تقاريظ الكتاب

الحمد لله الملهم للصواب، المذلل لعباده الطرق الصعاب، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المرسل بأفضل كتاب، وعلى آله وأزواجه وذريته وكافة الأصحاب، وبعد: فلما نُشر سابقًا بعض هذا الكتاب بعث لحضرة المؤلف بعض السادة الأعيان من ذوي الخطط وأرباب المراتب الدينية والسياسية بالحاضرة تقاريظ نفيسة إشعارًا باستحسانه، فخاطب مدير المطبعة بما نصه:

أما بعد؛ فإن بعض إخواننا من أهل الحاضرة اطلعوا على ما نجز طبعه من كتابنا «أقوَم المسالك في معرفة أحوال الممالك» الذي كلِّفتم بطبعه، وكاتَبونا بالمكاتيب الواصلة لكم المتضمنة استحسان ما اشتمل عليه، وقد حصل لنا السرور العظيم بذلك؛ حيث رأينا مبادي نجاح سعينا في جمعه وتحصيله بتوجه هِمم مثل هؤلاء الفضلاء إليه، ولإظهار شكرنا لفضل الأعيان المذكورين نرغب منكم أن تطبعوا مكاتيبهم وتضعوها بلصق كتابنا المذكور، والسلام مِن محرره خير الدين. وكُتب في ۱۷ المحرم سنة ۱۲۸٥.

فمن تلك التقاريظ ما لجناب حامل راية الكتابة باليمين، السابق في ميادين حلبتها بلا مين، محيي رسومها بعد الاندراس، ومؤسس قواعدها على أمتن أساس، الوزير الأفخم، والعلامة الأعظم، سالك مناهج الرشد بدون اعتساف، أبي العباس الشيخ سيدي أحمد بن أبي الضياف، ونصه:

الحمد لله وصلَّى على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم نخبة الوزراء الأركان، وعمدة أهل السياسة والعرفان، ومَن لا يفي بمحاسنه بيان سحبان، الطائر الصيت في هذا العصر والأوان، السابق في الميادين، الناسج على منوال الأذكياء المهتدين، ما ينفع في الدنيا وفي الدين، سيدي خير الدين، لا زالت أقواله ناجحة، وسياسته صالحة، وتجارته في الخير رابحة، وفطنته الوقادة للغوامض شارحة، والألسن بالثناء عليها صادحة.

أما بعد السلام، المؤدي لحق المقام، فإنه وصلني من فضلكم وصداقتكم ما سبى فكري ولبي، زيادة على كمية حبي، وهو تأليفكم المسمى بأقوَم المسالك، في معرفة أحوال الممالك، فرأيته كالصبح في الدجى الحالك، يحذر السالك من مهاوي الغرور والمهالك، فزادك والله كمالًا على كمالك، أوضحت فيه من قواعد شريعتنا المحمدية الصالحة لكل زمان، بما فيها من اعتبار المصالح والاستحسان، ما يروي الظمآن بأبلغ بيان، حتى اتضح سرها للعيان. وبينت أسباب التقدم في المعارف التي أساسها العمران، الذي جاءت به الشرائع والأديان، على أعذب أسلوب، جاذب للقلوب، وقمت فيه بشهادة الله مقام علماء الدين، والأئمة المهتدين، بنقل ما حررته عن أولئك المجتهدين، فكان كتابك في ذلك كسراج المهتدين، ولكل وقت سراجه، ولكل مطلوب منهاجه، ولكل داءٍ علاجه، ولو رآه شيخنا الذي ملأ علمه النواحي، سيدي إبراهيم الرياحي، لأعاد التمثل فيه مصادفًا محز التنزيل، بقول الإمام ابن مالك في طالعة «التسهيل»، وإذا كانت العلوم منحًا إلهية ومواهب اختصاصية، فغير غريب أن يدخر للمتأخرين، ما عسر على كثير من المتقدمين، وإنك والحمد لله من هؤلاء المتأخرين الذين قال فيهم ما قال، ولكل علم رجال، ولكل مقام مقال، ولكل سابق مجال، حليت به حاضرة تونس، وصيرتها كاسمها تونس.

هذا ما أقوله في كتابك وفيك، والذي ملأ العصر يكفيك جزاك الله عن محبة وطنك وبلادك، منبت إسعادك، بما تجده يوم معادك، وكثر في الأمة الإسلامية من أفرادك، والسلام عليكم ورحمة الله من العارف بقدركم، المبتهج بفخركم، أحمد بن أبي الضياف. كتبه في السادس والعشرين من ذي الحجة الحرام متمم سنة ۱۲۸٤.

ومنها ما لتاليه فيها بَلُّ المصلى، وواشي برودها والمحلى، الآتي من أغراضها بالصواب، ومن فنونها باللذيذ المستطاب، منور أحلاك ظلامه الداجي، أبي عبد الله الشيخ سيدي محمد الباجي، رئيس الكتبة بوزارة العمالهْ، سدد الله بِمَنِّهِ أحوالهْ، ونصه:

بسم الله، ما شاء الله، لا قوة إلَّا بالله

وأخلاق خير الدين إن شئت مدحهْ
وإن لم أشأ تُملي عليَّ فأكتبُ

سيدي إنسان المعارف ورجل السياسة، ومن قدمته كمالاته في ميادين الرئاسة، المدافع ببراعة يراعه عن حوزتي الغيرة والحماسة، فتح الله تعالى أصداف آذان القلوب لاقتناء دُرَرِك المصونهْ، الناظمة عقودها أبكار الكلام وعونهْ.

وَصَلَ عبدَ أياديكم، وأقدم مريديكم، ما تشرف به من تأليفكم الطائر الصيت، المحيي مضمونُه كلَّ قلب مريض وميت، المسمى بأقوَم المسالك، في معرفة أحوال الممالك، فكحلت بإثمده أجفاني، وملأت بالمسرة به رحابي وجِفاني، وحمدت الله تعالى على جميل اعتنائه بهذا العالم الإنساني، ووددت والله لو طالعه لسان الدين ووليُّه، وعُرض عليهما وسَمِيُّه ووليُّه، ليقلدا نحره بما لديهما من نفائس الجواهر، ويعلما ما في زوايا العصور من ذخائر المفاخر، ومصداق قول الشاعر؛ كم ترك الأول للآخر.

فلئن سبقتم بالتأليف في إحياء علوم الدين، فقد فزتم بإحياء علوم الدارين، أو أحوال العمران والمعمور، فقد مننتم بجمع ما تقدم وما تأخر في العصور، ونبهتم من الهمم ما لو نبه به الجماد، لاستفاد وأفاد، أو خُوطب به الصم البكم، لأذعنت للحق وانقادت للحكم، فليت الكواكب تدنو لي فأنظمها في تقريظه عقودا، أو الكواعب ترنو لي فتعيرني سحر ألحاظها ودر ألفاظها فأصوغها لهامته إكليلًا معقودا. وأقول بعد تأكيد اليمين، لقد أخذت راية الإحسان باليمين، وحُقَّ لك أن تلقَّب بخير الدنيا والدين، جريًا على سنن الأمم السالفين، في زيادة الألقاب عند زيادة تبريز السابقين، وأن تفتخر بجلالكم الحضرة والإيالهْ، على كل مَن هزَّ في مثل غرضكم يراعه وعساله، وأوقد فكره وأذكى ذُبَاله. فهنيئًا بما أوتيتم من كمالٍ قَصَّر عن بعضه الأنداد والأضداد، وجميلِ خلال تُلعثم لسان اليراع في سواد المداد، وجزيتم على ما أبديتم للعيان من وجوه النصيحهْ، بالأدلة الشرعية والبراهين العقلية الصحيحهْ، جزاءً لا ينفد مَدده، ولا تنقضي مُدده، حتى يبقى جميل ذكركم في الأقطار والممالك، أوضح من شمس النهار وأشهر من أقوَم المسالك. والسلام العاطر البدء والختام من خامد الفكر خامل الذكر مُعَظِّم قدرَكم المحب محمد الباجي المسعودي ستر الله تقصيره المستفيض، ولا أخجله حين تزدحم بأبوابكم جواهر الثناء في عقود التقريظ. وكتب في السابع والعشرين من ذي الحجة الحرام سنة ۱۲۸٤.

