في المناطق المحتلة
قِطاع غزة وسيناء والقدَّس والضفة الغربية للأردن ومرتفعات جولان: هكذا أصبحت إسرائيل اليومَ دولةً تحتل أراضيَ تزيد عن مساحتها. ولقد تحوَّلت قوات الهجوم ضد مصر وسوريا والأردن في يونيو الماضي إلى قوات احتلال بعد وقف إطلاق النار. ومن المعروف أن مجلس الأمن اتخذ بالإجماع في ۲۲ نوفمبر ١٩٦٧م قرارًا يطالبها بالعودة إلى حدودها، وإجلاء كل قواتها عن الأراضي المحتلة. ومن المعروف أيضًا أن حكومة إسرائيل لا تعمل حسابًا لهذا القرار، بل أعلنت رسميًّا أن القدس ستظل إسرائيلية على أي حال من الأحوال.
ألا يبدو هذا التحدي للأمم المتحدة عجيبًا من جانب دولةٍ يرجع الفضل في وجودها إلى هذه المنظمة الدولية؟
أليس من مصلحة إسرائيل أكثرَ من أي دولةٍ أخرى أن تؤكد ضرورةَ احترام قرارات الأمم المتحدة؟ وماذا تنتظر إسرائيل من هذا الاحتلال؟
لقد زرتُ المناطقَ المحتلة في ديسمبر، ولا شك أن الأوضاع زادت سوءًا على ما كانت عليه في ذلك الوقت حسب ما اتفقت عليه وكالات الأنباء المختلِفة. كانت هذه الأوضاع تعاني أصلًا من كلِّ ما يفرزه الاحتلال والمطاردات البوليسية وأعمال القمع العمياء من سموم.
وكان في إمكاني أن أتصوَّر الطريق الذي سيسلكه القادة الإسرائيليون، والمشروعات الجاري تنفيذُها الآن بعد إعدادها بكل عناية، والتي أصبحت واضحةً تمامًا حتى إن عددًا متزايدًا من المراسلين الأجانب، يعلِّقون عليها، وكان لها صدًى في عدد من الصحف الإنجليزية مثل «الأوبزرفر» و«الجارديان» و«الصنداي تايمز».
قِطاع غزة شريطٌ يمتد بطول الشاطئ الرملي السهل. وعلى الحدود توجَد نقطةُ حراسة عسكرية تقطع الطريق، والمرور من غزة سهلٌ إذا كان المرء قادمًا من إسرائيل، أو هكذا كان الحال وقت زيارتي، كانت الإجراءات تقتصر على مجرَّد التأكد من أوراق تحقيق الشخصية. أما في العودة، فالتفتيش أدق؛ إذ يفحص الجنود الأوراقَ بكل عناية ودقة ويفتِّشون السيارات. والهدف من ذلك هو مكافحة السوق السوداء؛ ذلك أن اليهود المجاورين للقطاع يحصلون منه على لوازمهم لرخص أسعاره. بل إن الناس يفِدون إلى القطاع من مدينة أشدود الجديدة التي أُقيمت عام ١٩٥٥م، ومن المنتظر أن تصبح الميناء الثاني لإسرائيل بعد حيفا … على أن تجارة المواد الغذائية سرعان ما تعدَّت حدودَ الاستهلاك العائلي المعقول إلى حدٍّ استدعى تدخُّل الجيش؛ ولذا يتم تفتيش السيارات حتى تحوَّلت نقطة المراقبة إلى جمركٍ يحمل رجاله المدافع الرشاشة.
وإلى أن يتم ذلك، يعيش اللاجئون منذ حوالي عشرين عامًا في معسكراتٍ تعِسة ويتلقون معونةً لا تكاد تسدُّ الرمق. وقد زادت حالتهم سوءًا منذ حرب يونيو. فقد تركوا أراضيهم أمام إسرائيل فإذا بها تطاردهم مرةً أخرى. ويتعرَّض اللاجئون لكل ضروب التعسُّف والإذلال ولا ينعمون بالأمان أو الاستقرار في معسكراتهم البائسة المكوَّنة من أكواخٍ من الصفيح.
