الفصل الخامس عشر

فراق فرغانة

كانت جهان حين عزمت على الفرار من فرغانة مع أخيها وقهرمانتها قد أعدَّت كل ما تحتاج إليه مما خفَّ وزنه وغلا ثمنه، وعوَّلت على أخيها في تدبير قافلة يسيرون في ظلِّها تجنبًا لخطر البوادي التي لا بد من قطعها قبل الوصول إلى العراق، فجاءها سامان وذكر أنه هيَّأ كل شيء. فأخذوا في نقل الأحمال محتجين بالسفر إلى مصيف قريب. ولما دنا وقت الرحيل وعلمت أنها لن تعود إلى بلدها بعد ذاك عظم عليها فراق مسقط رأسها وهجر قصر أبيها وقد ألفت هواءه وماءه وظلاله وعاشت بين أهله ومنازله وأسواقه، فقضت أيامها الأخيرة منقبضة الصدر. وقد ذهبت بشاشتها وأخوها يسهل عليها الخروج وقهرمانتها ترى في خروجها شططًا. وأما هي فلم تتردد في الأمر لحظة واحدة رغم ما أحسَّت به من الوحشة.

وفي الليلة التي قضوها على أهبة الرحيل استدعت قيِّم الدار إليها وأوصته بالقصر وأهله خيرًا، وأسرَّت إليه أن قد يطول غيابها، فليكن أمينًا قسيطًا، فأسف لسفرها وإن لم يعرف حقيقة غرضها، ولو علم لبكى بكاء مرًّا على فراقها؛ لأنه كان يجلُّها حتى العبادة. وكذلك كان إحساس كل من عرفها أو عاشرها؛ لما فُطرت عليه من اللطف والذكاء والهيبة والجمال.

وفي الصباح التالي خرجت على جوادها الأدهم كأنها ذاهبة إلى متنزه أو مصيف. وركب معها أخوها وقهرمانتها ولم تتمالك عند خروجها من باب المدينة أن التفتت ودمعت عيناها حزنًا على ما خلَّفته هناك من ثمار شبابها وجني أبيها، لكنها تماسكت واسترجعت رشدها وعزَّت نفسها بما ستلقاه من أسباب السعادة بقرب حبيبها.

وكانت القافلة التي سافروا فيها قادمة من بلاد الهند بأحمال العطريات والبهارات والأنسجة قاصدة إلى خراسان، فضموا أحمالهم إلى أحمالها، وقد اعتمدت جهان في ذلك على أخيها ولبست ثياب السفر، وأقلعت القافلة في مساء ذلك اليوم وهي مؤلفة من قطارين مسلسلين من الجمال والبغال على بعضها الأحمال وعلى البعض الآخر الرجال، غير المشاة من المكارين والسياس على أقدامهم ومعهم الكلاب وأدوات الطبخ والنوم، فإن القافلة كالبلد يمشي بأهله ودوابه وأثاثه. تمشي ساعات من النهار وساعات من الليل تختلف مقاديرها باختلاف فصول السنة، حسب أوجه القمر، يحدق بها حراس من الرجال تعوَّدوا الأسفار والأخطار، أشداء الأبدان يعرفون الطرق، ولهم صداقة ورهبة عند قبائل التركمان بدو الترك المتفرقين في البادية بين نهر جيحون ونهر الشاش. والمسافة بين النهرين تُقطع في أسابيع وقد تستغرق الشهرين. ناهيك بما فيها من اللصوص وقطاع الطرق؛ ولذلك لا يجسر على السفر هناك غير القوافل الكبيرة. وتحتدي القافلة أثناء السير نظام الجند للحرب، وفي ساعات الراحة تضرب الخيام وتوقد النيران وتذبح الأغنام أو الأبقار وتنصب القدور على النار ويشتغل القوم بالأكل والنوم.

ولم تكن جهان جرَّبت هذا السفر ولا ذاقت مثله ولا سمعت به في حياتها، فكانت تحمل ثقله متجملة بالصبر، وتعزِّي نفسها بلقاء الحبيب. كل ذلك من معجزات الحب وإنَّ أمره لعجيب.