ومنها ما للعلامة الدرَّاكهْ، من قدم الفضلاء في حل المشكلات إداركه، الفائق أقرانه بلا ريب، المنزهة فُهومُه من كل وصمة وعيب، الفذُّ الذي ليس له نظير، المحقق النقادة البصير، الشيخ سيدي أحمد كريم أحد المفتين، من المشائخ الحنفية المرضيين، ونصه:

الحمد لله الذي علَّم بالقلم، علَّم الإنسان ما لم يعلم، علمه البيان، وفتح له أبواب التبيان، وهداه بالعقل السديد والكتاب المجيد، إلى طريق الرشاد، ومعرفة حكمة هذا الإيجاد، المبني على أساس العدل والإحسان، المقتضيين لتمام التمدن والعمران، على الوجه المحكم، والطريق الأقوَم الأسلم. وبعد؛ فإنه لما وافاني كتاب «أقوَم المسالك، في معرفة أحوال الممالك»، تأليف العالم العلامة النحرير، الجامع بين أسرار التنزيل وتحبير التحرير، أمير الأمراءِ السيد خير الدين لا زال منبعًا للعلوم والمفاخر، ومفخرًا للأوائل والأواخر، أجلت فيه نظري، وصرفت فيه بعضًا من عمري، وتدبرت في معانيه، وفي مقاصده ومبانيه، فإذا هو كتاب جزل، وكلام فصل، وما هو بالهزل، حيث كان أساسه الحض على العدل الذي من نتائجه ما صرح به صاحب الكتاب، ولهجت به أولو المعارف والألباب، ودون إحصائها تكل الأقدام، ويضيق عن حصرها واسع الكلام، مع ما تضمنه من ضبط أحوال الممالك، وبيان أسباب التقدم للسالك، وتأخر من هو في المهالك هالك، بلفظ وجيز، وتحرير عزيز، وأسلوب لم يسبق إليه، ومنوال لم ينسج ناسج عليه، فبأسلوبه العجيب، يحرك ساكن الماهر اللبيب، حين يضرب أخماسه في أسداسه، ويرى بيد الغير ثمار غراسه، ثم يقول يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم عرض لي عارض الشك والريب، لقولهم: ما سلمت مليحة من عيب، وقولهم: من ألَّف، فقد استُهدِف، فأعدتُ النظر فيه عدة مرار، وشحذت له صوارم الأفكار، فلم أجد فيما بيدي منه شائبة اعتراض، ورجع الفكر وهو عن جميع مقاصده راض.

وهبني قلت: هذا الصبح ليل!
أيعمى العالمون عن الضياء؟!

وجدير بمن يروم المراء فيه والجدال، أن يصغي إلى ما إليه يقال.

وقال السها للشمس: أنت خفية
وقال الدجى يا صبح: لونك حائل

بل الواجب في ذلك التسليم، وفوق كل ذي علم عليم، غير أن الهمة الأبية، حركتها سواجع ألحان هاتيك الطريقة المرضية، لتدفع عنها اعتراض التفريط، الذي هو سبب البلاء المحيط، مع علم كل عالم، بأنَّ تارك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر آثم. لكن قد قال إمامنا أبو حنيفة رضي الله عنه ووراءَ لم أسد جاثم. والسلام من كاتبه فقير ربه أحمد كريم المفتي الحنفي لطف الله به آمين. وكتب في الحادي عشر من المحرم الحرام سنة ۱۲۸٥.

ومنها ما للفاضل النحرير، ومن ليس له في أقرانه نظير، نخبة أولي الفضل الأماجد، ومن أقر بنبله الأقارب والأباعد، مفترع أبكار العلوم على اختلاف أنواعها، والضارب بسهمٍ مع كل شيعة من أشياعها، سيبويه زمانه فأين ابن الحاجب، الشيخ أبي النجاة سيدي سالم بو حاجب، وهو من الطبقة العليا من مدرسي المالكيهْ، بجامع الزيتونة أبقى الله مهجته الزكيه، ونصه:

الحمد لله وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وسلَّم. أما بعد إهداءِ لائق التحية، برفعة سدة السيادة الخيرية الدينية، صانها الله، فقد اطلعت — لا زال الله يطلعنا بكم على كل مأثرة تفوق الحدس، ومصلحة تعم سائر الجنس — على ما نجز طبعه من كتاب «أقوَم المسالك، في معرفة أحوال الممالك»، فشاهدت منه وإن لم أكن من فرسان مجاله، أساسًا سياسيًّا لم تسمح قريحة بمثاله، بيد أنه لم يسبق إلى التأليف في غرضه أحد من علماء الإسلام، ولا استودعت لطائف مقاصده بشيء من صحائف الأعلام. فكل من يتصفحه بعين الإنصاف، لا يشك في أنه ينبوع نصح صافٍ، نبع للأمة الإسلامية عند اشتداد ظمئها لمثله، واحتياجها لتقوم أودها باتباع قوله، فبمثله تخصب مراعيها، وتنجح في هذا الزمان مساعيها، وأي شيء أنجح لها من استحصال السعادة الدنيويهْ، بأعمال شريعتها الكافل بسعادتها الأخرويهْ، فيا له من مجموع أبدع فيه جامعه، حتى تاه في بيداء حسنه مطالعه، فتارة يشبهه بسياجٍ حافظ لحقوق الأمة، وأخرى بسراجٍ يضيء حنادس السياسة المدلهمة، وتارة بمنهل سهل سبيله، منساب من مجاري الغيرة والعرفان سلسبيله، وتارة ببدر يزيح ظلمات المظالم، معوذة أشعته من حيلولة الغمائم، وتارة بمرآة تبدو بها تماثيل العواقب، مجلوَّة بأدلة العقل والتجارب، وتارة بطبيب عارف بأمراض الدول، خبير بجبر ما يعرض لها من التوهين والخلل، ومن فوائده التي بمثلها يتفاخر، تعريف كل منَّا والأجنبي بحال الآخر، إذ لولا معرفتنا بحاله، ما أمكن الاستعداد لنزاله، والنسج في تحصيل أسباب المقاومة على منواله.

ولولا معرفته بحالنا، وأن شريعتنا لائقة بسائر أجيالنا، ما أمكن رجوعه إلى تصويب أحكامنا، بعد أن كان يعدها من سفه أحلامنا. وبالجملة فنتائج الكتاب لا تحصى، ومصالحه العائدة على أمة الإسلام لا تستقصى، كيف لا ومصدره فؤاد مشحون بحب الوطن، مقرون بالنصح كل ما ظهر منه وبطن! جدير بأن ينشد صاحبه، وإن نأى عن مواقف الافتخار جانبه.

