ونظرًا لاستحالة الفصل بين الطبيعيات
والإلهيات فإنه توجد ثلاث نظريات لإيجاد الصلة
بينهما. وهي اختيارات تمت بالفعل في علوم
الحكمة.
(٢) الفلسفة والعلم
لم يتحدث الكِنْدي كثيرًا عن الإلهيات
كما تحدث ابن سينا صراحة بل عن الفلسفة
الأولى أولًا، وما بعد الطبيعة ثانيًا،
انفصالًا عن علم الكلام وليس عودة إليه كما
فعل ابن سينا. بدأت الفلسفة إذن علمية ثم
اخترقها الإشراق (الفارابي) والباطنية
(الإسماعيلية) عند إخوان الصفا، والاثنا
عشرية عند ابن سينا. بدأت الفلسفة عملية في
المنطقة العربية ثم وفد إليها التصوف
والإشراق من مناطق فارسية تركية. وقد حاول
ابن رشد إصلاحها من جديد في الأندلس ولكنه
كان بعيدًا عن الزمان والمكان. بدأت
الفلسفة علمية عند الكِنْدي وانتهت عقلية
عند ابن رشد، وما بينهما قوس إشراقي عند
إخوان الصفا والفارابي وابن سينا. خرجت
نظرية الخلق من العلم (الكِنْدي) والفيض من
الإشراق (إخوان الصفا، الفارابي، ابن
سينا)، وقدم العالم من العقل (ابن رشد).
٤
ليست القضية إذن توفيقًا بين الدين
والفلسفة بل إدخال العلم في التصور الديني
للعالم، وبزوغ العلم من الدين. ولا تهم
النتائج العلمية التي قد تتغير من زمن إلى
زمن بل المنهج والرؤية. يقدم الكِنْدي
فلسفة علمية عقلية، ويحلل العلم لرفع
التناقض في النسق. فالعلم قادر على حلِّ
التناقضات الصورية العقلية بتقديم التجربة
والمشاهدة؛ فالعقل والطبيعة ركيزان للوحي.
ولا توجد في الرسائل العلمية الإحدى عشرة
أيَّة رسالة لها عنوان ديني صريح كما هو
الحال في بعض الرسائل الفلسفية. ولم يستشهد
بالقرآن إلا مرة واحدة في رسالة «في العلة
التي يبرد أعلى الجو ويسخن ما قرب الأرض».
٥
ويعطي الكِنْدي تعريفًا للفلسفة الأولى
أقرب إلى التعريف العلمي الخالص مما يدل
على نشأة الفلسفة من خلال العلم قدرَ
نشأتها من خلال الدين. فقد كان الكِنْدي
عالمًا قدرَ كونِه فيلسوفًا.
الفلسفة هي العلم بالعلل، والعلل على
أنواع العلل الأربعة في العلم، والعلة
الأولى في الفلسفة. الفلسفة هي الإحاطة
بالعلل الأربعة.
٦ الفكر له موضوع وهو العلل،
معرفة علل الأشياء وليس مجرد تأملات
ميتافيزيقية. وهو ما سُمي في الموروث معرفة
الأسباب. وفي أصول الفقه السبب أول حكم من
أحكام الوضع قبل الشرط والمانع والعزيمة
والرخصة والصحة والبطلان.
٧
لذلك لا يمكن إنكار الفلسفة؛ لأن الإنكار
يتطلب إيضاح علة ذلك الإنكار. والبحث عن
العلة هو الفلسفة.
٨ وهي الحجة المشهورة التي تقال
ضد منكري العلم لأنه لا يمكن إنكار العلم
إلا بعلم ومن ثَم يثبت العلم. كما أنها نفس
الحجة التي تقال ضد الشكاك؛ إذ لا يمكن
للشاك أن يُنكر اليقين لأن إنكاره هذا
يقين، وإلا كان إنكاره للشك شكًّا. البحث
عن الحق هو بحث عن العلة. وكل شيء له حقيقة
يمكن معرفتها بالعلة، وكل حالة وجود لها
حقيقة، وكل حقيقة لها علة. العلة هو الحق،
والحق هو الوجود؛ لأن كل ما له علة يكون له
وجود. يوحد الكِنْدي بين العلة والوجود،
وجود الشيء علته، وعلته وجوده. ولما كانت
الفلسفة بحثًا عن العلة فهي أيضًا بحثٌ عن الوجود.
٩
موضوع الفلسفة هو موضوع العلم، البحث عن
العلل. لذلك كان الكِنْدي مؤسس فلسفة علمية
وليست إشراقية كالفارابي وابن سينا أو
عقلية كابن رشد. الفلسفة علم، والعلم فلسفة
مما يدل على وحدة المذهب.
١٠ ومن ثَم لا يوجد فرقٌ بين
الطبيعة وما بعد الطبيعة ما دام كلاهما
بحثًا في العلل. لذلك كان الكِنْدي ينتقل
من الطبيعة إلى ما بعد الطبيعة ومما بعد
الطبيعة إلى الطبيعة دون أن يشعر أنه ينتقل
من علم إلى آخر. ويدل اختياره لبعض المسائل
الطبيعية مما بعد الطبيعة أنه يبحث في
العلم وليس في الميتافيزيقا.
ومن ثَم لا يكون الفرق بين الرسائل
الفلسفية والرسائل العلمية كبيرًا؛ لأن
الفلسفة هي العلم، وكلاهما علمٌ بالعلة.
ومن الرسائل العلمية الإحدى عشرة ثمانٍ
منها تذكر لفظ العلة (سبع لفظ العلة وواحدة
لفظ السبب)، ومنها أكبر رسالة «في العلة
الفاعلة للحد والجزر». ويذكر لفظ العلة في
البداية باستثناء مرة واحدة في الوسط.
١١ يقوم البحث الطبيعي كله على
البحث عن العلل، علل تجمُّد البخار في
الجو، ومقدار الارتفاع، وعلة معرفة مقدار
الصحو والغيم في السماء، وتناهي العدد، وهو
جزء من معرفة أوائل العلم الطبيعي ولمعرفة
الأسباب والعلل لا بد من تحديد الظاهرة
أولًا من أجل التعرف على عِلَلها، ومتى تم
التعرف على العلل أمكن السيطرة عليها.
فمعرفة الشيء معرفة علته.
١٢
ويبدأ البحث عن العلة بالبحث عن العلل
الطبيعية الأربعة، نزولًا من العلم بالعلة
الأولى إلى العلم بالعلل الأربعة. لذلك
كانت المطالب العلمية أربعة طبقًا للعلل
الأربعة.
والعلم بالعلل الأربعة علمٌ بالحد. وكل
محدود له حقيقته في حدِّه. فالعلم بالعلل
الأربعة علم بالمحدود. هنا يبرز المنطق على
استحياء من ثنايا البحث عن العلل وليس
البحث عن أشكال القضايا. إذ ينتقل الكِنْدي
من العلل الطبيعية الأربعة إلى الأجناس
والفصول في المنطق، من العلم إلى الجنس،
ومن الجنس إلى الفصل انتقالًا من الجزء إلى
الكل. فالمادة الجنس، والصورة النوع.
والعلم بالنوع علم بالفصل. والعلم بالعلل
الأربعة علمٌ بالحد. ويترك الكِنْدي
التقابل بين الطبيعة والمنطق في العلة
الفاعلة والعلة الغائية.
١٣ فهناك علتان ناقصتان، واسمان
ناقصان، الخاصة والعرض العام طالما أن
الصورة أخذت النوع والفصل. ولا يعقل أن
تكون العلة الفاعلة والعلة الغائية مجردَ
خاصة وعرض عام. لذلك ترك الكِنْدي التقابل،
واكتفى بالمادة والصورة باعتبارها يضمَّان
العلم والفلسفة.
١٤ هنا ينتقل الكِنْدي من الطبيعة
إلى المنطق، ومن الجزء إلى الكل من أجل أن
ينتقل مرة ثانية من المنطق إلى
الميتافيزيقيا، من المنطق الصوري إلى منطق
الوجود وكأنَّ العلَّتين الفاعلة والغائية
متروكتان للميتافيزيقيا.
ولما كانت الفلسفة علمًا بالعلة الأولى
فإنها تنطوي على العلم والدين معًا، وتكون
أولى بالشرف وبالجنس وبالترتيب وبالزمان
وبالكمال. ويتم الانتقال من الأولوية في
المنطق من حيث العموم والخصوص إلى الأولوية
في الزمان من حيث الخلق. وكما تفسح
الطبيعيات المجال للمنطق يفسح المنطق
المجال لما بعد الطبيعة.
ومعرفة العلة الأولى من العلم وليست من
الدين؛ لأنها جزء من البحث عن العلل. ترجع
أهمية الكِنْدي إذن إلى تحويل العلاقة بين
الفلسفة والدين إلى العلاقة بين الفلسفة
والعلم عن طريق البحث عن العلل. الفلسفة
بحثٌ عن العلل لأن العلم هو علم بالعلة.
والدين هو البحث عن العلة الأولى فما يوحد
بين الفلسفة والدين هو البحث عن العلة،
العلل المتعددة في العلم، والعلة الواحدة
في الدين، العلل المباشرة في العلم، والعلة
الأولى في الدين.
والعلة الغائية هي العلة المطلقة. فالله
غاية وليس فقط فاعلًا. وأفعاله تتم بالغاية
والقصد. الله اتجاه نحو الإمام وليس فاعلًا
من الأعلى أو دافعًا من الوراء شوقًا إليه
وليس دفعًا منه. تصور الله غاية للعالم ليس
من أرسطو بالضرورة بل قد يكون من الموروث.
١٥
لذلك كانت الفلسفة أعلى الصناعات
الإنسانية منزلةً وأشرفها مرتبة؛ لأن العلم
بالعلة الأولى أشرف من العلم بالعلل
القريبة. فعلم العلة أشرف من العلم
بالمعلول. والعلل القريبة في النهاية
معلولات للعلة الأولى. ومن الطبيعي أن نحيط
الفلسفة كعلم بالعلم الأولَى بباقي العلوم
التي تبحث في العلل الأربعة، وأن تكون أشرف
العلوم وأعلاها. ويتم ذلك في مجتمع ديني
تُعطَى إليه الحقيقة عن طريق الوحي مما
يعتبر تأكيدًا لحرية الفكر ولضرورة البحث
العلمي والنظر الفلسفي. كل شيء يأتي بالبحث
النظري وطلب البرهان حتى ولو كان معطًى
لدينا جاهزًا.
١٦
وتتنوع المسائل الطبيعية فتشمل العناصر
والآثار العلوية وكل ما بين السماء والأرض
من مطر وضباب ورعد وبرق وثلج وبرَد وصواعق
وزمهرير وبرودة وسخونة ولون السماء الأزرق
والانتقال من المد والجزر باعتباره ظاهرة
مرتبطة بالأفلاك (جاذبية القمر). فهناك ست
رسائل في الآثار العلوية وأربع في الفلك،
وواحدة في الجواهر الخمسة. وكلها موظفة من
أجل فتح الطبيعة على ما بعد الطبيعة. وكلها
مسائل متناثرة باستثناء موضوع واحد هو
الجواهر الخمسة، أي أنها إشكالات وتساؤلات
وليست اتساقًا كما هو الحال عند ابن
سينا.
أما الرسائل العملية الثلاث الأخرى فإنها
تمهِّد بالطبيعة لما بعد الطبيعة أو
الفلسفة الأولى لوضع أسس الدين العقلي
الخالص الذي يجعل الطبيعة مفتوحة إلى أعلى.