ولو أردنا تفصيل ما لقوه في سفرهم الطويل من حرِّ النهار وبرد الليل وخوف قطاع السابلة وأهل الغزو وما أصابهم من عطش أو جوع لفراغ مئونتهم من الماء أو الطعام قبل بلوغ المكان الذي يتزودون منه؛ لضاق بنا المقام. فنقول موجزين إنه لما بلغت القافلة «الري» أشار سامان على أخته بالتخلي عنها ليسيرا وحدهما؛ لأن القافلة تمشي متثاقلة وليس طريقها طريقهم إلى العراق إذ تتوجه شمالًا. فأذعنت جهان لرأي أخيها وانفردوا بأحمالهم ودوابهم عن القافلة. وفي مساء ذلك اليوم بغتهم جماعة من الرجال على الخيول في مكان بعيد عن همذان، وكانت جهان على فرسها فدافعت عن نفسها دفاع الرجال. وأظهر سامان دفاعًا حاميًا. ولكنهم غُلبوا على أمرهم فقبضوا على جهان وقهرمانتها وشدوا وثاقهما وفرَّ سامان بحجة إيصال الخبر إلى ضرغام.

فلما رأت جهان نفسها في الأسر صاحت بكبير القوم وهم جميعًا ملثمون وقالت له: «ما الذي حملكم على هذا العمل؟ إذا كنتم تطلبون المال فهذه أحمالنا خذوها وأطلقوا سراحنا ولن نطالبكم بشيء منها.»

فأجابها الفارس وهي أول مرة سمعت كلامه وقال: «لسنا لصوصًا يا سيدتي. ولا حاجة بنا إلى المال وإنما أمرنا أن نحمل عروس فرغانة إلى أعظم رجل في الأرض لم ترضَ به طوعًا فعساها أن ترضى به كرهًا.»

فلما سمعت كلامه أدركت أن فخًا نُصب لها، وكانت تؤثر أن يكون القوم لصوصًا يبغون المال على أن تكون هي بغيتهم. ليس لأنها تخاف أن تُغلب على أمرها فإنها كانت من رباطة الجأش وثبات الجنان على ما علمت. ولكن شقَّ عليها فراق حبيبها. فأرادت أن تزداد بينًا فقالت: «ولكن ما تأتونه يا صاح لا يشبه أعمال العظماء.»

قال: «وماذا يعمل الرجل إذا اضطر ولم يرَ مركبًا يركبه إلا هذه الوسيلة؟ ماذا يفعل إذا تقدم خاطبًا فرُدَّ خائبًا، وهو كبير القدر تأبى نفسه الفشل؟»

قالت: «يترك الخطبة والخطيبة.»

قال: «وإذا كان مفتونًا قد غُلب على أمره؟»

قالت: «دعنا من ذلك فإني لا أراكم إلا لصوصًا تطلبون المال فهذه الأموال لديكم وأنا الكفيلة بأضعافها إذا أطلقتم سراحنا.»

قال: «أما إذا أعطيتنا المال فنشكرك كثيرًا، ولكننا لا نستطيع أن نطلق سراحك. ولا ينبغي يا سيدتي أن تحزني على شيء أضعته بهذا الانتقال فأنت ذاهبة إلى أعظم رجل في العالم فإذا أحسنت معاملته ملكت الرقاب.»

فأشكل عليها فهم حقيقة ما يعنيه فقالت: «لم أفهم مرادك، من هو ذلك الذي تعنيه؟»

قال: «ستعلمين كل شيء بعد بضعة أيام. فاطمئني وستكونين معنا معززة مكرمة، ثم متى وصلنا إلى المكان المقصود كنت في أرغد عيش وأسعد حال.»

قضت عدة أيام مع قهرمانتها وأولئك القوم في أتمِّ ما يرام من الإعزاز والإكرام. وكانوا قد حلُّوا وثاقهما في صباح اليوم التالي وقاموا بخدمتهما أحسن قيام من الطعام والشراب والمبيت.

وقد أُتيح لجهان الفرار لو أطاعتها نفسها عليه. ولكنها أكبرته وخافت مغبته. وكبير النفس لا يطاوعه وجدانه على الفرار حتى من الموت.