يكدر صفو عيشي هون قومي
ولو كان اعتزازي في ازديادِ
ولا أرضى بأن يَهمي بأرضي
سحاب لا يطوف على بلادِ

إلى غير ذلك مما لا يسعه نطاق المقال، من سجايا المجد وصفات الكمال. كتبه عبد ودِّكم سالم بو حاجب في ۱٤ المحرم سنة ۱۲۸٥.

ومنها ما للنجيب الأريب، والنسيب الحسيب، سلالة الأخيار، مَن علا صيتهم في الأكوان وطار، فمزيتهم على الديار التونسية لا تنكر، بل هي من النار على علم أشهر، البيارمة المستشهد بكلام أولهم في مقدمة هذا الكتاب، ومَن يرجى أن يكون هذا الفاضل المترجم خامسهم في الحساب، ألا وهو الماجد الأكمل، أبو عبد الله الشيخ سيدي محمد بيرم ابن الأفضل فالأفضل إلى الأول، وهو من مدرسي الحنفية بثاني طبقة، أبقى الله صحائف ثنائه أريجة عبقة، ونصه:

الحمد لله وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وسلَّم. اللهم إنا نحمدك أن أشرقت في هاته الأمة شموس المعارف والعلوم، وأرشدت أفكار أهلها بتأييدك لاقتطاف ثمار الفهوم، فكانت قدوة لسائر الأمم في التقدم بها يقتدون، وعلى منوال عدلها ينسجون، كيف لا ومُحكم أساسها الحكيم البصير، ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير؟! ونصلِّي ونسلِّم على طلعة الشرف الأعظم، الباثِّ للشريعة بالميزان الأقوَم، حتى غدت إكليل نور ساطع على جباه الدهور، وإن اختلفت المعالم لاختلاف العوائد على حسب الاقتضاء والميسور، محمد هادي الأنام، وعلى آله وأصحابه الكرام، القائمين في تهذيب الأمة على أعدل صراط مستقيم، الباذلين وسعهم في حمل الخلائق على سعادتهم بامتثال القرآن الكريم.

أما بعد؛ فإني أهدي من عطر السلام والتحية، أضوع النفحات الزهرية، وأرفع التعظيمات الذَّاتية، وأخلص التقربات الوِدَاديَّة، إلى حضرة فخر هذا القرن، الأبية شمائلُه أن يُلفى له في ميادين الكمال قِرن، الناصح الأمين، أمير الأمراء سيدي خير الدين، لا زالت أيادي أفكاره تطوق العقول بقلائد الإفادة، وجواهر عقوله تفيض على البرايا مبتكرات النصائح في حلل الإجادة، وأعلمه لا زال عالي العلوم، مشيدًا من القواعد السياسية مندرس الرسوم، إنه قد وصل ما أنجزه الطبع، وجذبه لي مغناطيس الاكتساب والطبع، من كتاب «أقوَم المسالك، في معرفة أحوال الممالك»، ونور إنصافه يسطر عليه عنوان الحُلل السندسية، المكسوة بها لباس الفخر الأقاليم التونسية، فأجلتُ النظر في كنوزه الفاخرة، وتقاريره الساحرة، وروقت الطرف في رياضه، وكرعت من نهل حِياضه، ودرجت الفكر في شامخ حصونه، وتنورت بما بدا لي من إفادات مكنونه، فإذا هو للملة الإسلامية الضالة المنشودة، والذخيرة المفقودة، والظِّلال الممدودة، والنعم المحدودة، والحِياض المورودة، والعزائم المشدودة، والمآثر المعدودة، والكعبة المقصودة، والآراء المنضودة. كيف لا وقد حض على ما أمر الله به، وحثَّ على ما يجب التمسك بسببه، وأنهض عزائم علماء الإسلام، لنشر ما أودعوه في صدورهم من العلوم والأحكام، مع علمهم أن لا مساغ لكتمانها عند ذوي الأحلام، والرسول يقول مَن كتم علمًا ألجمه الله من النار بلجام! وبيَّن الهيع الذي به تحصل الاستقامة، وأوضح المنهج المسلوك لطرق السلامة، مِن ترك التضييق المفضي إلى المفسدة التي هي ضد المقصود من الشريعة، وإعمال الجهد في استخراج أحكام المصالح من أسرارها البديعة، بما لا يقال فيه ابتداع، خارج عن حكم الإجماع وإنما هو تطبيق للكائنات على كلياتها، واستحصال للمصالح التي هي أعظم مهماتها، فلو رأته العلماءُ الحنفية، لأعلنوا أن لا مقصد لهم سوى ذلك بالحيل الشرعية، ودليل ذلك ما بينوه في إساغة البيوع الوفائية، وعضدتهم على ذلك معاشر المالكية، وقال ترجمانهم الشاطبي هذا الذي عنيته، من استصحاب المصالح المرسلة وفي موافقاتي طويته، إذ الشريعة لا محالة باقية، ولأصولها واقية.

وقد جرت عادة الله في عباده، باختلاف عوائدهم ومنافعهم على حسب مشيئته ومراده، فلزم أن تكون أحكام كل جيل على قدر استعداده، وهي الحكمة البالغة في نسخ الشرائع، وبقاء خاتمتها لاشتمالها على كل حكم على ممر الدهور شائع.

إن التي جمعت كمال مصالح الد
ارين ويك شريعة العدنان
ما شذَّ عنها حُكم حال يعتري
جيلًا ولا حينًا من الأحيان
فكأن كل شريعة من قبلها
في صلبها صنو من الصنوان
يشبهن حال فروعها من بعد في
تبع لعادات وحكم زمان
فالنسخ في هاتيك كالعمل الذي
فيها مع الحالات ذو دوران

أو لو طلع به البشير على ابن قيم الجوزية، لأعلن بالشكر على بلوغ الأمنية، وقال فما وراءَ هذا من سياسات شرعية. أو لو رآه ابن خلدون، لأقر بقصور نظره عما شاهده من حال العصائب وإن كان وراء ذلك ما هم عنه غافلون، من اكتساب العلوم والفنون، ولزمه أن يعلن بيا أيها الناس هذه السياسة التي عليها تعولون، لأن ما اعتبرته وإن كان ركنًا عظيما، واغتنامه غنمًا كريما، غير أن منافعه قاصرة على ذوي المُلك وأتباعه، لا يفيد معرفة اكتساب خير الأمة على العموم وما تتراجع به لعز نخوتها وارتفاعه، سيما مع خروج الأمر من جنس إلى جنس، وتطاول ذي اليد بما يتمنى معه مضاجعة الرمس، مع الجهل بلغاته وعوائده، الموجب للنفرة والتباعد ولو عن فوائده، فمن أين لي بالإفصاح عن هاته المنافع؟ أو كيف لي أن أدعي فيها بالمقارع؟ أو كيف أطيق ملاجة الأجانب، بإلزام الدخول تحت ما لنا من الحكم الصائب، ودفع احتجاجاتهم عن ذلك بما تذعن لأدلته ذوو المناقب؟

أو لو اطلع عليه الطرطوشي بعد إنجاز سياسات ملوكه، لخجل من دبيبه بهذا النهج وسلوكه؛ إذ قصاراه الإعلام بما يلزم الملك من الفخامة، وبعض حكم ترشده إلى الاستقامة، بيد أنه يتهلل وجهه سرورا، وينال حظًّا موفورا، بموافقته في الإرشاد، إلى ما يجب علمه لأبناء الملوك والوزراء من العلوم التي عليها الاعتماد. أو لو أساغ الاطلاع عليه الإمكان إلى الإمبراطور شارلمان، فاتح باب التمدن بتلك الممالك والأوطان، لاتخذه هِجِّيراه في صباحه ومسائه، وكفاه حمل عبءِ تلك الجماعات وعنائه.

