الفصل السابع

مفهوم فريد من نوعه للنقابية

يقع مبنى الهستدروت الضخم في الحي الشمالي بتل أبيب، وهو يحتل مساحةً كبيرة لإقامة مجموعة من المباني. وتبدو كتل المكعَّبات البيضاء التي يتألف منها المبنى صامتةً في مظهرها الخارجي. أما في الداخل فهي عبارة عن متاهاتٍ من الممرات والأدراج ومئات المكاتب والمصاعد العامرة دائمًا بالأفراد والحركة دائبة في المبنى … والهستدروت هو الاتحاد العام للعمل في إسرائيل. وهو أحد معاقل الدولة.

ويُعتبر الهستدروت الاتحادَ النقابي الإسرائيلي الوحيد إذا استثنينا جماعةً نقابية دينية لا أثرَ لها تقريبًا. ويتمتَّع الهستدروت باحتكارٍ فعلي ويضم حوالي ٧٠٪ من السكان، عن طريق أعضائه وأفراد أسرهم. وهو يتمتَّع بسلطاتٍ واسعة وبإمكانيات مالية هائلة.

ويسيطر الهستدروت باستثماراته على ٢٢٪ من الاقتصاد القومي، خاصة في قطاعات المباني والاستيراد والتصدير والنقل البحري وشركات الأتوبيس والتاكسي والبيع ونقل المنتجات الزراعية. ويمتلك الهستدروت مصرفًا خاصًّا به، وهو ثاني مصرف في إسرائيل، كما أنه يساهم في عددٍ كبير من المؤسسات بالاشتراك مع رأس المال الأجنبي الأمريكي والألماني الغربي في أغلبِ الأحوال. وهكذا يعتبر الهستدروت تنظيمًا نقابيًّا عماليًّا من طرازٍ فريد في نوعه! ولا شك أنه من المفيد أن نتمعَّن فيما يمثِّله هذا التنظيم بالفعل.

ارتبط الهستدروت أولًا ببداية تطوُّر الجالية اليهودية في فلسطين، ثم ارتبط بعد ذلك بدولة إسرائيل؛ ولذا فهوا من نتاج طبيعة هذه الجالية وتلك الدولة. كان طابَع الهستدروت زراعيًّا في أول الأمر، عندما كانت الهجرة اليهودية تعتمد على الكيبوتزات، ثم تحوَّل شيئًا فشيئًا إلى التصنيع حتى وصل إلى شكله الحالي مع إنشاء دولة إسرائيل وانطلاقها. ويؤدي الهستدروت، في المجال الخاص به، نفسَ الدور الذي يقوم به كلٌّ من الجيش والمدرسة. فهو في الواقع الجناحُ الثالث في المجموعة الثلاثية التي تتولى تشكيلَ وتنميط المواطنين، والهستدروت مكلَّف بتولي أمور الطبقة العاملة ومجال العمل عامةً من وجهة نظرٍ صهيونية صرفة، شأنه في ذلك شأن الدولة التي أقامته وتستخدمه أداةً لها. ولا يخفي قادة الهستدروت هذه الحقيقة، فكلُّهم أعضاءٌ في الأحزاب الصهيونية، كما أن أغلبية الوزراء تحتل المناصب النقابية الرئيسية.

ماذا يعني ذلك من الناحية العملية؟ إنه يعني أن النقابة في إسرائيل لا تهدُف أساسًا إلى تنظيم العمال ليدافعوا عن حقوقهم، وليحصلوا على مطالبهم، بقدْرِ ما تهدُف إلى حصرهم في الحدود التي لا تعرِّض مركزَ الحكومة للمصاعب.

يضمن الهستدروت قدرًا غيرَ ضئيل من المزايا الاجتماعية خاصةً فيما يتعلَّق بالإجازات والخدمات الطبية والمعاشات. ولكنه في نفس الوقت، من أضمن وأدق أدوات البلبلة السياسية التي يتردَّى فيها حتى الآن الجانب الأكبر من الرأي العام الإسرائيلي.