مرَّت في أثناء هذه الرحلة بمدن وقرى وجبال وأودية وسهول وحرون، ورأت أقوامًا من أمم شتى، فعلمت من القرائن أنها مرَّت بأذربيجان، وجاء العريف ذات يوم وأخبرها أنها صارت في أرمينيا وأنها لا تلبث أن تدخل أردبيل. فعلمت أنهم سائرون بها إلى بابك الخرمي. فتذكَّرت أنه كان قد طلبها من أبيها ولم تقبله، فتحقَّقت أنها محمولة إليه، فأخذت تتأهب لدفعه وعلمت أنها مكيدة من أخيها فندمت على الركون إليه.

وقد أصاب ظنُّها بسامان؛ فإنه طُبع على اللؤم وزاده فعل أبيه نقمة عليه وعلى أخته. وكان صاحب أطماع لم يستطع تحقيقها بعلو الهمة والبسالة مثل كبار الرجال فالْتمسها بالحيلة والخداع. وليس أشأم على الأمة من أن يعجز رجال المطامع فيها عن نيلها بأعمال تتفق ومصلحتها؛ لأنهم حينئذ يضحون بمصلحتها في سبيل مطامعهم. فانتظم سامان في سلك الخرمية. وهي جمعية سرية قامت على مقاومة أصحاب السيادة، وزعيمها في ذلك العصر بابك الخرمي صاحب أردبيل. وكان الخرمية يسعون في تأييد سلطته سرًّا. وكان شديد البطش يبالغ في اقتناء النساء لا يسمع بامرأة جميلة إلا سعي في استجلابها، فإذا لم يستطع ذلك بالجاه طلبها بالمال، فإذا أعجزه إحضارها بالمال حملها بالقوة. فشاع خبره في الآفاق، وسمع بجهان فبعث يخطبها على يد سامان فلم يرضَ أبوها؛ فدسَّ إلى سامان أنه إذا أتاه بها رفع قدره وأغناه وقلَّده منصبًا عاليًا. ولم يكن سامان قادرًا على شيء في حياة أبيه، فلما تُوفي أبوه وقد حرمه من الإرث ازداد رغبة في الانتقام، ولقي الأصبهبذ نائب بابك في فرغانة أيام النيروز في بعض جلسات الخرمية التي كان يحضرها سرًّا فيغيب عن البيت أيامًا وأبوه لا يعلم وإنما كان يقضيها في الكيد والتواطؤ. فتواطأ معه على أن يحتال في حمل جهان إلى أردبيل وهو لا يبالي عواطف المحبين لدناءة طبعه وهو ناقص الرجولة. وعزم على ذلك خاصة بعد مقابلته للأفشين واطلاعه على وصية أبيه، فأصبح همه الانتقام من الأفشين؛ فوجد في تنفيذ المؤامرة مع الأصبهبذ سبيلًا لنيل ما يتمناه من الثروة والنفوذ والانتقام من عدوه. فاتفق مع الأصبهبذ على أن يهيئ رجالًا يكمنون في الطريق بين الري وهمذان ليأسروا جهان أثناء سفرها إلى العراق ليظهر للملأ أنهم أخذوها منه قهرًا. وبعد أن أخذوها لم يكن غرضه من الذهاب إلى العراق إلا إلقاء الفتنة بين ضرغام والأفشين. وهو يعلم بسالة ضرغام وتفانيه في سبيل جهان فإن علم أن الأفشين أسرها أسرع إلى قتله. وكان سامان ضعيف العزم قليل الدهاء. فلم يحسن سبك حيلته، فلم ينطلِ أمر اختفائها على ضرغام. فرجع من العراق وهو يعتقد أنه أتمَّ مهمته وفاز بمرامه.

أما جهان فلما علمت أنه على مقربة من أردبيل قصبة أرمينيا في ذلك الحين أخذت تتهيأ لدفع ما يهددها. وكانت تسمع ببابك وتعرف انغماسه وتهتكه وتعلم أنه مقيم بأردبيل. وما عتم الركب أن وصلوا إلى غيضة كثيرة الأدغال والأشجار إذا دهم أهل أردبيل أمر لجئوا إليها فتمنعهم وتعصمهم ممن يريد أذاهم فهي معقلهم ومنها يقطعون الخشب الذي يصنعون منه الصواني والقصاع، واستغرقت جهان في تفكيرها وهي تنظر إلى تلك الغيضة فيما تخاطب به بابك لتدفع أذاه، وذكرت ضرغامًا وقالت في نفسها: «ماذا هو فاعل إذا بلغه ما أنا فيه؟»