١٧ نفيُ الجواهر الخمسة إثباتٌ
أنها متناهية على عكس الرازي الذي يجعلها
قديمة. طبيعة الفلك مخالفة لطبائع العناصر
الأربعة. والعناصر والجرم الأقصى كروية
الشكل. والشكلُ الكرويُّ متناهٍ في حين أن
الشكل المستقيم لا متناهٍ مما يؤهل إلى أن
العالم عالمان. فلا تخلو المسائل الطبيعية
من اتصال بما بعد الطبيعة. كلاهما يلتقيان
في عالم متوسط هو عالم الأفلاك. وهو العالم
العلوي الذي لا يكون ويفسد والذي أُقيم من
أجله علمٌ بأكمله هو علم الفلك كعلم طبيعي
أو علم التنجيم كعلم خرافي، كعلم وسط بين
الإلهيات والطبيعيات. الرسائل العلمية بين
الطبيعة وما بعد الطبيعة، سواء بالبحث عن
العلة لإفساح المجال إلى العلة الأولى أو
بيانًا لتناهي العالم وشكله الكروي،
تمهيدًا لجعل العالم عالمَين، عالم متناهٍ
وعالم لا متناهٍ. تكشف الرسائل الطبيعية في
مجموعها عن التصور الثنائي للعالم وهو أساس
نظرية الخلق. وتتكرر نفس الفكرة من رسالة
إلى أخرى وكأن الموضوعات الطبيعية مجرد صور
متوسطة للتعبير عن التصور الثنائي
للعالم.
وفي رسالة «الجواهر الخمسة» يردُّ
الكِنْدي على «القدماء الخمسة» للرازي
فيُظهر التقابل والتعارض بين تصورَين
للعالم، الثنائي عند الكِنْدي في نظرية
الخلق، والواحدي عند الرازي في نظرية القِدَم.
١٨ وهي المفارقة بين التصور
الديني والتصور العلمي بالرغم من اختلاف
الجواهر الخمسة في اثنين منهما، الله
والنفس عند الرازي، والصورة والحركة عند
الكِنْدي، والاتفاق في ثلاثة، الهيولى
والزمان والمكان.
١٩ فالقضية داخلية بين الكِنْدي
والرازي وليست خارجية بين أرسطو وشراحه أو
بين أرسطو والكِنْدي.
٢٠ ويبرز الغرض الديني من الرسالة
صراحة في قسمة الفلسفة وظهور الفلسفة
الإلهية طبقًا لمنهج القسمة، وفي قسمة
النفس إلى عقل وحس ثم قسمة العقل إلى علم
الأشياء المصنوعة وعلم الأشياء الإلهية.
الأولى طبيعيات، والثانية إلهيات. كما أن
الأشياء نوعان تتصل بالهيولى وهي
الطبيعيات، ومفارقة لها وهي الإلهيات مثل
الأمور الربانية كالنفس مثلًا. وقد رتب
الله الأشياء بين الكثيف واللطيف أو الغليظ
والخفيف من أجل معرفة الثانية بالأولى.
٢١ واللطيف لفظ قرآني، اسم من
أسماء الله يفيد هنا معنًى طبيعيًّا. ويبدو
حضور الدين الصريح من تحليل الألفاظ
الدينية مثل الإلهية والربانية والله تعالى.
٢٢ كما يبدو الدين غير الصريح،
الدين العقلي في المصطلحات المثالية، مثل
الجواهر العلوية المفارقة التي لا تخالط
الهيولى ولا تتصل بها. فالأشياء إما في كل
الجواهر مثل الكون والفساد، أو ليست في كل
الجواهر وهي الجواهر العلوية مثل الكواكب
والفلك. والكون والفساد إما في الأرض
(المعادن)، أو على الأرض (الحيوان،
والنبات، والإنسان)، أو فوق الأرض
(الأمطار، الضباب، البرق، الرعد). ومن ثم
تنتظم الطبيعة. وفي نظام الطبيعة يتجلَّى
ما بعد الطبيعة.
٢٣ والتمايز بين العلوم للتمايز
بين الجواهر، الجواهر الحسية للطبيعيات
والجواهر البسيطة لما بعد الطبيعة.
وأحيانًا يذكر الموضوع دون أن تذكر
دلالته صراحة، مثل رسالة «السبب الذي له
نسبت القدماء الأشكال الخمسة إلى الأسطقسات».
٢٤ فهي خالية من أية دلالة دينية
مباشرة. ومع ذلك فإن موضوعها يبيِّن تناهي
الجواهر الخمسة باعتبارها أشكالًا رياضية
على هيئة مجسمات. كل واحدة منها ذات قواعد
متشابهة الأضلاع، والخلاف بينها في عددها.
٢٥
هنا يبدو أن العلم علمٌ وليس له دلالة
دينية خاصة. ومع ذلك تظهر عبارات متناثرة
هنا وهناك لا تدخل في صميم الموضوع تكشف عن
الدلالة الدينية؛ مثل أن الطبيعة ترمز إلى
أن علة الكل واحد غير متكثر، لا خارج عن
ذاته، لا يُشبه شيئًا من معلولاته وكأننا
في التنزيه الاعتزالي. الغاية تأسيس الدين
عقليًّا وعلميًّا من داخل العلم والتحليل
العلمي ومن طبيعة العقل النظري.
٢٦ وتظهر بعض الألفاظ والتعبيرات
تكشف عن وحدانية الله جل وعز وأنه ذو القوة
المبدعة للكل والقابض للكل والأحكم للفعل،
والمربح للتجارة، والأفضل معرفته لتحقيق
مزيد من الربح مما يكشف عن علاقة الدين
بالمجتمع التجاري. والسماء عمل
الروحانيِّين ذوي العقول النيرة والطباع
الثابتة لا غيرهم ممن خلق الله مما يدل على
تمايز العقول في البشر. ويرى القدماء أن
كلَّ الذين في السماء من خلق الله، ذو حسٍّ
وعقل في حين أن الذي يعم الأرض هو التوليد
وليس العقل والحس. كما أن الطبيعة ترمز إلى
وحدانية الله وكل المجردات عن الهيولى.
والإله علة الكل، لا تلحقه الكثرة بجهة من
الجهات ولا يضمحل؛ إذ ليس مما يلحقه
الانفصال ولا النقص بجهة من الجهات. تبارك
مبدع الكل وممسك الكل ومحكم الكل المحجوبة
عن الأعين الجسدية.
٢٧
وفي رسالة «في الجرم الحامل بطباعه اللون
من العناصر الأربعة والذي هو علة اللون في
غيره»، يظهر اللون كيفية محسوسة للبصر في
الذات لا في الموضوع.
٢٨ النار والهواء عنصران حارَّان،
سيالان مشفان، والماء والأرض عنصران
باردان، الماء سيال مشف، واليابس الأرض
منحصر مقاوم للبصر، يُرَى بتوسط الهواء
المضيء. والحامل للون من العناصر الأربعة
هي الأرض. لا تظهر الدلالة الدينية بوضوح،
فالعلم هو العلم، إلا في البدايات
والخواتيم، والدعوات والابتهالات. يبدو
فيها اللاهوت السلبي من بقايا علم الكلام
القديم الاعتزالي خاصة. فما زال الدين
حاضرًا لفظًا ومعنًى وسط العلم وكباعث عليه.
٢٩ بسبب الدين وصل الكِنْدي إلى
العلم. وبالعلم استطاع ضبط الفكر
الديني.
وتكشف رسالة «في الإبانة عن أن طبيعة الفلك
مخالفة لطبائع العناصر الأربعة» عن التصور
الثنائي للعالم الذي ترتكز عليه نظرية
الخلق. هناك عالم العناصر الأربعة وعالم
الفلك من طبيعتَين مختلفتَين. والفلك طبيعة
خامسة مخالفة لطبائع العناصر الأربعة وهي
طبيعة واحدة.
٣٠ يظهر علم الفلك هنا على أنه
صورة متوسطة تُبيِّن حدود عالم العناصر
الأربعة. هو الموضوع العقلي الذي يتم
التمرين عليه من أجل الانتقال من الطبيعة
إلى ما بعد الطبيعة. لذلك يبرز السؤال: هل
علم الفلك علم طبيعي أم علم ميتافيزيقي، أي
ديني إلهي؟ وهل أبدع المسلمون فيه؛ لأنه
كان نقطة التماس بين الطبيعيات والإلهيات؟
وهل لتوجيه القرآن النظرَ نحو الطبيعة أثرٌ
في نشأة علم الفلك؟ كما أن تصور اتجاه
الحركة يعبر أيضًا عن أن العالم عالمان.
فالحركة إما إلى أعلى أو إلى أسفل. الأولى
إلى ما بعد الطبيعة، والثانية إلى الطبيعة.
والحركة نوعان، دائرية أو مستقيمة.
الدائرية متناهية، والمستقيمة لا متناهية.
الأولى محدودة بالمحيط كالدائرة والثانية
ممتدة إلى ما لا نهاية من الطرفين كالخط
المستقيم. ويمكن القول إن الحركة الدائرية
أيضًا لا متناهية؛ لأن بداية أحدها نهاية للأخرى.
٣١ لذلك اختارها ابن سينا وابن
رشد تعبيرًا عن التناهي واللاتناهي في نفس
الوقت. وهو شكل العالم. والأشكال الرياضية
تعبير عن أفكار فلسفية.
٣٢ والحركة المركبة للجرم المركب،
والحركة البسيطة للجرم البسيط، نفس التقابل
بين المركب وهو الطبيعة، والبسيط وهو ما
بعد الطبيعة. الحركة من الوسط ثقيلة مثل
سقوط الماء على الأرض، وإلى الوسط وتكون
خفيفة مثل صعود الهواء والنار. الأولى تركز
للطبيعة والثانية لما بعد الطبيعة. وطبيعة
الأجرام البسيطة الحارة والباردة والرطبة
واليابسة، السكون. إذا تحركت عادت إلى
الوسط فتنشأ حركة كروية. وكل سيال كروي
الشكل مثل تجربة غليان الماء والنار.
والنار حارة يابسة تمتاز بالخفة والسرعة.
والأرض باردة يابسة تمتاز بالثقل والبطء.
والهواء حارٌّ رطب يمتاز بالخفة والسرعة.
والماء بارد ورطب يمتاز بالثقل والبطء.
والكيفية منفعلة كاليبوسة والرطوبة أو
فاعلة كالحرارة والبرودة. الأولى تُشير إلى
الطبيعة والثانية إلى ما بعد الطبيعة.
٣٣ وتتوازى الثنائيات طالما أن
لها بنية واحدة؛ فالحرارة مسئولية على
النار والهواء، والبرودة مسئولية على الماء
والأرض. الحرارة سبب الخفة، والبرودة فاعلة
الثقل، واليبس فاعل السرعة، والرطوبة فاعلة
الأمطار. وقد تتراتب الثنائيات فينشأ
التصور الهرمي للعالم كما يظهر عند
الفارابي بوضوح. فالماء ثقيل بالنسبة
للهواء، ضعيف بالنسبة للأرض. والهواء خفيف
بالنسبة للماء، ثقيل بالنسبة للنار. لذلك
كان التصور الثنائي للعالم أساس نظرية
الخلق مقدمة للتصور الهرمي للعالم أساس
نظرية الفيض، نظرية الخلق مضاعفة.
والغرض من إثبات كروية الشكل إثبات
التناهي على نحو علمي. فبداية التفكير
العلمي الكرة وليس الخط، تفسير العلة
بالمعلول، والمعلول بالعلة على التبادل
وليس على التسلسل إلى علة أولى. ويُجري
الكِنْدي التجارب ويُصحح أخطاء النظريات
السابقة التي لا تقوم على فهم واستقصاء يقع
فيه المقصرون في العلوم الطبيعية والمبرزون
على حدٍّ سواء.