وعلى الجملة فقد أعجزني وصفه وإن أطنبتُ مقالي، وما عسى أن يقال في الجواهر واللآلي! وأوقعني في حيرة أوجبت لي العجز عن تعداد نعمه، وبأي فائدة أبتدئ من مناقب كرمه؟ أبفتح بصائر أهل الإسلام، بعلم الأسباب الباعثة على تقلب العز في الأنام، أم بإنهاض حمية أهل السياسة والعلماء لاقتناص شوارد النعمى، وإرجاع سطوة الملة العظمى، أم بنشر فضائل هذا الدين العظيم، لدى الأمم الأوروبوية التائهة في مجال التمدن المدعية لها وجوب التقديم، حتى تخضع لحكمه وحسن نظم العدل في إراداته، وتندفع أوهام الأمم الشاسعة عن الإذعان لكمالاته، إلى غير ذلك مما لا أطيق إحصاءَه، وأرجو من الله إنجازه وإبقاءَه. فلعمري إنها لحيرة توجب التعجيز، ولا يفي ببيانها البليغ بمقاله المطنب فضلًا عن الوجيز.

والذي أراه الآن واجبا، ومن نحاه كان صائبا، أن أشكر أياديك بقدر الاستطاعهْ، وأعترف أنك من ما صدقات قول الصادق البالغ النهاية في الإشاعة: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق إلى قيام الساعة»، لا غرو وأنت المتحلي بكمال الدراية في مهمات المسالك، فرحم الله الإمام النقَّادة ابن مالك، حيث يقول في طالعه تسهيله، إعلامًا بما للقادر المختار من العناية بتكريم العبد وتفضيله: وإذا كانت العلوم منحًا إلهية، ومواهب اختصاصية، فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين، ما عسر على كثير من المتقدمين.

فنرجو الله أن يبقيك ذخرًا
فما لك في البرية من نظير

كتبه المحب الداعي، المعظِّم لقدركم المراعي، محمد بيرم في ۱٤ المحرم الحرام سنة ۱۲۸٥.

ومنها ما لنخبة أولي النهى والألباب، المكتسي من حُلل الشرف والعلم بأبهى جلباب، ذي الهمة العليا، والنفس الأبية الراغبة في العليا، الكاهية بالمجلس البلدي، ومن لآرائه يرجع المعاند وبها يقتدي، أبي عبد الله سيدي محمد العربي زَرُّوق، لا زالت نفسه إلى المعالي تتوق، ونصه:

الحمد لله وصلَّى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وسلم فخر الوزراء النقَّاد، وعمدة الساعين إلى سُبل السداد، محرز أدوات السيادة، والجاري إلى الغايات في ميادين المجادة، الهمام المفخم أمير الأمراء سيد خير الدين أدام الله مجده، ووالى عليه نعمه ورفده، آمين. أما بعد؛ فقد بلغنا تأليفكم الموسوم بأقوَم المسالك، في معرفة أحوال الممالك، وتصفحنا ما تضمنه من الأبواب، الحاملة لمن اطلع عليها على غاية الاستحسان والإعجاب، فإنه قد حوى من تفاصيل أحوال الدول، وأنباءِ ما حصل للمشاهد منها الآن وما كانت عليه الأُوَل، ما تقر به عين الحريص على التمسك بأسباب العمران، وتنبعث به الهمم على سلوك الطرق الموصلة إليه دون توان، على وجه لا يأباه الشرع العزيز بل يقتضيه، ويرغب في استجلابه ويحض عليه. وبالجملة فإنه كتاب يتغالى في اقتنائه المحب للوطن، ويقع من النفوس الأبية الموقع الحسن، ويشهد لمؤلفه بأنه ممَّن سلك طرق الإجادة، وبالغ لأهل وطنه في النصح والإفادة، والله جل جلاله الكفيل بمكافأته، والمتولي رعيَه بعين عنايته في جميع حالاته. والسلام من معظِّم قدركم محمد العربي زرُّوق. وكتب في المحرم الحرام سنة ۱۲۸٥.

ومنها ما لخلاصة أهل الفضل، وصدر ذوي الوجاهة والنبل، العالم الأديب، مَن لا يخالف في كماله لبيب، كيف لا وهو الآخذ من كل فنٍّ أوفر نصيب، مع صدق وثبات تضمنهما اسمه، فتطابق الموسوم ووسمه، الشيخ أبو عبد الله سيد محمد الصادق ثابت، أفحم الله به كل عدوٍّ كابت، ونصه:

الحمد لله وصلَّى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وسلم ركن المفاخر دون نزاع، وطود السياسة الآتي من فنونها بعجيب الاختراع، الجامع لما افترق من أشتات المعارف، والرافل من حلل السيادة في أجمل المطارف، الهمام المفخم أمير الأمراء سيدي خير الدين أدام الله إجلاله، وحرس بعين عنايته كماله، آمين. أما بعد؛ إهداء سلام يحمله قرطاس الاحترام، وتؤديه نائبة عن المشافهة ألسنة الأقلام، فقد وفانا تأليفكم المسمى بأقوَم المسالك، في معرفة أحوال الممالك، وأجلنا الأفكار في اقتناء فوائده، فراقنا ما احتوى عليه من عقود در السياسة المعجب للنفوس بفرائده، ورأيناه الكفيل باستجماع شتاتها، والموصل لطالبها بما تضمنه إلى غاياتها، والباعث لمحب الوطن على ما به ينمو عمرانه، وتبدو به في جميع ساحاته مورقة أفنانه، على طريق لا ينافي الشرع العزيز، ولا يخرج عن خالص ذهبه الإبريز، فلله در مؤلفه البارع المجيد، المحرِّض لأبناء وطنه على استعمال كل سبب مفيد، والباذل لهم من النصح ما يستحق عليه جميل الثناء، ويصلون بالتعلق به بحول الله تعالى إلى غاية المنى، والله سبحانه ولي مكافأته على ما بذل من جهده، ومبلغه من الانتفاع به تمام قصده. والسلام من معظِّم قدركم محمد الصادق ثابت عفا الله عنه آمين. وكتب في المحرم الحرام سنة ۱۲۸٥.

ومنها ما للأديب الذي هو على الخير ناشي، وفي رضا الله ومحبته لا يحاشي، فرع النبعة الحسينية، ذات الأخلاق المرضية الزكية، من يؤمَّل ببركتهم كل خير، ويرجى بوجودهم كشف كل ضير، أبي العباس سيدي أحمد زرُّوق ابن المتقدم لا زال في مدارج الخير يترقى، ومن ساحات السوء يتوقى. ونصه:

الحمد لله وصلَّى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وسلم الطود الكبير، والفاضل الشهير، عمدة أهل السياسة، وحاوي قصبات السبق في ميدان الرئاسة، الهمام المفخَّم أمير الأمراء سيدي خير الدين حرس الله كماله، ووالى عليه نِعمه وأفضاله، آمين. أما بعد؛ إهداء سلام محمول على كاهل المبرة، منوط بالبشر والمسرة، فقد اتصل بنا تأليفكم المعنون بأقوَم المسالك، في معرفة أحوال الممالك، وسرحنا الأفكار في رياض سطوره، فارتاحت لما تضمنه غريب مسطوره، ورأته الغاية في بابه، الموصل إلى تمام التمدن لمَن أراد العمل بأسبابه، قد حوى على إيجاز الكثير من مهماته، وأبرزها في قالب يعين على الاحتواء عليه من جميع جهاته، مبينًا ما حضَّ الشرع العزيز على طلابه، وما حذر منه وأمر باجتنابه، فالأول لجلب المصالح الفخيمة، والثاني للكف عن الوقوع في المفاسد الوخيمة، فمَن أمعن النظر في أصوله، وتصفح ما تكفل بشرحها في خلال فصوله، شهد لمؤلفه بامتداد الباع، وسعة الاطلاع، وبأنه قد بالغ في إتقانه وتهذيبه، وأجاد في ترتيبه وتبويبه، وإن كان هذا منه رعاه الله غير مجهول، فإنه ممن حصل له على مراتب السياسة الحصول، والله سبحانه يجازيه على صنيعه الجميل، ويوالي عليه نعمه في كل غداة وأصيل، والسلام من مقبِّل أيديكم ابنكم أحمد. وكتب في المحرم الحرام سنة ۱۲۸٥.