وفيما هي في ذلك رأت الركب يتحوَّل عن الطريق المؤدي إلى أردبيل ويدخلون الغيضة. وأتاها رجل منهم أومأ إليها أن تحوِّل شكيمة جوادها الأدهم نحو الغيضة ففعلت وهي لا تعرف السبب. وساروا في طريق وعر يخترقون الأشجار المشتبكة وجهان تلتفت يمينًا وشمالًا لعلها تعرف سبب هذا السير، وإذا بعريف الركب جاءها وزاملها بجواده وخاطبها قائلًا: «أراك تستغربين اتجاهنا إلى هذا الطريق أو لعلك تخافين؟»

قالت: «إني لا أخاف شيئًا، ولكنني أستغرب دخولكم هذا الطريق الوعر بعد أن كنَّا على مقربة من أردبيل.»

فأكبر العريف جرأتها وكبر نفسها وقال: «أظنك لم تشاهدي الراية المنصوبة على مقربة من الطريق.»

قالت: «كلا، وأين هي؟»

فأومأ إليها أن تنظر، وصعد بها إلى أكمة هناك، فلما صعدا قال لها: «ألا ترين هذه الراية؟»

فلما وقع نظرها عليها خفق قلبها؛ لأنها راية الأفشين فقالت: «إنها راية المسلمين.»

قال: «نعم، وقد جاءنا أحد الكوهبانية (وهم أصحاب الأخبار عند قدامى الفرس يشبهون قلم المخابرات في هذه الأيام) وأخبرنا أن مولانا قد غادر أردبيل واحتلها المسلمون بعده.»

قالت: «أظنك تعني بابك. وإلى أين ذهب؟»

قال: «أخبرنا الكوهباني أنه أوغل في أرمينيا وتحصن في بلد منيع يُقال له «البذ» عند نهر «ارس» ونحن ذاهبون إليه.»

وآنست من الرجل لطفًا وإكرامًا كثيرًا فطمعت في أن يطلق سراحها بعد أن شُغل القوم بالحرب فقالت: «فأنتم إذن ذاهبون بنا إلى البذ؟»

قال: «نعم يا سيدتي وهي على بعد أيام من هنا.»

قالت: «وهل حتم أن أذهب معكم؟»

فأدرك الرجل أنها تشير إلى إمكان تسريحها فقال: «إن أمر مولانا قضاء لا سبيل إلى نقضه، هذا ولو أننا أخلينا سبيلك هنا لكنت في خطر شديد، إن لم يكن من اللصوص فمن الوحوش.»

وكانت خيزران على فرس وراء فرس جهان، فالْتفتت جهان إليها فابتدرتها خيزران قائلة: «وما الذي تخافينه عند «بابك» ومثلك لا يُخشى عليه؟!»

فتشجعت جهان بكلام خيزران وأدركت أنها لم تقل ذلك اعتباطًا. ثم عادوا إلى المسير صعدًا وجهان تلتفت إلى ما حولها تتأمل وحشة ذلك المكان وسعة تلك الغيضة، فوقع بصرها من بعد على مدينة أردبيل، ورأت ساحتها الكبرى غاصة بالجند وبالرايات الإسلامية، وهي تعلم أن الأفشين نفسه ليس هناك؛ لأنها تركته في فرغانة، وأن النازلين بأردبيل فرقة من جنده.

وكان الوقت ظهرًا فحثَّ الركب خيولهم للخروج من الغيضة قبل دخول الليل خوفًا من المبيت فيها. ولما اجتازوها وواصلوا السير بعدها مروا بمدن كثيرة منها أرشق وخش وبرزند. ورأت جهان رايات المسلمين على أسوار هذه المدن التي ليست إلا محطات لاختزان مئونة الجند أثناء انتقاله لمحاربة بابك. فكانت كلما تقدَّمت أحسَّت ببرد الطقس حتى أشرفوا على البذ. فرأتها أشبه بالمعقل أو القلعة منها بالمدينة؛ لأنها مؤلفة من قصور عدة كالقلاع يحيط بها كلها سور هائل عليه الأبراج والأبواب وفوقها أعلام الخرمية، والأرض في تلك الجهات جبلية وعرة يصعب مرور الجند فيها بأثقاله وأحماله. فعلمت أن بابك الْتجأ إلى ذلك المعقل لمناعته حتى يكاد يستحيل على المسلمين أخذه.