٣٤
ويتحدث الكِنْدي عن الفلك بطريقة اللاهوت
السلبي، أي نفي صفات النقص عنه، وهي كيفيات
العناصر الأربعة. وتضادها يجعلها متناهية
عكس الفلك. وحركة الفلك غير متناهية. ولا
تنتهي إلا بانتهاء المدة دون التطرق صراحة
إلى قضية القِدَم والحدوث كما فعل
المتكلمون والحكماء والمتأخرون، وكيف يفسد
الفلك بعد انتهاء مدته وهو ليس من طبيعة
العناصر الأربعة؟ هل يظهر الله فيه الفساد
حتى يفنى بطبيعته أم بفعل الإرادة الإلهية؟
لقد أودع الله الحركة في الطبيعة، وجعل
الطبيعة علة لجميع حركات الكائنات وهو ما
يقارب تصور القانون الطبيعي عند ابن
رشد.
لم يعرف أرسطو دوامَ حركةِ الفلك وقِدَمه
وبقاءَه. فالفلك عند الكِنْدي مدة قدَّرها
الباري بعدها يندثر كما ابتدأ أول مرة
تأكيدًا على حدوث العالم وكما هو الحال عند
المتكلمين؛ معتزلة وأشاعرة، والأشاعرة
أكثر. الله هو القديم، وكل ما سواه حادث
عند المتكلمين. وهو ما يتفق مع القول بوجود
الله ووحدانيته، وأنه موجِدُ العالم، وأن
مدة بقاء العالم متوقفة على إرادة الله.
ولا توجد أية إشارة إلى اليونان عامة أو
إلى فلاسفة بأعيانهم خاصة. فالقضية داخلية
صرْفة حتى ولو كانت في الظاهر تتناول
موضوعًا تطرق إليه اليونان في علم
الفلك.
هو نوع من الدين العقلي. وعلم بعد
الطبيعة إثبات الإلهيات دون ما حاجة إلى
عقائد أو نصوص كما يفعل المتكلمون.
والإيمان العقلي أحد مظاهر التشكل الكاذب
على مستوى التصورات. فالعالم عالمان تصوُّر
عقلي يعبر عن نظرية الخلق دون أن يُشار إليها.
٣٥
وأحيانًا تكون الرسالة دالة على الانتقال
من العلم إلى الدين مثل الرسائل التي توضح
تناهي جرم العالم، ووحدانية الله، وأن
العناصر والجرم الأقصى كروية الشكل. فالكرة
تدل على التناهي واللاتناهي في نفس الوقت،
الصورة المتوسطة بين العلم والدين، الكرة
تناهٍ في المكان ولا تناهٍ في الحركة
لدورانها المستمر حول المركز. لذلك كانت
صورة الفلك التناهي. وحدوث المادة في
المكان والزمان رمز الخلق. والخط صورة
اللاتناهي في الامتداد. وتشترك العناصر مع
الجرم الأقصى، الأرض، الجرم الظاهر، في شكل
الكرة مما يدل على الطابع المتوسط للأفلاك
والأجرام العلوية بين الطبيعيات والإلهيات.
فالأرض في داخل الفلك كروية الشكل على مركز
الكل، وكذلك الماء حول الأرض. ولماذا ليس
الهواء أو النار؟ ولا يوجد خارج الكل ملاء
ولا خلاء لأنها من مقولات المكان. فالجرمُ
كرسيُّ الخارج والداخل. وقد يؤدي ذلك لسبب
ديني وليس لسبب علمي، وهو أن الله في كل مكان.
٣٦ وقد ورد لفظ الله في الرسالة
الثالثة «في أن العناصر والجرم الأقصى
كروية الشكل» في المقدمة والخاتمة. ولم
يذكر اليونان على الإطلاق لا على العموم
ولا على الخصوص.
٣٧
ويشار إلى الدين صراحة في «العلة الفاعلة
للمد والجزر». إذ تذكر العناية الإلهية،
ولفظ «الأوتاد» وهو لفظ قرآني. فالله مبدع
الكل، هيَّأ كلَّ شيء بحكمته، والعلة
والمعلول، والأوتاد الأربعة التي تقوم
عليها الكائنات الفاسدة.
٣٨ كما يبرز الدين صراحة في رسالة
«في العلة التي يبرز أعلى الجو ويسخن ما
قرب من الأرض» لتظهر قضية التناهي
واللاتناهي من علم الكلام؛ إذ يقول
الكِنْدي بإمكانية اللاتناهي في الموجودات
الحادثة من حيث مدة بقائها في المستقبل
خلافًا لإمكانية لا تناهيها في الماضي.
إمكان اللاتناهي بالقوة ممكن مع أن الأشياء
لا متناهية بالفعل. وهي مشكلة كلامية من
عصر الكِنْدي تعرَّض لها أبو الهذيل
العلاف. فالأشياء المحدثات كل وجميع ونهاية
في العلم بها والقدرة عليها إبراز للخلاف
بين القديم والحادث بناء على مشاهدة الحس
واعتمادًا على بعض الأدلة النقلية مثل
إِنَّ اللهَ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وما
شابهها من المعاني التي تفيد بأن الله بكل
شيء عليم، بكل شيء محيط، أحصى كلَّ شيء
وعدَّه عدًّا. فالأشياء متناهية بفعل
الإحاطة. وهو ما يتفق مع الموقف الأشعري.
ثم تفرد ابن الراوندي بالقول بأن لما يقدر
الله عليه ويعلم غايته ينتهي إليها لا
تتجاوزها قدرته ولا يتعداها علمه. فردَّ
عليه الخياط. وهي قضية يستعملها الكِنْدي
الفيلسوف دفاعًا عن الخلق وليس إثباتًا
للبعث. فالعالم له بداية وليس له نهاية في
حين أنه عند ابن رشد بلا بداية ولا نهاية.
٣٩
وقد يكون السؤال رياضيًّا ولكن طريقة
عرضِه تُوحي بإجابة دينية مثل المسألة
الثالثة إذا كانت الأعداد بلا نهاية فهل
يمكن أن تكون المعدودات بلا نهاية والإجابة
تتضمن توجهًا دينيًّا مباشرًا. الأعداد
متناهية بالفعل ولكن الله أخرجها من القوة
إلى الفعل وجعلها لا نهاية لها. وهنا يطغى
علم الكلام الأشعري على الرياضيات. ويلجأ
الكِنْدي إلى الإرادة الإلهية التي تجعل
العدد المتناهي لا متناهيًا وليس باستدلال
رياضي صرف يكون أقرب إلى الاعتزال.
٤٠
وتكتفي بعض الرسائل العلمية بمجرد ذكر
الله في المقدمة والخاتمة في الحمدلات
والبسملات والدعاء والثناء دون أن تظهر هذه
الانفعالات الدينية في صُلْب التحليل
العلمي للظواهر الطبيعية؛ مثل علة عدم
المطر في بعض المواضع وعلة الضباب، وعلة
الثلج والبرَد والبرق والصواعق والرعد
والزمهرير. وفي هذه الرسالة الأخيرة يذكر
الله جل ثناؤه الذي وضع عللًا لظواهر
الطبيعة اعترافًا بقوانينها والبحث عن
العلل البعيدة وليس فقط العلل القريبة. ومع
ذلك يظل الحديث عن العلة الأولى بالمعنى العلمي.
٤١
(٣) الفلسفة والدين
وتتعرض معظم الرسائل الفلسفية بعد رسالة
«الفلسفة الأولى»، أي ست رسائل إلى نفس
الموضوع الرئيسي في الفلسفة الأولى، وهو
التصور الثنائي للعالم، والأساس الفلسفي
لنظرية الخلق. وتمثل ضعف الرسالة الأولى من
حيث الكم.
٤٢ رسالتان فقط، الأولى والثانية،
موضوعهما العالم، والرسائل الأربع الأخرى
موضوعها العالم والله. يعاد الموضوع نفسه
وهو التحول من الطبيعيات المغلقة إلى
الطبيعيات المفتوحة ليس باسم العلم ولكن
باسم الدين، والفلسفة جامعة بينهما ولبيان
وحدة الفلسفة والعلم والدين، العقل
والطبيعة والوحي.
وتتضمن هذه الرسائل الست باسم وحدة
الفلسفة والدين ثلاثة موضوعات لا تختلف
كثيرًا عن موضوعات الفلسفة والعلم، وهي:
- (أ)
قضية العليَّة، العلة الأولى
والعلة الثانية (الرسالتان الأولى
والسادسة).
- (ب)
قضية اللاتناهي والتناهي
(الرسائل الثالثة والرابعة
والخامسة).
- (جـ)
علاقة الله بالعالم (الرسالة
الثانية).
(أ) قضية العليَّة
لا يوجد في هذه القضية أيُّ أثر
لأفلوطين أو غيره لإقرار أن الفلك
الأول هو المفعول الأول، وباختلاف
الحركات فيه يفعل فيما هو دونه في
الأرض، الكون والفساد، ما دام الفلك
مبدعًا وكل ما يقع فيه من إرادة الله.
إنما هي سلسلة الأسباب خاصة وأن خلق
السموات والأرض قد تم قبل خلق الإنسان.
ففي رسالة «في الإبانة عن العلة
القريبة للكون والفساد» دراسة للعلل
المتوسطة كأسباب تُسمَّى في الثقافة
القديمة الأشخاص العالية أو الأفلاك.
ويعطي الكِنْدي أمثلةً ونماذجَ للشرح
والتوضيح مما يدل على أنها تأليف وليست
شرحًا مثل إعطاء أمثلة للعلة البعيدة
والعلة القريبة بالرامي والسهم.
٤٣ وقد تقترب فكرة تسلسل
العلل من مفهوم التطور الخالق، أي
الخلق المتدرج كل يوم حتى اليوم السادس
الذي خلق فيه الإنسان. وليس هذا فيضًا
أو صدورًا أو شركًا أو قدمًا ما دام
الأول مبدعًا من الله ومخلوقًا منه،
وهو السبب في خلق الثواني والمصدر
لها.
والرسالة تمرينات عقلية تسبقها مبادئ
عامة تقوم على القسمة وتنتج عنها نقاط
تطبيقية متفرقة في النفس والمجتمع
والتاريخ داخل التصور الثنائي للعالم
وليس خارجه. وهي أيضًا مجموعة من
التمرينات حول أنواع الحركة وأنواع
العلل من أجل إثبات أن العالم عالمان،
عالم الكون والفساد وعالم الفلك
الأعلى. عالم الكون والفساد ذو كيفيات
متضادة وهي الحرارة والبرودة والرطوبة
واليبوسة. وهو عالم ما دون فلك القمر،
عالم العناصر الأربعة، كرات بعضها داخل
بعض، النار في أعلى، يليها الهواء إلى
خارج العالم. ثم الماء والأرض إلى أسفل
نحو مركز العالم. فالأرض مركز العالم
وأجزاؤها تتحرك نحو المركز. وسطوح
العناصر الأربعة كروية الشكل مما يدل
على تناهيها. الكائنات الأرضية من
إنسان وحيوان ونبات كائن وفاسدة في
جملتها والباقي صورها النوعية. وهي
داخلة في الزمان والمكان والحركة
المكانية، عالم العناصر الأربعة وما
يتركب منها. أما الجرم الأقصى للعالم
من تحت فلك القمر إلى نهاية العالم
فليست له هذه الكيفيات. فهو إذن لا
يكون ولا يفسد. كذلك العناصر الأربعة
لا تكون ولا تفسد في جملتها بل في
بعضها فقط. وإذا كان الفلك مكانًا
لكلية هذه العناصر الأربعة والزمان عدد
الحركة فالزمان لا يفسد. وبالنسبة
للعلل فإن العلة الغائية توجد بعد
العلة الفاعلة. وقد تكون الغائية
فاعلة، أي ملجئة إلى الفعل أو تكون هي
العلة الفاعلة بعينها.