فالطبقة العاملة الإسرائيلية معرَّضة أكثرَ من أي طبقة عاملة أخرى للمتاعب بحكم تكوينها … فأغلب أفرادها من المهاجرين الذين نزحوا بعد عام ١٩٤٨م، ولم يكونوا من أبناء الطبقة العاملة في بلادهم الأصلية؛ أي إنهم يفتقدون أصلًا التراث العمالي. فالهجرة اليهودية إلى إسرائيل لا تنتمي إلى الفئات العمالية سواء أكانت وافدة من أوروبا أو أفريقيا أو آسيا. وكان من الممكن أن تصبح النقابة خيرَ مدرسة لتنمية الوعي الطبقي. كان ذلك شرف النقابة وواجبها، ولكن المنهج الصهيوني حال دون ذلك. وتاريخ الحركة النقابية الإسرائيلية يوضِّح تمامًا ما أدَّى إليه هذا الطريق. فمنذ قيام الهستدروت في عام ١٩٢٠م وحتى إنشاء إسرائيل في عام ١٩٤٨م، لم يكن أصحابُ الأعمال هم العدوَّ الرئيسي للهستدروت (وكان يسمَّى آنذاك منظمة العاملين اليهود في فلسطين)، بل العمال العرب الذين كان يتعيَّن استبعادهم من سوق العمل بكل وسيلة وبأي ثمن. أما الآن فإن هدف الهستدروت المعلَن ليس التقدُّم بالطبقة العاملة والعاملين إلى الأمام، بل تدعيم الدولة اليهودية في حد ذاتها.

وهناك حقيقتان يبدو لي أنهما تحملان مغزًى كبيرًا. ففي عام ١٩٦٥م خاض عمال المنشآت الإسرائيلية ٢٧٧ إضرابًا، لم يؤيد الهستدروت منها سوى ٦٦ إضرابًا. أمَّا كل الحالات الأخرى، وعددها ۲۱۱، فقد وقف فيها الهستدروت في صف أصحاب العمل لإحباط الإضرابات.

أما الحقيقة الأخرى فتتعلَّق بعلاقات الهستدروت الخارجية، كان هذا الاتحاد عضوًا في اتحاد النقابات العالمي، ولكنه انسلخ عنه لينضم إلى الاتحاد الدولي للنقابات الحرة. ويرجع السبب الأصلي في ذلك إلى ارتباط الهستدروت الوثيق، سواء من النواحي الاقتصادية أو السياسية، بالاتحادات العمالية في الولايات المتحدة (اتحاد العمال الأمريكي ومؤتمر المنظمات الصناعية).

وتتم الزيارات وتتوثَّق العلاقات والاتصالات بين الطرفين، بل إن القادة الأمريكيِّين دفعوا اتحاداتِ عمال الموانئ والشحن في مناسبات عديدة إلى مقاطعة السفن المصرية والسعودية ردًّا على موقف البلدين من إسرائيل. كما أن المساعدات التي تقدِّمها الاتحادات الأمريكية للهستدروت ذات طابع مادي مباشر. وفي مقابل ذلك يقوم الهستدروت بدوره كممثل مخلِص «للعالم الحر» عن طريق معهده الأفرو آسيوي الذي نجح في التغلغل إلى حدٍّ ما في بعض الجمهوريات الفتية بأفريقيا السوداء.

ويقول المسئولون عن الهستدروت إن اتحادهم يقوم بدور حاسم في تحويل المهاجرين النازحين من كل الجهات إلى مواطنين إسرائيليِّين. وهذا صحيح، ولكن من المؤسف حقًّا أن الهستدروت يبثُّ فيهم روح التطرف القومي الخطيرة.

لم يكن في إسرائيل عند قيامها سوى ٢٢٪ من سكانها الحاليِّين. ولهذا الرقم دلالته؛ إذ يوضح مدى اتساع عملية الهجرة. وعلى عكس الفكرة الشائعة التي تكاد ترتقي إلى مرتبة الشعار، فإن نسبة الإسرائيليين، من الضحايا المباشرين للنازية (أي الذين هربوا منها أو نجَوا من جرائمها) ضئيلةٌ نسبيًّا. فالإحصائيات التي أذاعتها إسرائيل ذاتها تقول إنهم لا يتعدون ١٥ أو ١٦٪ من السكان الحاليين في الدولة اليهودية.

