الفصل السابع

الماهوية في علم التصنيف١

يمكننا تحديد عام ١٥٤٣م كبداية للثورة العلمية الحديثة، حيث نُشِرَ عمل كوبرنيكوس في الفلك وعمل فيزاليوس في التشريح، وخلال أقل من مائة عام بلغت الفيزياء الكلاسيكية موسم إثمارها في كتاب نيوتن «المبادئ» Principia، بينما لم يتم أي إنجاز نظري في البيولوجيا يضارع إنجازات الفيزياء. ولم تبلغ البيولوجيا سن الرشد حتى مجيء القرن التاسع عشر مع أعمال داروين ولا مارك في التطور، وأعمال مندل في الوراثة، وباستير في البكتريا، وشليدن وغيره في نظرية الخلية. أمَّا في علم التصنيف taxonomy فكان مسير الثورة العلمية أبطأ حتى من ذلك. ورغم بعض تقدم حققه كارولوس لينيوس وجون راي في ميثودولوجيا علم التصنيف فهما لم يقدما إسهامات مهمة لنظرية التصنيف كما ابتكرها أرسطو. وبينما تخلفت البيولوجيا عن الفيزياء في التخلص من التأثير السكولائي فقد تخلف علم التصنيف وراء غيره من العلوم البيولوجية في هذا الشأن. وعلى العكس من الرأي الشائع؛ فإن هذه العملية في الحقيقة أبعد ما تكون عن التمام. والآن فقط يبلغ علم التصنيف مرحلة من النضج تضاهي نضج الفيزياء منذ ٣٠٠ عام مضت، أو تضاهي غيره من العلوم البيولوجية منذ خمسين أو مائة عام. فما السبب؟
يجيب كارل بوبر عن هذا السؤال بقوله: «يمكن فيما أرى أن نجمل تطور الفكر منذ أرسطو بأن نقول: إنه بقدر استخدام كل تخصص لمنهج أرسطو في التعريف فقد ظل هذا التخصص موقوفًا في حالة من الحشو اللفظي الفارغ والإسكولائية العقيمة، وإن العلوم المختلفة قد حققت درجة من التقدم بقدر ما تمكنت من التخلص من منهج البحث الماهوي.»٢
لا تَصدُق هذه العبارة في أي من العلوم بقدر ما تَصدُق في علم التصنيف؛ ذلك أن أهمية التعريف لا تتجلى في أي علم قدر تجليها في علم التصنيف. فليس في أي علم من الحشو اللفظي الفارغ حول معنى لفظة قدر ما في علم التصنيف من حشو عن معنى لفظة «نوع» species؛ غير أن داروين قد وضع حدًّا لذلك فيما يُفترَض. يقول داروين نفسه في تعليقه على هذه الخلافات التي لا نهاية لها: «عندما يُعترَف عند الكافة بالآراء التي قدمتها في هذا العمل سيكون بوسعنا أن نتنبأ بأنه ستكون ثمة ثورة كبيرة في التاريخ الطبيعي. سيكون بوسع علماء تصنيف الأحياء أن يمضوا في جهودهم كما الآن، ولكنهم لن ينتابهم على الدوام ذلك الظل من الشك فيما إذا كان هذا الشكل أو ذاك نوعًا حقيقيًّا. وهذا — وأنا على ثقة وأتحدث عن خبرة — انفراجٌ ليس بالهيِّن.»٣
لقد أصبحت آراء داروين عن تطور الأنواع مُسلَّمًا بها بعامة. ثمة ثورة كبيرة حدثت في التاريخ الطبيعي (التصنيف الفيلوجيني)، ولكن شبح نزعة الماهية ظل ينتاب عالِم التصنيف. يقول إرنست ماير على سبيل المثال: «إنها لمفارقةٌ عجيبةٌ أن كثيرًا جِدًّا من علماء التصنيف لا يزالون يلتزمون بتصور للأنواع إستاتيكي صارم، بالرغم من أنهم يسلمون طوعًا بوجود التطور.»٤ ومرة ثانية: «إنها لمفارقةٌ عجيبةٌ في تاريخ البيولوجيا أن إعادة اكتشاف قوانين مندل أدى إلى تصور للأنواع لدى التجريبيين أكثر بُعدًا عن الواقع مما كان سابقًا.»٥ فمع اكتشاف أهم نظريتين في البيولوجيا كان المرء حقيقًا أن يتوقع لشيء أساسي مثل وحدة التصنيف أن يقع في منظور أكثر وضوحًا لا أن يصبح أكثر ضبابية. في المرحلة الأولى يُسلِّم علماءُ التصنيف بأن الأنواع تتطور، ولكنهم يجدون تحديد أسماء الأنواع وفقًا لذلك أمرًا غير ممكن. وفي المرحلة الثانية يسلمون بوجود استمرارية جينية بين أعضاء نوعٍ ما ولكنهم ينكرون أي واقعٍ للنوع. وقد اجتمع الاثنان ليُسهما في استمرار مشكلة الأنواع.