٤٤ وواضح أن الغاية من
الرسالة تحويل الطبيعيات المغلقة إلى
طبيعيات مفتوحة لإفساح المجال للإلهيات
كما فعل في مناهج البحث العلمي، الصيغة
الأولى للمنطق عند الكِنْدي. والسؤال
هو: هل إعطاء الفلك عنصرًا رابطًا بين
الله والعالم يحيل الثنائية إلى ثلاثية
وإضافة عنصر ثالث موجود مشارك لله
والعالم في نفس الوقت، وهو الأساس
النظري للتثليث في العقائد المسيحية؟
وإذا كانت العلة أشرف من المعلول فما
هي درجة الشرف للعنصر المتوسط الذي هو
معلول لما فوقه وعلة لما تحته؟
ويتحول موضوع العلة، أثر ما فوق
القمر على ما تحت القمر، أثر عالم
الأفلاك العلوي على عالم العناصر
الأربعة السفلي إلى وصف جغرافي بشري
اجتماعي تاريخي لأثر الشمس والقمر على
العمران وحياة البشر. فيقيس الكِنْدي
بُعدَ الشمس والقمر عن الأرض، ويحسب
ذلك بالدقيقة والثانية وموضع حركتهما
في كل زمن بدرجة عالية من الدقة.
فالقمر عون للشمس على تغيير العالم.
٤٥ وتؤثر الحرارة بمماستها
البدن، وتؤثر قدر شدتها أو ضعفها
وطبقًا لاختلاف البدن في اليبس
والرطوبة والاعتدال.
٤٦
ويؤثر القمر في اعتدال الجو بما
يحمله من بخار. وإذا كانت الأشخاص
السماوية علةَ كونٍ تأتي الشمس قبل
القمر والقمر قبل الكواكب. ولا يقتصر
الأمر فقط على مزاج البدن بل يمتد
أيضًا إلى أحوال النفس. فكما تختلف
المزاجات البدنية باختلاف الأشخاص
الغالية بالمكان والحركة والزمان
والكيفية ابتداء من الجسم حتى الطباع والأخلاق.
٤٧ إذ يحدث لكل بدن حيوان خلق
على قدر مزاجه، ومعركة في الأرحام.
٤٨
قد يوحي هذا التحليل بنوع من
العنصرية الجغرافية في وصف أشكال
الشعوب. فهل صحيح أن أفاعيل النفس تتبع
مزاج البدن؟ أليست هذه نظرية مادية في
مقابل النظرية «المثالية» باستقلال
النفس عن البدن التي ينتسب إليها
الكِنْدي؟ أم أنه يقع في ثنائية
النظريتَين، مادية للبدن ومثالية للنفس؟
٤٩ فالمركبات من العناصر
الحرث والنسل والمعادن كأنه فاسدة
بكمال أشخاصها والباقي منها كبقاء
العناصر. صورها مثل الإنسانية والفرسية
والشجرية والمعدنية. فالأشخاص فانية
ومثلها باقية كما هو الحال في نظرية
المثل؟ أفاعيل النفس متبعة مزاجات
الأجسام، وتختلف المزاجات باختلاف
الأشخاص العالية بالمكان والحركة
والزمان والكيفية. وهل يمكن تفسير
السلوك البشري بفاعل واحد، عامل
جغرافي، والوقوع في نوع من الحتمية
الكونية لا تختلف كثيرًا عن الحتمية
الإلهية إلا في مصدرها؟ فاختلاف أخلاق
الشعوب وسلوك البشر قد يكون أيضًا
لعوامل ثقافية موروثة دون أن تكون
بالضرورة وراثية من جيل إلى جيل، وإلا
تم استبدال الحتمية الكونية والإلهية
بحتمية أخرى وراثية. لا توجد علاقة
ضرورية حتمية بين سلوك البشر والظروف
المحيطة. فانحلال الأوروبيين ليس
لأسباب فسيولوجية، والاعتدال كفضيلة في
الأخلاق الإسلامية لم يؤدِّ إلى
التخفيف من حدَّة الانفعالات عند
العرب. ويظل سلوك الأفراد حرًّا بالرغم
من انتمائهم إلى طبائع الشعوب.
ولا يؤثر بُعد الشمس والقمر على
الأرض في المزاج البدني والنفسي
للإنسان بل يؤثر أيضًا في أحوال الحرث
والنسل، أي في الزراعة والسكان وفي
أحوال العمران، أي أخلاق الشعوب
وعاداتها وفي النظم السياسية ومسار
التاريخ. ففي المناطق الباردة نحو
القطب الشمالي وفي المناطق التي تتجه
نحو معدل النهار، أي خط الاستواء التي
يشتد حرُّها فيقل الحرث والنسل
والعمران. ولو لم تكن الشمس بهذا
البُعد من الأرض لاحترقت أو تجمَّدت
واستحالت فيها الحياة. فإن زاد الحر أو
البرد فسد الزرع، وهلك الحيوان، وعم
الوباء والفساد. ولولا تعاقب الليل
والنهار من دوران الأرض حول نفسها،
ولولا تعاقب الفصول من دورانها حول
الشمس لم تستقم حياة أو يعتدل مزاج
ولذبل كلُّ شيء. فبتغير الأزمان ينمو
الحرث والنسل. الفصول الأربعة سبب كون
الحيوان، طرفان ووسطان حتى لا تتنافر
العناصر. والأزمنة الأربعة موافقة
بالكيفية للعناصر الأربعة. وكل ما يحدث
على الأرض من تيبُّس العشب وإنضاج
الثمار وخراب الأرض أو عمارها وعادات
الناس وأخلاق النفس ومزاجها وتغيُّر
الدول، كل ذلك يتوقف على وضع الأفلاك
ووضع الأرض منها.
٥٠ لا تقوم الحياة إذن إلا في
الاعتدال الجغرافي والمزاجي، البدني
والنفسي والعمراني. وهذا وصفٌ لواقع
وفي نفس الوقت تعبير عن الوحي الذي
يبرز فضيلة الاعتدال ليس أثرًا من
أرسطو أو بطليموس بل نظرًا لوحدة الوحي
والعقل والطبيعة. وقد نشأ علم الفلك
لنفس السبب، النظر في الطبيعة بتوجيه
الوحي وجعل الأهلة لتحديد مواقيت
الشعائر، وإعادة توظيف دين الصابئة.
٥١ ولا يوجد باب مستقل
للجغرافيا والتاريخ في علوم الحكمة
ولكنهما داخلان في الطبيعيات
والإلهيات، وفي الأخلاق والاجتماع
والتاريخ. ومن ثَم يكون ابن خلدون آخر
القدماء الذين طوروا هذا الجزء من علوم الحكمة.
٥٢
وواضح أن علم الفلك الذي هو واسطة
بين الدين والفلسفة والعلم ضد علم
التنجيم الذي دافع عنه إخوان الصفا
والذي كان يبحث في أثر الكواكب أيضًا
على حياة الناس على نحوٍ خرافي سحري.
علم الفلك هنا جزء من الطبيعيات، بين
العلم والدين. بدلًا من الله يقال
الفلك، وسط بين الخلق والقِدَم في
الكون والفساد، مخلوق باقٍ، معلول علة.
وكلها تمرينات فلسفية ونقاط تطبيقية
للتصور الثنائي للعالم.
لذلك أصبح موضوع العلية موضوعًا
رئيسيًّا في نظرية الخلق، العلية
المباشرة من الأعلى إلى الأدنى أو
العلية عن طريق المتوسطات الأفلاك أو
الأسباب، العلة البعيدة أو العلل
القريبة. وقد نشأ علم الفلك وعلم
الجغرافيا للبحث عن العلل القريبة
للكون والفساد من الفلسفة والدين
اللذَين يردان هذه العلل القريبة إلى
العلة الأولى. والسؤال هو هل يتم تفسير
الظواهر الطبيعية والإنسانية طبقًا
للمزاج تحت أثر الأشخاص العالية أم
طبقًا لقانون طبيعي وبحسب نسب كمية
رياضية لها أثرها في الكائن الحي منذ
نشوئه؟ هل يقوم العلم على تشخيص
الطبيعة الحية أم على تحليل علمي
للقوانين؟
ويظهر التصور الديني صراحة بجعل
تأثير الأشخاص العالية بإرادة الخالق،
وبالتالي الجمع بين العلة البعيدة
والعلل القريبة. وبالرغم من وجود
عبارات صريحة تدل على الخلق، مثل أن
الله سبب الزمان بالخلق، إلا أن العلة
الفاعلة تشكُّلٌ كاذبٌ أو متوسط بين
الله والعالم، تكشف عن خلق الله للعالم
وعنايته وتدبيره له. وهو الموضوع الأول
في الدين الجديد بعد أن تحوَّل من
الدين إلى الفلسفة، دفاعًا فلسفيًّا عن
الدين، واعترافًا علميًّا بدور العلل
الثانية قبل أن يصوغ ابن رشد دليلَي
العناية والاختراع. وتظهر الألفاظ
والتعبيرات الدينية الصريحة مثل الله،
الله جل ثناؤه، كاشفًا عن الموضوع
الديني الشعوري قبل أن يتحول بالتشكُّل
الكاذب إلى العلة الفاعلة أو العلة
البعيدة للكون والفساد أو العلة الأولى
المبدعة للكل أو غاية كل فاعل.
٥٣ ويؤدي البحث عن العلل
القريبة إلى الكشف عن العلة البعيدة.
وأحيانًا يظهر لفظ متوسط قديم جديد مثل
«الباري» الذي يجمع بين الإيمان
الشعوري والتنزيه العقلي. رسالة «العلة
الفاعلة»، إذن رسالة في التدبير
والعناية بعد أن كانت رسالة «الفلسفة
الأولى» في الخلق.
٥٤ لا يفعل الله مباشرة بل من
خلال قوانين الطبيعة أو الأسباب وهي
عالم الأفلاك في تصور القدماء مثل
اعتدال الشمس وموقع الأرض من الشمس
والقمر. والله موجد هذه الأجرام. هو
العلة البعيدة وهي العلل القريبة، وكأن
الكِنْدي يعبر عقليًّا عن تصور قرآني
صريح دون استعمال النقل كما يفعل المتكلمون.
٥٥ ويسمي الكِنْدي الأفلاك
الأشخاص السماوية جمعًا بين الأرض
والسماء كعالم متوسط بين العالمَين؛
فثنائية الله والعالم لها عنصر متوسط،
الأشخاص السماوية أي الأفلاك. ولا ذكر
لأرسطو أو لأقرانه. والمركبات من
العناصر، الحرث والنسل والمعادية ليست
من أرسطو، النبات والحيوان والمعادن.
بل هي مصطلحات موروثة من القرآن. وأهم
صفة للعلة الفاعلة العناية والتدبير
وليس الخلق كردِّ فعل على تصور الوافد،
تحرك العالم نحو الله بالعشق.
