الفصل الثامن

تحديد سياسة إسرائيل

لا يمكننا أن نحكم على سياسة إسرائيل، إلا من خلال سياستها الفعلية وفي حدود كونها لها نفس حقوق الدول الأخرى. كما لا يمكن الحكم أيضًا على أعمال وآمال الرجال والنساء الذين اختاروا الانضواء تحت لوائها، إلا من خلال تلك الآمال والأعمال. وينطبق ذلك على كل المجالات، سواء في السياسة الداخلية أو الخارجية.

ومن هنا فإن إصرار حكومة إسرائيل على السير في اتجاه معيَّن يستلفت النظر بشكل خاص. وإذا استرجعنا الأحداثَ باختصار لاتضح لنا الخط العام الذي يحدِّد مواقفَ القادة الإسرائيليين منذ حرب كوريا عام ١٩٥٠م، حتى الآن. فقد ثارت مناقشاتٌ صاخبة في الكنيست حول الموقف من الحرب الكورية، انتهت بنجاح الحكومة في الحصول على التأييد في مساندتها للتدخُّل الأمريكي. وهكذا وقفت إسرائيل في صف الولايات المتحدة في هذا النزاع الذي جعل العالم، لأول مرة منذ سنة ١٩٤٥م، على حافة حرب عالمية ثالثة. ولم يكن موقف إسرائيل هذا، سوى بدايةٍ لانحياز مستمر لسياسة المعسكر الاستعماري، وقد تؤدي التناقضات بين الدول الرأسمالية الكبيرة إلى زعزعة موقف إسرائيل من بعضها، ولكنها لم تتخلَّ أبدًا عن المعسكر الغربي.

•••

في عام ١٩٥٦م تواطأت إسرائيل مع حكومتَي فرنسا وإنجلترا، فيما يسمَّى «ضربة السويس»، وهي تدبير هجوم ضد مصر لأنها أمَّمت القنال … وفي عام ١٩٥٧م وافقت حكومة إسرائيل بالتمام والكمال على «مبدأ أيزنهاور» الذي يسمح لقوات الولايات المتحدة بالتدخُّل في الشرق الأوسط إذا رأى الرئيس الأمريكي أن هذا الإجراء ضروري … وفي عام ١٩٥٨م سمحت إسرائيل للطائرات الإنجليزية بالطيران بكل حرية فوق أراضيها لإرهاب الجمهورية العراقية الوليدة … والقائمة طويلة ولا زالت تطول حتى إنها غدَت مملة! ولنذكر أيضًا بشكل خاص موقفَ إسرائيل من حرب الجزائر.

كانت حكومة إسرائيل تؤدي بلا أدنى قيد أو شرط السياسةَ الاستعمارية للأوساط الحاكمة في فرنسا. وهكذا وقفت إسرائيل ضد مصالح الشعب الجزائري والشعب الفرنسي، بل والشعب الإسرائيلي نفسه في المدى الطويل. وأدَّى منطق هذا السلوك إلى وقوف أشخاص، مثل الجنرال ديان، وهو مرتبط شخصيًّا بجاك سوستيل) في صف «منظمة الجيش السري» في أواخر أيام الحرب. وكان ديان يود أن يساعد هذه المنظمة الإرهابية على خلق «معقل وهران» تعتصم به لتُلحِق الهزيمة بجيش التحرير. ولكن الواقع كان أقوى من هذا الهذيان الذي يعطينا صورةً للملامح الأساسية في الفكر السياسي لقادة إسرائيل، ويساهم في توضيح أسباب تشكُّك الشعوب العربية من هذه الدولة التي لم ترحِّب قط في يوم من الأيام بحصول أي شعب عربي على الاستقلال.

ولم تتغيَّر إسرائيل اليوم. كلُّ ما في الأمر أن تذبذبات السياسة الدولية ومتطلبات سياستها الخاصة بها، دفعتها إلى التحالف مع أقوى دول الغرب وأكثرها استعدادًا للتدخل فيما لا يعنيها …

وقد ارتضت إسرائيل أن تتحوَّل إلى عميل للاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط في مقابل تأييد الولايات المتحدة لها في المجال الدولي. لقد قابل ليفي أشكول الرئيسَ جونسون في حدودِ هذا المفهوم. فقد جاء يطلب الطائرات والوعود بتأييده، وقدَّم في مقابل ذلك المركزَ الجغرافي لبلده وسط العالم العربي الذي يسير بخطًى، ولو متعثرة وصعبة، نحو التقدُّم، ويثير بذلك قلقَ البيت الأبيض ودوائر المال الكبيرة في «وول ستريت».