وكما بَيَّنَ كين A. J. Cain٦ فإن تأويل مفارقات ماير يكمن في وجود بقية من نزعة الماهية لم يتم إقصاؤها تمامًا من علم التصنيف. هذه الأثارة الماهوية هي المسئولة عن تمسك علماء التصنيف بما يمكن أن نسمِّيه على التقريب «مفهوم ثبات الأنواع»، وهو بدوره مسئول عن وجود أنواع في التصنيف عارية عن الواقع. ثمة بالطبع أسباب أخرى حملت علماء التصنيف على التمسك بفخاخ التعريف الأرسطي، وهي — في الغالب — نفس الأسباب التي أدَّت بأرسطو في الأساس إلى ابتكار منظومته؛ فالمُصنِّف إذ يجد نفسه بإزاء خليط من الصور المتباينة عليه أن يقسمها؛ فإن بوسعه أن يُبسِّط مهمته تبسيطًا كبيرًا إذا ما زعم أن خواصَّ معينة هي خواص «جوهرية/ماهوية» للتعريف؛ غير أن فعله هذا لن يعدو كونه «زعمًا»؛ إذ إن أسماء الأصانيف لا يمكن تعريفها في حدود خصائص جوهرية دون تزييف كبير لن ينطلي على أقل الباحثين نقديةً وأقلهم معرفةً بالكائنات الجاري تصنيفها.
لقد أغفل المصنِّفون الأوائل هذا التوتر بين الواقع والنظرية إغفالًا كبيرًا؛ لأنهم لم يفهموا بوضوح منطقَ التعريف الأرسطي، ولأنه حتى العلماء لديهم ما يجعلهم لا يلحظون ما يتعارض مع فروضهم الفلسفية المسبقة. ليس غرضنا الآن على كل حال تبيان أن التعريف الأرسطي كان مسئولًا عن عجز المصنفين عن تعريف أسماء الأصانيف taxa بطريقة ملائمة (وإن كان هذا صحيحًا بالتأكيد)، بل تبيان أن التعريف الأرسطي مسئول عن عجز المصنفين عن تعريف «النوع» species على نحوٍ قويمٍ. إن تَوَزُّع الخواص فعليًّا بين الكائنات قد دفع المصنفين في النهاية إلى التخلي عن التعريفات الأرسطية لأسماء الأصانيف taxa وليس ثمة توتر مماثل يدفعهم للتخلي عن محاولاتهم لتعريف «الأنواع» species بالطريقة الأرسطية؛ غير أن التعريف الأرسطي متخبطٌ بالنسبة للأنواع species مثلما هو متخبط بالنسبة للأصانيف taxa.

•••

يُعرِّف بوبر نزعة الماهية كما يلي: «استخدم اسم «الماهوية المنهجية» methodological essentialism لتُعَيِّنَ الرأي الذي اتخذه أفلاطون وكثيرون من تابعيه، والقائل بأن مهمة المعرفة الخالصة أو «العلم» هي أن يكتشف ويصف الطبيعة الحقيقية للأشياء؛ أي الواقع الخفي أو الماهية.» يعود إلى أفلاطون ذلك الاعتقاد العجيب بأن ماهية الأشياء المُحَسَّة يمكن أن توجد في أشياء أخرى أكثر واقعية في أسلافها أو صورها. وإذا كان كثيرون من الماهويين المنهجيين — مثل أرسطو — لم يتبعوه تمامًا في تحديد هذا، فجميعهم متفق مع أفلاطون في تحديد مهمة المعرفة الخالصة على أنها اكتشاف الطبيعة الخفية للأشياء، أو صورها، أو ماهيتها، وجميعهم أيضًا متفق مع أفلاطون في القول بأن هذه الماهيات قد تُكتشَف أو تُدرَك بمساعدة الحدس الفكري، وبأن لكل ماهية اسمًا مناسبًا لها هو الاسم الذي يُطلَق على كل من الأشياء المحسَّة، وبأن الماهية قد توصف في كلمات، وهم يطلقون على وصف ماهية شيءٍ من الأشياء «تعريفًا» a definition.٧
وقد أصبح يُطلَق على هذا الموقف في علم التصنيف «علم الأنماط» typology. ثمة ثلاثة معتقدات لعلم الأنماط: (١) الإقرار الأنطولوجي بوجود الصور. (٢) الإقرار الميثودولوجي بأن مهمة التصنيف كعلمٍ هي أن يدرك ماهيات الأنواع. (٣) الإقرار المنطقي المتعلق بالتعريف. إن علينا أن نميز هذه المعتقدات المنفصلة الثلاثة إذا شئنا أن نجتنب اجتراح عبارات مثل تلك التي تتهم داروين ولامارك بأنهما من «علماء الأنماط». لقد كانا عالِمَي أنماط بمعنى أنهما احتفظا بجزء من العنصر الثالث للماهوية؛ أي منطق التعريف الأرسطي، وليس بأي معنًى آخر. يقول بوبر: «وفقًا لنزعة الماهية (وبخاصة في صيغتها الأرسطية) فإن التعريف هو ترديد الماهية الداخلية أو طبيعة الشيء. وهو في الوقت نفسه يذكر معنى لفظةٍ، معنى الاسم الذي يُسَمِّي الماهية.»