٥٦ ويكشف الكِنْدي قناع
التشكل الكاذب إلى الدين الصريح
المباشر، العناية الإلهية في آخر
الرسالة. ويبيِّن أثر العلل القريبة،
وهي الأفلاك، مستمدة من العلة الأولى،
باري كل شيء، والتدبير والإتقان وحكمة
الصنع منه. كل ذلك من أجل الأصلح. وهي
مقولة اعتزالية علمية كونية وليست فقط
دينية أخلاقية. والأنفع مقولة أصولية،
والأتقن مقولة فلسفية، والأبدع مقولة
كلامية، وكأن الكِنْدي قد جمع بين
العلوم النقلية العقلية الأربعة.
٥٧
وتستمر ثنائية العلية في رسالة «في
الفاعل الحق الأول التام والفاعل
الناقص الذي هو بالمجاز» بعد عرض العلة
الفاعلة القريبة للكون والفساد، وهي
العلة المتوسطة، عالم الأفلاك لبيان أن
الفاعل الحق الأول التام هو الله، وأن
العلل المتوسطة هو الفاعل بالمجاز
تأكيدًا على التصور الأشعري، وبعيدًا
عن التصور الاعتزالي. وهو الصراع
المكتوم في الفلسفة بعد أن أخذت
الفلسفة الإشراقية، الفارابي وابن
سينا، التصور الأشعري، وأخذت الفلسفة
العلمية العقلية، الكِنْدي وابن رشد،
التصور الاعتزالي.
٥٨ وفي هذا التقابل يوضع لفظُ
الثاني في مقابل الأول حتى يكون
التقابل كاملًا بين الحقيقة والمجاز،
التام والناقص، وهو تقابل أصولي فلسفي.
فالحقيقة والمجاز من مباحث الألفاظ،
والتام والناقص من مباحث العلل، والأول
والثاني من مباحث الكلام. والموضوع هو
التمييز بين العلة الأولى والعلة
الثانية، بين الله والعالم، من أجل
إثبات الخلق والعناية وهما الاختراع
والعناية والتدبير عند ابن رشد ضد
تحرُّك العالم نحو الله بالعشق بعد أن
صنع الله العالم وتركه (أفلاطون
وأرسطو) أو فيض العالم عن الله وصدوره
عنه (أفلوطين) بالرغم من غياب أي إشارة
مباشرة لفلاسفة اليونان.
والفعل نوعان: الأول يقف بتوقُّف
فاعله، ولا يترك أثرًا محسوسًا وهو
أقرب إلى الانفعال. والثاني يكون
مصحوبًا بفكر وقصد يترك أثرًا وهو
العمل. فالعمل أعلى قيمة من الفعل.
ويتضح التشكل الكاذب في الفاعل الحق
الأول التام وهو الله، والفاعل الناقص
الذي هو بالمجاز وهو العالم. ويذكر
الله صراحة في هذه الرسالة القصيرة
كشفًا عن التشكل الكاذب.
٥٩ الفعل الحقي الأول «تأسيس
الأيسات عن ليس» وهو الإبداع خاصة لله
تعالى. والفاعل الحق الذي لا ينفعل
البتة هو الباري فاعل الكل جل ثناؤه.
أول الفاعلات بالمجاز، وكلها منفعلة
بالحقيقة من باريه تعالى، وهو العلة
الأولى لجميع
المفعولات بتوسط أو بغير توسط. الله هو
الفاعل الحق الأول التام الحق، أي أنه
المؤثر وليس المنفعل، الأول وليس
الثاني أي المبدع، التام أي الذي هو
غاية كل شيء في مقابل الفاعل الثاني
المنفعل والذي هو بالمجاز والذي لا
يكون غاية قصوى. وإن تسلسل العلل يجعل
كلًّا منها فاعلة ومنفعلة إلا الفاعل
الأول الحق التام فهو فاعل غير منفعل.
العمل له وحده والفعل لغيره، ودونه
فاعلات بالمجاز، منفعلة. ولا خوف من
الفواعل القريبة، أي العلل المتوسطة
والأسباب المباشرة؛ لأنها كلها بإبداع
الفاعل الأول التام الحق. هناك إذن
إمكانية للعلم وللفلسفة في نفس الوقت
كتعبيرَين عن الدين ومشكلاته أو بيان
له.
(ب) تناهي جرم العالم
إذا كانت العلية تتعامل مع طرفين،
العلة الأولى التامة الحقة والعلل
الثانية الناقصة المجازية، فإن تناهي
جرم العالم يتعامل مع طرف واحد هو
العالم فقط. والجديد هو الاعتماد على
المنهج الرياضي، أي العقل الخالص. لم
يذكر الكِنْدي لا الوافد ولا الموروث،
لا أرسطو ولا الله، لا الخارج ولا
الداخل، بل اكتفى بالبرهان الرياضي الفلسفي.
٦٠ وقد تعود الثنائية إلى
الظهور لإثبات تناهي جرم العالم ولا
تناهي الله. فالعالم يعبر عنه سلبًا
مرتين، «ما لا يمكن أن يكون لا نهاية
له» لبيان قوة النفي وأن الحديث عن
العالم نفيٌ للحديث عن الله، و«ما لا
نهاية له» مجرد قول يعبر عن الله دون
أن يعبر عن الله في ذاته للفصل بين
الخطاب وموضوعه.
٦١ فالله لا يدخل موضوعًا في
خطاب بل في أقوال تعبر عن التنزيه أقرب
إلى الذات منها إلى الموضوع.
٦٢ كل ما في العالم من حركة
وزمان مبدع، أي مخلوق محدث بتعبير
المتكلمين، ولكن على مستوى آخر من
العقل وأعلى من التنظير. الإبداع لفظ
الفلاسفة عند الكِنْدي وابن رشد،
والخلق أو الحدوث ألفاظ المتكلمين.
الحدوث والقِدَم ألفاظ المتكلمين،
والتناهي واللاتناهي ألفاظ الفلاسفة.
ويؤكد الكِنْدي على تناهي الحركة
والزمان بعد تناهي الجرم، تناهي الخاص
بعد تناهي العام، تناهي الأجزاء بعد
تناهي الكل نفيًا لقِدَم العالم الذي
يعتمد على قِدَم الزمان والحركة دون
إشارة إلى أفلاطون أو أرسطو أو حتى لفظ
قِدَم العالم، وقد كان هو المنبه
والمثير لعلم الكلام.
٦٣
ويظهر الطرفان أكثر صراحة في وحدانية
الله وتناهي جرم العالم.
٦٤ وتتكرر فقرات من الرسائل
السابقة في الفلسفة الأولى وعن التناهي
واللاتناهي. فهو حدس واحد يتكرر في
الرسائل كلها. ويبدو أن هناك عدة فقرات
قد كُتبت، فقرات رئيسية تتداخل وتتخارج
ثم يجمع بينها في رسائل مما يفسر
التكرار وغياب بنية الموضوعات.
٦٥ وتعبر عن نفس الثنائية،
الله والعالم، وحدانية الله وتناهي جرم
العالم، مرة تبدأ بالله إثباتًا ويكون
العالم نفيًا، ومرة تبدأ بالعالم نفيًا
ويكون الله إثباتًا (رسالة التناهي
واللامتناهي). وتظهر صفة جديدة لله ليس
التناهي بل الوحدانية وهي صفة في علم
الكلام كوصف سادس للذات. والدليل أن
كثرة المحدثين تؤدي إلى التركيب في
الذوات مع أنها تشارك في صفة واحدة هي
الأحداث والفاعلية، وتختلف في تخصصها
وهو ما يقتضي حدوثَ كلٍّ منها من جانب
التخصص ووحدانية من جانب الصفة.
والنتيجة استحالة أزلية الجرم؛ لأن
الجرم محدَث اضطرارًا، والمحدَث محدَث
محدِث؛ إذ المحدِث والمحدَث من المضاف.
فالكل محدَث اضطرارًا عن ليس. وهو دليل
صوري يحاول تعقيل النص. وكلاهما عيب
الصورية والتجريد، وعيب اللغة
والتأويل، ودليل التمانع عند المتكلمين
أوضح. أما أدلة الصوفية بالتجربة
الذاتية الحية فهي أوقع وأوضح وأبلغ.
ويظهر تناهي العالم صراحة وتطبيقه على
جرم العالم ووصف العالم بأن له جرمًا
أي جسم، وهو دليل التطبيق المشهور عند
المتكلمين على استحالة وجود جسم لا
نهاية له بالفعل. ثم يُثبت الكِنْدي
تناهي الحركة والزمان بعد تناهي الجرم.
فالجرم والحركة والزمان لا يسبق بعضها
بعضًا في الإنيَّة. فهما معًا. وهو
دليل صعب لرغبة الكِنْدي في الخروج من
الكلام إلى الفلسفة، ومن الموروث
الخالص إلى الجمع بين الموروث والوافد
القائم على مسلَّمات رياضية صرفة تقوم
مقام النقل. ولا توجد إشارة إلى أرسطو
أو أفلاطون أو غيره بل رد فعل على
الوافد قوله بحدوث العالم وإثبات
الخالق المبدع حتى قِدَم العالم.
ويشارك ذلك المتكلمون والفلاسفة ضد
الدهرية. وتكشف الرسالة في النهاية عن
التشكل الكاذب معلنةً أن الغاية هو
إثبات وحدانية الله وتبرئته مما ألحق
به الملحدون من صفات.
٦٦
(ﺟ) سجود الجرم الأقصى
ثم يزيح الكِنْدي القناع، ويكشف
صراحة عن التشكل الكاذب. فيظهر التصور
الديني الكلامي بل الأشعري الذي يقوم
على التشبيه دون التنزيه في «سجود
الجرم الأقصى وطاعته لله عز وجل»، وكأن
الفيلسوف قد تحوَّل إلى متكلم،
والمعتزلي إلى أشعري.
٦٧ وظهر «الله» صراحة في
العنوان. كما ظهر تشخيص العالم وإسقاط
الإنسان عليه؛ فالسجود والطاعة لفظان
إنسانيَّان. فبعد إثبات تناهي جرم
العالم ثم وصْف الطرفين على التضاد في
علاقة التناهي باللاتناهي هنا تأتي
الذروة بسيادة أحد الطرفين على الآخر،
سجود العالم وطاعته لله. وهنا البداية
بالعالم وطاعته لله.
٦٨
والرسالة إجابة على سؤال نصِّيٍّ حول
تفسير آية
وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ
يَسْجُدَانِ. ويحول
الكِنْدي الصورة الفنية إلى معانٍ
عقلية. وهو ليس سؤالًا صريحًا بل قولًا
ينقل عن معنى الآية، يفسرها لإيضاحه
كنوعٍ من التفسير العقلي للقرآن. وقد
كان مطروحًا في الساحة الفكرية يساهم
فيه الكِنْدي مع المعتزلة. وتظهر الآية
القرآنية بوضوح كموضوع للرسالة.
فالفلسفة على صلة بالعلوم النقلية بعلم
التفسير كما فعل ابن سينا في تفسير
«الصمدية» و«المعوذتين» وفي «رسالة
الحروف». يبدأ الموروث بالكشف عن نفسه
وليس لإفساح المجال له داخل الوافد كما
هو الحال في «في كمية كتب أرسطو».
وتظهر اللغة العربية وأهميتها والشعر
العربي في التفسير بالإضافة إلى العقل
بل يبدأ وكأن الرسالة موجَّهة إلى عيوب
العصر «ذوي الدين والألباب» المتاجرين
بالدين والمدافعين عن مناصبهم المزورة
كما بين في «الفلسفة الأولى». وتبدو
آثار الاعتزال في جعل الغائية في
الطبيعة التي تسمح لها بالقصد أي
السجود طاعة لله. «ليس في الطبيعة شيء
عبث وبلا علة» تفسيرًا لا شعوريًّا
لآية
رَبَّنَا مَا
خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا
سُبْحَانَكَ. ويذكر
الكِنْدي «الله» و«الرسول» صراحة
للثناء على الله ومدحه وإجلاله وللصلاة
والسلام على الرسول ودون أن يذكر أرسطو
مرة واحدة.