وسبق واحد من الركب إلى البذ يستأذن في الدخول ويسأل أين ينزلون جهان، ثم عاد وأشار بالدخول من باب غير الذي كانوا عازمين على الدخول منه. ولما صارت جهان داخل السور شعرت كأنها في قفص فاستوحشت، وأحسَّت خيزران بوحشتها فساقت فرسها إلى جانبها وسألت كبير القوم: «أين أنت ذاهبون؟» فقال: «إن مولانا الآن في خارج البذ، وقد أمر أن نأخذ عروسه الجميلة إلى قصر النساء هنا فتمكث فيه مُكرمة مُعززة حتى يأتي.»

فأجفلت جهان عند سماعها قوله: «عروسه»، ولكنها تجلَّدت وظلَّت ساكتة حتى أقبلوا على القصر. وله سور خاص ورحبة وحديقة. وكأنه حصن قائم بنفسه، فوقف لهم الحراس ووسعوا. فدخلت جهان وقهرمانتها على فرسيهما من الباب الكبير. حتى إذا دنت من الباب الصغير المؤدي إلى المساكن ترجلت وترجلت خيزران معها. وأسرع بعض الخدم لتناول الفرسين وقد أدهشهم ما رأوه في تلك القادمة من الجمال والهيبة؛ لأنها لا تتحجب.

وأسرع عريف الركب إلى الوقوف بين يدي جهان باحترام وقال: «أرجو أن تكون سيدتي قد أغضت عن جرأتي في حملها على غير ما تريد فإني مكره على هذا بأمر سيدنا ومولانا، ولكنني بذلت جهدي في راحتها، وأرجو أن تذكرني بالخير لدى الأمير، فلا شك في أنها ستكون الآمرة الناهية!»

قالت: «ما اسمك؟» فقال: «بهزاد يا سيدتي.»

قالت: «وإلى أين نذهب الآن؟» قال: «إلى قهرمانة القصر وهي تقوم بما تحتاجين إليه من أسباب الراحة.»

وكانت خيزران واقفة تسمع ما دار بينهما فقالت للرجل: «ألا تعرف من أهل هذا القصر امرأة صديقة؟»

فقال: «أعرف أكثرهن، وهن من أمم شتى، ولكنني أظن مولاتنا ستأنس بالسيدة هيلانة؛ فإنها من بيت الأمراء، وقد عرفت بيت زوجها بأرمينيا قبل أن أمر مولانا بابك بضمها إلى أهله. وكنت ممن حملوها إليه وتعارفنا في أثناء الطريق، فرأيتها عاقلة لطيفة وأظن مولاتنا تستأنس بها. والآن استأذن في الانصراف فقد أقبلت القهرمانة. وأنا اسمي بهزاد يا سيدتي …!» وانصرف.

ظلَّت جهان واقفة هادئة رزينة وقوف الملكة بباب قصرها، حتى وصلت القهرمانة إليها، وهي عجوز طويلة القامة، تدل ملامحها على ما كانت عليه من الجمال في شبابها. وقد لبست ثوبًا يتلألأ بالوشي والتطريز، وحول جِيدها العقود وفي يدها الأساور وفي أذنيها الأقراط.

فلما وقع نظرها على جهان أكبرت ما هي عليه من المهابة والجمال رغم آثار السفر الطويل، ورأت في عينيها معاني لم تعهد مثلها في واحدة من عشرات النساء اللاتي عندها. واستغربت رباطة جأشها مع أنها جاءت مكرهة، وكانت تعلم علو منزلتها وكيف طلبها بابك من أبيها فلم ترضَ به، فتوقعت أن تراها منكسرة القلب باكية حزينة. فلما رأتها رابطة الجأش هادئة ظنَّتها راضية بما قُسم لها. ولما دنت منها رحَّبت بها وقالت: «مرحبًا بعروس فرغانة. يشق عليَّ أن تُحملي إلينا قسرًا وأرجو أن تكوني قد غيَّرت رأيك.»

فلم تُجِبْها جهان، ولكنها ابتسمت ومشت معها في دهليز القصر مطرقة. ولو تلفَّتت لرأت نساء القصر يتشابقن ويتزاحمن للنظر إلى ضرتهن. فلما شاهدن جمالها وهيئتها حسدنها؛ لأنها سيكون لها المقام الأول عند بابك. أما هي فما زالت سائرة لا تبالي حتى أدخلتها القهرمانة إلى حجرة مفروشة بالطنافس فرشًا حسنًا وقالت لها: «هذه غرفتك يا حبيبتي فاستريحي فيها.»