٨ يذهب أرسطو إلى أن هناك ثلاثة أشياء يمكن أن تُعرَف عن أي كيان (كائن): ماهيته وتعريفه واسمه. الاسم يُسَمِّي الماهية، والتعريف يقدم وصفًا جامعًا تامًّا للماهية. الاسم إذن هو اسم الكيان والتعريف وصفٌ له. «يعتبر أرسطو أن الحد يُعرَّف بأنه اسم لماهية الشيء، والصيغة المُعرِّفة بأنها وصف الماهية. وهو يؤكد أن الصيغة المعرِّفة يجب أن تقدم وصفًا جامعًا للماهية أو للخواص الجوهرية (الماهوية) للشيء المعني.»٩
وبغض النظر عن كل ما قيل عن الماهيات، فإن ما يدعو إليه أرسطو — إذا استخدمنا المصطلح الحديث — هو التعريف بالخواص المرتبطة بالاقتران والتي إذا أُخِذَت متفرقةً فكل منها «ضروري» necessary وإذا أُخِذَت مجتمعةً فهي «كافية» sufficient. مثال ذلك: أن كون الشيء شكلًا مغلقًا مستويًا ثلاثي الأضلاع هو ضروري وكافٍ لكونه مُثلثًا. مثل هذا الضرب من التعريف ملائم — كما هو معلوم — لتعريف الصور الأزلية. ولكنه ليس ملائمًا تمامًا لتعريف أسماء الأنواع التي تتطور، أو لتعريف «النوع» species نفسه؛ ورغم ذلك فإن هذا الضرب من التعريف هو بعينه ما افترض أنه التعريف المسموح به حتى عهد قريب. لقد كانت نظرية التطور بالضرورة تحديًا للإقرار الأنطولوجي بأن الأنواع كصُوَرٍ موجودة. ومن الواضح تمامًا أنها كانت أيضًا تحديًا للإقرار الميثودولوجي. فإذا لم يكن ثمة صور فلن يمكن أن تكون مهمة علم التصنيف أن يدركها. ولكن لنظرية التطور نتيجة ثالثة بالنسبة لعلم التصنيف، وهذه النتيجة الثالثة هي ما لم يَرَه داروين وأتباعُه. لقد تَعَيَّن التخلي عن التعريف الأرسطي لأسماء الأنواع وللأنواع، وأمكن لعلماء الأنماط التغاضي عن التَّوزُّع الفوضوي للخواص بين الكائنات الحية في واقع الحال، وعن تنوع طرق التكاثر المستعملة لإبقاء النوع. أمَّا علماء التطور فلم يمكنهم التغاضي.

(١) التعريف الأرسطي والتطور

كان علماء التصنيف منذ البداية يهدفون إلى شيئين: تعريف ﻟ «النوع» species من شأنه أن يُفضي إلى أنواعٍ حقيقية، ومبدأ موحِّد من شأنه أن يُفضي إلى تصنيفٍ طبيعي. تتضح الحماسة التي بحث بها علماء التصنيف عن مثل هذا المبدأ الموحِّد في الاقتباس التالي للينوس: «لقد جهدت طويلًا لكي أجده، وقد اكتشفت أشياءً كثيرةً ولكني لم أتمكن من العثور عليه، وسوف أستمر في البحث عنه ما حَيِيت.»١٠ وقد عثر التصنيفيون أخيرًا على مبدئهم الموحِّد في نظرية التطور؛ فالتصنيف الطبيعي هو ذلك التصنيف الذي «مَثَّلَ» الفيلوجينيا (تطور النوع) بمعنًى ما من المعاني.١١ تلقى بعض التصنيفيين البرنامج الفيلوجيني بحماسة في الترحيب لا يضارعها إلا حماسة غيرهم في الرفض. من الواضح لماذا عارض علماء الأنماط التصنيف الفيلوجيني؛ غير أن التصنيف الفيلوجيني لقيَ معارضةً أيضًا من التصنيفين الذين قبلوا نظرية التطور، ولكنهم أنكروا أي صلة لهم بعلم التصنيف. أصبحت هذه المجموعة الأخيرة تُعْرَف باسم التقسيميين classificationists، ونظراؤهم المحدثون هم التصنيفيون العَدَديون numerical taxonomists. وتفسير موقف التقسيميين الأوائل يمكننا أن نجده أيضًا في العنصر الثالث للماهوية. فرغم أن جميع الفيلوجينيين الأوائل ومعظم التقسيميين هجروا التقريرين الأولين للماهوية فكلا الطرفين لم يهجر التعريف الأرسطي.