٦٩ إنما ذكر القدماء مرة
واحدة من غير اللسان العربي وعلى
العموم ودون التمييز بين حكمائهم. ويتم
تعريف القدماء من الوافد عن طريق
التمايز عن حكماء الموروث.
٧٠ ويعتبر الكِنْدي القرآن من
رواية الصادق، ومن ثَم ذكر الرسول مع
الله، النبوات مع الإلهيات، قِسمَا
التوحيد الأشعري.
والمطلوب إثباته هو أن الجرم الأعلى
من العالم بجميع أشخاصه حيٌّ مميز حتى
تثبت طاعته الاختيارية، وتقضي إثبات
الحركة الذاتية حتى تثبت الطاعة ثم
إثبات العقل حتى يثبت الاختيار. أعطى
الكِنْدي صفتَي العدل العقل والحرية
للجرم الأقصى حتى يطيع الله عز وجل.
ويعطي معنًى فلسفيًّا طبيعيًّا للسجود،
خروج ما بالقوة إلى الفعل أو الفيض بكل
فعل غير محال أو فعل الأصلح لكل مفعول.
وهنا تتزاوج لغة أرسطو وأفلوطين مع
المعتزلة على مستوى الألفاظ وربما
التصورات وليس على مستوى الأشياء
ذاتها. كل شيء في العالم إنما هو تعبير
عن قدرته العامة. فالعالم كله كحيوان
واحد مفصل. هو جرم لا فراغ فيه. في
أعلاه الجرم الأشرف، القوة النفسانية
الشريفة الفاعلة وفيما دونه القوى
النفسانية على الأصلح. وهو يُشبه
التصور الحيوي الذي سيستمر عند إخوان
الصفا.
وبالرغم من بلاغة الصورة الفنية إلا
أنها في نهاية الأمر تشخيص للطبيعة،
وإسقاط العالم الإنساني على العالم
الطبيعي. فالسجود والطاعة مقولات
إنسانية صرفة لا تُقال إلا على الحي
العاقل الحر مثل الإنسان. وهل هناك فرق
بين الجرم الأقصى الحي الأبدي والجرم
الأدنى الفاسد؟ يعني الجرم الأقصى
الكون كله وليس أحد الأفلاك صيغة
مبالغة إنشائية مثل الخير الأقصى، ودفع
المشاهد إلى الحد الأقصى، الغائية.
صحيح أنها صورة قرآنية، الفلك الحي
الكائن، تصوير فني من أجل تطويع
الإنسان. وقد يكون من المفيد تصوُّر
سجود العالم لله وطاعته لتدريب الوعي
الإنساني على الطاعة كما كان الوحي
يفعل مع بني إسرائيل. وبعد استغلال
الوعي فإن استقامة الهامة تصبح الصورة
المثلى. فمنهج التفسير هو إيجاد الواقع
المعاش داخل النص، نوع من تحقيق المناط
الفلسفي اعتمادًا على منهج تحليل
الخبرات الشعورية. وهنا يتخلَّى
الكِنْدي عن البراهين الرياضية
المنطقية ويقع في التشبيه. يترك
الاعتزال إلى الأشعرية، والفلسفة
عائدًا إلى علم الكلام.
(د) اللاهوت السلبي
ويستعمل الكِنْدي إحدى طرق الحديث عن
الله والعالم وهو اللاهوت السلبي
الأثير عند المعتزلة؛ إذ يمكن الحديث
عن الله بثلاث طرق: الأول طريق
الإيجاب، إثبات صفات الكمال لله.
والثاني طريق السلب، نفي صفات النقص عن
الله. والثالث طريق التشبيه أو المثل
أو الاستعارة أو الصورة الفنية قياسًا
للغائب على الشاهد على نحو مجازي.
ويقوم اللاهوت السلبي بنفي متبادل بين
صفات الله والعالم. ما يُعطَى لله من
صفات الكمال يُنفَى عن العالم، وما
يُنفَى عن الله من صفات النقص يُثبَت
للعالم. فالله ليس جرمًا، والجرم ليس
أزليًّا. ومن ثَم يُعرف الموضوع بنفي
المحمول مرة. وبعد قلب المحمول موضوعًا
والموضوع محمولًا يُعرف المحمول بنفي
الموضوع مرة أخرى. فالعلاقة بين الله
والعالم علاقة متبادلة أو متضايفة لا
يمكن فهم الله إثباتًا دون العالم
نفيًا، ولا يمكن فهم العالم إثباتًا
دون الله نفيًا.
٧١
ويمتاز اللاهوت السلبي الذي لجأ إليه
الكِنْدي كخطوة للانتقال من الكلام إلى
الفلسفة، نفي صفات النقص عن الله بأنه
تطهير مستمر للذهن البشري وحمايته من
الوقوع في مخاطر التأليه والتجسيم
والتشبيه للاهوت الإيجابي، ووضْع حدٍّ
للإله المشخص والإسقاطات الإنشائية
والأساليب الإنشائية حفاظًا على
التنزيه العقلي. وهو لاهوت واضح يسهل
تصوُّره، بديهي لا يرفضه العقل ولا
يعترض عليه بعكس اللاهوت الإيجابي الذي
يخاطر بالتجسيم والتشبيه ويحتاج إلى
شرح وتوضيح مستمر بدعوى السر عن طريق
اللاهوت السلبي من جديد الله في
اللاهوت السلبي فكرة محددة أو محررة
للركود العقلي، تقول على التمييز بين
المستويات، الواقعة والماهية، الواقع
والفكر، البعدي والقبلي، الحسي
والعقلي، المشاهدة والغيب، وتحمي من
الوقوع في الرد التاريخي المادي الحسي
التجريبي الوضعي الخالص.
٧٢ وهو نفس الوقت يدفع نحو
التعالي والتجاوز ورفض القطعية
واستحالة التوقف، والبحث المستمر
وتجاوز حدود المعرفة الحالية، والبحث
عن الكمال وارتياد المجهول، والطموح
إلى ما هو أفضل، والتطلع نحو المستقبل،
والترقِّي إلى أعلى دائمًا أو التقدم
إلى الأمام باستمرار.
٧٣ هو حركة دائبة من العقل
لارتياد المجهول وتجاوز العقل لذاته
باستمرار، فالحركة أفضل من الثبات،
والنقد أفضل من القطع، والشك أفضل من
اليقين، وإبقاء الذات ذاتًا دون أن
تتحول إلى موضوع به قوة عظمى على النفي
والرفض والنقد لما هو موجود سعيًا نحو
الكمال. الله غاية قصوى يتم الاتجاه
نحوها كعلة غائية وليس كعلة فاعلة،
كقصد وحركة ومستقبل إلى الأمام وليس
أشرف وأكمل إلى أعلى من أجل تحرُّر
الإنسان والبشرية دون قهر أو جبر أو
فرض. وهو ما يعبر عنه لفظ «التوحيد»
كاسمِ فعل يدل على الحركة وليس اسمًا
يدل على أقنوم ثابت. ميزته أنه يعتمد
على الموروث وليس الوافد، له جذوره
وأصوله في الداخل وليس في الخارج،
لَيْسَ
كَمِثْلِهِ شَيْءٌ دون أن
يكون في ذلك عجز من التفكير أو عدم
قدرة على التعبير أو وقوع في السر أو
إعلان للجهل والانتهاء إلى النسبية
والشك واللاإرادية ثم العدمية.
٧٤
ومع ذلك فاللاهوت السلبي له عيوبُه
أيضًا في الحديث عن الله؛ فهو بطبيعته
وقضاياه لا يقول شيئًا إيجابيًّا. لا
يضع قضية، ولا يُصدر حكمًا، ولا يُفيد
قولًا. إنما هو مجردُ نفيٍ للأفكار
الشائعة والأوهام الخاطئة والتصورات
الموروثة عن الله. له قوة في الهدم دون
البناء، وفي التطهير من الموروث
الثقافي دون إعطاء بديل. والفكر سلبٌ
وإيجاب، نفيٌ وإثبات، هدم
وبناء.
كما أنه يعتمد على نفْي ما هو معروف
من مفاهيم وتصورات وألفاظ. وبالتالي
فهو محدود بقدرات الإنسان على الحس
والتخيُّل وبما يردُ على الذهن من
صُوَر وأمثال. لا يُبدع بل ينقد ما تم
إبداعه من قبل. لا يتعامل إلا مع
المعطيات الموجودة، ولا يُضيف أخرى
جديدة. فهو المنظف والمطهر والناقد
والرافض. يعتمد على إنجازات الغير
علومًا وألفاظًا، ولا يقوم إلا بنفيها
دون وضْع علم جديد، مفهومًا أو منهجًا.
فهو محددٌ باللاهوت الإيجابي وتالٍ له.
ولما كان كل تصور إيجابي لله إنما يعبر
عن وضْع نفسي واجتماعي للفرد والجماعة،
وعن مرحلة تاريخية بأكملها. «الله قوة»
تعبر عن مجتمع قوي. الله ما هو إلا
مشرع للقوة، لا فرق بين الله والسلطان
أو عن مجتمع يبحث عن قوة كتعويض له عن
الضعف وكأداة للتحرُّر كما هو الحال في
لاهوت التحرير. «الله رحمة» تعبر عن
مجتمع رحيم. فالإنسان يخلق صورة الله
على صورته ومثاله أو عن مجتمع قاسٍ في
حاجة إلى رحمة ويجد في الله دافعًا على
تحقيقها. لاهوت السلب إذن مرتبط أيضًا
بالتصورات النفسية والاجتماعية
والسياسية التي يعبر عنها اللاهوت
الإيجابي ويطبق عليه معيارًا عقليًّا
صرفًا خارج التاريخ.
ولا يصمد اللاهوت السلبي أمام بعض
الأحكام التي يصعب نفيُها، مثل «الله
واحد»؛ لأنه حكم أقرب إلى السلب منه
إلى الإيجاب. الواحد مجرد تجاوز الواحد
الرياضي في العدد. ومثل: الله موجود،
أو «الله ذات»، وهي أحكام تنزيهية في
مرحلة ما قبل التشبيه، تلجأ إلى الحد
الأدنى، وتعتمد على العقل الخالص أكثر
من اعتمادها على الحس. يمكن فقط تحليل
هذه العبارات لغويًّا ونفسيًّا لمعرفة
مدى تعبيرها عن الوجود الإنساني.
فالإنسان أيضًا فردٌ موجود وذات. ومع
ذلك يظل الوجود والوحدانية والذاتية
صفات خالية من التشبيه. كما قد يعارض
بعض القضايا المثبتة في الموروث
الأصلي، مثل: الله سميع بصير، الله
محيط، الله مريد، الله رءوف بالعباد،
وقد زاوج القرآن بين النفي والإثبات في
لَيْسَ
كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ
السَّمِيعُ الْبَصِيرُ
صحيح أن الله يصف نفسه، وهو قادر على
ذلك، وليس له صورة مشبهة عن نفسه. أما
الإنسان فعندما يتحدث عن الله فإنه ليس
له صورة عنه، ويتحدث عنه قياسًا للغائب
على الشاهد.
