الفصل الثالث

البدوي وحدَه سيد الصحراء وسيد السُّهْب؛ وذلك لأنه يعيش من مواشيه، ولأنه مُكرَهٌ على جلبها من مرعًى إلى مرعًى وَفْقَ هوى جوِّ النيل وهوى المطر، وتمتدُّ أمام البدويِّ ممالك، وليس البدوي مُلْكَ أحد، وإذا لم يَرَ البدوي فتحها اضطُرَّ — دومًا — إلى البحث عن غيرها قبل أن يعود إلى التي كان يشغلها سابقًا.

وهو يوكِّد تقاليد الفلاحين القديمةَ الذين يُرِيحُون الحقل بها بعد الحصاد، وهنالك دور انتقالٍ بين البداوة والحضارة، وعربُ جنوب مروي هم من شِبَاه الأعراب الذين يتسكَّعون١ مع قِطَاعِهم، ولكن مع بَذْرِ حبوبهم، وهم يَرْحَلُون بعد البذر تاركين حِفظَ حقولهم لله، ثم يَرجِعون لحصدها، ثم يَطْحَنُون الحَبَّ ويأكلون الخبز ويرحلون مرةً أخرى. والذرة كالجِمال لا تحتاج إلى عنايةٍ، والذرة تُعطِي خمسمائة ضعف ما يُبذَر منها، والذرة تستر نصفَ ما يُزرَع من أراضي السودان، وتترك قبائل أخرى بعضَ الأسر المختارة في الواحات لزراعة الحبوب، وتصير هذه الأسر حَضَرِيَّةً، فإذا مرَّت بضعة أجيال انحطَّت وتعاطت التجارة.

والبدويُّ ملكٌ في كلِّ مكان، وليس الفلَّاحُ غيرَ أجيرٍ ولو كان أغنى من الملك، وليسكن الفلاح شاطئَ النيل، أو ليسكن واحاتٍ قد تبلغ من الاتساع ما يعدل ولاياتٍ في بعض الأحيان، ليرى أن عاصفةً واحدة تكفي لإتلاف عمله، وهو يوجِّه بصره إلى الأرض مغمومًا، وهو يؤلِّف زُمَرًا للدفاع عن النفس تجاه الضَّوَاري والعناصر، وهو — مع ذلك — لا يخاف أمرًا كخوفه من البدويِّ الضارب خيمتَه على حدود السُّهْب، والذي يَعُدُّ الواحة طليعةً معدَّة للحِصَار والانتهاب، والفلَّاح يَحْذَر البدويَّ حذر المدني من الأَفَّاق، ويستحوذ على الفلاح احتياجٌ إلى أمنٍ غير موجود، ويَركَنُ إلى قوانينَ مذبذبةٍ، ويظلُّ عُرْضَةً لما للنيل والمطر من أهواءٍ لا يقدِر أحدٌ على البَصَر بها ويَفقِد رَوْعته.

وبعض البدويين من الحسان، وللبدويين من الملامح ما هو مشتركٌ بين جميع القبائل على الرغم من تفرُّقها في السهل العاطل من الأنهار والتلال، وقد أسفر توالُد أولئك الإثيوبيين والعرب الذين جاوزوا البحر الأحمر منذ أربعمائة سنةٍ عن جعل أولئك الأعراب أعرَقَ سَجِيَّةً، وهنالك الإبل والبقر والضأن (ويبلغ عددها سبعةَ ملايينَ في السودان)، وهنالك الخِيَام والأكواخ والنساء والولدان والآبار، وهنالك تَيْهٌ وتَقَلُّبٌ في ساعات العمل وشيخٌ زعيم، وهنالك قتالٌ يَفصِل الخصومات في الحال، وهنالك عدم أمنٍ وإيمانٌ وخرافة، وهنالك أرضٌ بلا حدودٍ وحريةٌ لا نهاية لها، وهنالك حياةٌ قال عنها غوته في «طلاسم٢ العرب»:

الرب هو المشرق، الرب هو المغرب! والأرَضون في الشمال والجنوب ساكنةٌ سكونَ سلم بين يديه … دعوني أعيش كما أهوى فوق سَرْجي! الزموا أكواخكم، الزموا خيامكم، وأما أنا فسأذهب بعيدًا مسرورًا مع النجوم التي هي فوق عمرتي!