قالت: «وأين ثيابي؟ فقد أخذوها في جملة الأحمال.»

قالت: «ستكون عندك بعد قليل.» وخرجت وأرسلت إليها صناديقها.

ولما خلت جهان إلى خيزران في تلك الغرفة، أيقنت أنها وقعت في الفخ فانقبضت نفسها ولم تتمالك عن البكاء برغم تجلدها، فوقفت خيزران بجانبها تواسيها متجلدة، ولكنها لما رأت دموعها تنحدر على خديها انفطر قلبها وترامت على قدميها وأخذت تقبل طرف ثوبها وتقول: «آه يا سيدتي ما الذي أصابنا؟! كيف جئنا وكيف أُخذنا؟ وأين نحن؟ أين ضرغام الآن؟» واسترسلت في النحيب، وجهان تبكي ولا تتكلم. ثم شعرت خيزران بأنها أخطأت بإظهار ذلك الضعف بين يدي سيدتها، فتماسكت وقالت: «ولكنني واثقة بتعقلك وقوة جنانك، وأنا رهينة إشارتك.»

قالت: «سمعت بهزاد يثني على امرأة من نساء القصر اسمها هيلانة، فلعلها تؤنسنا إذا عرفناها. هل لك أن تبحثي عنها وتأتيني بها؟ وقبل ذهابك هيئي لي ثيابي.»

فأعدَّت لها ما تحتاج إليه ومضت، وكانت الشمس قد آذنت بالزوال، وأخذ الخدم في إنارة القصر بالشموع، فبدَّلت جهان ثيابها واستلقت والْتفتت إلى ما حولها، فلما رأت نفسها في تلك الحيرة وبينها وبين فرغانة سير بضعة أشهر، وكذلك بينها وبين سامرا، فكَّرت في ضرغام وساءلت نفسها: ترى هل علم بما أصابها؟ أو هل من سبيل إلى إنبائه بمكانها وما هي فيه فلعله يستطيع إنقاذها. ثم تذكَّرت أخاها سامان وساءلت نفسها ما دهاه؟ وهل قُتل في المعركة أم فرَّ إلى مكان آخر؟

وفيما هي في ذلك قُرع الباب ودخلت خيزران تقول: «قد جئتك بالسيدة هيلانة يا مولاتي.»

فهمَّت جهان بالوقوف لملاقاتها، فأسرعت هيلانة وأجلستها وجلست إلى جانبها وهي تهش لها وترحِّب بها كأنها تعرفها من قبل. واستأنست جهان بها وأحسَّت كأنها في قصر أبيها بفرغانة بين أهلها؛ لأنها آنست في وجه تلك المرأة لطفًا ومودَّة وإخلاصًا، فضلًا عن الجمال. وكانت هيلانة شقراء الشعر زرقاء العينين بيضاء البشرة لا يبارح الابتسام فمها، فابتسمت جهان لها وشكرت تلطفها، فقالت هيلانة وهي تبتسم تشجيعًا وإيناسًا: «مرحبًا بعروس فرغانة، لقد طالما سمعت بجمالك وتعقلك، وقد مضى وقت ونحن في انتظارك.»

فقالت: «ما زلت أحسبني ذاهبة إلى الجحيم حتى رأيتك فخفَّت المصيبة عني.»

فأحسَّت هيلانة عند سماع صوتها بلذة، وشعرت بجاذب نحوها وكأنها تذكَّرت بلواها هي، فانقبضت نفسها، وقالت: «هكذا أراد المولى يا حبيبتي، ولو أنك قِسْت بَلِيَّتك بِبَلِيَّة سواك لهان عليك أمرك. لو عرفت ما فعلوا بي لرأيت أنهم رحموك.»