ومنها ما لمن غذي بلُبان الذكاء والأدب، وحاز من السبق في ميادين السياسة القصب، القاطف من رياض المعارف ما فيه النفع وعليه الاعتماد، أبي راشد الشيخ سيدي يونس العروسي بن عياد. ونصه:

الحمد لله وصلَّى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وسلم، أما بعد؛ فقد ظفرت بنسخة مما نجز طبعه من تأليف جناب الهمام المفخم أمير الأمراء سيدي خير الدين المسمى بأقوَم المسالك في معرفة أحوال الممالك، وقد كنت سمعت لما شرع في طبعه أنه تأليف مفيد وموضوعه إغراء ذوي الغيرة والحزم من رجال السياسة والعلم … إلخ، كما ذكر المؤلف نفسه، ومن ذلك الوقت صرت متشوفًا للاطلاع عليه حتى حصلت على النسخة المذكورة، فبادرت بالتأمل فيها مبادرة المشتاق لسماع ما فيه من حسن سير ونظام صدر الإسلام. وبعدما تأملت في جميع ما احتوى عليه من المطالب والفصول ناسب أن نذكر ما فيه من الفوائد؛ حيث شرح صدري وبيَّن فيه أسباب تأخرنا في جميع المعارف، كما تعرض لجميع الأسباب التي قدمت غيرنا، وعمت المعارف بها عندهم، فيظهر للعبد الحقير أنه اشتمل على فوائد ثلاث؛ الفائدة الأولى: في بيان أصل الإدارة التي هي أساس العمران بأدلة واضحة يقتضيها الوقت والحال، ولم ينكرها إلَّا المتجاهل. الفائدة الثانية: في بيان ما كُنَّا عليه من الشوكة والانتظام والتمدن والعمران وما نحن عليه اليوم، فعسى أن تنهض همتنا حتى نقتدي بسير الأولين في أخذ أسباب العمران واسترجاع ما أُخذ من أيدينا. الفائدة الثالثة: وهو الكتاب الأول حيث أدرج فيه أخبار الدول الأوروباوية، وبيَّن ما هم عليه الآن من الشوكة والعمران بسبب التنظيم الملكي الذي هو أساس ذلك؛ حتى يظهر لنا بالعيان والبيان أن التنظيم الملكي يعمر ما كان قَفرًا والإهمال يجحف بالعمران. وإذا تأملت في مواقع ممالكنا وممالكهم في الكرة علمت أن أرضنا خصبة بالخليقة وأرضهم صماءُ وأخصبت بالجهد والعمل بعدما كانت قفرًا وقت عنفوان صدر الإسلام. ولما جاء هذا التأليف بالفوائد المناسبة للوقت والحال ويرجى منه عموم نفعه وجب علينا أن نعترف بالجميل لمؤلفه؛ حيث بذل فيه الجهد والفكر وهو أحسن ما ألِّف في السياسة بكلام وجيز يؤثر في الإنسان. ولا شكَّ أن إخواننا المسلمين سيما العلماء والعارفين بأحوال السياسة سيقع عندهم موقع الاستحسان، وما أصدق قول المؤلف في الخطبة سيما قوله: «لا يتهيأ لنا أن نميز ما يليق بنا على قاعدة محكمة البنا إلَّا بمعرفة أحوال مَن ليس من حزبنا، لا سيما من حفَّ بنا وحلَّ بقربنا.» وقوله: «أفيحسن من أساة الأمة الجهل بأمراضها.» ثم ما في المقدمة جميعًا، وإن شاء الله سيحصل به ما قصد في الحال أو المثال. وجزى الله عبدًا أبدى النصيحة لإخوانه وصرَّح بها بالكتابة والفعل، وإن ما ذكرناه من الاستحسان خالص من شائبة المبالغة عندي، والله شهيد على إنْ هو إلَّا ذكرُ ما وجدته في نفسي، ومنتهى أملنا أن يصلح الله خللنا وينور قلوبنا باتباع أسباب العمران. آمين. وكتبه المحب المخلص العروسي بن عياد في غرة المحرم الحرام سنة ۱۲۸٥.

ومنها ما حرره النحرير اللوذعي، الجهبذ اليلمعي، المحرز في ميادين البراعهْ، قصبات سبق منها اشتق يراعه، الفقيه النعماني، والأصولي البياني، مجمع حديث التهذيب قديم العرفان، أبو النخبة الشيخ سيدي مصطفى رضوان، أحد المدرسين بجامع الزيتونهْ، لا زال أمثاله ببث فنون المعارف يعمرونهْ. ونصه:

الحمد لله وصلَّى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلم حيَّا الله الجناب الذي محض للأمة الإسلامية النصيحهْ، ودافع عن حوزتها بالحجج القاطعة والبراهين الصحيحهْ، وأزال عنها الشبه بالأقوال المعتمدة والنصوص الصريحهْ، ونهج لها سياسة هي من تبعة الله وتبعة العباد مريحهْ، وأرشدها لجمع الآراء لتكون في عِداد الجموع الصحيحهْ، وتاجر الله بهذا الصنع لتكون له التجارة الربيحهْ، جناب الهمام المفخم العمدة المكين، عين إنسان الكمال وإنسان العين، أمير الأمراء سيدي خير الدين، لا زال آخذًا راية الإحسان باليمين، طائر الصيت مع الطير الميامين. أما بعد؛ فقد وصلَتني — واصل الله أسباب نجاحك، وأسمع القلوب داعي فلاحك — الشذرةُ التي نجز طبعها من كتاب «أقوَم المسالك، في معرفة أحوال الممالك»، الذي خاطركم المصيب أبو عذرهْ، ومطلع هلاله وبدره، فأردت أن يصدقكم مقالي فيه سن بكره، ويؤدي لكم عني واجب شكره، وما أنا ممن يلز مع البزل في قرن، أو يضرب من الإجادة بعطن، لولا مكافأة المنن التي قلدتها لسائر أبناء الوطن، فتربصت ريثما تفتق عن الزهر كمائمه، ثم وقفت به وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه، أغوص على مكنونه، وأستنبط معينه من عيونه، وأستثير مخبآته من غضونه، وأقتطف داني قطوفه من غصونه.

تكاثرت الظباء على زياد
فما يدري زياد ما يصيد

فلله أنت في إيراده وإصداره، وعبره واعتباره! فقد عبرت ديوان العبر، ونسخت منه حكم المبتدأ والخبر، اعتبارًا بتبدل العصور، ونعيًا على تلك السياسة بالقصور.