ويكفي في هذا الصددِ أن أوردَ مثلًا واحدًا يفصح عن التصرُّفات التي تتم هنا بانتظام؛ ففي ۱۰ يناير الماضي، أتى الجيش على معسكرٍ مقام على مسافةِ عشرة كيلومترات من مدينة غزة، كما دمَّر أيضًا مخيمًا مجاورًا تعيش فيه جماعة من البدو.
أما المبرِّر فهو إلقاء ثماني قنابل يدوية في هذه المنطقة قبل ذلك بأسبوعين … وقبل أن تهدِم قوات الجيش هذا المعسكر، حاصرته بالدبابات والسيارات نصف المجنزرة كما فرضت حظرَ التجول. وتم استجواب ألفين وخمسمائة رجل تتراوح أعمارهم بين السادسة عشرة والخمسين لمدة ساعات، ظلوا وقوفًا وأيديهم مرفوعة فوق رءوسهم تحت تهديد المدافع الرشاشة. وقد ألقي القبض على أربعين من «المشتبه في أمرهم»، وتم ترحيلهم إلى جهةٍ غير معروفة.
•••
وقد دار بيني وبين جندي إسرائيلي حديثٌ طويل، وهذا الجندي من أصلٍ بلغاري، وقد اشترك في عملية تدميرٍ من هذا النوع. وكان قد طلب مقابلتي. وأعتقد أنه أقدم على ذلك لكي يبرِّئ ذمتَه ويتخلص من عبء هذه الذكريات المؤلمة.
وقد رفض أن يذهبَ إلى الفندق الذي كنتُ أقيم فيه، كما رفض أن يقابلني في مقهًى خوفًا من «الآذان الطويلة»، على حد تعبيره؛ ولذا فقد تجوَّلنا في شوارع تل أبيب لکي نبدوَ كعابرين غير مبالين، يتجاذبان أطرافَ الحديث. ولكنه كان يكفُّ عن الكلام فجأةً كلما صادفنا أحدَ المارة. كانت الوحدة التي التحق بها قد احتلت منطقةَ غزة بالذات. قال لي:
«أعمال التفتيش فظيعة. كنا نقتحم المنازلَ في وسط الليل. كان الجنون يصيب الناس، وهم نصف عرايا، وكانت النسوة تبكي والأطفال يرتعدون من الخوف. ويُجبر كلُّ رجل أو طفل يزيد سنه عن الرابعة عشرة على الاستلقاء وبطنه نحو الأرض، والأيدي معقودة خلف مؤخرة الرأس خلف مؤخرة الرأس. ويدوسهم الجنود بالأحذية ويضربونهم بكعوب البنادق. أما الطَّرق على الأبواب فلا يتم إلا بقرعها بكعوب البنادق.
وإذا لم يُفتح الباب خلال ثلاثين ثانية، يصدر الأمر بالاقتحام. وعلى أية حال فإن أعمال التفتيش مسألةٌ روتينية تتم كل ليلة. وقد لا يقع أحداث متميزة، ولكن الأثر النفسي مؤكَّد حتى إذا لم يتم العثور على أي شيء.
والتعليمات صارمة بالنسبة لدوريات الليل. يجب إطلاق النار بلا أي إنذار سابق بمجرد ملاحظة أي شيء يثير الريبة. وتقضي الأوامر بأن يكون إطلاق النار «في المليان».
وقد توليت الحراسةَ أيضًا في المحاكم العسكرية. كانوا يحاكمون أولادًا خرقوا تعليمات حظر التجول. كان من بينهم مَن يتراوح سنه بين الرابعة عشرة والثانية عشرة. وأذكر منهم واحدًا انهالوا عليه بالضرب المبرِّح حتى إنه كان لا يقوى على السير. وهناك آخر، رشقوا خصيتيه بالدبابيس. وعندما حكى ما حدث له للقضاة، استرسلوا في الضحك.
كانوا يريدون أن نقوم بدور المرشدين. وأنا لحسن حظي لا أتكلم العربية. أما الآخرون الذين يعرفون اللغةَ العربية، وتتفق ملامحهم مع ملامح العرب، فكان الضباط يطالبونهم بارتداء الملابس المدنية والتسكُّع في الشوارع لاستراق السمع. وكانوا ينصحونهم بالتفوه بكلماتٍ استفزازية معادية لإسرائيل لتتكشَّف لهم انفعالات المارة. أما الذين يرفضون هذا العمل فيتهمون بالتخلي عن وطنيتهم، كما يواجهون العديدَ من المتاعب.
