الفصل الثاني عشر

  • ثورة اللبنانيين وأسبابها.

  • بين الدول وفرنسا.

***

لمَّا تلا اللورد بالمرستون باسم الدول الأربع المذكرةَ على سفير فرنسا بأنهن اتفقن مع الباب العالي على أن يقدم مقترحاته لمحمد علي، وعلى أن يتخذن وسائل الإكراه لِيَحْمِلْنه على قبولها؛ لم يشأ أن يبين للسفير تلك الوسائل، فردت فرنسا على مذكرة الدول الأربع بمذكرة في ٢١ يوليو، قالت فيها:

إنها كانت ترغب دائمًا في العمل مع إنكلترا والنمسا وروسيا وبروسيا لخدمة السلام، ولم تنظر إلى المقترحات التي عُرضت عليها من وجهة مصلحتها الخاصة، بل من وجهة المصلحة العامة؛ لأنها — دون سائر الدول — مُنزهة في الشرق عن الأغراض. لهذا اعتبرت كلَّ المقترحات التي ترمي إلى حرمان محمد علي بقوة السلاح المنطقةَ التي يحكمها الآن من أملاك تركيا، مقترحاتٍ جائرة، ولا تظن أن ذلك مفيد للسلطان؛ لأنهم يعطونه ما لا يستطيع صيانته ولا إدارته، ولا ترى أن ذلك مفيد لتركيا على وجه عام، ولا للتوازن الأوروبي على وجه التخصيص؛ لأنه يضعف تابعًا يستطيع أن يدافع عن وجود الدولة دون أن ينيل المتبوع أية فائدة، على أن المسألة مسألة أسلوب وطريقة تختلف فيها الأنظار. وإذا كانت فرنسا قد عارضت في استخدام القوة، فلأنها لم تعرف الوسائل التي تتذرع بها الدول الخمس، وظهر لها أن هذه الوسائل إما أنها نافعة وإما أنها مضرة. ومع ذلك لم يقترح عليها في العهد الأخير أي اقتراح تستطيع المناقشة فيه، فلا يصح أن يُعزى إليها رفض ما لم يُعرض عليها. وعلى ذلك هي تعلن أن اتخاذ أي قرار دون التَّذَرُّع بوسائل التنفيذ، لَهُوَ قرار ليس ثمرة التفكير، بل هو قليل التدبير، كذلك القرارات دون وسائل التنفيذ أو بوسائل مترددة بين النفع والضرر.

لا شك أنهم غنموا فرصة انتقاض بعض أهالي لبنان ليجدوا في هذا الانتقاض وسيلة التنفيذ التي لم تَبْدُ قبل اليوم. فهل هذه الوسيلة وسيلة شريفة؟ وهل هي مفيدة لتركيا ضد والي مصر؟ فلِمَ يريدون تعزيز السلام وهم في الوقت ذاته يَبْذرون بذور الفتن والثورات في أراضي السلطنة؟! فهم يزيدون الاضطراب العام الشامل اضطرابات جديدة. وهل هم يقدرون على إخضاع هذه الشعوب بعد إثارتها على الوالي؟

فهَبْ أن محمد علي أخمد الثورة، وهَبْ أنه أعاد حكمه على سوريا؛ فهل تكون بعد ذلك أقل تمسكًا وألين شكيمة؟ وهل إذا رفض المقترحات التي تُعرض عليه ماذا تكون وسائل الدول الأربع؟

إن هذه الوسائل التي صرفوا سنة في البحث عنها لم يجدوها فجأة، وفي هذه الحالة يكونون قد أوجدوا خطرًا جديدًا أشد من سواه، وهو أن محمد علي الذي أثاروا حفيظته والذي ساعدت فرنسا على إيقافه، قد يتجاوز طوروس ويكرر تهديد إستامبول. فماذا تفعل الدول الأربع في هذه الحالة؟ وما هي وسائلها لدخول الأراضي التركية لإعانة السلطان؟ إن فرنسا ترى أنهم أعدوا لاستقلال تركيا وللسلم العام خطرًا أشد من خطر مطامع والي مصر.