من أين وفدت إذن بقيةُ المهاجرين؟ أقلُّهم جاء من أوروبا الغربية والولايات المتحدة، وبعضهم جاء من وسط أوروبا (أي من البلاد التي قامت منها نظمٌ ديمقراطية شعبية) والبعض الآخر من آسيا وأفريقيا.

ويحتاج هذا الخليط المتنوِّع إلى عملية توحيد. على أن هذا الخليط العجيب كان يضم العديدَ من القنَّاصة التي لا تميل، لأسبابٍ جِدية، نحو الأفكارِ المتقدمة أو نحو التعايش بحكم انتماءاتها الاجتماعية أو دوافع انتقالها إلى إسرائيل. فبعض المهاجرين معادٍ للسوفييت والبعض الآخر معادٍ للعرب، ولا شك أن تأجيج المشاعر القومية الصهيونية لم يساعدهم قط على التخلُّص من هذه الاتجاهات! أما شباب «الصابرا» المولودون في إسرائيل التي يعتبرونها وطنهم. بلا منازع، فإنهم جديرون في الواقع بأن يسيروا في طريقٍ آخرَ غير الطريق المحفوف بالمخاطر الذي يُساقون إليه. وكلمة «صابرا» تعني أصلًا نوعًا من الصبَّار المنتشر في إسرائيل وهو شائك الملمس من الخارج ولكنَّ لبَّه حلو. وتُطلَق هذه التسمية على الذين لم يولدوا في المهجر، بل على أرض إسرائيل. وهم يمثِّلون ٤٠٪ من سكان إسرائيل اليهود، ولا شكَّ أن آراءهم واتجاهاتهم في المستقبل، والأفكار التي تُلقَّن لهم والمبادئ التي ينشئون عليها، ستكون من العوامل الحاسمة في مستقبل هذا البلد ومستقبل الشرق الأوسط. ويجب أن أكرِّر أن هؤلاء المواطنين يمرون بمراحلَ ثلاث أساسية: المدرسة والجيش والهستدروت بمنظماته المختلفة.

ولا يدعو الأمر إلى الاطمئنان في ظل الجو السائد في إسرائيل. وقد سألت أحدَ أعضاء المكتب التنفيذي للهستدروت عن سبب اعتناقه المبادئ الصهيونية، وذلك خلال مناقشة لي معه، فراح يشرح لي المصيرَ العظيم المتوقَّع لشعب التوراة. ولمَّا أشرت إلى أن أشياءَ كثيرة تغيَّرت في العالم منذ أربعة آلاف سنة، أجابني بكل بساطة: «ولكن رسالة التوراة بالنسبة لي شيء ملموس، وحالي تمامًا ككل ما قرأت في الصحف بالأمس فقط! …» وقد ردَّد هذا الكلام ليبرِّر ضمَّ القدس والضفة الغربية للأردن. ويبدو لي أنه من المخيف حقًّا أن تكون رسالة التوراة على هذا النحو!

أما أعضاء الهستدروت المستنيرين، وعلى رأسهم الشيوعيون، فيطالبون بأن تقوم هذه المؤسسة بدورها كنقابة عمالية. ولكن يجب أن يتحرَّر الهستدروت أولًا من قبضة الدولة، ولا ينساق وراء النقابات الأمريكية، أما في مجال الإدارة الداخلية، فيجب ألا يتعرف الهستدروت بالنسبة للمنشآت التي يمتلكها بالكامل أو التي يشرف عليها، كأي صاحب عمل آخر، بل يجب أن يمثل العمال في مجالس إدارة هذه المنشآت بنسبة ٥٠٪ على الأقل. وتلك مطالبُ معقولة (ولكن البيانات الملتهبة التي صدَرت من الهستدروت قبل حرب الأيام الستة وبعدها لا توحي للأسف بأن قيادة الهستدروت ستسلك هذا الطريق.