والاحتكارات الأمريكية الكبرى، صاحبةُ النفوذ السياسي الحقيقي، ومنها بالأخص شركاتُ البترول تودُّ أن يكون «شركاؤها» أكثرَ طواعية. وتستطيع إسرائيل أن تقوم بدور الممثِّل النشط والمخلص لمصالحِ ما وراء الأطلنطي في هذا الجزء من العالم.

•••

على أن الإخلاص لا يُباع بالقطاعي في هذا النوع من الصفقات؛ فالقوى القائدة لدولة إسرائيل في حاجة إلى الولايات المتحدة، سواء من الناحية السياسية أو الاقتصادية أو العسكرية، حتى إنها لا يمكنها أن تتجاسر على إبداء أي تمنُّع؛ إذ يؤدي مثل هذا الموقف إلى سلوك طريق مخيف بالنسبة لقادتها.

وفي الظروف الراهنة تسيطر مأساة فيتنام على المسرح العالمي؛ ففي كل مكان يقف الشرفاء والعقلاء ضد الاعتداء الإجرامي عليها وفي صف مقاومتها البطولية. وتشعر الشعوب التي تريد أن تعيشَ حرَّة أن قضية فيتنام هي قضيتها وتعلن تضامنها معها. وترتفع الأحداث على مستوى الحكومات، وخارج الاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية لتدين المعتدين، ولكن حكومة إسرائيل لا تضم صوتها إلى هذه الأصوات. ولم يتورَّع وزير دفاعها الحالي، الجنرال ديان، عن قبول دعوة القيادة العليا الأمريكية، للذهاب إلى جنوب فيتنام حيث نزل ضيفًا على هيئة أركان الحرب.

أما الشعب الإسرائيلي، فلا يعرف أي طريق يسلك في ذلك الجو النفسي المسموم الذي يعيش فيه، وقد يكون متعاطفًا بشكل غريزي مع الشعب الفيتنامي، ولكنه يواجه دعاياتٍ متناقضة. فهناك بعض الاتجاهات اليسارية التي تحاول أن تثبت له أنه يعيش أوضاعًا مشابهة لأوضاع فيتنام. ولمَّا كان هذا الادعاء لا يستطيع أن يصمد أمام أي تحليل جادٍّ، فإن صداه ضعيف. أما الجانب الآخر، المسيطر على إمكانياتٍ صحفية كبيرة، فيبدي أسفه على مآسي الحرب، ولكنه يؤيد الولايات المتحدة «في دفاعها عن العالم الحر ضد مشاريع الشيوعية الدولية». ومن المؤسف حقًّا أن هذا الموقف له صدًى أوسعُ في خِضم البلبلة التي يتردَّى فيها الرأي العام الإسرائيلي. ولكن حكومة إسرائيل لم تعترف بعدُ بحكومة سايجون بالرغم من إلحاح أمريكا عليها، ولكنها لم تعترف على أي حال بجمهورية فيتنام الديمقراطية.

والواقع أن الحكومة الأمريكية تعتبر إسرائيل صديقًا يمكن الاعتمادُ عليه، خاصة وهي تعاني من انعزالها التدريجي نتيجةً لسياستها إزاء فيتنام. وقد حيَّا الجنرال ديان علنًا، وفي مناسبات عديدة، شجاعةَ جنود البحرية، وأعرب عن يقينه بأنهم سينتصرون. وعندما سافر أشكول إلى الولايات المتحدة حرص على أن يحيي وحدةَ مواقف وأهداف حكومته وحكومة واشنطن.

ولا يستطيع أيُّ شخص، ولا حتى أكثرُ أصدقاء إسرائيل حماسًا لها أن ينكر هذه الحقيقة.