فكان وقد أفاد بك الأماني
كمن أهدى الشفاء إلى العليل

ثم إنا إذا أعدنا فيه النظر، وجدناه باكورة فنٍّ مبتكر، عزيزًا منحاه، على قطب المصالح تدور رحاه، إذ هو وإن اختلفت أصوله، وتنوعت أجناسه وفصوله، يرجع إلى أصلين؛ حفظ العدل بسياج الاحتساب والمشورهْ، وتخريج الأحكام السياسية على قاعدتي جلب المصلحة ودفع الضرورهْ، بتنزيل رجال ينظرون بعينين، ويلاحظون في آنٍ واحد مصلحتي الدنيا والدين، ولعمري إن هذا لمنزعٌ غريب، وحق ما فيه ريب، إذ كان هذا المقدار، مما يشهد له الشرع بالاعتبار، وقواعده المدونة هي المحور لهذا المدار، نعم إن تحقُّق المناط هو معترك الأنظار، ولقد كشفت عنه اللبس بما هو أجلى من الشمس في رابعة النهار، وخليق لهذا الموضوع أن يكون علمًا مدونا، وباسمكم معنونا، تأصل أصوله وتستخرج فروعه، حتى تتحقق غايته ويعرف موضوعه، ويكون دستور العمل، في سياسة الدول، فشأن العلوم أن تكمل بتلاحق الأفكار، وتعاقب الأنظار، وتعاهد غرسها إلى زمن الإثمار.

كانوا إذا غرسوا سقوا وإذا بنوا
لم يهدموا لبنائهم أُسسا

ولنعد لذكر الكتاب، ونشر حديثه المستطاب، فنقول: إنه عملُ مَن طب لمن حب، ووضع للهناء موضع النقب. هذا مجمل القول فيه، ورضا كرام العشيرة يكفيه، حيث إجازته الملوك الكرام، ونسجت على منواله السلاطين العِظام، وقرظته حَمَلَةُ السيوف والأقلام، وشهدت بصحة براهينه حوادث الأيام.

وليس يصح في الأذهان شيء
متى احتاج النهار إلى دليل

وحيث عقلنا من المؤلف قوله، وعرفنا ما يدندن حوله، يسرنا أن يتمثَّل مجيبا، لمن تشكك من أهل أوروبا، بما قيل.

وأعلنت نصحي بين قومي ولم أقل
ألا ليت قومي يفقهون حديثي

ليعلموا أن النور الذي اقتبسوا منه، والجنس الذي أخذوا عنه، لم ينطفِ مصباحه، ولا نسخ بالظلام صباحه، وستندمل بلطف الله جراحه، وتهب بعد السكون رياحه، والله يحقق الأمل، ويصلح القول والعمل، وهو المسئول أن ينجح مساعيكم ويوفر في الخير دواعيكم، والسلام ممن نبه قصوره على قدره، وأخلص لكم في سرِّه وجهره، مصطفى رضوان. وكتب في صفر الخير سنة ۱۲۸٥.

ومنها ما نفث به قلم الفاضل العمدهْ، ومن أعلنت المروءة بأن لا عطر لها بعده، إذ لا أرسخ على صراط العلوم من قدم ملكته، ولا أثبت على حروف التورع من سكونه وحركته، مع صفاء سريره، وحسن عهد وسيره، حتى استوى في مودته القاصي والداني، فلا يذكر في نَدِيٍّ إلا وكل لعِنان الثناء إليه ثاني، ألا وهو الشيخ المدرس أبو العباس سيدي أحمد الورتتاني حرس الله مجده، ونفعنا بما أودع عنده، ونصه:

الحمد لله الذي جعل العلوم مناهل مورودهْ، يرِدُها عَللًا بعد نهل كلُّ ذي نفس زكية مودودهْ، وخص كل نوع منها بطائفة من الحملة معدودهْ، تُودِّيه لمن بعدها عن الطائفة المفقوده، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد صاحب الشريعة المحمودهْ، التي هي أم الشرائع بما حوته من عظيم منافع الدنيا والأخرى الآجلة والمنقودهْ، وعلى آله وأصحابه الذين شادوها ووقفوا عند حدودها المحدودهْ، صلاة وسلامًا دائمين نجدهما من الأعمال المقبولة لا المردودهْ.

وبعد؛ فإن من أجلِّ العلوم، لا سيما في هذا الوقت الصعب المذموم، علم السياسة الشرعيهْ، المنوط بقواعد الشريعة الزكية وأصولها المرعيهْ، وذلك لما آل إليه أمر هذا الزمان، من اختصاص شئون الحروب بالأفكار والأذهان، حتى إن ما يرى من مخترَع الآلات، إنما المقصد به إرهاب الضد فهو إذن ضرب من السياسات؛ فلذلك لا يُرى مستعملًا فيما وضع له إلَّا قليلا، بتقصير أحد الضدين في سياسته فيوجد على نفسه سبيلا، وإن مِن أحفل ما صنف فيه، ورمقه بعين الرضا الخامل والنبيه، كتاب «أقوَم المسالك، في معرفة أحوال الممالك»، تأليف جناب فخر الوزراء ذي الرأي الرصين، أمير الأمراء سيدي خير الدين، فإنه كتاب أبان فيه مؤلفه عن باعٍ في السياسة مديد، ورأي بذَّ به جمع الآراء وهو فريد، حيث نهج فيه لسياسة الوقت الصعبة طريقا، يأمن السالك به من المخاوف وإن لم يصحب رفيقا، وذلك بمراعاة حال الوقت من غير خروج عن حدود الشريعهْ، وما تقتضيه أصولها ولا تنافيه فروعها البديعهْ، وشرح فيه حال الأجنبي وما له من التراتيب والسير، التي أنتجت له السطوة المشاهدة والظفر، حتى إن الناظر فيه، المتأمل فيما يحويه، كأنه يشاهد على التفصيل حال الغير، بدون ضرب في الأرض ولا سير، كل ذلك ليتنبه مَن كان من أولي الأبصار بأحوال الوقت جاهلا، ويتبصر في الطرق التي بها على التدريج نبه مَن كان خاملا، عسى أن تجتمع للإسلام كلمته، فتعود إليه شوكته وسطوته، هذا إلى ما ضمنه من تعريف الأجانب بحال شريعتنا، المبرأة مما كانوا ينسبونه إليها من سوءِ سيرتنا، ولا شكَّ أن هذا الاعتقاد ما دام مركوزًا في أذهانهم، يحملهم على اهتضامها والمبالغة في صدِّ من يريد الدخول فيها من أهل أديانهم. وعلى الجملة فهو كتاب يحق لمؤلفه أن ينشد، من غير أن ينكر عليه منكر أو يجحد:

وإني وإن كُنتُ الأخير زمانُه
لآتٍ بما لم تستطعه الأوائل

فلقد تجافى فيه كل التجافي عن بنيات الطريق، وتلطف كل التلطف في التقصي عن كل حَزن ومضيق، فما رآه منصف إلَّا ارتضاه وأجازه، ووصفه بالرفل في حُلل الإجادة والوجازهْ؛ فلذا كانت كتائب التقاريظ تترى عليه عشيًّا وبكورا، تذيع من نشر الثناء عليه في الآفاق مسكًا وكافورا، والمأمول من كرم الله بصدق نية المؤلف، أن يجمع به شتيت آراء الإسلام على طريقة نافعة ويؤلف. هذا وكأني بمن يجهل أحوال الوقت وما يدريها، يقول: ما لنا وللبحث عن أحوال الأجانب والتداخل فيها؟! فهذا إن اطلع على ما في هذا الكتاب ورواه، حتى فهم ما تضمنه منطوقه وفحواه، فليس الكلام معه بعد ذلك صوابا، بل هو عند العقلاء مما يعد عذابا، وإن لم يطلع عليه، فجوابه المقنع المسدى إليه، قول أبي الطيب، للائم المؤنب:

لا يعرف الشوق إلَّا من يكابده
ولا الصبابة إلَّا مَن يعانيها

ثم إن الداعي لي أيها الشهم الهمام المفضال، مع أني لست من فرسان ولا رجال هذا المجال، إلى رَقْم هاته الأحرف القليلهْ، الصادرة عن فتور الهمة الكليلهْ، تكثير سواد الراغبين فيه ولو بمثل العبد الفقير، وإلَّا فلست ممن يعد في العير ولا في النفير، والله يبقيكم، ومن عامة الأسواء يقيكم. وكتبه عبد ودِّكم، الناهل من صافي وردكم، أحمد الورتتاني، بلغه الله من الخير الأماني في ۱ صفر الخير سنة ۱۲۸٥.