بسبب التطور أحسَّ علماء التصنيف بأنهم بإزاء ورطة؛ فإذا تقبلوا نظرية التطور بوصفها المبدأ الموحِّد لتقسيم طبيعي، فإن عليهم أن يتخلوا عن أي أمل في أن يكون لديهم يومًا نوعٌ طبيعي. وإذا شاءوا التمسك بأنواع حقيقية فإن عليهم أن يتخلوا عن أي أمل في أن يكون لديهم يومًا تقسيم طبيعي. بوسعنا أن نرى الأساس المنطقي وراء هذه المعضلة في الاقتباسات التالية من لامارك وليل وداروين. يقول لامارك على سبيل المثال: «إن ذلك الشطر من عمل العلماء الطبيعيين المتعلق بتحديد ما يسميه المرء «نوعًا» يزداد اختلالًا يومًا بعد يوم؛ أي يصبح أكثر تعقُّدًا وأكثر اضطرابًا؛ لأنه يجري في الافتراض السائد عالميًّا تقريبًا بأن منتجات الطبيعة تشكل أنواعًا متميزة دومًا بخصائص لا تتغير، ووجودها قديم قِدَم الطبيعة نفسها.»١٢ لقد خلص لامارك عندئذٍ بأنه ما دامت الأنواع لا يمكن تحديدها بقائمةٍ ثابتةٍ من الخصائص فإنها لا يمكن أن تكون حقيقية، ويرد لِيل بقوله: «إذا كانت الأنواع غير حقيقية فالنتائج الواضحة لذلك مزعجة: فالتغير غير المحدود يصبح ممكنًا بل ضروريًّا، ولن يعود للأنواع حدودٌ دقيقة، وسيصبح التقسيم ممارسة اعتباطية خالصة، وسيجوز لأي نوع أن يتحول بسهولة إلى نوع آخر.»١٣
وبصيغةٍ أخرى فإن الأساس الوحيد للتقسيم الطبيعي هو نظرية التطور، ولكن وفقًا لنظرية التطور فإن الأنواع تنشأ بالتدريج ويتغير النوع منها إلى نوع آخر. فإذا كانت الأنواع قد تطورت بهذا التدريج فإنها لا يمكن أن تُحَد بواسطة خاصة فردة أو مجموعة من الخواص. وإذا كانت الأنواع لا يمكن أن تُحَدَّ فإن أسماء الأنواع إذن لا يمكن أن تُعَرَّف بالطريقة التقليدية. وإذا كانت أسماء الأنواع لا يمكن أن تُحَد بالطريقة التقليدية فإنها، إذن، لا يمكن أن تُعرَّف على الإطلاق. وإذا كانت لا يمكن أن تُعَرَّف على الإطلاق فالأنواع إذن لا يمكن أن تكون حقيقية (واقعية). وإذا كانت الأنواع غير حقيقية فإن «النوعَ» species، إذن ليس له سَنَد (مرجِع/مشار إليه) والتصنيف أمرٌ عشوائيٌّ تمامًا.
