الكيبوتز: هل هو أحد أشكال الاشتراكية؟
هناك كلمةٌ سحرية محاطة بهالةٍ من التبجيل في نظرِ الكثيرين في فرنسا وفي غيرها من البلاد فإن كلمة «الكيبوتز» تذكِّر فورًا كلما تطرَّق الكلام إلى إسرائيل.
بل إن البعض يرى أن هذه الكلمة تكفي وحدَها لإنهاء أية مناقشة. وإذا جازف المرء وأدان أمامهم سياسةَ الدولة الإسرائيلية، فإنهم يردون عليك بإجابة مفحِمة وقاطعة: «قد يكون هذا صحيحًا! ولكن هناك على أي حال الكيبوتزات!»
وتفترض هذه الطريقة في التفكير، فكرتَين مسبقتَين:
أولهما أن الكيبوتزات نظام خاصٌّ تتميز به إسرائيل وحدَها، وثانيتهما أنها مؤسَسة نموذجية، ومن المفيد أن نواجه هذه التأكيدات بواقع الأمور.
هناك أولًا بعض الأرقام التي تقدِّم مزيدًا من الوضوح. فالوثائق الحكومية الرسمية تؤكد أن الكيبوتزات تمثِّل ثمانين ألف شخص؛ أي حوالي ٣٫٥٪ من مجموع السكان، وهي تضم ١٧٪ من الأهالي الزراعيِّين اليهود والعرب، أو ٣٠٪ من نفس هؤلاء السكان، إذا لم نأخذ في اعتبارنا سوى اليهود.
ولا تضم الكيبوتزات أيَّ مواطن عربي إلى عضويتها. وعلى كلِّ حال، فمن الصعب أن نعتبر نظامًا لا يشمل سوى ٤٪ من مواطني أية دولة نظامًا حاسمًا بالنسبة لها.
على أنهم سيقولون لك إن الكيبوتز شيء آخرُ. إنه النموذج الإسرائيلي للاشتراكية، ورمز إرادة التجديد والخلق الأصيل، ولا يمكننا أن نردَّ على ذلك إلا بالتعمق عن قربٍ في دَور الكيبوتزات ومركزها في تاريخ دولة إسرائيل.
•••
أنشئ أولُ كيبوتز في عام ١٩٠٩م على ضفاف بحيرة طبرية. وقد سمِّي هذا الكيبوتز «دجانيا» (زهرة العنبر) واعتُبِر «الكيبوتز الأم». وكان رجال هذا الكيبوتز من المستوطنين العاملين في مزرعةٍ تتبع «الصندوق القومي اليهودي» الذين قرَّروا أن يتولوا بأنفسهم استغلال هذه المزرعة في نظامٍ جماعي صارم. من غير المسموح به استخدامُ النقود داخل الجماعة. وكلمة «کيبوتز» تعني «الجماعة» بالعبرية، وهي المسئولة عن الإنتاج وعن كل الخدمات الجماعية وعن توفير كل احتياجات الأفراد. وكانت الملكية الخاصة ممنوعة، وكذلك أيضًا العمل الأخير. وكان لا يُسمح بأي تجارة فردية، فكلُّ عمليات البيع والشراء تتم عن طريق الجماعة، وتُستخدم كلُّ الأرباح في تطوير القرية.
من أين جاء مستوطنو «ديجانيا»؟ من أوروبا الشرقية، وبالأخص من روسيا القيصرية التي كانوا يعانون فيها من أعمال الاضطهاد والسياسة الرجعية والوحشية للحكومة الإمبراطورية. وبالرغم من ميل هؤلاء المستوطنين إلى الأفكار المشايعة للاشتراكية إلا أنهم انجذبوا للصهيونية ومطالبها القوية المتصوِّفة.
وقد وقع خلفاؤهم والمواصلون لرسالتهم الذين استوحوا هذه الحركة وطوَّروها، في نفس التناقض. فالصهيونية تنادي بإقامة دولة تمتد إلى الحدود التي وردت في التوراة؛ ولذا كان لا بد أن تكون الصهيونية توسُّعية. والتوسُّع يعني فورًا استخدامَ القوة العسكرية. وفي هذا المجال بالذات قامت الكيبوتزات بدورٍ أوسعَ من دورها الاجتماعي أو الاقتصادي.
فمن المعروف أن «الصندوق القومي اليهودي» كان يبيح سياسة الشراء المنتظم للأراضي في فلسطين. وكانت هذه الأراضي لا تُشترى من الذين يعملون فيها ويعيشون عليها منذ قرون عديدة، ولكن من كبار المُلاك العقاريِّين الذين يعتمدون في أغلب الأحوال خارج البلاد، ويفضِّلون الحصولَ على ملايين إضافية لإنفاقها على موائد اللعب في «نيس» أو «مونت كارلو»، على الحفاظ على عددٍ من الهكتارات في «الجليل» أو «اليهودية» التي لم تطأها أقدامهم في يوم من الأيام. ولا مجالَ هنا للخوض في العلاقات اليهودية العربية، ولكنَّ قضيةَ بيع وشراء الأراضي الفلسطينية من الأسباب العميقة للنزاع.