ومنها ما جادت به قريحة القدوة البارع، ومن بيده زمام الكتابة بلا منازع، مطلع شموس المعارف، وملمع بروق الأسرار واللطائف، ذي القلم البليغ، والفِكر الذي عن مهيع الحق لا يزيغ، المرتجي فضل ذي الجود والمنن، جناب الشيخ الأبر سيدي الحاج حموده بو سن، أحد أعيان كتبة الدولة التونسيهْ، لا زالت برعاية الله محميهْ، ونصه:

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسول الله، أيها الهمام الفاضل، والنحرير الكامل، ذو اللب القوي المتين، أمير الأمراء سيدي خير الدين، حرس الله كماله وأنمى إلى شرف البدر هلاله، آمين. أما بعد أشرف سلام، مؤد بالوفاء حقوق ذلك المقام، فإن تأليفكم البديع المسمى بأقوَم المسالك، في معرفة أحوال الممالك، قد ورد على ورود المحبوب على العاشق الولهان، أو الزلال العذب على كبد الظمآن، يعبق منه شذى الوداد، وحُسن الاعتقاد، فتمتعت بمنظره، وابتهجت بمعناه ومخبره، وتحققت أيها الفاضل أنك قد أطلعته في سماء المعارف نيرًا أعظما، كسفت به من التآليف بدورًا وأنجما، وسبقت به في الفضل أجيالًا وأمما، وخلدته لسالكي سُبل العمران منهلًا عذبًا وعلما، وأشرقت به آفاق الجهل الحوالك، وأوضحت به أحوال المُلك والممالك، وبينت به الطرق والمسالك، مرشدًا للمناجي ومحذِّرًا من المهالك، وفتحت به للنجاح والفلاح قلوبًا وأبصارا، وجعلت له من البراهين القطعية الشرعية والعقلية جنودًا وأنصارا، فلا يسع أحدًا من الخلق ردُّه وإنكاره، كيف وقد أسس على هذين القطبين ابتكاره، وكان في فلك العدل والعمران مركزه ومداره، وفي أفئدة ذوي الألباب وأرواحهم مسكنه وقراره، وحينئذٍ فمن كان من نوع بني آدم سالكًا هذا المنهج فهو في الدنيا في حصن منيع، وعيش رغد وغيث مريع، رائق في دنياه، محصل على غاية قصده منها ومناه، وأما حاله في أخراه، فهو تابع لسيرته وسريرته مع الله، وحسبنا سيدي في شكر هذه المكرمة لجنابكم الرفيع، أن نبتهل إلى الله سبحانه في أن يطيل حياتكم في عز منيع، وقدر شامخ رفيع، وأن يديم بفضله حلولكم في ودائعه التي لا تخيب ولا تضيع، آمين. وكتبه المخلص في حبكم، بشهادة قلبكم، الفقير إلى ربه الحاج حمودة بو سن في أوائل صفر الخير سنة ۱۲۸٥.

ومنها ما للماجد الأريب، الأنجب الأديب، سابي أبكار المعاني بسيوف أقلامه، وساحر الألباب بلطائف موجز كلامه، الفقيه النبيه، الخلاصة النزيه، ذي الرأي الأرشد، والصنع الأحمد، أبي العباس الشيخ سيدي أحمد الأصرم، لا زال بكل خير يجازى ويُكرم، ونصه:

الحمد لله وصلَّى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلم، المقام الذي سلك مسالك التحقيق، وشرح بآرائه السديدة غوامض أحوال الممالك بوجه طليق، وأزال عنها براقعها، وساس بنباهته سوابقها، ورصَّع سماءَ العدل بكواكب إنصافه، وأطلع بدر نصيحته في أفق هاته الأمة المشرَّفة ليجمع ما تبدد من مصالح العمران وأسبابه، لا زال بحول الله من الآمنين، الهمام المفخم أمير الأمراء سيدي خير الدين، بلَّغه الله ما يتمناه في الدارين، أما بعد؛ سلامٌ أَنْور من إجراء العدل على المظلوم، وأَسَرُّ من سرور الظافر بعد الأياس بما يروم، تعمكم نفحاته، ورحمة الله وبركاته. فقد وصلني كتابكم النفيس، بل نصائحكم المؤسسة على السياسة بأحسن تأسيس، المسمَّى بأقوَم المسالك في معرفة أحوال الممالك، فأجلت جواد فكري في ميدان سطوره، والْتقطت من بحوره نفائس منثوره، فوجدته محتويًا على علوم جمَّة، وتقارير معقولة ومنقولة مهمَّة، لو تُليت على الحيوانات لانقادت لبرهان تلك الآيات، ولقد صادفت في مرض هذا الزمان محل الألم، وحزت السبق فيما أبديته على ذوي الهمم، وفيه شرحتم أحوال الغير بأحسن تقرير، يعجز عن الاطلاع عليه الحاذق البصير، وتوجت هذا القطر بصنيعكم هذا بين الأمم، لا زالت بالثناء الجميل على رياض محاسنكم تهطل الديم، هذا ونرجو من الكريم الجواد، أن يجعل صلاح هاته الأمة بنصيحتكم في الازدياد، وربنا يبقيكم، ومن السوء يقيكم، ودمتم كما رمتم، والسلام من ابنكم أحمد بن محمد الأصرم عُفي عنه آمين. وكتب في ٥ صفر الخير سنة ۱۲۸٥.