•••

لا شك أن هناك مشكلة بطالة في إسرائيل. وعندما كنت هناك، في ديسمبر، نُوقشت المشكلة في الكنيست؛ حيث تعرَّض الجنرال إيجال آلون، وزيرُ العمل ومنافس الجنرال ديان في السباق من أجل منصب رئيس الوزراء، لمواقفَ حرجة. ومن الصعب أن يحصل المرء على أرقامٍ دقيقة أو تقريبية لضحايا البطالة. فالفارق بين الأرقام الرسمية وغير الرسمية كبير، ويرجع ذلك إلى حدٍّ كبير لاستحالة تقدير مدى البطالة الحقيقية بين العمال العرب لأنها شبه مزمنة بينهم، كما أن العمالة الجزئية، عن طريق الاشتغال بضعة أيام في الشهر، منتشرة نسبيًّا.

وقد تراجعت البطالة بسبب الحرب؛ إذ أدَّت إلى استدعاء عدد كبير من الأفراد للخدمة العسكرية، كما حافظت بعد ذلك على وجودهم في الجيش. وكان مدُّ فترة الخدمة العسكرية من أسباب هذا التراجع، وقد تحسَّنت الأوضاع نوعًا ما بعد المصاعب الاقتصادية التي شهدتها سنتَي ١٩٦٥م و١٩٦١م. وما زال هناك ثلاثون ألف عاطل، وهو رقم ليس بالبسيط بالنسبة لبلد صغير. على أن المشكلة الأساسية لا تتمثَّل في البطالة، بل في استحالة تكافؤ الفرص بين الإسرائيليين أنفسهم في سوق العمل.

فهناك تفرقة عنصرية واضحة ضد العرب في إسرائيل. ولا تخفى هذه الحقيقة، بل إنها تُعلن أحيانًا في صراحة عدوانية وعاصفة. ولكن هناك أيضًا تفرقة أكيدة بين اليهود أنفسهم بعضهم وبعض حسب المناطق المختلفة التي جاءوا منها. فاليهود المنتمون إلى أصلٍ أوروبي أو أمريكي، الذين يسمَّون «يهودًا بيضًا» لا يَعتبرون «اليهود السود» النازحين من أفريقيا أو آسيا، أندادًا لهم. ولا شك أن هذه التفرقة ليست رسمية؛ لأنها لا يمكن أن تكون كذلك، ولكنها تتمثَّل في أبسط تصرفات الحياة اليومية.

ففي مجال الإسكان مثلًا، رأيت في يافا وحيفا يهودًا مغاربة وتونسيِّين ولا يعيشون في أوضاعٍ أفضلَ من أوضاع العرب، مع بعض الفروق الضئيلة؛ فهم يسكنون في أكواخٍ لا تكاد تختلف حالتها عن حالة أكواخ العرب. وقد أقامت الوكالة اليهودية (ومن اختصاصاتها تنظيمُ الهجرة) حيًّا راقيًا في شمال الناصرة للمهاجرين الذين يسمونهم هنا «الوافدين الجدد». ويبلغ عدد سكان مدينة الناصرة ٣٥ ألفًا أغلبهم من العرب. أما الناصرة الجديدة اليهودية المقامة على تلالٍ تشرف على المدينة فتتألَّف من منازلَ مريحة، أنيقة وحديثة للغاية. وكانت هذه المساكن مخصَّصة في رأي الوكالة للمهاجرين. ولكنهم ليسوا أي مهاجرين على أي حال!

كانوا قد أقاموها، حسب تفكيرهم لمهاجرين من أصلٍ أوروبي، قادمين من بولندا ورومانيا، ولكن التوقُّعات المتفائلة للمنظمات الصهيونية لم تتحقَّق؛ إذ إن المهاجرين الأوروبيين كانوا أقلَّ من أن يشغلوا كلَّ المنازل الجميلة التي أُقيمت من أجلهم! وقال بعض أصحاب التفكير المنطقي: ما علينا. لماذا نتركها خاوية؟ الأفضل أن يستفيدَ منها اليهود القادمون من أفريقيا الشمالية ومصر واليمن الذين يعيشون في ظروف صعبة.

وقد يبدو هذا التفكير منطقيًّا، ولكنه يتعارض مع التفرقة الحقيقية. فإقامة اليهود الشرقيِّين في «الناصرة الجديدة» سابق لأوانه. لذا فقد ظلَّت مساكنها خاوية جزئيًّا وظل «اليهود السود» في أكواخهم.