وعندما وصلنا إلى غزة، قالوا لنا إنه لا داعيَ لمحاولة إقامة علاقات طيبة مع الأهالي، لأنهم يكرهوننا، وأن المطلوب منَّا هو بث الخوف في نفوسهم. وقالوا لنا: «إنهم لن يحرِّكوا ساكنًا إذا أدركوا أننا لن نرحمهم.»
وكلُّ ما أرويه عليك صحيح، لقد رأيته بعيني وشاركت فيه بنفسي، وسأظل أخجل مما فعلت طوال حياتي.»
هذه شهادةٌ من جانب المحتلين، وإليكم شهادةً من جانب الذين يعانون من الاحتلال.
يعيش م … في رام الله بالقرب من القدس. والواقع أنه لجأ إليها مع عائلته منذ قيام الحرب. وهو قادم من قرية «عمواس» المجاورةِ لمدينة القدس. أما أسرتُه فتتكون من والده (وهو أستاذ سابق في جامعة عمان، بلغ سنَّ التقاعد)، ومن زوجته وأبنائه وأشقائه وشقيقاته. وقد فقدوا كلَّ شيء، ولا يوجد أيُّ أثاث في الغرفة التي استقبلوني فيها، عدا عدد من الحشايا المفروشة على الأرض، ومصباح كهربائي عاديٍّ يتدلى من السقف، وتكلَّم م:
«لم نكن نتوقَّع نشوب الحرب، كنَّا نتصور أن الأمر لن يتعدَّى حدودَ الإثارة، وأن كل شيء سيُسوَّى بدون قتال. وقعت الحرب فوق رءوسنا كالصاعقة، وقد التجأنا في ليلة ٦ يونيو إلى كنيسة البرج بالقرية، وفي الفجر، دخل القائد الإسرائيلي في الكنيسة فرآنا، وطلب منَّا مغادرتها فانتهى كلُّ شيء، أردنا أن نعودَ إلى منازلنا، ولكنه رفض وأخبرنا أننا يجب أن نذهب إلى رام الله حيث سيتم تجميعنا.
وطلبنا أن يصرَّح لنا بأن نأخذ ملابسَ لنا وبالأخص لأطفالنا، ولكن الجنود رفضوا. كنت أحمل طفلَي الكبيرين وسنهما خمس سنوات وثلاث سنوات، وكانت زوجتي تحمل وليدنا وعمره ثلاثة أشهر. وكانت تعاني قلقًا شديدًا لأن لبنها ليس طيبًا، ولا يستطيع الوليد أن يشربه. كان لا بد من استخدام زجاجة رضاعة، ولكنه كان محظورًا علينا حملُ أي شيء معنا. وقد قلت ذلك للقائد، ولكنه أجابني بأنه ليس مرضعًا، وأن الأمر لا يعنيه في شيء. وكنا حفاةً وأنصافَ عرايا.
وسِرنا في الطريق، وانضم إلينا سكانُ قريتين أخريين وهما بيت نوبه ويالو، تحت حراسة الجنود. كنا لا نملك شيئًا نأكله فاسترسل الأطفال في البكاء.
وعندئذٍ قسَّمونا إلى فريقين، ووضعوني مع ثلاثة وعشرين شابًّا آخرين، وقالوا لنا إننا أسرى حرب. وأشرت للقائد نحو الأطفال وقلت إنني لا أستطيع أن أتركهم، وإنهم لا يمكنهم أن يسيروا بمفردهم، فضحِك أحدُ الجنود وصاح: «ما عليك إلا أن تلقيَ بهم فتتخلَّص منهم …» وقد عصبوا أعيننا واستمعنا إلى الآخرين وهم يرحلون، وكان يقيننا أنهم سيطلقون النار علينا.
وقد أخذوا مني دبلةَ الزواج وساعتي، بل ومنديلي أيضًا. وكانت عيوننا لا تزال معصوبةً وراحوا يطلقون النار لإرهابنا … ودارت بعد ذلك مناقشةٌ بين الجنود. كانوا لا يعرفون كيف يتصرَّفون فينا. وكان واحد منهم يتميَّز بالشراسة، يصرُّ على قتلنا. ولكن الآخرين قالوا إنه لا يمكن أن يتم الأمر على هذا النحو. وقد وضعونا في سيارة نقل دون أن يرفعوا العصابات عن عيوننا.