قد يؤدي اللاهوت السلبي إلى نتيجتَين
متعارضتَين طالما أن الحديث عن الله
إيجابًا مستحيلٌ. الأول إعلان العجز عن
إصدار الأحكام المثبتة طبقًا للقول
المأثور: «كل ما خطر ببالك فالله خلاف
ذلك». وقد ينتهي ذلك إلى نوع من الشك
في كل اجتهادات العقل وقدرته على إصدار
الأحكام أو إلى نوع من النسبية في
الحكم طالما أن كل حكم إنما هو قياس
الغائب على الشاهد، وإرجاع المجهول إلى
المعلوم أو إلى نوع من اللاإرادية
والعدمية والانتهاء إلى استحالة
المعرفة. ومن ثَم يصبح الله بعيدًا عن
العالم، لا شأن له به في التصورات أو
الأفعال، متعاليًا في برج عاجي،
متطهرًا مستنكفًا عن التشبه بالعالم
كما يتصوره الإقطاعيون والرأسماليون.
والثاني، نظرًا لاستحالة الحديث عن
الله إيجابًا، وميل الذهن إلى الإيجاب
طبقًا لجدل السلب والإيجاب قد يقع
الذهن في السر، ويصبح الله سرًّا،
مجهولًا يندُّ عن المعرفة. ولا يبقى
أمام الإنسان إلا الإيمان كما هو الحال
عند النصارى. الإيمان مجرد وازع داخلي
وإرادة الاعتقاد. قد يؤدي اللاهوت
السلبي إلى نزعة صوفية طالما أنه
يستحيل الحديث عن الله. ويبقى الله
وازعًا نفسيًّا، صوت الضمير، وغاية
قصوى، وأملًا يُرتجى في الحياة،
وخلاصًا بعد الموت. ومن ثَم ينتهي
اللاهوت السلبي نفسه لأنه لا يوجد ما
يقوم بتطهيره. وقد ارتبط اللاهوت
السلبي باستمرار بالنزعات الصوفية.
٧٥ ومن ثَم يتوقف العقل كليةً
عن التفكير إيجابًا لعدم الوقوع في
التشبيه، وسلبًا لأنه لا يوجد ما يتم
سلبه.
وبالرغم من أن اللاهوت السلبي يعبر
عن الله بطريق نفي صفات النقص عنه إلا
أنه أيضًا حديثٌ عن العالم بطريقة غير
مباشرة. وقد يكون لذلك بعض المميزات،
مثل عدمِ تأليه العالم وردِّه إلى
حدوده الطبيعية ونزع أيَّة ألوهية عنه
لأنه لا يليق بها، والبحث عن عِلَله
وقوانينه القريبة أو البعيدة طالما أن
الله لم يَعُد يرتبط بها على نحوٍ
إيجابي، وعدم التوقف عنده والبحث عن
حلوله وأصول لها في مصدر آخر غير الله،
وهو أحد مظاهر تقدُّم العلم.
ومع ذلك، وبالرغم من المميزات
الكثيرة للاهوت السلبي وعيوبه القليلة
في الحديث عن الله إلا أن له عيوبًا
كثيرة في الحديث عن الطبيعة ومميزات
أقل يستعمل في الله للتخلص من القطعية،
ولا يستعمل في الطبيعة من أجل التوجه
إليها وتأسيس العلم. فهو يدين العالم،
ويعتبر كل ما فيه غير جدير بوصف واحد؛
لأنها من مظاهر النقص، والحقيقة أعلى
منه. والله يتجاوز العالم ولا يقترب
منه. لا يفعل فيه ولا يريد شيئًا منه.
فالنفي يمتد من الله إلى العالم،
والسلب يعمُّ الله والعالم على حدٍّ
سواء. يخلط بين العلم والأخلاق. ويعتبر
العالم خاليًا من القيمة، غير جدير
بالاعتبار. كله نقص. لا يجوز استعماله
والتعبير به عن الكمال مع أن العالم
كامل، وكل شيء فيه متفق مع غايات
الإنسان كما لاحظ ابن رشد في دليلَي
العناية والاختراع. والمرض طريق الصحة،
والجهل واقع على العلم، والقهر تفجر
الثورة، والفناء لطلب الخلود. فكل ما
يُظن تطهرًا أنه من مظاهر النقص هو في
الحقيقة من مظاهر الكمال.
والنتيجة الطبيعية لذلك هو إهمال
العالم وعدم البحث فيه، وعدم التوجه
إليه لمعرفة قوانينه والسيطرة عليها،
إخراج العالم الطبيعي خارج دائرة
الاهتمام، وإدانة الزمان والحركة
والمادة. ويضيع الإحساس بشعر الطبيعة
وجمال الطبيعة والتحرر من خلال العود
إلى الطبيعة. وقد يؤدي التطهر من
الطبيعة إلى اللجوء إلى التصوف تطهرًا
منها، وزهدًا فيها، واستنكافًا منها،
والبحث عن الحقيقة خارجها وعن طرق
الخلاص منها. وقد يحدث ردُّ فعل آخر،
من هذا الموقف المتطهر من الطبيعة
والذي يبعدها عن الألوهية ويجعلها
نقيضًا لها إلى جعل الطبيعة هو الله،
والله هو الطبيعة كما هو الحال في وحدة
الوجود عند الصوفية، والانتقال من
الدال إلى المدلول ومن المثل إلى
الممثول، وهو في النهاية موقف غير
رسمي؛ إذ يوجه الوحي الشعور نحو
الطبيعة والنظر فيها والتأمل في
ظواهرها، والبحث عن قوانينها،
والاستدلال من المخلوق على الخالق. فهي
ليست سلبًا لأنها مخلوق، تتجلَّى فيه
صفات الكرم والجود، لا فرق بين آية في
الوحي وآية في الطبيعة.
(٣) التصور الثنائي للعالم
وهو الأساس النظري لنظرية الخلق والذي
يجرِّد الصلة بين الفلسفة والعلم، والفلسفة
والدين في مستوى نظري صرف بالرغم من بدايات
تكوين الخطاب الفلسفي الجامع بين الطبيعة
وما بعد الطبيعة والمنطق.
٧٦ وهو ما يتضح في «رسالة
الكِنْدي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى».
٧٧
فمن البداية يعبر الكِنْدي عن هذا التصور
الثنائي للعالم في أول عبارة في الرسالة
«إن الوجود الإنساني وجودان». وهي ثنائية
كونية، وجودان ومعرفية، عقلية وحسية، عقل
وحواس، ومنطقية، كل وجزء، كيف وكم، جنس
وفعل. والوجود هو الوجود الإنساني، أي
الحديث من موضوع مشاهد وليس الوجود الطبيعي
أو الإلهي الذي لا يُدرك إلا من خلال
الوجود الإنساني. ثم يتم الانتقال من
الوجود والمعرفة والحواس إلى المنطق،
الأجناس للأنواع، والأنواع للأشخاص، والجزء
والأشخاص للأنواع. الأشخاص حسية والأجناس
والأنواع عقلية. والكليات التي تتمثلها
النفس نقربها اضطرارًا. فالمعرفة ضرورية في
النفس. وبهذه الثنائية الوجودية المعرفية
يسهل التعبير عن نظرية الخلق وتأسيسها
تأسيسًا فلسفيًّا.
٧٨
ويتم الانتقال من الطبيعة والمنطق إلى ما
بعد الطبيعة بمفهومَي الخلاء والملاء
كمفهومَين عقليَّين نفسيَّين، وإنكار
الخلاء المطلق لأن الخلاء مكان لا متمكن
فيه. وكلاهما من المفاهيم الإضافية التي
يسبق بعضها بعضًا. التحليل فلسفي منطقي
نفسي خالص ولكن له دلالة دينية. فإنكار
الخلاء لأن الله في كل مكان، وبالتالي لا
وجود لخلاء مطلق، ولا لملاء مطلق، وإثبات
تناهي الكم والكم المتناهي حتى يتفرد الله
بصفة اللامتناهي.
٧٩ كل ذلك من أجل إثبات خلْق
العالم ونفْي قِدَمِه، وهي أهم مشكلة قديمة
في تصور فلسفي دون حجاج كلامي.
هذه هي المقدمات النظرية والأسس العقلية
التي يمكن بعدها البحث في الميتافيزيقا.
الطبيعة والمنطق، والوجود والمعرفة، مقدمات
نظرية عامة للميتافيزيقا كما هو الحال في
علم أصول الدين.
٨٠ تساعد مفاهيم المنطق والطبيعة
على تأسيس الميتافيزيقا على التصور الثنائي
للعالم مثل موضوع محمول، نوع وجنس، فصل
وخاصة، كلي وجزئي، موجبه وسالب، صورة
ومادة، علة ومعلول، كيف وكم … إلخ.
والمنهج هو الاستدلال الداخلي والاتساق
بين المقدمات والنتائج لقطع الطريق على
الجدل الكلامي، وإيجاد براهين داخلية
للفكرة بحيث تحتوي على يقينها ومقاييس
صدْقها من داخلها حتى يستحيل التناقض والخلق.
٨١
وبعد هذه المقدمات المنهجية عن مناهج
البحث وتقسيم العلوم يظهر الحدْس الديني
وهو التصور الثنائي للعالم، أن العالم
عالمان، الأزلي والفاني، المطلق والنسبي،
الواجب والممكن تطويرًا لمقولات الكلام،
القديم والحادث. وقد ساعدت مفاهيم الفلسفة
اليونانية بعد عصر الترجمة على إنشاء هذه
المصطلحات وصياغة هذا الخطاب المثالي
العقلي القادر على التعبير عن التصور
الديني الثنائي للعالم.
الأزلي هو الموجود بذاته ليس له قبل، لا
موضوع ولا محمول له. لا فاعل ولا سبب ولا
علة له، لا جنس له وإلا كان له نوع،
وبالتالي أصبح مركَّبًا من جنس وفصل. لا
يفسد لأن الفساد تبدُّل المحمول بضده. ولا
ينتقل من النقص إلى التمام، خالٍ من التصور
والحركة، من الأقل فضلًا إلى الأكثر فضلًا،
لا جرمَ له أي لا مادة له.
٨٢ ثم تُنفى صفات العالم عن الله
كما تُنفى صفات الله عن العالم. فلا يمكن
أن يكون جرم أزلي لا نهاية له بالقوة أو
بالفعل. الجرم نهائي له أول ونهاية، كم
يتفاوت بين الصغر والكبر، الحركة والسكون.
فكلُّ كم له نهاية في المكان والزمان. ولما
كان الجرم ذا أبعاد ثلاثة فهو
متناهٍ.
وتدخل القسمة العقلية للوجود بين الموجود
بذاته والموجود بغيره لتؤكد هذه الثنائية
سواء كان الحديث عن الشيء والعالم أو عن
الله، فهو موضوع واحد ذو جانبَين مما يوحي
بإمكانية التوحيد بينهما. وهي قسمة أصيلة
من طبيعة اللغة العربية وبداهة العقل وليست وافدة.
٨٣ والموجود بغيره أربعة أنواع
للموجود بذاته تقوم على قسمة ثنائية مضاعفة
بين الأيس والليس، والوجود والذات. الأولى
أن يكون العدم موضوعًا ومحمولًا، لا علة
ولا معلولًا وهو خلف. والثانية يكون العدم
معلولًا والوجود علة. والثالثة أن يكون
الوجود معلولًا والعدم علة وهو خلف.
والرابعة أن يكون الوجود معلولًا والوجود
علة وهو أيضًا خلف. فالاحتمالات الأربعة
خلف، وبالتالي لا يكون الشيء علة لذاته.