ثمة عناصر من نفس الحجة يمكن أن نجدها في كتابات علماء التصنيف المحدَثين. يقول كين A. J. Cain مثلًا ما يلي: «ولكن عندما تتاح سلسلة جيدة فإن الأشكال التي تبدو نوعًا جيدًا في أي وقت معين تصبح غير محددة ما دامت هي مراحل متعاقبة في خط تطوري واحد تتداخل بسلاسة بعضها في بعض …»١٤ وبمرور الزمن تتغير باستمرار وتتحول بالتدريج إلى نوعين جديدين بدون أي انقطاع مفاجئ يمكن أن يُستخدَم كحَدٍّ معين. وتُعَد حدود الأنواع التحتية والأنواع داخل جنسٍ ما اعتباطية بنفس القدر؛ إذ ليس ثمة سبب لأن تضع قَطعًا في سلسلةٍ ممتدة عند نقطةٍ معينةٍ دون غيرها. ويخلص كين إلى أن المشكلة لا حل لها. ويقول سيمبسون G. G. Simpson: «من المؤكد أن خط النسَب يجب أن يُقطَّع إلى قِطَعٍ لأغراض التصنيف. وهذا التقطيع يجب أن يكون اعتباطيًّا … لأنه ليس ثمة طريقة غير اعتباطية لتقسيم خطٍّ ممتد …»١٥
ورغم كل المثالب المذكورة الخاصة باﻟ «نوع» يقول كين: إن الأنواع كخطوطٍ عرقية «أقل اصطناعًا وأقل ذاتية وأقل اعتباطية من أي رتبة أخرى.»١٦ ويقول ماير: «إن الأنواع وحدةٌ مهمة في التطور وفي الإيكولوجيا وفي العلوم السلوكية وفي البيولوجيا التطبيقية١٧ … إن لها دلالة بيولوجية مُحدَّدة جِدًّا.»١٨ ويقول سيمبسون: «مثل هذه التقسيمات الفرعية الاعتباطية لا تُنتِج بالضرورة أصانيف «غير واقعية» أو «غير طبيعية» … ولكي نوضح ذلك بمماثلة بسيطة ولكن كافية للتفسير فإن قطعة من السلك تتدرج لونيًّا من الأزرق مثلًا عند أحد الأطراف إلى الأخضر عند الطرف الآخر، فإن قطع هذا السلك إلى شطرين هو فعلٌ اعتباطي، ولكن الجزأين الناتجين هما قسمان واقعيان تمامًا من السلك يوجدان كجزأين طبيعيين من الكل قبل أن يُفصَلا.»١٩

من الواضح تمامًا أن علماء التصنيف ما زالوا يعتقدون بأن ثمة مشكلة للنوع، وفي القلب من هذه المشكلة فكرة التعريف، تلك الفكرة الفاترة بيولوجيًّا الحاسمة منطقيًّا.

(٢) أسماء الأصانيف بوصفها مفاهيم عنقودية cluster concepts

لم يصل العلماء إلى اتفاق حول هذه الأسئلة خلال القرنين السابقين رغم وفرة الجهود المبذولة. ويقول ماير: إن المرء لَيشعر بأن ثمة سببًا خفيًّا وراء هذا الاختلاف الكثير. من أسباب عدم التوصل إلى اتفاق في هذا الشأن أن علماء التقسيم وعلماء الفيلوجينيا يختلفون في الغرض من التصنيف؛ فالزمرة الأولى تريد أن تكون وحدة التقسيم هي وحدة التعَرُّف، والأخرى تريدها أن تكون وحدة التطور. ولكن هناك أيضًا سببًا خبيئًا لهذا الاختلاف الكثير، وهو قابلية كلٍّ من الطرفين من التصنيفيين للتأثر بالتعريف الأرسطي. من دلائل خطأ التعريف الأرسطي تلك النتيجة التي وصل إليها ماير وجميع التصنيفيين الآخرين تقريبًا الذين تناولوا مشكلة النوع، وهي أنه «ربما يكون سبب الاختلاف هو حقيقة أن هناك أكثر من صنف من «النوع»، وأنه يلزمنا تعريف مختلف لكل من هذين «النوعين».»٢٠
وأفضل طريقة لكشف تأثير التعريف الأرسطي على علماء التصنيف هي أن نبحث تعريف نوعٍ من الحدود هجر التصنيفيون بسببه التعريفَ الأرسطي بالفعل؛ وهو تعريف أسماء التصانيف taxa. نحن ندرك الآن ببساطة ما أدركه أدانسون منذ مائتَي عام تقريبًا من أن أسماء الأصانيف لا يمكن أن تُعرَّف بواسطة مجموعات من الخواص الضرورية حين تؤخَذُ فُرادَى والكافية حين تؤخذ مجتمعة؛ ذلك أنه قلَّما تكون أي خاصة ذات أي قيمةٍ تصنيفيةٍ موَزَّعةً بين أعضاء أي أصنوفةٍ taxon على نحوٍ جامعٍ مانعٍ معًا؛ فالخواص التي تُسْتَخْدَم لتعريف أسماء الأصانيف لا تخضع لحدودٍ تصنيفية (لا تحترم حدودًا تصنيفية). مثال ذلك: هل النصف حبليات داخلة في شعبة الحبليات أم هي شعبة مستقلة؟ ليس ثَمَّة بين الخواص المستخدمة لتعريف «الحبليات» chordate ما هو ضروري وكافٍ معًا، فإذا كانت النصف حبليات متضمَّنة داخل الحبليات فإن قليلًا من الخواص هو الذي تمتلكه الحبليات بشكلٍ حصري، مثل: حبل ظهري، حبل عصبي أجوف ظهري، جهاز عضلي قُسامِي، هيكل داخلي من غضروف أو عظم، وجهاز دوري مغلق. ولكن عندئذٍ لا يكون بين الخواص ما هو موجود بشكلٍ جامع، ربما يكون شِق الخيشوم أقرب شيء لأن يكون موزَّعًا بشكلٍ جامع، ومع ذلك فإن بعض نصف الحبليات لا يمتلك أي شيء يمت لشق الخيشوم من قريب أو بعيد. فإذا لم نُدخِل نصف الحبليات من جهة أخرى في الحبليات، فإن كثيرًا من الخواص المعرِّفة يصبح ممتلكًا للحبليات بشكل جامع، مثل: حبل ظهري، حبل عصبي أجوف ظهري، وشقوق خيشومية، ولكن عندئذٍ ستصبح كثير من الخواص التي كانت ممتلَكة حصريًّا للحبليات غير حصرية، مثل: حبل عصبي أجوف ظهري. الخاصة الوحيدة التي تمتلكها الحبليات بشكلٍ جامع مانع هو الحبل الظهري، وإن كانت بعض الفقاريات وحبليات الذيل تمتلك واحدًا في طور الجنين أو اليرقة فحسب. وحتى لو أخذنا الأشكال الحالية فقط بالاعتبار فإن التعريف الأرسطي ببساطة لن يُجدي.