وتوقفت بنا سيارةُ النقل عدةَ مرات قبل أن نصل إلى الرملة غرب. إسرائيل. وكانوا يجبروننا في كل مرة على النزول ويضربوننا، وأسوأ ما حدث لنا كان في مركز البوليس بالرملة؛ فقد راحوا يستجوبوننا وعيوننا معصوبة ويضربوننا حتى فقدان الوعي. كانوا يطالبوننا بأرقامنا متظاهرين بأنهم واثقون بأننا جنودٌ في الجيش الأردني. وكلما كرَّرت لهم أن ذلك غيرُ صحيح، تمادوا في ضربي. وقد طلب منهم فتًى في الثامنة عشرة أن يشرب، وقد خارت قواه، وغطَّت الدماء وجهه. فأحضروا دورقَ مياه وراحوا يسكبون الماءَ أمامه دون أن يسمحوا له بالشرب.
واستمرَّ هذا الوضع يومين لا أكل ولا شرب، بل الضرب المتواصل. وكانوا يحبسوننا في الليل داخل غرفةٍ صغيرة يغمرون أرضها تمامًا بالماء ويجبروننا على الاستلقاء على بطوننا والنوم …
وأخيرًا أمرونا بركوب سيارات النقل، وساقونا إلى أحد معسكرات الاعتقال بالقرب من حيفا. كان كل مائة وعشرين منَّا يعيشون في عنبر واحد بلا أي أثاث أو غطاء، وبأقل قدرٍ من ماء الشرب، وبلا أي ترتيبات صحية، وطعام لا يكاد يسدُّ الرمق. كنت حافي القدمين. وقد أفرجوا عني بعد شهرين دون أي تفسير لتصرفهم.
وذهبت إلى رام الله لأنضم لأسرتي، وتقدَّمنا بطلبِ تصريح للعودة إلى قريتي عمواس، فقالوا لنا إن ذلك محال لأنها قرية إرهابيين، وقد تم تدميرها. قلنا لهم إننا على استعداد للمعيشة في خيمة حتى نعيد بناء مسكننا، ولكنهم سخروا منَّا وقالوا لنا إن أرضنا لم تَعُد ملكًا لنا، وإنه يتعيَّن علينا الإقامة في الرملة أو الانتقال إلى الأردن، إلى الضفة الشرقية، إذا أردنا ذلك.
وقد بقينا هنا، ونحن نعيش في حالةٍ من البؤس الشديد. ولكنهم لن يتمكنوا من ترحيلنا؛ فنحن نعرف تمامًا أن هذه هي أمنيتهم.
لم يَعُد لنا من أثاث منزلنا سوى سجاد. وقد تسرَّب به أخي الصغير سرًّا في إحدى الليالي بين الخرابات، وكان يجازف بحياته، ولكن هذا السجاد ليس في نظرنا مجرَّد شيء عاديٍّ، إنه رمز العودة.»
وقد اخترت حديث م … من بين غيره من الأحاديث. وهناك روايات تفوق هذا الحديثَ في فظاعتها، ولكني اخترت روايته بالذات لأنها نموذجية؛ إذ لا تحوي أيَّ شيء غير عادي. فكلُّ ما حدَث لهم يبدو عاديًّا للغاية في إطار هذه الحرب.
ما أشدَّ الاختلاف بين رام الله والقدس وبيت لحم ونابلس وغزة … على أني أجد في كل هذه المدن نفس النظرات الصامتة ونفس الإحساس بالحياة الدفينة التي تخفي مشاعرَ متلاطمة تحت سطحٍ هادئ. هناك شيء متأجج، لا يهدأ، في هذه المدن المحتلة. وأيًّا كانت الاختلافات بين تلك المدن فإن القاسم المشترك بينها جميعًا هو ذلك الزي العسكري الأجنبي المنتشر في شوارعها.