فإذا كانت الدول الأربع لم تنظر إلى هذه النتائج، فإنها تكون قد اتجهت طريقًا مظلمًا وخطرًا، وأما إذا كانت قد نظرت إلى الوسائل والنتائج، فالواجب عليها أن تعلنها لأوروبا ولفرنسا على وجه التخصيص، وهي لا تزال تطلب منها استخدام نفوذها الأدبي في الإسكندرية.

وفرنسا تعتبر أن ما بذلته من النفوذ الأدبي كان فرضًا عليها، وترى أن هذا الفرض مُحَتَّم أيضًا عليها في الموقف الذي وقفته الدول الأربع … إلخ.

ولما سلَّم سفير فرنسا هذه المذكرة للورد بالمرستون وسأله عن سبب إهمال فرنسا، أجابه: إن حكومتكم لم ترضَ أن تكون حدودُ حكم محمد علي خليجَ عكا، وأجابتنا أن محمد علي لا يسلم بأي تقسيم لبلاد سوريا، فاعتبرنا ذلك من حكومة فرنسا قرارًا حاسمًا، فانصرفنا لغرضنا. وزاد على ذلك قوله إنهم لا يحصرون السواحل؛ لأن محمد علي ليس سيد البلاد وليست له صفة المحارب، فحق الحصار للسلطان وحده، فهو سيعمل كل ما يستطيع عمله بقوته، ونحن لا نتعرض للمصالح التجارية ولا لحقوق المحايدين.

•••

ولا شك في أن ثورة اللبنانيين — كما جاء في مذكرة فرنسا — كانت السبب الأول الذي دفع الدول الأربع للإقدام على الإسراع بعملها، بعد أن عملت لإعداد تلك الثورة منذ زمن بعيد، حتى إن حزب المحافظين في إنكلترا — وكان يعارض سياسة بالمرستون — أوفد إلى سوريا اثنين من نوابه لدرس الحالة، فلما عاد اللورد إجرتون واللورد ألفونيلي قدَّمَا تقريرًا عن إعداد الثورة اللبنانية التي تجعل مركز إبراهيم باشا ضعيفًا جدًّا.

بدأت هذه الثورة في أواخر مايو سنة ١٨٤٠، وكانت لها أسباب عدة؛ أولها: تحريض قناصل الدول في بيروت لِمَا كان بينهم وبين إبراهيم باشا من النزاع على السلطة. والثاني: انتشار رسل الإنكليز والنمساويين وتوزيعهم الأموال على الناس وإغرائهم على الثورة. والثالث: إدخالهم في وَهْم الأهالي إزالةَ حكم بلادهم من يد أمرائهم وشيوخهم، وتجنيد شبانهم ونزع سلاحهم، ثم قرار الدول على أن ترسل جيوشها إلى لبنان. حتى إن أولئك الرسل كانوا يُئولون أقل حركة تبدو تأويلًا يُوغِر الصدور، كتأويلهم نَقْل مركز سليمان باشا الفرنساوي من صيدَا إلى بيروت بأنه لتجنيد اللبنانيين، والاستشهاد على ذلك بتجنيد بعض الطلبة اللبنانيين الذين كانوا يتلقون العلم في مصر، وكتأويلهم وصول مركب من مصر إلى بيروت مشحونًا بالملابس العسكرية، بأن هذه الملابس للشبان اللبنانيين الذين يُجندون، وضَاعَف في هذه الدعاية إضعافَ سلطة الأمير بشير والأمراء وطلب الفردة (وهي الضريبة الشخصية عن سبع سنين مُقدمًا. والفردة أن يدفع كل شخص من سن الخامسة عشرة فصاعدًا ضريبة أقلها ١٥ قرشًا وأكثرها ٥٠٠ قرش)، وعن الأحياء والأموات المقيدة أسماؤهم بالدفاتر وكانوا يدفعون المال لأميرهم. أضف إلى ما تقدم سَخَط أصحاب الإقطاعيات الذين زَلَّ نفوذهم. ولما وصلت في أثناء ذلك قوة من الجيش المصري إلى بعلبك وأخرى إلى طرابلس أوَّلُوا مجيئها بأنه لإكراه اللبنانيين على تسليم السلاح، وعلى دفع الفِردة عن سبع سنين، وعلى تجنيد الشبان. فدارت المفاوضة بين النصارى والدروز على ما يجب عمله، فقرر زعماؤهم في اجتماع عقدوه في دير القمر مقاومةَ إبراهيم باشا إذا هو حاول أَخْذَ جندي واحد منهم، وأنشَئُوا صناديق لمشترى السلاح، وكانت كل مقاطعة قد انتدبت اثنين للنيابة عنها. واتفق الجميع على بَثِّ دعوة العصيان، ووَجَّهُوا إلى أعيان البلاد رسالة قالوا فيها إن إبراهيم باشا أمَرَ بجَمْعِ السلاح، وأنهم بسطوا له الرجاء مِرارًا ليُبقي لهم السلاح في أيديهم، فرفض. والمراد من نزع السلاح تحصيل فِردات وتجنيد الشبان؛ لذلك أعلنوا العصيان خوف الغدر بهم، وهم لا يقدمون الطاعة إلا لأميرهم … إلى قولهم في تلك الرسالة:

أمس تاريخه حضر لنا علم من صيدَا بأنه تتوجه علينا عسكر. وفي النهار ذاته توجَّه من هذا الطَّرَف عسكر وصحبته المشايخ بيت أبو نكد. وساعة تاريخه نهار الخميس حضرت لنا بشارة سنية بأنهم ظفروا بهؤلاء الخارجين، وأخذوا منهم مائة وثمانين بارودة، ولا زالوا منتظرين على جسر صيدَا بانتظار العساكر التي تمر لجهتنا، فنرغب أن تكونوا — كما نحن — منتظرين سهرانين ولكم أعين بجهة نواحي بيروت وجهة الشمالية. وكلما جَدَّ عندكم عرفونا حالًا صحبة مخصوص، وبحوله تعالى أنتم الظافرون، ولا يلزم أن نَحُثكم على التيقظ، كون هذا صالحه عائد للجميع. نسأله تعالى أن نَسمع عنكم كل ما يسر الخاطر حسب عوائدكم السابقة.

هذا ما لزم إفادتكم والله يحفظكم.

إخوتكم أهالي دير القمر
نصارى ودروز
٢٧ أيار ١٨٤٠

وهكذا بدأت الثورة اللبنانية التي اعتمد عليها اللورد بالمرستون لإعلان اتفاق الدول الأربع دون فرنسا كما قلنا.

ولما بلغ إبراهيم باشا خبر اتفاق دير القمر، كتب إلى الأمير بشير ليجمع السلاح الذي كان قد وزَّعَه على النصارى ليقاتلوا به الدروز إبان ثورتهم، وأرسل رسالة إلى الأعيان يحذرهم من الاغترار، فرفض الأهالي تسليم سلاحهم.

وأرسل الأمير بشير كتابًا إلى أعيان البلاد يقول فيه: «بلغنا أن جُهال دير القمر أرسلوا إليكم مكاتيب لأجل أن يغشوكم كما غشوا ذواتهم، ولكي يرموكم تحت تغيير الخاطر، وأنكم ما قَبِلتم ذلك ولا جاوبتموهم. ولكن رأفةً بكم وخشية لئلا يغشوكم بكثرة المراسلات، اقتضى إصدار هذا الأمر إليكم نُحذركم وننصحكم من الوقوع بهذا الغلط الذي يوجب خراب الديار وقلع الآثار. وإذا كان عندكم مراسيل من الدير حالًا اطردوهم وارموا عليهم القبض وأرسلوهم لطَرَفنا.»