جرى العرف على أن تُعد لفظةٌ ما معَرَّفة على نحوٍ صريحٍ إذا — وفقط إذا — أمكن إعطاء مجموعة من الخواص بحيث تكون كل خاصة على حِدة ضرورية وتكون المجموعة الكلية للخواص كافية إذ تؤخَذ مجتمعةً. من ذلك أن الأعزب هو: الإنسان البالغ الذكر الذي لم يتزوج قَط، فإذا كانت A كلمةً مطلوبًا تعريفُها وd، c، b، a خواص، فإن البنية المنطقية لهذا التعريف هي ADF a. b. c. d، يمكن للألفاظ أن تُعرَّف أيضًا بالفصل دون انتهاك لروح التعريف الأرسطي. من ذلك أن اﻟ sibling هو أخو المرء أو أخته، واﻟ uncle هو أخو والد المرء أو أخو أمه أو زوج إحدى عماته أو خالاته. والبنية المنطقية لمثل هذا التعريف هي: ADF aVbVcVd، في هذا التعريف الفصلي كل خاصة كافية على حدة وامتلاك واحدة على الأقل من الخواص كافٍ.
ومع ذلك فكل من هذين الصنفين من التعريف ليس صالحًا لتعريف أسماء الأصانيف؛ وبالتالي لتحديد الأصانيف. وسواء من وجهة نظر التصنيف الفيلوجيني أو العددي، فإن أسماء الأصانيف لا يمكن أن تُعَرَّف إلا بواسطة مجموعات من الخواص المتغيِّرة المشارِكة إحصائيًّا والمنتظمة في تعريفاتٍ فصلية طويلة إلى غير نهاية. والبنية المنطقية لمثل هذا التعريف هي: ADF a. b. c. dVb. c. d. eVa. c. d. f and so on. ليس ثمة — في العادة — خاصة معينة أو مجموعة من الخواص ضرورية، ولا أي مجموعة عددية كافية. من أمثلة ذلك في الخطاب العادي لكلمة لا يمكن تعريفها إلا بهذه الطريقة كلمة «ليمون». يتضمن وصف الليمونة خواص من قبيل: ثمرة لنوع معين من الأشجار، لها طعم حامض، بيضية الشكل … إلخ. لا شيء من هذه الخواص ضروري، حيث إن الفاكهة قد تفتقر لأي واحدة منها وتبقى ليمونة. ثمة مجموعات عديدة ومختلفة ولكن متداخلة من الخواص هي وفقًا لذلك كافية.٢١
في تعريفهم لأسماء الأصانيف كمفاهيم عنقودية cluster concepts تبنَّى علماء التصنيف (سواء أدركوا ذلك أم لا) موقفًا فلسفيًّا جديدًا ومثيرًا للجدل بعض الشيء. لقد هجروا القسمة الثنائية البسيطة بين العلاقات التحليلية والتركيبية في التعريف. لقد جرى العُرف بأن الخاصة المُعَرِّفة إما أن تكون مرتبطة تحليليًّا باللفظة التي تُعَرِّفها أو لا تكون. وليس ثمة وَسَطٌ في ذلك. وفقًا لإحدى صيغ الموقف الجديد فإن «أي خاصة مرتبطة بأخرى بحيث لا يكون ثمة معنًى لأن ننكر انطباقها ستُسمَّى مرتبطة تحليليًّا بها. مثال ذلك ارتباط اﻟ brotherhood باﻟ siblinghood. أمَّا الخاصة التي لا تفي بهذا المتطلب ولكنها رغم ذلك حقيقة بأن تدخل في أي تفسير دقيق لمعنى اللفظة ستُسمَّى مرتبطة معياريًّا بها. وأي ارتباطات أخرى غير ذلك ستسمى تركيبية.»٢٢ إن الخواص التي تقع في تعريف أسماء الأصانيف (مع استثناءات نادرة) كلها مرتبطة معياريًّا، وهي ليست مرتبطة تحليليًّا؛ لأن أي فرد أو أي مجتمع أفراد يمكن أن يفتقر إلى خاصة أو بضع خواص ويبقى مع ذلك عُضوًا في الأصنوفة؛ غير أنها ليست مجرد خواص تحليلية؛ لأنها الخواص الوحيدة المستخدمة في التعريفات.