فسألتها جهان أن تقصَّ حديثها عليها عسى أن يخفف ما بها، فتنهَّدت هيلانة وقالت: «لا بد أنك عرفت من وجهي وضعف لغتي الفارسية أني غير فارسية، وما أنا تركية ولا أرمنية وإن كنت أُخذت من أرمينيا، ولكنني يونانية نشأت في بيت أبي في عمورية، وخطبني بطريق من بطارقة أرمينيا وتزوجني وحملني إلى بلده. ولم أكد أقيم معه عامين حتى بلغ هذا الخرمي خبري (وخفضت صوتها) فبعث يطلبني من زوجي، فلما أباني عليه بعث قوة من رجاله اغتنموا غياب زوجي وحملوني إليه بالقوة فحبسني هنا منذ بضعة أعوام فلا أنا أعرف أين زوجي، ولا ما فعله بعدي. وهو يعرف مقري طبعًا ولكنه لا يجد سبيلًا إليَّ. هذا إذا كان لا يزال حيًّا.» قالت ذلك وشرقت بريقها ثم مسحت دموعها وابتسمت وقالت: «ما قصدت أن أكدرك بهذا الحديث، ولكنني أردت أن أخفف مصابك.»

أما جهان فأعظمت مصيبة هيلانة وهمَّت بأن تقصَّ عليها حديثها فأرجعها الحياء. فتنهَّدت وأحبَّت تغيير الحديث فقالت: «أين هو بابك هذا، وكيف تعيشون هنا؟»

قالت: «إن الرجل يقيم بقصر غير هذا قريب من أسوار هذا البلد، وذلك ليراقب تحصيناته، وهو ينقل من يشاء من نساء هذا القصر إليه لتقيم عنده يومًا أو بضعة أيام على ما يتراءى له.»

قالت: «بلغني أنه اليوم في شاغل عن هذا القصر وأهله بأمر ذي بال.»

قالت: «نعم، إنه يتأهب لحرب شديدة.»

قالت: «مع من؟» قالت: «جاء جواسيسه بالأمس، وكان قد أرسلهم ليتجسسوا أحوال المسلمين في العراق، فأخبروه أن المسلمين يتأهبون لإرسال حملة عظيمة عليه، يقودها الأفشين صاحب أشروسنة بنفسه.»

فلما سمعت اسم الأفشين ارتجفت وتذكَّرت أنه علة بلواها، ولو انتبهت هيلانة لرأت أثر ذلك التغير في عينيها، ولكنها لم تكن تعرف عن جهان إلا أنها بنت مرزبان في فرغانة طلبها بابك ولم ترضَ به فاختطفها قسرًا. فقالت جهان: «وهل جاء الأفشين نفسه؟»

قالت: «لا أدري، ولكنه آتٍ ولا شك في ذلك، وقد خرج بابك من البذ في جماعة من رجاله ليقيم العراقيل وينصب الأرصاد في الطريق. وقد لا يعود إلينا قبل بضعة أيام.»

ففرحت للخبر ونبهها ذكر الجواسيس الذين عادوا من العراق فسألت: «هل تعرفين أحدًا من الجواسيس الذين عادوا من العراق؟»

قالت: «خادمتي تعرف واحدًا منهم.»

وكانت خيزران قد ذهبت وعادت بالعشاء إلى سيدتها ووقفت تسمع الحديث، فلما سمعت هيلانة تقول إن خادمتها تعرف أحد الجواسيس ابتدرتها قائلة: «أي خادمة يا سيدتي؟»

قالت: «التي دلَّتك علي.»

قالت: «عرفتها، حقًّا إنها لطيفة كأنها اقتبست من سيدتها.»

فقالت هيلانة وهي تضحك: «لذا وقع الجاسوس في هواها ولا يزال يحمل إليها الهدايا ويأتمر بأمرها ويريد أن يتزوجها.»

فسري عن جهان عند سماعها ذلك، ونظرت إلى خيزران فرأتها تنظر إليها فتفاهمتا فقالت خيزران: «أريد أن أقترح عليها أمرًا تكلِّف خطيبها به في طريقه إلى العراق. هل تساعدينني في ذلك؟»

قالت: «حبًّا وكرامة، أعدي ما تريدين إعداده.»

فتهلل وجه خيزران فرحًا لعلمها أنها تستطيع إرسال خبر سيدتها إلى ضرغام. ثم وضعت المائدة فتناولن العشاء معًا، وتذكرت هيلانة أن جهان في حاجة إلى الراحة من تعب السفر، فاستأذنت في الذهاب على أن تعود في الصباح فتأخذها إلى غرفتها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