ولما رأى إبراهيم باشا حركة العصيان وعدم تسليم السلاح، أرسل قوة لجَمْعِه من نصارى الشحار والمناصف، فاستنجد هؤلاء بأهل دير القمر، فذهب منهم لنجدتهم مائة شاب، فاحتمى الضابط بالشيخ محمود النكدي. ووصل بعد ذلك خبر قدوم سليمان باشا من صيدا إلى دير القمر، فذهب مائتان إلى جسر الأولى وطردوا العساكر من الخان، وانضم إليهم أهل المعلقة وجدُّوا في أثر الجنود حتى أبواب صيدا. وأرسلت حامية صيدا في اليوم الثاني ألفي جندي، جمعوا أمتعة الجنود وعادوا إلى صيدا، وسلب أهالي بعبدا سلاح الجنود الذين كانوا قادمين من دمشق إلى بيروت، فاستعاده منهم الأمير حيدر وأرسله إلى الأمير بشير.

وهكذا أخذت الثورة تمتد، وقادها بعض الأمراء الشهابيين واللمعيين والمشايخ آل الخازن وحبيش والدحداح. وبرز فيها أبو سمرا غانم ويوسف الشنتيري، فكانا من أبطالها، حتى إن اللبنانيين كانوا يتغنون ببطولتهما ويقولون: «سبعين طلعوا في الديري، بو سمرا والشنتيري.»

ولما اشتدت حركة الثورة في جنوبي لبنان، وضَيَّقَت الخناق على مدينة صيدا، أرسل سليمان باشا آلايًا من الجند المصري لحراسة المطاحن، وأمر الجنود بألا يتعرضوا للثوار، وأرسل إلى هؤلاء رسولًا بأن محمد علي باشا لا يطلب نزع سلاحهم منهم، بل استعادة السلاح الذي وزَّعه عليهم ليسلح الرديف به، وأكد لهم أنه لم يخطر بباله تجنيدهم. وأرسل الأمير بشير رسالة لتسكين الأفكار، فعاد الثوار إلى قراهم. ولكن ظهر بجوار بيروت في أوائل يونيو زعيمان للثورة؛ هما أحمد داغر وأبو سمرا غانم، فهاجموا الحامية في مدينة بيروت. وفي ٤ يونيو اجتمع أعيان إقليم المتن وكسروان، وتحالفوا على العدوان، ونهبوا مخازن الحكومة ومستودعاتها، فأرسل إليهم الأمير بشير ولده الأمير أمينًا ليخلدوا إلى السكينة، فأجابوه أنهم يطيعون إرادته إذا أجيبت مطالبهم، وهي:
  • (١)

    بقاء سلاحهم بأيديهم.

  • (٢)

    إعفاؤهم من التجنيد.

  • (٣)

    إعفاؤهم من الفردة إلا عن الأحياء.

  • (٤)

    إبطال السخرة والشغل في معدن الفحم الحجري في قرنايل.

ثم طلبوا من الأمير بشير:
  • (١)

    تأليف ديوان مشورة يكون مؤلفًا من اثنين من كل طائفة.

  • (٢)

    أن يكون معدل الفردة ٣٠ قرشًا عن كل رجل.

  • (٣)

    إذا عجز مديون عن وفاء دينه لا يكلف أحد أقاربه الدفع.

ولما وصل خبر امتداد الثورة إلى محمد علي في أنحاء لبنان كله، أرسل حفيده عباس باشا إلى سوريا ومعه اثنا عشر ألفًا من الجنود، ووصل عثمان باشا من الشمال ومعه ١٢ ألفًا. وكان سليمان باشا يقود القوات المرابطة على السواحل وعددُها عشرون ألفًا. وهذه القوات التي طَوَّقت لبنان من كل جانب أخذتْ تقاتل الثوار، وأخذ الأمير بشير يبذل مجهوده لإخماد الفتن، ولما جمع أعيان البلاد في بعقلين ليعينوا موقفهم، قدَّموا له المطالب الآتية:
  • (١)

    أنهم نصارى ودروز على قلب واحد.

  • (٢)

    أنهم لا يسلمون سلاحهم.