إن ما يَلفت النظر فورًا هو موقف «الرفض» من جانب الأهالي، ولنضرب المَثل بغزة. تعاني هذه المنطقة، أزمةً اقتصادية خطيرة شأنها شأن كل المناطق المحتلة. لقد استقرت في العديد من المنازل حالةُ القلق اليومية من أجل مطالب الحياة المادية البسيطة. ولكن غزة لا تتعاون ككل المناطق الأخرى. فالناس يتحمَّلون هنا روتين المسائل الإدارية ويعيشون بقدْرِ ما يستطيعون ولكنهم «يرفضون»، الوجود الإسرائيلي. ويفرض هذا الوجود نفسَه في الوقت الراهن؛ لأن الجيش الإسرائيلي أقوى منهم. وتقوم أجهزته الخاصة بأعمال التفتيش والقبض وإصدار الأحكام والحبس وتحوِّل الوشاية إلى نظامٍ معترَف به وتنسف المنازلَ «المشتبه في أمرها» بالديناميت وتحوِّل كلَّ جندي إلى رجلِ شرطة، وتلجأ إلى «العقوبات»، الجماعية، أي إنها تمارس باختصار كلَّ مقتضيات الاحتلال! وقد رأيتهم يستوقفون سيارةً في الطريق المؤدي إلى نابلس، وقد أخرجوا كلَّ الركَّاب، رجالًا ونساء وأطفالًا، وأيديهم مرفوعة إلى أعلى، وفتحوا كلَّ السلال والمقاطف وبدءوا عمليةَ التفتيش الفظة. وتم كل ذلك تحت تهديد الرشاشات.
لقد تكلَّمت عن النظرات الشعبية في المدن المحتلة. ولكن هناك أيضًا نظراتُ المحتلين المتعجرفة والباردة، وهي نفس نظرات المحتلين التي شهدناها في بلادٍ أخرى وفي أزمنة أخرى.
ولكن ما هو ردُّ الفعل؟ إليكم مثلًا: كنت في حاجة إلى الانتقال إلى ضاحيةٍ بالقرب من غزة، لا يسهُل الوصول إليها. وقد أبدى أحدُ سكان المدينة استعداده لمرافقتي كدليل. ولمَّا كانت المسافة طويلة إلى حدٍّ ما فقد عرضت عليه أن يستقل السيارةَ التي جئت بها من تل أبيب. ولكنه رفض. وركبنا سيارتَه بالرغم من أنها عربة موغلة في القِدم، رُبطت أبوابها بأسلاك ويتعطَّل محرِّكها من آنٍ لآخر. ولما سألته عن السبب أجابني قائلًا: «سيارتك تحمل أرقامًا إسرائيلية. وأنا لا أريد أن يراني الأهالي في مثل هذه السيارة؛ لأنهم سيتصوَّرون أني من المتعاونين مع المحتل …»
وإليكم ردَّ فعلٍ آخر. وقع في بيت لحم بالضفة الغربية للأردن. كانت هناك حوالي عشر سيارات للشرطة وسيارات نصف مجنزرة ودبَّابة خفيفة في الميدان أمام كنيسة الميلاد. ولا تزال الرايات البيضاء ترفرف فوق أسطح بعض المنازل. وفي وُسع أركان الحرب أن يكون راضيًا عن الأوضاع، فما زال سكان هذه المنازل خائفين تمامًا كما كانوا أيام الحرب … وفي ركن أحدِ الشوارع المتعرِّجة والصاعدة في درجات، يوجد دكان صغير يبيع كلَّ الأصناف، وفي وسط مجموعات الصور وأثواب القماش وبكرات الخيط التي تذكِّر المرءَ بمحلات البقالة في الريف الفرنسي، توجد شارات لامعة تبدو شاذةً وسط ركام البضائع. وهي من النوع الذي يُحاك على الجيوب أو أكمام القمصان. وإذا نظر المرء إليها عن قرب، اتضح له أنها تحمل شعارات وأسماء مدن الأردن المحتلة: القدس أريحا، نابلس، وفي وسطها شعار الدولة الأردنية وعلَمها الوطني، تتأكد فكرةُ انتماء هذه المدن للدولة الأردنية. وقال لي البائع: «أنا لا أحب «حسين»، ولكن المسألة مسألةُ مبدأ …»
وقد قُبض على الرجل مرتين، كما ضربوه وهدَّدوه.