أفلا يدنو الإنسان من الله بتلك الحياة التي دامت ألوفَ السنين؟ أفلا يغدو الإنسان بذلك أكثرَ جمالًا؟

وترى بدويَّ السهب واقفًا بجانب جَمَله طويلًا نحيفًا باديَ العظام لا يأكل عن جوعٍ حتى الشبع، هو أسمرُ مع أشياء تلطِّف نضرة بَشَرَته ومع مفاصلَ دقيقةٍ إلى الغاية، هو ذو لحيةٍ قصيرةٍ تُحيط بوجهٍ بيضيٍّ، هو ذو أذنين كبيرتين لاصقتين كأذني الوعل، هو ذو أنفٍ يرتبط بقناه٣ في عروق الشمال الكريمة، هو ذو جبين مغضَّن٤ ناتئ فوق عينيه الغائرتين كعين الصيَّاد، وهو ذو فمٍ صغير كَتُوم محترز، هو ذو شفتين قويتين مع عدم بروزٍ؛ أي ذو مجموعة تنمُّ على الشجاعة والرزانة والكرامة، وعلى سجيةٍ فطرية لرجل أُلْقِيَ حبله على غاربه وظلَّ تحت رحمة أهواء القَدَر على الدوام، ويقضي البدويُّ جميعَ حياته كما يقضي الأبيض دورَ شبابه، وطَبَعَته الشمس والنجوم بطابعهما، وكان هيرودوتس٥ يقول: «له هيئة الملفوح.» وهو شخصٌ يوحي بَدَنُه على اعتماده على نفسه، وهو شخصٌ له من حدة البصر ما هو أقوى مما لدى الأوروبيِّ ثلاث مراتٍ فيدلُّ على قوة نفسه، وهو رجلٌ كان أجداده يختارون أجملهم ملكًا لهم، فإذا ما عَطل عَمَل عضوٍ له ضحَّت بطانته بمثله، واسترابون٦ هو الذي روى لنا هذه العادات، ولا يزال كثيرٌ منها باقيًا حتى الآن.

وظل القتال في ذلك الإقليم، وبين تلك القبائل، ضرورةً؛ ومن ثم بقي رائعًا، ويقع القتالُ مواجهةً، ولا يزال الصراع والعفو والذبح أمورًا مكتوبةً في اللوح المحفوظ، والكَرَم فضيلةٌ كالانتقام، ومن الإصابة أن استطاع هؤلاء الوثنيون أن يعتنقوا الإسلام، وما انفكَّت النصرانية تكون غريبةً عنهم، وما فَتِئوا يحافظون على كثيرٍ من عادات أهل البدو الذين وَرَدَ ذكرهم في التوراة كالثأر واحترام المَشِيب ونَثْر الغُبار وقت الخطر وشقِّ الثياب، وتَرَى حجَّاجًا بين هؤلاء البدويين، ومن زنوج غرب أفريقية أناسٌ يجوبون جميعَ القارة ليروا مكة ويَعمَلون في الطريق ليعيشوا، ويُقِيمون — أحيانًا — أعوامًا بأسرها بين النيل الأزرق والنيل الأبيض فيؤلِّفون أُسَرًا ولا يبلغون قبرَ النبي إلا بعد عشرين سنةً من مغادرتهم بلادهم عن إيمانٍ عميق لم يَرْوِ مثلَه تاريخ أيةِ فرقةٍ دينية في الغرب.

ولكنك لا تَجِد مثل هذا المزاج النفسيِّ لدى بدويِّي البلاد الأصليين، وهؤلاء لا يدرون ما القرآن ولا سور القرآن، وهؤلاء لا يَعرِفون من مكةَ غير قبلتها التي يوجِّهون سجَّادتهم نحوها قبل الصلاة واضعين إياها على الرمل.