وفي مجال التقاليد، فإن الزواج بين يهود «سود» ويهود «بيض» يستدعي في حالاتٍ كثيرة قدْرًا من الشجاعة الحقيقية من جانب الطرفين. وقد قابلت أسرةً من أصلٍ مجري كانت إحدى بناتها تريد أن تتزوج من يهودي تونسي، وعرفتُ المأساة الحقيقية التي تعرَّضت لها الأسرة. كان الأبوان لا يعترضان على أي شيء في شخص الشاب سوى أصله «الشرقي». ويجب أن أقول إن الحزن الذي انتاب الأم كان شبيهًا إلى حدٍّ كبير بالحزن الذي انتاب صديقة لي من نيويورك عندما أفادتني عن «المصيبة الكبرى» التي حلَّت بها … وهي خطبة ابنتها لشابٍّ من أصلٍ بورتوريكي! ولو أن هذه الحالة كانت شاذة لما أوردتها، ولكنها تدخل للأسف في نطاق اتجاه عام سائد.

أما مجالُ التشغيل، فهو موصوم أيضًا بالتفرقة العنصرية. ولا مجال للكلام عن العرب! ويواجه اليهود الآسيويون والأفريقيون مصاعبَ لا يمكن التغلُّب عليها. ولو أننا تصوَّرنا أن هؤلاء القوم يحصَّنون فورًا ضد الرواسب التي كانوا يعانون منها، كما كنا واقعيِّين. فالإسرائيليون ليسوا محصنين ضد سموم التفرقة العنصرية، ولا يجد أيُّ «يهودي أسود» عملًا مهمًّا أو مركزًا مسئولًا. وهم يعللون ذلك بأن مستواهم الثقافي لا يضارع مستوى غيرهم من المهاجرين؛ وذلك لملابساتٍ مختلفة. وهذا صحيح أحيانًا، ولكن التفرقة قائمة فعلًا عندما لا يكون الأمر كذلك.

ويمكنني أن أقدِّم مثلًا واحدًا من بين عشرات الأمثلة المشابهة، وهو خاص بفتاةٍ من الإسكندرية، وهي يهودية مصرية جاءت إلى إسرائيل بعد حرب السويس، وتتكلَّم الإنجليزية والفرنسية بطلاقة، بمستوى الشهادة الثانوية، كما تجيد أعمال المحاسبة. وقد ظلَّت المصارف والإدارات مغلقة في وجهها لعدة شهور متوالية وأفادها الهستدروت، الذي لجأت إليه، ما دام الحصول على عملٍ في إسرائيل يستدعي اللجوءَ إلى النقابة، فإنها تستطيع أن تُستخدم في البيوت حتى يوفروا لها العمل المناسب. وهذا ما أقدمَت عليه فعلًا لكي تعيش.

ويزاول «اليهود السود» كلَّ الأعمال المنحطة: حمالين، عمال مصاعد، عمال يدويين، فتيات مقاهٍ، طاهيات … إلخ. وقد قصُّوا لي حكايةَ شاب له نفس كفاءات ومؤهلات الفتاة السكندرية، وقد استبعدوه هو أيضًا من كل الأعمال التي يصلح لها بسبب أصله. ولما يئس من توالي رفض تشغيله، أجاب بخطابين على عرضٍ واحد للعمل. وقد أورد في الخطابين شهاداته الحقيقية، ولكنه وقَّع على أحد الخطابين باسمه الحقيقي الذي يؤكد أنه «شرقي»، ووقَّع على الآخر باسمٍ مستعار له رنين «غربي». وقد تسلَّم ردَّين؛ الأول بالرفض وهو موجَّه «لليهودي الأسود»، والآخر بالترحيب والتحمُّس وهو موجَّه «لليهودي الأبيض» المدَّعى.

ومن الواضح أن عملية انصهار السكان المنتمين إلى حضاراتٍ مختلفة تمامًا بعضها عن بعض، يثير مشاكلَ معقَّدة أمام إسرائيل. ولا يحق لنا أن نطالبها بحل كل هذه المشاكل دفعة واحدة، ولكن من حقِّنا أن نبديَ دهشتنا وقلقنا من هذا الإصرار على اختيار الطريق المجاني للتقدم والاستنارة، سواء في المجال الداخلي أو الخارجي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