  • (٣)

    أنهم لا يقدمون الجنود.

  • (٤)

    أنهم لا يدفعون الفِردة.

  • (٥)

    أنهم لا يدفعون سوى مال واحد.

  • (٦)

    أنهم لا يَدَعُون العسكر النظامي يدخل البلاد.

  • (٧)

    أنهم لا يحاربون أحدًا من أبناء البلاد إلا إذا هو أقْدَم على محاربة الأمير بشير ذاته.

وأرسل محمد علي باشا إلى عباس باشا وعثمان باشا بإخماد الفتنة والقبض على زعمائها وإرسالهم إلى الإسكندرية، فهاجم عباس باشا البلاد من الساحل وعثمان باشا من الجنوب، وأخذ الأمير بشير يجمع السلاح. وأرسل عباس باشا ٥٧ شخصًا إلى الإسكندرية بينهم أربعة من الأمراء الشهابيين وبعض المشايخ الدروز والنصاري، ومن زعماء الثوار يوسف الشنتيري، فأبعدهم محمد علي باشا إلى سنار.

وكتب محمد علي باشا إلى عباس باشا أنه بلغه خبر قيام الأسطول الفرنساوي والأسطول الإنكليزي إلى ميناء بيروت، وأن قيامهما ليس لقصد سيئ، ولكنه يجب عليه أن يتخذ الاحتياطات اللازمة. وقال في كتابه: وإنَّ مَنْعَ الدول عن التدخل لا يكون إلا بالقضاء على الفتنة والثورة.

وكتب إليه ثانية بأنه سَرَّهُ دخول أهالي جبل الدروز بالطاعة، ولكنه يجب نزع سلاح المسيحيين وسواهم وإمداد الأمير بشير بالقوة. وأرسل إلى الأمير بشير نيشان الافتخار المُرَصع، وإلى أولاده نياشين أخرى، وإلى جماعة مشايخ الدروز الهبات المالية، فوهب الشيخ خطاب ٣٧ كيسًا، وعبد السلام بك ٣٠ كيسًا، ونعمان ٦٠ كيسًا، ولطيف بك ٩٠ كيسًا.

ولما أرسلت الدول الخمس مُذَكِّرَتها في ٢٧ يونيو — وقد نشرناها في فصل تقدَّم — أرسل محمد علي إلى عباس باشا في بيروت يقول له: «يظهر لنا من الحالة الحاضرة أن الدول مُتحزِّبة ضدنا، وقرار مجلسهم في لندرة يمس مصالحنا ويخالف مقاصدنا، فيجب عليكم اتخاذ الاحتياطات اللازمة في سائر المواقع العسكرية على سواحل مصر والشام، فإذا حشدت الدول عساكرها ضدكم فقوموا بالدفاع، وقد صدر أمرنا إلى عمكم إبراهيم بما تقدم، فالواجب السير عليه. وإذا ما تظاهرت الدول بعملٍ ضد مصر تَحضرون إلينا إما برًّا وإما بحرًا، وتعيدون العساكر التي أتت إليكم من جهة كوبك إلى مكانها. والخلاصة أنه يجب عليكم أخذ الأمور بالحزم.»

ولما اجتمع سفراء روسيا وبروسيا والنمسا باللورد بالمرستون ليتفقوا على إكراه محمد علي على ترك سوريا، كتب محمد علي إلى عباس باشا وإبراهيم يقول:

لم يعرف قرار حكومة لندرة بالضبط حتى الآن، لكنا تَحَصَّلنا من كتاب قناصل روسيا وإنكلترا والنمسا أنهم يرون بث الفتن في بلاد الشام ومساعدة الأهالي، بإرسال ستة آلاف جندي عثماني إلى قبرص، وإرسال السلاح والذخيرة لتوزيعها على أهالي سوريا، وإرسال فرمان سلطاني إلى الأمير بشير بالخروج من طاعتنا والولاء لنا، وإرسال رسل من لدن الدول الأربع على وابور إنكليزي ليوزعوا في بلاد سوريا؛ لحَضِّ الناس على الخروج من حكم محمد علي. أما فرنسا فإنها تعد مائة ألف جندي، فعليكم رقابة السواحل، ومنع خروج الأجانب من المراكب، ومنع نشر الكتابات المهيجة، واتخاذ نظام الحَجْر الصحي حُجة لهذا المنع، واستعملوا الشدة المتناهية.