ويَدَع البدوي للنساء من الحرية أكثرَ مما تسمح به الدِّيانات والعادات المحيطة به، ويدرك البدويُّ معنى الغرام، وتنشأ عن عدم حَجْب النساء في دوائر الحريم مكايد ومنازعاتٌ، ومنذ مائة سنةٍ خَلَت اكتشف رائدٌ إنكليزيٌّ بين سِنَّار وكردفان قبيلةً بَلَغَ سلطان النساء فيها من القوة ما يطلبن معه يومَ زواجهن عهدًا خطيًّا يكون لهنَّ به حريةٌ مطلقة يومًا واحدًا في كلِّ أربعة أيام، واليوم لا يزال يوجد في تلك البقعة سَوَاحِر يُصبنَ الرجال بالعجز فلا يُعِدْنَ إليهم سابق رجولتهم إلا لمصلحتهنَّ.

ويوكِّد أمرُ هذه الحرية في الغرام بالوجه الذي يَحصُرُ به أولئك البدويون ميراثَهم في الإناث، وعن البشاريين الذين هم أجمل البدويين يقول كاتبٌ عربي: «لا يُطمأَنُّ إلى أن الزوج هو الأب، بل يطمأنُّ إلى الأم.» وهم يرون أن البنوة بالبنت أو الأخت أصحُّ فيَحرِمون أبناءهم الإرث في سبيل أبناء بناتهم أو أبناء أخَوَاتهم عادِّين إياهم ورثةً لا جدال فيهم من ناحية الدم، والأمومة هي التي كانت تعيِّن الحقَّ في وراثة العرش لدى ملوك آل سِنَّار إلى حين انقراض هؤلاء الآل منذ مائة سنة.

والبدوي يطهِّر أراضيَه مرةً في كل عام، وهو يقلِّم غُصنًا على شكل الشوك أو القرن من «شجر الوقد» ذي السُّنُوف،٧ ويحدث ثَقْبًا في غُصنٍ آخر ويُدخِل إليه ذلك الغصن المشذَّب حتى يتكوَّن ضربٌ من الغبار الذي يدخِّن ويحترق فيستعمله في إشعال العشب اليابس باتجاه الريح، والنار تعمُّ السهب في نصف ساعة فتفرُّ الظباء، ولا يفكِّر النمر في فريسته، ولا يفكر النمر في غير إنقاذ حياته، وتبحَث الأفاعي عن ملجأٍ، وتغدو الحشرات التي تحاول الاعتصامَ بشجيراتٍ طُعْمَةً للوَرْوار٨ ويتصيَّد الباز ما يصل إليه من الطير، وكلُّ شيء يَهرُب من السُّهب أرسالًا.٩

والبدوي وحدَه يَنظُر إلى الحريق بعين الرِّضا، فقد تَطَهَّر مَرْجُه.

١  تسكع: مشى على غير هداية.
٢  الطلاسم: جمع الطلسم، وهو خطوط أو كتابة يستعملها الساحر ويزعم أنه يدفع بها كل مؤذٍ، والكلمة من الدخيل.
٣  قنى الأنف يقنى قنًا: ارتفع وسط قصبته وضاق منخراه فهو أقنى.
٤  مغضن: مجعد.
٥  هيرودوتس: مؤرخ يوناني عُرف بأبي التاريخ (حوالي ٤٨٤ق.م–٤٢٥ق.م).
٦  عالم جغرافي من علماء اليونان (حوالي ٥٨ق.م – حوالي ٢٦ب.م).
٧  السنوف: جمع السنف، وهو العود المجرَّد من الورق.
٨  الوروار: طائر قصير الرجلين طويل المنقار أسوده في قمة رأسه حمرة وتحت عنقه طوق، يميل لونه إلى الصفرة وسائره أخضر إلى الزرقة، وفي وسط ذنبه ريشتان طويلتان.
٩  الأرسال: جمع الرسل، وهو الجماعة من كل شيء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