في تسمية خواص معينة «خواص معيارية» ثمة قوانين متضمَّنة. في حالة التصنيف الفيلوجيني فإن هذه القوانين هي قوانين النظرية التطورية والنظرية الجينية. تحدد هاتان النظريتان أي الخواص هي خواص معيارية وما مدى أهمية كل خاصة للتعريف. في العادة يعارض أنصار التعريف الأرسطي وأنصار التمييز الحاد البسيط «تحليلي/تركيبي» محاولات تعريف الألفاظ كمفاهيم عنقودية، وذلك بإحدى نقلتين: فهم يدَّعون أن مثل هذه الألفاظ «تُسْتَخْدَم بطريقة غائمة من جانب المستخدمين العَرَضيين، ولكن (١) هؤلاء المستخدمين يمكن في العادة إقناعهم بقبول شروط ضرورية وكافية معينة على أنها تحليلية ورفض الروابط الأخرى على أنها تركيبية. و(٢) ينبغي أن يُستبدل بالمفهوم الغائم مفهوم أكثر تحديدًا يمكن أن يُعَرَّف بالطريقة التقليدية.»٢٣
كلا هذين البديلين غير قابل للتطبيق في حالة أسماء الأصانيف. فمن المؤكد أن علماء التصنيف لا يستخدمون أسماء الأصانيف عَرَضًا، ولا يمكنهم أن يقبلوا شروطًا ضروريةً وكافيةً معينة على أنها تحليلية حتى لو أرادوا ذلك، مثلما بَيَّنَ مثال الحبليات. ولا هو بإمكانهم أن يستبدلوا بأسماء الأصانيف التي بحوزتهم الآن أسماءً أكثر تحديدًا وتبقَى وافيةً بأغراض التصنيف الفيلويجيني. مثال ذلك: أن جميع — وفقط — الفقاريات وحبليات الرأس وحبليات الذيل تمتلك حبلًا ظهريًّا في وقت ما من نموها الإنتوجيني؛ وليس ثمة خاصة أخرى هي متغير مشارك لهذه الخاصة. ورغم ذلك فإن أصنوفة «حبليات الظهر» notochordata يمكن أن تتكون بجعل امتلاك حبل ظهري شرطًا ضروريًّا وكافيًا معًا. ومن جهة أخرى فإن الفقاريات وحبليات الظهر وحبليات الذيل والإنتيروبنيوست والبتيروبرانش (وكلاهما من النصف حبليات) وإكينوديرم منقرض تمتلك شقوقًا خيشومية في وقت معين من نموها الأنتوجيني. وليس ثمة خاصة أخرى هي متغير مشارك لهذه الخاصة. فإذا جعلنا امتلاك شقوق خيشومية شرطًا ضروريًّا وكافيًا معًا لأمكن لأصنوفة «خيشوميات» أن تُعَرَّف تقليديًّا. ولكن التعريفات السابقة لا تعدو أن تكون ذلك الصنف من التعريف لأسماء الأصانيف الذي جُهِد علماء التصنيف المحدوثون لتجنبه. وسواء جُعِلَ التصنيف ليكون مفيدًا فحسب (موقف التصنيف العددي) أو مفيدًا ودالًّا أيضًا من الوجهة الفيلوجينية (الموقف الفيلوجيني) فإن أسماء الأصانيف لا يمكن أن تُعَرَّف إلا بواسطة مجموعات من الخواص المتغيرة المشارِكة إحصائيًّا.

تتصف جميع أمثلة المفاهيم العنقودية المقدَّمة حتى الآن بخصيصة ثانية. بعد تقديم بنودٍ عديدةٍ من الفصل فإن التعريف ينتهي بتعبير «إلخ» أو «وهكذا». لا يعود السبب في ذلك في حالة معظم أسماء الأصانيف إلى أن قائمة الفصل طويلة جِدًّا ولا إلى أنها معروفة جِدًّا، بل إلى أن القائمة لا يمكن أن تكتمل؛ فهي قائمة تطول إلى غير نهاية. هذه اللانهائية ليست مؤذية لأغراض التصنيف الفيلوجيني بل جوهرية.

