممثِّل لأحد الأحزاب الحكومية. وقد قابلته في الكنيست، فراح يشرح لي:

العلاقات العربية اليهودية في إسرائيل أشبهُ بالعلاقات القائمة في الحياة الزوجية. فلا بد أن يتولَّى زمام الأمر أحدُ الطرفين … ومن الطبيعي في إسرائيل أن يضطلعَ اليهود بهذه المهمة.

وقد عجبت لهذا المفهوم «العائلي» للدولة. على أن المثقفين العرب يتمثَّلون أمامي في شخص ذلك الطبيب الشاب المقيم في حيفا، والذي لا يواجه أيَّ مشكلة مالية على عكس غالبية أخوته في الوطن. كان هذا الطبيب لا يطيق العنصرية التي يعاني منها.

وقد حكى لي تجربته الشخصية طوال سهرةٍ بأكملها؛ فقد أدَّت التفرقة إلى تعطيل دخوله الجامعة التي لا تقبل إلا عددًا محدودًا من العرب كل سنة. وكان يعاني من العزلة لا من جانب مدرِّسيه (وهو سعيد بالاعتراف بذلك) ولكن من جانب الطلبة. وقد واجه مصاعبَ كبيرة في الحصول على مسكنٍ لا يبعُد عن الجامعة. ولم يحدُث أبدًا أن دعاه أحد زملائه اليهود لزيارته في بيته، وكان محكومًا عليه بالانطواء المخيف على نفسه. وعندما حصل على المؤهل بدأت عمليات الإذلال الصغيرة داخل المستشفى. وهو يضغط على نفسه حتى لا يثور عندما يتذكَّر أسوأ إهانة أصابته في صميم كرامته كإنسان وطبيب.

انتشر وباء في المستشفى الذي يعمل به، وكان لا بد من إجلاء المرضى حالًا على طائرات هليكوبتر. وكانت حالتهم تستدعي وجودَ طبيب مرافق لهم. وقد عيَّنه رئيس الأطباء لهذه المهمة فاستعد لركوب الهليكوبتر. ولكن الطيار اعترض إذ إنه غير مصرَّح لعربي بأن يستقل طائرة عسكرية. وأضاف الطيار «مَن يدري، ربما أعطاهم أيَّ حقنة تودي بحياتهم.» ولمَّا كان لا يتوافر أي طبيب آخر، فقد رحل المرضى وحدَهم. واحتفظ الدكتور برباطة جأشه، ولكنه تخلَّى نهائيًّا عن كل أوهامه كمفكر ليبرالي متسامح.

وتذكَّرت وأنا أستمع إليه الحديثَ الذي أدلى به الرئيس الجديد لاتحاد طلبة القدس. كان الحديث في اجتماعٍ عام. وقد وجَّه له سؤال حول المشكلة التي يواجهها الطلبة العرب في الإقامة بالمدينة اليهودية حيث تقع الجامعة، وما هي الإجراءات التي سيتخذها لعلاج هذا الوضع فأجاب:

لا توجد أيُّ مشاكل؛ فقد تم غزونا للقدس بأسْرِها، وما عليهم إلا أن يسكنوا في الأحياء العربية مع أقرانهم.

•••

هناك استيلاء على الأراضي وحالة من الفقر الشديد في القرى العربية التي تفتقر إلى المدرِّس والمرافق الصحية والخدمات الطبية والكهرباء. وهناك مشكلة العمل والحِرف والنقص الفظيع في المعدَّات الثقافية، والفقر العام الذي يبلغ حدَّ البؤس في أغلب الأحيان، والتفرقة في الدراسة والعمل. ولكن هناك ضربٌ آخر من التفرقة يعاني منه عرب إسرائيل. كتبتُ من قبل، بصدد زيارتي لقرية تمرة، أني كنت مضطرة إلى العودة إلى الناصرة في نفس الليلة. لم تكن المشكلة تعنيني أنا أو سارة. ولكن صديقتنا العربية التي تقيم في الناصرة والخاضعة للقانون العسكري، ما كان بوسعها أن تقضيَ الليلة خارج بلدها.

والقانون العسكري من أقسى العقبات التي تعترض حريةَ المواطن العربي في إسرائيل وحقه في ممارسة الحياة اليومية. وبصفة عامة تُقسَّم المناطق المتاخمة للحدود والمناطق التي تعيش فيها نسبة كبيرة من العرب، إلى قطاعاتٍ تخضع للقيادة العسكرية التي تتمتَّع بحقوق دكتاتورية من الناحية العملية. ويتعيَّن على المواطن العربي أن يستخرج تصريحًا من السلطة العسكرية إذا أراد أن ينتقل من حيفا إلى الناصرة أو من الناصرة إلى طبرية. ويجب أن يُقدَّم طلب التصريح كتابةً وقبل موعده بيومين مع تحديد الأماكن التي يريد أن يتوجَّه إليها مقدِّم الطلب، والطريق الذي سيسلكه، والأماكن التي سيتوقف فيها، ولا بد بالطبع من تقديم شرح مفصَّل لأسباب الانتقال. ويتعرَّض مَن ينتقل دون الحصول على هذا التصريح للقبض عليه والسجن. ولا يمكن الاعتراض على رفضِ منْح التصريح إلا في حالات نادرة. ولا يسري التصريح إلا لعددٍ من الأيام، كما لا يُسمح أبدًا بالمبيت خارج المنزل. ويخضع لهذا النظام أيضًا عددٌ من العمال المناضلين، ولكن التفرقة لها دورها هنا أيضًا.

وعندما كنت في الجليل تعرَّض المرافقون لي لملابسات شاذة بسبب هذه المضايقات السخيفة. كان لا بد من حسابٍ دقيق حتى تتمشى التصريحات مع بعضها. واستدعى الانتقال من طبرية إلى كفر ناحوم من أجل غرض سياحي بحت إعدادًا خاصًّا. ويجب أن أعترف بأني أُعجبت بهدوئهم الشديد بينما كنت أغلي من الغضب. ومن بين الحجج التي تردِّدها الدعاية الإسرائيلية أن العرب يعيشون على أي حال في إسرائيل في ظروفٍ أفضل من ظروفهم في البلاد المجاورة. ويبدو أولًا أن هذا التأكيد مبالغٌ فيه؛ ذلك لأن المناطق المحتلة تعيش في أوضاعٍ أقرب إلى القرون الوسطى، وبالإضافة إلى ذلك فإن هذا التأكيد يعالج باستخفافٍ القبضةَ الخانقة التي يفرضها الجيش المستخدَم كجهاز بوليس يتمتَّع بامتيازات خاصة.

قالت لي سارة:

لقد جئت إلى فلسطين لكي أفلت من الإذلال وأنا سعيدة اليوم لكوني مواطنة إسرائيلية، ولكني لا أقبل إذلال الآخرين خصوصًا إذا تم ذلك باسمي وبدعوى الحفاظ على أمني ظلم … هذا ظلم، ولن يكون مفيدًا لأي شخص …

لقد أصبتِ يا سارة، ولكن ما أقلَّ عدد الذين يفكِّرون على هذا النحو من بين أقرانك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