٨٤
ثم يأتي تمرين آخر يعتمد على قسمة لغوية
منطقية تقوم على المعنى وهي الكليات الخمسة
المعروفة: الجنس، والصورة (النوع)، والفصل،
والخاصة، والعرض العام، يضاف إليها الشخص
أي الجزئي. ويجمع الكل الجوهر والعرض؛
فالجنس والصورة والفصل تتعلق بالجوهر،
والخاصة والعرض العام يتعلقان بالعرض.
٨٥
وهذه كلها مقدمات للحديث عن الواحد طبقًا
للتشكُّل الكاذب صريحًا أو مؤوَّلًا؛ لأنه
لفظ اصطلاحي من الوافد والموروث على حدٍّ
سواء. وهو ليس الواحد الأفلوطيني وليس
الواحد الرياضي أو الميتافيزيقي عند
فيثاغورس أو بأرمنيدس بل هو الواحد العقلي
الخالص اعتمادًا على القسمة العقلية التي
تقوم على إدراك الحس وبداهة العقل وطباع كل معقول.
٨٦ وهناك أربعة احتمالات أن يكون
الواحد والكثير على التبادل أو على الجمع
أو على الاستبعاد كضدَّين، إما وحدة بلا
كثرة أو كثرة بلا وحدة. والاحتمالان الأول
والثاني احتمال واحد؛ لأنهما مفهومان
متضايفان. والاحتمالان الثالث والرابع في
حاجة إلى تفنيد البرهان العقلي والقسمة
الداخلية، ولا فرق في البرهان بين المنطق
والرياضة. فمقياس الصحة في كليهما الاتساق
كما يفيد بذلك عبارة «وهذا خلف لا يمكن».
٨٧ ومن ثَم يتبين أنه لا يمكن أن
يكون للأشياء كثرة بلا وحدة؛ لأنه لا يمكن
أن يكون بعض الأشياء كثرة بلا وحدة. كما
نبين أنه لا يمكن أن تكون وحدة بلا كثرة
بناء على القسمة العقلية.
٨٨
ويستحيل على الواحد التضاد والغيرية
والاستثناء والتباين، والاتفاق والاختلاف،
والاتصال والافتراق، والابتداء والوسط
والأمر، والأشكال، والحركة والسكون
والاتجاهات الستة والكون والفساد، والجزء والكل.
٨٩
في الأشياء الوحدة مشاركة للكثرة والكثرة
مشاركة للوحدة ولكن في الواحد الكثرة
والوحدة متباينان. والاشتراك لا يكون
بالبخت، أي بالاتفاق بلا علة. والعلة
الفاعلة إحدى صور الواحد. ولا يكون
الاشتراك طباعًا؛ لأن الطباع بمفردها إنكار
للفاعل، فبعد إثبات الوحدانية المفارقة
تثبت الغائية والقصدية مثل المعتزلة. إذ لا
يمكن أن يكون الاشتراك بعلة من ذات الشيء
لأنه لا شيء بالفعل بلا نهاية. لا يكون
الاشتراك إلا بعلة أخرى غير الذات أرفع
وأشرف وأقدم. فالعلة قبل المعلول في
الذات.
وبعد إثبات الوحدة المباينة، العلة
الأولى، لا بد من إثبات هل هي وحدة بالمجاز
أم بالحقيقة مع التمايز مع أشكال الوحدة
الأخرى الطبيعية والمنطقية والرياضية
والميتافيزيقية والإنسانية (الأخلاقية
والاجتماعية والسياسية)، وذلك عن طريق عدة
تمرينات عقلية متتالية خاصة من الرياضيات
ومفاهيم الواحد مثل العظيم والصغير، الطويل
والقصير للكمية المتصلة، الكثير والقليل
للكمية المنفصلة وكلها مفاهيم إضافية.
٩٠ كل شيء واحد بالمجاز إلا الله
فهو واحد بالحق، لا يقع بنوع العنصر
البتة.
والواحد ليس عددًا إنما هو الأقل المرسل
ليس الغرض الواحد الرياضي بل الواحد
الإلهي، الواحد الرياضي مجرد نكتة وفرصة
للتمرين العملي. الله هو الواحد الحق وليس
الواحد الحسابي أو الطبيعي الشخصي أو
المجازي.
والواحد لا يعني الهيولى؛ لأن الوحدة لا
تنقسم، والهيولى مشاركة.
٩١ لا حركة فيه ولا هيولى لأنه لا
هيولى له ولا كثر فيه ولا أجزاء. والواحد
الطبيعي العنصري متغاير. فهو إما فعل أو
انفعال أو إضافة، ومنقسم وله أبعاد ثلاثة
ونهايات ست، وله أجزاء متصلة أو منفصلة.
والوجود على أنواع في الذهن والصوت والخط
في العالم، والواحد ليس فيها جميعًا وإن
كان الذهن قادرًا على تصوره، يقوم الكِنْدي
بمحاولات لوصف الواحد وصفًا فلسفيًّا
تلقائيًّا لا صلة له بأفلاطون أو
أفلوطين.
الواحد الحق هو العلة للوحدة في
الموجودات. فكل وحدة في الموجودات وحدة
بالمجاز، والواحد وحدة كذلك بالحقيقة.
وتظهر لغة الفيض في النهاية دون الإيغال في
الإشراقيات مع بعض الألفاظ الدينية الصريحة
مثل مبدع، خالق، وألفاظ التشكل الكاذب مثل
صورة، محرك، فاعل. ولا توجد آية قرآنية
واحدة أو حديث نبوي بالرغم من التعبير عن
التصور الديني للعالم.
٩٢ الواحد الحق ليس شيئًا من
المقولات ولا العناصر ولا الحركة أو النفس
أو العقل.
٩٣
ومع ذلك فللتصور الثنائي للعالم بعض
العيوب على مستوى النظر. منها أن العالم
فانٍ، حادث، لا قيمة له في ذاته مع أنه
عالم الكد والسعي والجهاد. لا قوانين تحكمه
نظرًا لوجود المعجزات مع أن القوانين فيه
مسخرة لعقل الإنسان وإرادته. والبقاء خارجه
وليس فيه، مع أن العمل في الدنيا كأن
الإنسان يعيش إلى الأبد فيها. الاغتراب عن
العالم والبعد عنه والتوجه لما هو أبقى أو
الانغماس فيها للفهم منها قبل فوات الأوان
أو التظاهر بالأعلى تستُّرًا على
الأدنى.
هذا التصور الثنائي للعالم له بعض
المميزات، فهو يطابق الإحساس الشعبي العام
بالدين والثنائية الموروثة، الخالق
والمخلوق، الأول والآخر، الرب والعبد. يمكن
فهمها بسهولة والاقتناع بها مثل إيمان
العوام، والآخرة والدنيا، الحلال والحرام،
الثواب والعقاب، الملاك والشيطان، الخير
والشر، الحسنة والسيئة، الإيمان والكفر،
الطاعة والمعصية، النفس والبدن … إلخ. كما
أنها تحافظ على البعد المثالي للشعور،
وتحميه من الوقوع في المادية والانكباب على
الدنيا، وتجعله باستمرار متساميًا متعاليًا
لا يردُّ إلى ما هو أقل منه؛ فالإنسان
ببدنه على الأرض، وبشعوره في عالم
الماهيات؛ لأن الخوف من ردِّ الأعلى إلى
الأدنى أعظم من الخوف من ردِّ الأدنى إلى
الأعلى كما هو شائع عند الصوفية يدعو إلى
العمل الصالح، وإقامة الشعائر كوسيلة
للتحول من الدنيا إلى الآخرة، ومن الفناء
إلى الخلود، وينال الجزاء الأبدي، ومجاهدة
النفس، ومقاومة الشهوات، والسيطرة على
الانفعالات، وتقوية الإرادة، والتحكم في
أهواء النفس. ويعطى إحساسًا بالنصر بعد
الجهد، وبالفوز بعد الكد. فالحياة امتحان
واختبار
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا
خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ
إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ.
وهو تصور له ما يقابله في النفس البشرية
وفي الطبيعة الإنسانية خاصة في لحظات الضنك
كعزاء. فالمؤمن المصاب، ولا غالب إلا الله،
والله مع الصابرين. وينظر إلى العالم بعين
الزوال. لذلك كثيرًا ما يؤدي إلى الزهد
وأخذ الطريق الصوفي
بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا *
وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ
وَأَبْقَى. وله ثقله في تاريخ
الأديان، واتفاق كل الأديان عليه بطريقة أو
بأخرى، ومن ثم إمكانية الحوار الديني من
أجل الوصول إلى دين واحد؛ إذ تُغذِّي
الأديان بعضها بعضًا من أجل تقوية الحياة
الروحية ومقاومة شهوات البدن ورغبات
الدنيا. ويمكن الاعتماد عليه لنقد مادية
الحضارات الأخرى، والتذكير بالبُعد المثالي
في الحياة وفي الكون، تمايز الأنا بالروح
عن الآخر المادي.
٩٤
وللتصور الثنائي بعض العيوب على مستوى
السلوك. منها ازدواجية الشخصية، والعيش على
مستويين، المادة والروح، الدنيا والآخرة،
الإشباع للبدن وملاء الروح، الأخذ من نِعَم
الله وطيبات الدنيا من الأموال والولدان من
المال والبنون، من الزينة والنساء، وفي نفس
الوقت التصدق، وأداء الشعائر والحج المبرور
والذنب المغفور، مادية إلى أقصى حدٍّ،
وروحية شعائرية كاملة. وهو ما ينافي حياة
الفضيلة والأخلاق الكاملة ووحدة الإنسان
وكمال الشخصية. وأحيانًا تفقد هذه الثنائية
المتعادلة التوازن فيكون إشباع الجسد على
حساب الروح ما دام شرعيًّا أو للروح على
حساب البدن وإيثار للآخرة على الدنيا
وابتغاء مرضاة الله. وأحيانًا يتم استعمال
المستوى الروحي الشرعي كتغطية وستار على
المستوى البدني المادي. فيؤخذ الحج ذريعة
للتجارة، والصلاة للشهرة، والصوم للدعاية،
والزكاة لتبرير الغنى، وإضفاء الشرعية على
المادة وتحليل الحرام. وهو مظهر من مظاهر
النفاق في القول والعمل. وأحيانًا تسير
الثنائية في طريقَين متعارضَين، الروح
والمادة، النفس والبدن، والتضحية بأحدهما
في سبيل الآخر. فإذا ما تمت التضحية
بالدنيا والعالم ينشأ التصوف، وإذا ما تمت
التضحية بالآخر لحساب الدنيا نشأت المادية
إيثارًا للشاهد على الغائب، وللحس على
العقل. وأحيانًا تُصبح الروحية فارغة إذا
ما اشتد الضنك، صورة من غير مضمون، مجرد
حركات وسكنات. يختفي العمل الصالح والحكمة
من الشعائر. وأحيانًا تشتد مع الظن أنها
طريق الخلاص، والعالم يتغير. وينتهي العمل
المؤثر في العالم أو في النفس لحساب
الشعائر. فخلاص الذات بالحد الأدنى أفضل من
العجز الكلي عن خلاص العالم. ولما كان هذا
التصور متفقًا مع المعنى الشائع ومصير
الدين في كل ثقافة، علاقة خاصة وقوية بالله
تضيع خصوصية الإسلام ويتحول إلى بوذية أو
مسيحية أو دين شعائري ويهودية.
٩٥ علاقة العالمين في الحقيقة
علاقة جدلية، المثال الذي يتحول إلى واقع
من أجل أن يتحول الواقع إلى مثال عن طريق
الفعل البشري الفردي والجماعي.