وكان محمد علي إبان ذلك يستعد ويتأهب للدفاع، فألَّفَ في مصر حرسًا وطنيًّا بتجنيد العمال في ورش الحديد وورش المهمات الحربية وورش بولاق وتلامذة المكاتب، واستثنى عمال المصانع. وتقدم من المشايخ السيد العزبي لتأليف آلايين من الرديف والشيخ حسن سرور والشيخ علي الجزار لتأليف آلايين، فأنعم عليهم برتبة الميرالاي. ثم استأذنه الشيخ عثمان السناري بتأليف آلايين من شبان باب الشعرية والجمالية أسوة بعلي الجزار وحسن سرور، فأذن له وأنعم عليه برتبة الميرالاي. ثم ألف هذا الشيخ آلايين آخرين، فأنعم عليه برتبة اللواء. وألف الشيخ محمد الإبراشي آلايًا من قسم السيدة زينب والخليفة، وإبراهيم عارف من الدرب الأحمر وقيسون وعلي سعيد وسالم بدوي أربعة آلايات، فأنعم برتبة اللواء على الشيخ محمد الإبراشي والميرالاي علي الشيخ سعيد والشيخ سالم. وهكذا تألف ١٢ آلايًا من الحرس الوطني، ووزع هذا الحرس على الإسكندرية ورشيد ودمياط وبولاق وجهات القاهرة، وكان الآلاي يؤلف من ٣٥٠٠ مقاتل.

ووجه محمد علي رتبة قومندان الرديف إلى محمد باشا ابن الشيخ الشرقاوي ومصطفى باشا العروسي ابن الشيخ العروسي.

ثم أصدر أمرًا بتأليف لجنة برياسة ولده سعيد باشا لتقوية استحكامات الإسكندرية، وأمر إبراهيم باشا يكن ابن أخته والي اليمن بالمجيء إلى مصر مع عساكره المرابطة هناك، وأمر في الوقت ذاته بتنظيم أبراج الإرشادات التي كانت تقوم مقام التلغراف بين مصر والشام. ولما وصلت آلايات اليمن وكلَ إليها تعليم الرديف أو الحرس الوطني.

وكان محمد علي يبذل جهده لإخماد الثورة اللبنانية؛ لأن تعليمات المسيو تيرس وزير خارجية فرنسا لقنصل دولته في الإسكندرية كانت تتضمن ذلك بقوله: «يجب أن تكون خطة فرنسا ومصر واحدة لغرض واحد، وهو محو النتائج التي تعلقها الدول الأربع على اتفاقها، والطريقة الوحيدة لذلك إخماد الثورة في سوريا؛ فإن الثورة التي اتقدت في لبنان هي السبب الأصلي لإبرام ذلك الاتفاق بين الدول، فما دامت هذه الثورة ناشبة فالاتفاق بين الدول الأربع يظل قائمًا.»

فإذا أخمد محمد علي ثورة لبنان، وحصَّن الإسكندرية وعكا، وجَمَع قواته في سوريا لضبطها وفي سفح جبال طوروس ليوقف أعداءه ويهددهم بالانقضاض عليهم؛ فإنهم لا يتوصلون لإخضاعه، ولا يحملهم على التسليم وعلى محو اتفاق الدول الأربع، لأنهم لا يملكون أية وسيلة من وسائل الإكراه.

وكان محمد علي على هذا الاعتقاد؛ لأنه كان يقول: «إن كل ما تستطيعونه هو توزيع المنشورات والنقود والسلاح فتذهب ضياعًا؛ لأن جنودي تحتل السهول، والأمير بشير يحتل الآكام والروابي. فإذا عاد الجبليون للثورة كانوا بين نارين، ولا عون لهم سوى ستة آلاف ألباني ترسلهم تركيا.»