والاحتلال يعني المقاومة. وقد اتخذت المقاومةُ أشكالًا متعدِّدة ابتدأ من التصرُّفات الفردية حتى الأعمال الجماهيرية. وقد نجح المعلِّمون في القدس وفي الضفة الغربية في التمسك بالكتب الأردنية في المدارس بدلًا من الكتب الإسرائيلية التي أرادوا أن يفرضوها، وذلك بعد إضرابٍ طويل. وتُطبع الجرائد السرية وتوزَّع. ويقدِّم الإسرائيليون أنفسَهم الأدلةَ على مدى انتشار حركة المقاومة ونوعيتها بتوسُّعهم في حركات القبض والاعتقال. وقوائم الشرطة الخاصة بالمطلوب القبض عليهم تضم أسماءَ أطباء وطلبة وشخصيات معروفة ومحترمة.
وتعلن البيانات الصاخبة، بشكلٍ منتظِم، أنه قد تم «استئصال» المقاومة أو «القضاء» عليها في القدس أو غزة أو غيرهما … لكن المقاومة مستمرة، بل تمتد وتزداد إحكامًا. وقد تحوَّلت المقاومة إلى مشكلة خطيرة تشغَل إسرائيل بالرغم من جعجعة الجنرال ديان، وزير الحرب، الذي يحتاج إلى إثارة الخوف في نفوس مواطنيه وإلى إثبات أنه الرجل الوحيد القادر على ضمان أمنهم، لكي يحقِّق أهدافه السياسية.
وقد قابلت عددًا من قادة المقاومة في غزة والأردن، فرأيت رجالًا هادئين وعمليِّين، يتميَّزون بوضوحِ الرؤية. وهم لا تخالجهم أيُّ أوهام حول التوسُّعات الإسرائيلية وإقامة «كيبوتزات» عسكرية في الضفة الغربية للأردن، وسياسة الإرهاب والتدمير المستمرة في غزة والضفة الغربية وعلى الحدود السورية. وتؤكِّد مخاوفهم خطاباتُ ديان ومناحم بيجن وأمثالهما حول ضرورة ضم هذه المناطق. على أن كلَّ مَن يتحمَّل مسئوليةً هنا، أكَّد لي أنه لا يضمر أيَّ عداء ضد اليهود بوصفهم يهودًا، وأنه لا يأخذ على إسرائيل يهوديتها بل صهيونيتها.
ويود هؤلاء الرجال بكل عمق أن تتمَّ تسويةٌ سلمية في الشرق الأوسط. ولكن الشرط الأساسي الذي يطالبون به هو الجلاء عن المناطق المحتلة والاعتراف بحقوق المواطنين الفلسطينيين العرب.
ولكنَّ سير الأحداث يؤكد للأسف أن إسرائيل غيرُ مستعدة للتخلي عن أحلامها التوسعية. وعلى كلٍّ فإن العرب حسَّاسون بشدة لقيام الحكومة الإسرائيلية بحملةٍ عالمية واسعة من أجل هجرة اليهود إلى إسرائيل في الوقت الذي تدفعهم تصرفات الجيش إلى الهجرة.
ويبدو أن قادة حكومة إسرائيل لا يريدون أن يكون السلوك العام لقوات الاحتلال محلَّ فحصٍ دقيق من جانب جهاتٍ لا يمكن التشكك في جِديتها. وكانت الرابطة الدولية لرجال القانون الديمقراطيين، ومركزها الرئيسي في بروكسل، قد قرَّرت إرسال لجنة لزيارة المناطق المحتلة. وأفادهم السيد ميكل مور، القديس العام لوكالة الغوث الدولية، أنه يضع نفسه تحت تصرُّف اللجنة لتسهيل مهمتها. ولكن التأشيرات التي مُنحت لأعضاء اللجنة سُحبَت في اللحظة الأخيرة لمبرِّر واهٍ، وهو أن إذاعةَ صوت العرب أعلنت عن هذه الرحلة «بشكل معادٍ لإسرائيل».
ألا يرجع هذا التصرُّف بالأحرى إلى أن حكومة إسرائيل ستجد مشقةً في تبرير موقفها من الأهالي المدنيين في المناطق المحتلة، أمام شخصيات قانونية مرموقة؟