ليس قبل أن تتوقف الأنواع عن التطور، الأنواع التي يجب أن نميز بعضها من بعض، يمكننا أن نقرر أي الخواص كافٍ (وما عددها) لتمييزها مرةً وإلى الأبد؛ فقليل جِدًّا من الخواص — على سبيل المثال — تكفي لتمييز الإنسان الحديث عن أية أنواع أخرى. ورغم ذلك فإذا ما شَرَع نوع من القردة في التطور عبر نفس الخطوط التي قطعها الإنسان واكتسب خواص مساوية، فإن تعريف اﻟ Homo sapiens سوف يتعين أن يمتد لكي يستبعد هذا الشكل الجديد إذا كان ﻟﻠ Homo sapiens أن يبقى أحادي الجذر. وحتى إذا أراد أحد علماء التصنيف فإنه يعجز عن تقديم هذه الخواص التمييزية مقدَّمًا. ولكن حتى يقع مثل هذا الحادث البعيد الاحتمال، فليس ثمة سبب لتعقيد التعريف. ليس بوسع علماء التصنيف أن يكونوا جاهزين مقدَّمًا لجميع الطوارئ. وكل ما يلزمهم هو أن يستوعبوا الطوارئ التي تبزغ بالفعل عندما تبزغ.

وفي حالة الأنواع المنقرضة تمامًا، فإن من الممكن، من حيث المبدأ على الأقل، أن نعرِّف أسماء هذه الأنواع مرةً وإلى الأبد إذا ما توافر سِجِلٌّ حفريٌّ للنوع المعني وجيرانه من الأصانيف. فإذا كان السجل الحفري غير كامل، فإن تعريف اسم نوع منقرضٍ ما يتعين تغييره إذا ما تم اكتشاف حفريات لأنواع شبيهة. وهكذا فإن لتعريفات أسماء الأصانيف — كمفاهيم عنقودية — خصيصةً أخرى، فإنها على خلاف التعريفات التقليدية لا يمكن أن تكون معزولة إلى الأبد عن الاكتشافات الإمبيريقية، وكلما تراكم مزيد من الأدلة سيكون من المتعين أن تتغير لكي تستوعب هذه الأدلة.

١  David L. Hull, The Effect of Essentialism on Taxonomy-Two Thousand Years of Stasis. The British Journal for the Philosophy of Science, Vol. 15, No. 60, (Feb. 1965), pp. 313–326.
٢  Karl R. Popper, The Open Society and Its Enemies, Princeton, 1950, p. 206.
٣  Charles Darwin, The Origin of Species, New York, 1859, p. 447.
٤  Ernst Mayr, Systematics and the Origin of Species, New York, 1942, p. 103.
٥  Ernst Mayr, ‘Species concepts and definition’, The Species Problem, Washington, 1957, p. 5.
٦  A. J. Cain, ‘Logic and memory in Linnaeus’s system of taxononmy’, proceedings of the Linnaean Society London, 1958, 169, 149.
٧  Karl R. Popper, The Open Society and Its Enemies, Princeton, 1950, p. 34.
٨  Karl R. Popper, Conjectures and Refutations, New York, 1962, 19.
٩  Popper, The Open Society, 1950, p. 208.
١٠  Tindell Hopwood, ‘Animal classification from the Greeks to Linnaeus’, Lectures on the Development of Taxonomy, London, 1950, p. 26.
١١  David L. Hall, ‘Consistency and Monophyly’, Systematic Zoology, 1960, 13, 1–11.
١٢  J. B. Lamarck, Discourse D’Ouverture, Paris, 1907, p. 110.
١٣  William Coleman, “Lyell and the ‘reality’ of species”, Isis, 1962, 53, 326.
١٤  A. J. Cain, Animal Species and Their Evolution, London, 1954, p. 107.
١٥  G. G. Simpson, Principles of Animal Taxonomy, New York, 1961, p. 165.
١٦  Cain, 1954, p. 113.
١٧  Ernst Mayr, “Difficulties and importance of the biological species”, The Species Problem, Washington, 1957, p. 385.
١٨  Ibid, p. 384.
١٩  Simpson, 1961, pp. 60-61.
٢٠  Mayr, 1957, p. 10.
٢١  Michael J. Scriven, ‘The Journal of Philosophy’, 1959, 56, p. 860.
٢٢  Ibid, p. 861.
٢٣  Ibid, p. 859.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