وقد أُقيمت الكيبوتزات في هذه الأراضي. ولم تقتصر مهمتها على استغلال الأراضي، بل الحفاظ عليها أيضًا. ويقول الشاعر الفرنسي فيرلين، في بيتين من الشعر أعشقهما بشكلٍّ خاص.
ولكن الكيبوتزات كانت لا تكره الجرارات أو البنادق على العكس، فقد اعتبرت أن كلًّا منهما مكمِّل للآخر. وقد اعتمدت الهاجاناه على الكيبوتزات. والهاجاناه هي التنظيم العسكري اليهودي أثناء الوصاية البريطانية الذي تحوَّل فيما بعدُ إلى الجيش الإسرائيلي الحالي. وقد تكوَّنت فِرقُ الجيش الأساسية من هذه الكيبوتزات، تم تدريب أفراد الجيش في إطارها، كما حُفظت عندها الأسلحة.
ويقول موشي يحديم، في كتابٍ صدر عن الكيبوتزات ضمن سلسلةٍ رسمية تحمل اسم «إسرائيل اليوم»: «إن اعادة بناء إسرائيل جزءٌ لا يتجزأ من حُلم الكيبوتز.»
•••
يجب أن يستمعَ المرء إلى أعضاء الكيبوتزات القدامى، وهم يروون ذكرياتهم! إنها ليست حكايات فلاحين بقدْرِ ما هي قصصُ محاربين قدامى … فالجانب العسكري في الكيبوتز، ليس كما قد نتصوَّر، مجرَّد حدَث تاريخي تخطَّاه الواقع الحالي. لا، فالكيبوتز لا يزال ضربًا من الاستيطان الاستراتيجي، ولا ينطبِق ذلك بشكلٍ خاص على الكيبوتزات المتناثرة حول تل أبيب أو حيفا … ولكن الكيبوتزات القائمة على الحدود، وبالأخص الكيبوتزات الممتدة على طول الحدود السورية والمتاخمة للبحر الأحمر، فهي أقربُ إلى أن تكونَ فقط حراسةً متقدِّمة من أن تكون مجرَّد مشروعات زراعية.
وهناك فيلقٌ خاص في الجيش الإسرائيلي يسمَّى «الناحال» (تتكرَّر هذه الكلمة من الحروف الأولى لكلماتٍ عبرية معناها «الشبيبة الرائدة المناضلة») مكلَّف بدمج الخدمة العسكرية بحياة الكيبوتزات. فمن الممكن أن يؤديَ المواطن الإسرائيلي الخدمةَ العسكرية في «الناحال» تمامًا كما قد يؤديها في سلاح «المظلات» أو «المدرعات». ويقضي المجنَّدون الجدد فترةَ التدريب في الكيبوتزات للتعوُّد على الحياة الزراعية بعد قضاء عدةِ شهور في التدريب العسكري. وعلى أثر انتهاء فترة التدريب، يستمر المجنَّد في الخدمة العسكرية ويُلحق بأحد المراكز الموزَّعة على الحدود في المناطق الاستراتيجية. وتُقام هذه الكيبوتزات، كما تقول إحدى نشرات الجيش الإسرائيلي بكل حياد، «في المناطق المعرَّضة للمخاطر أو التي تسهُل إقامة المدنيِّين فيها».
والكيبوتزان اللذان أُقيما أخيرًا في الضفة الغربية للأردن من صنْع «الناحال». وقد أجاب الجنرال ديان، ردًّا على الاجتماعات التي ثارت داخل إسرائيل نفسِها وفي الخارج، فقال: «حتى إذا اضطُررنا إلى الرحيل، فسيكون هناك استيطانٌ يهودي لا يُقبل التراجع عنه.»
والأغلبية الساحقة من قادة الجيش الإسرائيلي، ومنهم بالأخص الجنرال بارليف، ينتمون أصلًا للكيبوتزات، وكذلك أيضًا وزراء الحكومة الحالية. وتتميز المدارس الابتدائية والثانوية في الكيبوتزات بطابَعها القومي والعسكري المتطرِّف بشكلٍ ملحوظ. وتحرص الكيبوتزات على التمسُّك بطابَعها اليهودي الصرف؛ ولذا يجب ألا ندهش عندما يتضح لنا أن هذه الكلمة لا ترمز في الشرق الأوسط إلى التعاون، بل إلى التغلغل.