وهناك حقيقةٌ أخرى وهي أنني سمعت في كل أحاديثي مع الأوساط العربية، سواء داخل إسرائيل أو في الأرض المحتلة، توقُّع النصرِ لجبهة التحرير الوطنية والإشادة بشجاعة المحاربين الفيتناميِّين في الشمال والجنوب … وإني لأذكر امرأةً من تمرة، بمنطقة الجليل، لم تترك في حياتها قريتَها، وتنوء بمشاكل حياتها، ولا درايةَ لها بشئون السياسة، ولكنها تعي بشكلٍ غريزي الرابطةَ التي تجمعها برجال ونساء فيتنام؛ إذ قالت لي: «الناس في فيتنام أخوة لي.»

تُعتبر الجالية اليهودية في الولايات المتحدة، أقوى الجاليات التي تقدِّم المعونة لإسرائيل، وأحسنها تنظيمًا. فقد تم جمع ٢٤ مليون دولار في يوم واحد أثناء حرب يونيو، وفي مدينة نيويورك وحدَها. وقد قابلت في تل أبيب أحدَ منظمي التبرُّع، وهو صاحب مصنع كبير لتفصيل ملابس الأطفال، كان قد تبرَّع هو نفسه بمبلغ كبير، كما فرض على عاملات مصنعه التبرُّع بأجرِ يومِ عمل، وهذا الرجل في الثانية والستين من عمره، وهو من أصلٍ أكراني. وقد ترك كييف في عام ١٩٢٠م مع أسرته التي هاجرت إلى أمريكا. وهكذا زاد حقدُه على «البلاشفة»، وأضاف إليه ازدراءً مجنونًا حقًّا للعرب، وتعصبًا صهيونيًّا مرضيًّا حقًّا في رأيي. وقد استمعت إليه وهو يحكي لي أمام خرائب «صودوم» أن المصفَّحات الإسرائيلية لن تتوقف في المرة القادمة إلا بعد دخول مدينة الجزائر. ولا شك أنه مما يدعو إلى الرثاء أن يكون أصدقاء إسرائيل على هذه الشاكلة.

وكثيرًا ما يصادف المرءُ في إسرائيل أمثال هذا الرجل من أصحاب الأعمال القادمين من نيويورك وتورنتو ولندن وسيدني وشيكاغو وباريس أيضًا. وهؤلاء جميعًا يمثلون دولةَ إسرائيل في الخارج، وهي ربيبتهم المفضَّلة التي يسبغون عليها رعايتهم. فعلى أثر انتهاء الحرب نظَّم هؤلاء الرجال «اجتماع أصحاب الملايين» الشهير، في القدس بعد «تحريرها»، وهم يسهرون الآن على تنمية اقتصاد إسرائيل، ويضغطون على الجاليات التي ينتمون إليها حتى لا تخفَّ حركة جمع التبرعات لإسرائيل. وكلنا نذكر «الضريبة» التي دعا إليها البارون روتشيلد ( وقد استخدم هذا اللفظ بنفسه) إلى جبايتها في يونيو الماضي من كل الفرنسيين اليهود، فجمع أموالًا حتى من الذين لا يملكون إلا القليل.

ومن الجدير بالملاحظة حقًّا أن اقتصاد إسرائيل لم يعانِ من حرب يونيو الباهظة التكاليف؛ فالميزانية العسكرية الإسرائيلية من أكبر الميزانيات نسبيًّا في العالم. وكانت كافية حتى قبل العدوان للقضاء على التوازن المالي للدولة لولا الهِبات المتدفقة من الخارج، ومنذ يونيو الماضي، أرسلت الجالية الفرنسية وحدَها ٦ مليارات فرنك لإسرائيل. أما المساهمة الأمريكية فهي أضعاف أضعاف هذا الرقم.

وموقف المنظَّمات الإسرائيلية التي تسيطر عليها العناصر الموغلة في رجعيتها والمرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالنظام الرأسمالي، من أسباب دفع حكومة الولايات المتحدة إلى تأييد دولة إسرائيل. وهذا هو ثَمن «أصوات اليهود»، كما قالت جريدة تصدُر في نيويورك.

وهناك مواكب من كبار رجال الدولة الأمريكية تتوافد على إسرائيل لتؤكد «للناخبين اليهود» حبَّها العميق لدولة إسرائيل. أما جونسون فلم يتمكن من الذهاب بنفسه، فعوَّضهم عن ذلك بفيض من التصريحات الحارة. على أن أحد هذه التصريحات قوبل ببرود؛ إذ انه قال «إنه مستعد للدفاع عن إسرائيل، تمامًا كما يدافع جنودنا عن فيتنام الجنوبية.» وقد حزن الكثيرون لهذه المقارنة.