وبينما كان إبراهيم باشا مُجِدًّا في إخماد الثورة في لبنان، نزل خلسة على سواحل طرابلس ريتشردوود الذي كان قد صرف في لبنان سنتين بحجة درس اللغة العربية، فأخذ بعد نزوله يدفع اللبنانيين إلى إرسال العرائض للباب العالي لينقذهم من مغارم حكم محمد علي. وكان قنصل إنكلترا في الإسكندرية يسهل على رجال الأسطول العثماني الفرار، ولما سئل اللورد بالمرستون عن ذلك كله في مجلس نوابهم أجاب «أنه يوافق كل الموافقة على كل وسيلة من شأنها إعادة رعايا السلطان إلى حظيرة السلطنة.»

وكانت الحكومة الإنكليزية قد أرسلت أسطولًا إلى بيروت بحجة المحافظة على رعاياها، فأرسلت الحكومة الفرنساوية إحدى سفنها لرقابة حركة الأسطول الإنكليزي. ووصول هذا الأسطول كان قد أشار إليه محمد علي في كتابه إلى عباس باشا، فنصح القائد الفرنساوي للسفن المصرية بالعودة من بيروت إلى الإسكندرية، فعملت بالنصيحة. وفي ٧ يوليو؛ أي بعد يومين من قيامها، وصل الأسطول الإنكليزي ونزل قائده الأميرال نابيير إلى البر وطاف أنحاء البلاد. وفي ٣ أغسطس غادر مياه بيروت، وقبل أن يبعد بعيدًا تلقى الأوامر بالعودة إلى بيروت، وانضم بعض المراكب إلى أسطوله، وتلقى نص الاتفاق الذي أُبرم بين الدول الأربع لإخراج محمد علي من سوريا، وهو اتفاق ١٥ يوليو.

وفي ١٢ أغسطس وَجَّه هذا الأميرال بلاغًا إلى محمود بك مُتَسلم بيروت بأن إنكلترا وروسيا والنمسا وبروسيا اتفقت على إعادة سوريا لحكم الباب العالي، وطلب منه أن يسلمه خمسة آلاف جندي تركي كانوا في جيش محمد علي، وأرسلهم إلى بيروت، وطلب منه أن يعيد إلى أهل لبنان سلاحهم ويحذره من أية حركة عدائية.

وأرسل إلى قنصل إنكلترا في بيروت ليبلغ ذلك للقناصل، وأرسل إلى قائد الجنود التركية في بيروت يحذره من الانتقال بجنوده، فإن هو فَعَل كان ذلك فاتحة الحرب والقتال.

ونشر في بلاد سوريا منشورًا ذَكَر فيه اتفاق الدول الأربع على إخراج محمد علي من سوريا، وصدور خط شريف سلطاني لتأمين الأهالي ودعوة أهل لبنان خاصة إلى خلع نير محمد علي، ويعدهم بوصول الجنود والسلاح والذخائر قريبًا إليهم.

وأرسل رسالة إلى الأمير بشير يدعوه لطاعة السلطان، وأخرى إلى الأمير بشير عمر الحاكم ومزاحمه يَحُثُّه على الانحياز لجانب السلطان، ويَعِدُه بأنه سيؤيده، وبأن الباب العالي سيرسل إليه المدد.

وأرسل إلى سليمان باشا قائد الجيوش المصرية يخبره بأن الأوامر التي لديه تقضي بحجز السفن المصرية والسورية التي تنقل الذخائر والجنود والمؤن الحربية، ويطلب منه وقفَ حركة هذه السفن في دائرة اختصاصه. فأجاب سليمان باشا بأنه لم يَتَلقَّ تعليمات في ذلك، وليس لديه خبر بوقوع الحرب بين مصر وإنكلترا حتى يحترم هذا الإنذار الموجَّه إليه من قائد الأسطول الإنكليزي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