•••
ولا تبقى بعد ذلك سوى الناحية الجماعية التي تحرص إسرائيل على إبرازها.
لا شكَّ أن الحياة داخل الكيبوتزات جماعية، وإن لم تكن على نفس الغرار في كل الأماكن. وترتبط الكيبوتزات بالأحزاب السياسية؛ فهناك كيبوتزات للماباي وللمابام ولأشدوت هانودا، وللأحزاب الدينية. ولا يعيش أفرادُ الكيبوتزات على نفس الأسلوب، كما أن مفهوماتهم تختلف من كيبوتزالي آخر. وأقرب الكيبوتزات إلى المفهوم الأصلي لتأسيسها هي كيبوتزات المابام التي تدعي أنها اشتراكية شأنها في ذلك شأن حزب المابام نفسه. على أن الاشتراكية التي يقصدونها خياليةٌ تمامًا.
فالواقع أنه لا يكفي لكي يكون الواقع اشتراكيًّا لمجرد إلغاء النقود داخل الكيبوتز وتناول الطعام بشكلٍ جماعي وتربية الأطفال في دُور الحضانة وإنشاء مدرسة جماعية. ويقولون عادةً في إسرائيل إن الكيبوتزات «جزرٌ اشتراكية صغيرة وسط عالم رأسمالي». وهذا سخفٌ أثبتت التجارب فشله بشكل قاطع.
وقد أصبحت الكيبوتزات مرتبطةً اليوم بالنظام الرأسمالي من كافة الجوانب، وغدت تابعةً له بشكلٍ وثيق. وكما كانت الدولة تدرك أهميتَها كواجهة دعائية فإنها تجزل في معاونتها لها. ولكنَّ المعونة لا تساعد الكيبوتزات على موازنةِ اقتصادياتها فتظل «اشتراكيتها» شكليةً ووهمية ما دامت غير قائمة على المستوى الإنتاجي.
وبصفةٍ عامة يمكننا أن نلخِّص الواقع كما يلي: يحتاج الكيبوتز إلى التصنيع حتى يستطيع أن يقف على قدميه. ولما كان الفارق كبيرًا بين أسعار منتجات الصناعة وأسعار منتجات الزراعة، فإنه يتعيَّن على الكيبوتز أن يبحثَ عن النقود من مصدرٍ آخرَ غير موارده الذاتية، وقد سبق أن قلنا إن الدولة تساعد الكيبوتز كما يُخصَّص لها جزء من الأموال التي تجمعها الوكالة اليهودية في الجاليات اليهودية في الخارج. ولكن كل هذه المصادر لا تفي بالحاجة؛ ولذا تقترض الكيبوتزات، ويتم ذلك بالطبع في الإطار الرأسمالي، أي إنها تقترض من الجهات التي تتوفَّر لها إمكانيات كبيرة، أي المصارف.
وهكذا تصبح الكيبوتزات في حالةِ تبعيةٍ للرأسمالية وللدوائر المالية الكبيرة عن طريق القروض.
وهذا نوعٌ من الترابط لا يقبل الانفصام. وبمجرد ارتباط الكيبوتز بالبنك، فإنه ينضم فورًا إلى الاقتصاد العام للبلد، سواء شاء أم أبى. وهو يرتبط بتوسُّع اقتصاد البلد أو أزماته؛ لأنه جزء لا يتجزأ من النظام الرأسمالي. وهكذا تواجه الكيبوتزات مشاكلَ عديدةً وعلى رأسها مشكلة اليد العاملة؛ إذ تضطر حتى إلى استخدام اليد العاملة المأجورة.
لماذا؟ لأن الكيبوتزات تفتقر إلى اليد العاملة، بالرغم من مساهمة «الناحال» (الذي لا يقدِّم سوى الشبَّان الذين يؤدون الخدمةَ العسكرية). ولكن هناك سببٌ أساسي، وهو أن اليدَ العاملة المأجورة، تُعطى الفرصة، في حدود النظام الاقتصادي القائم، للتشغيل أو التوفير. فأعضاء الكيبوتز ثابتون، والكيبوتز مسئول عن توفير احتياجاتهم، سواء سارت الأمور على ما يُرام أو لم تَسِر. أما العامل الذي يتقاضى أجرًا، فهو في وضعٍ مختلف، وضعِ اليد العاملة إزاء صاحب العمل.