وسافر المرشَّحون الرسميون للحزب الجمهوري للرئاسة تباعًا إلى تل أبيب، ومنهم السناتور بيرس، من ولاية إيلينوس الذي دعا الإسرائيليين إلى «عدم التخلي عن شبر واحد من الأرض»، ورومني، حاكم ولاية ميشنجام الذي صرَّح أنه لا يستطيع أن يخفيَ «الاضطراب الروحي» الذي أثاره في نفسه وجودُه في إسرائيل. وقد أوضح على التو أن هذا الاضطراب يرجع إلى أن «مصير العالم يتوقف أساسًا على بلدين وهما؛ الولايات المتحدة وإسرائيل». أما ريجان حاكم ولاية كاليفورنيا والمعروف بعدائه السافر للزنوج والشيوعيِّين والعمال المضربين، فلم تكن قد واتته بعدُ فرصةُ السفر إلى إسرائيل، فأرسل لهم برقية يقول فيها ما معناه «إلى الأمام سِر» بلهجة جاويش «حمش» يخاطب جنوده.

وإني لأدرك أن هناك إسرائيليِّين يعانون من هذا الوضع ويأسفون للمساندة التي تأتيهم من مثل هؤلاء المؤيدين. على أنهم لا يريدون أن يفهموا أن سياسة حكوماتهم المتتالية، منذ نشأة إسرائيل، لا بد وأن تؤديَ إلى هذا الوضع المذهل. فليس من باب المصادفة أن تحالفات إسرائيل تربطها بأكثر الدول رجعيةً وعدوانيةً وتهديدًا للسلام. وليس من باب المصادفة أن المساندة التي تحصُل عليها إسرائيل تأتي أساسًا من البلد الذي يضطهد الزنوجَ ويقتل الفيتناميِّين ويحمي أكثرَ الحكومات رجعيةً وفسادًا على سطح الأرض، ابتداء من حكومات سايجون وسيول وسان دومنجو واليونان … إلخ. وليس من باب المصادفة أيضًا أن الدولة الإسرائيلية تعيش في كنفِ أكبرِ دولة استعمارية.

وإذا كان لإسرائيل الحق في البقاء، فإنه لا يحق لها أن تكون توسعية وعدوانية، وليس من حقِّها أن تنتهج في القرن العشرين سياسةً أشبه بالسياسات الاستعمارية في القرن التاسع عشر، وليس من حقِّها أن تقف في وجه مسيرة شعوب الشرق الأوسط إلى الأمام، وليس من حقِّها أن تكون معقلًا مسلحًا للاستعمار الأمريكي في منطقةٍ تتخلص شيئًا فشيئًا من اضطهاد الماضي من خلال تجاربَ قاسية، وليس من حقِّها أن تقودَ الشعب الإسرائيلي نفسه إلى الحِداد والكارثة.

وعلى الشعب الإسرائيلي أن يبحثَ بنفسه عن وسائل التخلُّص من هذه السياسة التي لا يمكن إلا أن تؤديَ إلى كارثة. ويجب على أصدقائه الحقيقيِّين، وعلى كل أنصار السلام، أن يساعدوه على التخلُّص من الخوف الذي لا يقوم على أساس، وأن يوضِّحوا له إمكانيات الازدهار والتحرر.

لقد قال لي صديق إسرائيلي، وهو رجل عاقل تعذِّبه الأوضاع الراهنة: «أنا أدرك تمامًا أن هذه السياسة خاطئة من أساسها وخطرة، ولكن لا يسعني إلا أن أردِّد مثل الإنجليز: «إنه وطني، سواء كان مخطئًا أم مصيبًا».»

وقد ذكَّرته بقصة قديمة من حكم الشرق؛ فقد قال حكيمٌ عجوز لمريديه: «عليكم بمساعدة إخوتكم، سواء أصابوا أم أخطئوا.» ولكن أحد مريديه قال له: «ولكن يا معلمنا، كيف يستطيع الإنسان أن يساعد أخاه وهو مخطئ؟» فأجاب الحكيم: «بأن تمنع ساعِده عن الحركة حتى لا يفعل الشر.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