فالكيبوتز مرتبِط بالبنوك عن طريق القروض، ويدخل بذلك في إطار أصحاب الأعمال، وهو يستغل العاملين به کأي صاحب عملٍ آخر. وهكذا لا يبقى أيُّ شيء اشتراكي حقيقي. لا شك أن كل أفراد الكيبوتز يشتركون في عملياتِ طهوِ الطعام وغسل الأواني. وقد رأيت عضوًا في البرلمان يضع على صدره فوطةً كبيرة ويدفع عربةً صغيرة محمَّلة بأواني الشوربة. ولكني لم أحرِّك ساكنًا لأني لا أعتبر ما رأيتُ من معالمِ الاشتراكية، ولكن من المظاهر الفلكلورية. ويمتلك هذا الكيبوتز مصنعًا صغيرًا يستخدِم فيه عمالًا بوصفه صاحبَ عمل. ولذا فقد بدَت لي هذه الفوطة كستار كبير لإخفاء الحقيقة المحرِجة.
والكيبوتز يعبِّر في رأيي عن المأساة الكبرى التي تعيشها إسرائيل، ذلك أن أفضل صفات المواطنين الإسرائيليين تنحرف، بل وتُحطَّم في أغلب الأحوال بسبب العقلية المحيطة بها. فبقدْر ما تكون الفضائل كبيرة، بقدْر ما يكون من الخطر الانحراف بها. فالشجاعة والقدرة على العمل ليست قيمًا مستقلة بذاتها، وتاريخ البشرية عامر، حتى في مراحله الحديثة، بنماذجَ لبلادٍ عديدة خسِرت الكثيرَ باستخدام طاقاتها من أجل تحقيق أهدافٍ سيئة. وكان من الممكن أن تتحقَّق أهدافٌ إيجابية باستخدام هذه الطاقات بطريقةٍ أخرى. وتعيش إسرائيل بأكملها في أرفع أشكال التطرُّف القومي، بالرغم من محاولتها إخفاء هذا التطرُّف بالتشدُّق بالألفاظ، ويؤدي هذا التطرُّف إلى إفساد كل شيء، ولا يمكن أن تقوم اشتراكية حقيقية على هذه الأسس.
لن تكون لحركةِ الكيبوتزات أبعادٌ واسعة؛ فبقدْر ما تنساق إسرائيل أكثرَ فأكثرَ في طريق الدول الرأسمالية، ويرتبط اقتصادها باقتصاد هذه الدول (اقتصاد الولايات المتحدة أولًا، ثم اقتصاد ألمانيا الفدرالية) بدرجةٍ غير هيئة، بقدْر ما يتحوَّل الكيبوتز بالتالي إلى مؤسسة بالية تعجز شيئًا فشيئًا عن الحفاظ على أي شيء سوى واجهتها الجماعية.
وقد كتب موشي كيريم يقول؛ ويا لأناقة الكلمات التي يستخدمها في التعبير: «لا شك أن الحركة تواجه مصاعبَ، خاصة في مجال اليد العاملة، وأنها لا تتمتَّع الآن بالتأثير الكبير الذي مارسته في الماضي.» ولذا فلا بد لها أن «تتغيَّر لكي تتلاءم مع مقتضيات العصر.»
ولكن الكيبوتزات تفقد سكَّانها. ويمرُّ عليها أعدادٌ كبيرة ولكنها لا تستقرُّ بها. ويتَّجه الشباب بالأخص نحو أنماطٍ أخرى من المياه بالرغم من الخطب الملتهبة التي تذيعها «الناحال». فمكاتب تل أبيب تغصُّ بشبان وشابات يفضِّلون حياةَ المدينة. ويهجر الكثيرون الكيبوتزات؛ لأن الحياة الخاصة التي تفترض الجماعية البدائية لم تَعُد محتمَلة في نظرهم في المدى الطويل. ويتركها البعض الآخر لأن لوائحها تقضي بألا ترسل الشباب إلى الجامعات إلا بالقدْر الذي يلزمها لتشغيل مرافقها؛ فإذا كان الكيبوتز في حاجة إلى طبيب مثلًا، فإنه يدفع مصاريفَ طالبٍ واحد، لا طالبين أو ثلاثة حتى إذا كان هناك عددٌ منهم له نفس الميول أو الاستعدادات. وقد قابلت عددًا من الذين هجروا الكيبوتزات «لأنها ليست في حاجة» إلى تخصيصٍ في اللغة أو التاريخ أو الجغرافيا.
على أن الأغلبية تترك الكيبوتزات؛ لأنها تدرك عن وعي أو غير وعي أن هذه الحركة خادعة ومناقضة لنفسها.
إن الاشتراكية على الطريقة الإسرائيلية مجرَّد ضمير إلى الماضي بالنسبة للبعض ومبرِّر يتذرَّع به البعض الآخر، ولكنها لم تَعُد تتمتَّع على أي حال بجاذبيتها السابقة. وقد تحوَّلت حركة الكيبوتز، بتطوُّرها الحالي، إلى أداةٍ في يدِ القوة العسكرية، تمامًا كما كانت أيام انطلاقتها الكبيرة.