ومنها ما شنف به الآذان، وأرشف من كئوسه الأذهان، حجة فضل القلم على السيف، والقاطع بالحجج دابر الانحراف والحيف، مَن عُرى عهده لا تحل، وفكاهة مجلسه لا تُمَل، كيف لا وله في رياض الأدب المنهل العذيبي، جناب أبي الحسن الشيخ سيدي علي الطويبي قاضي جبل المنار وإمامه، لا زال مفاض فضل الله وإنعامه، ونصه:

الحمد لله المتفضل على جميع العباد، بما شاء وأراد، وما هو نافع لهم يوم المعاد، الذي جعل العقل أجلَّ خصال بني آدم، وبه يتوصل إلى الكمالات التي لا تعارض ولا تصادم، كالسياسات في المعاملات والصناعات والعلوم النافعة، النافية للجهل المدافعة، التي هي زينة الإنسان، وتمييزه عن سائر الحيوان، وانفراده بالعز والسؤدد في كل وقت وأوان، بحيث لو صور العلم لأضاءَ معه الليل الداج، ولو صور الجهل لأظلم معه النير الأعظم ونور أضواء سراج، والصلاة والسلام على سيد ولد عدنان، الآمر بالعدل والعفو والإحسان، وعلى آله وأصحابه السالكين على طريقه ومنهاجه، والمتضافرين على تنوير دينه وإذكاء سراجه، القائمين على ساق الجِد في نصيحة الأمَّة، بما يزيحهم عن المهالك المدلهمة. وبعد؛ فلما شاع وذاع، وقرع الآذان والأسماع، صيتُ التاريخ المسمى بأقوَم المسالك، في معرفة أحوال الممالك، وتداولته الأيدي بالنظر فيه والانتفاع، وعم النفع به في المحافل ومحالِّ الاجتماع، وأجمعت العقلاءُ على حُسنه وإبداعه، وجلالته في الحكم واختراعه، وسلمه كل عالم نبيل، وانقاد له بالتقرير والتفهيم كل جاهل ذليل، وأثنوا عليه الثناءَ الجميل، وقرظوه التقاريظ الحسان، ومدحوه بالبنان واللسان، وإنه لجدير بذلك، لسلوكه أقوَم المسالك، وعلمت به مزية منافع الأقلام، المشاهدة في كل زمان على الدوام، وإنها لأوضح من الشمس في رابعة النهار، وهي اقتناص الدرر النفيسة من لجج الأفكار، وتخليدها في أصونة الدفاتر للعظة والانتفاع والاعتبار، ولولاه ما علم خبر العالم من مبدئه إلى منتهاه، ولقد أجاد مَن قال:

إن يخدم القلمَ السيفُ الذي خضعت
له الرقاب ودانت خوفَه الأمم
بذا قضى الله للأقلام إذ بُريت
أن السيوف لها مذ أُرهفت خدم

ولآخر:

إذا أقسم الأبطال يومًا بسيفهم
وعدُّوه مما يجلب المجد والكرم
كفى قلم الكتَّاب فخرًا ورفعة
مدى الدهر أن الله أقسم بالقلم

وأقسم الله بالدواة والقلم لكثرة منافعهما، وعِظم فوائدهما، فإن التفاهم بالنطق والبيان، إنما يكون بين إنسان وإنسان، وأما بالنسبة لمن غاب وبعد، أو من أهل الزمان الآتي فإنما يكون بالكتابة ولا بد. وقد قالوا البيان اثنان، بيان لسان وبيان بنان، ومن فضل بيان البنان، أن ما تثبته الأقلام باقٍ على الأيام، وبيان اللسان تدرسه الأعدام، وإن قوام أمور الدين والدنيا بالسيف والقلم، والسيف تحت القلم، ولولا القلم ما قام دين، ولا صلح عيش جميع العالمين.

وقد ثبت هذا التاريخ وإنشاؤه لصاحب القلم الفصيح، والتقرير المحرر الصريح الصحيح، البارع الأَجَلِّ، والحجة الحافظ لكل نادرة ومثل، تاج الزمان وإكليله، والمقصور عليه سياسته وتأصيله، الجامع من المحاسن ما تكل عن حصرها الأقلام، ولا يفي بعدِّها ذوو العقول والأفهام، مع الأخلاق البهيَّة، والمكارم الجِبلِّيَّة، فخر الدولة الحسينية، ونخبة الحضرة التونسية، المعتمد في تقرير نصائحه على مالك يوم الدين، الهمام الأفخم أمير الأمراء سيدي خير الدين، كان الله له، وأثابه فيما أسسه وعمله، فتاقت النفس إلى رؤياه، والنظر فيما حواه، من الفوائد الرائقة ومعناه، فسعيت في تحصيله جهدي، وأن أجعله وظيفتي ووِردي، وأتخذه عدتي وجندي، فلما ظفرت به بالإهداء من نجباء أحبابي، وممن اصطفيته وانتخبته من أصحابي، واتصلت به اتصال المحب بمحبوبه، والراغب الطالب لمرغوبه، انكببت على النظر فيه، وأمعنت فكري فيما يحويه، فإذا هو ذلك التاريخ الذي لا تاريخ يحاكيه، ولا تأليف في حال الوقت يدانيه، وإن شئت قلت فيه هو صوان الحكمة، أو قوانين التربية والتعليم، أو خلاصة زُبدة السياسة والرياسة، بل ومن أي جهة من المعارف قصدته وجدته فيه بحرًا زاخرًا مدد موج معانيه لا ينتهي، ودرر لججه العميقة لا تنفد ولا تنقضي، كيف لا وهو لب اللباب، حكمة وبلاغة يقصر عن الوصول إليها أولو الألباب!

مع النصائح الحكمية، المعضودة بالأدلة الشرعية، والنصوص الأصلية والفرعية، تتوصل إلى إدراكها العقول السليمة، والطباع المستقيمة، بيد أنها نصيحة كبرى لأهل الإسلام، وفرض استقل بالقيام به وحده دون سائر الأنام، وحق على من ثافنه ووصل إلى تحقيق معناه ومراده، أن يبادر بالعمل بما فيه ليعد من أبناء آدم وأولاده. وإنه لمما يجب العمل به على أهل الإسلام، الخاص منهم والعام، إذ بمثله يعمل العاملون، ويتبصر المتبصرون. وإن مَن لم يقم بواجب ذلك، ولم يسلكه مسلك أقوَم المسالك، إما لعجزٍ اعتراه، أو جهل بسياسة دنياه وأخراه، فليكن عمله الابتهال إلى الله، بالدعاء لفارس هذا الميدان، ومَن له القدم الراسخ في هذا الشان، ويقل: اللهم أطل لنا بقاءَه، واجعل في سماء السعود ارتقاءه، وأفسح له يا رب العالمين في الأجل، وكن له معينًا على إثمار هذه النصائح مع بلوغ الأمل، واجعل قُطرنا هذا سالمًا ومبرءًا بتحريض إمامنا وسيدنا المشير دام عزه ونصره، وبوزيره الأكبر ذي الرأي الثاقب والتدبير كمل فخره، وأعن جميعنا على العمل بما تضمنه هذا الكتاب، وما حوته مقدمته من الفصول والأبواب وإلى الله المرجع والمآب، ولا حول ولا قوة إلَّا بالله العزيز الوهاب، والسلام على ذالكم المقام. كتبه فقير ربه، وأسير ذنبه، عبده علي بن محمد الطويبي إمام جامع جبل المنار وقاضيه، كان الله له، وختم بالخيرات عمله، بِمَنِّه آمين. في ۱۸ صفر الخير عام ۱۲۸٥.

ومنها ما زان به الطروس، وأزال عن وجه السياسة كل عبوس، حتى كان حريًّا بأن يقال فيه لا عطر بعد عروس، الشيخ الفاضل الأَجَل، نادرة الزمان والمثل، أبو محمد سيدي عبد الله السوداني، بلغه الله وسائر المسلمين الأماني، ونصه:

حمدًا لمن أعان ذا الهمة والحماسة، على تقرير ما يحصل به العدل وحسن الرئاسة، بانيًا على منهج الشريعة أساسه، ومُبديًا على منصة لسانه، عرائس خدر جنانه، وملتزمًا النصح والتدبير، ليستجلب به الصلاح والتيسير، واستند في ذلك لما قاله ذوو الفضل، المال بالرعية والرعية بالعدل، فنسج على هذا المنوال، واعتبر ما يئول إليه الحال، ألا وهو العلم الشهير، الفذُّ الكامل الذي ليس له نظير، من طابق اسمه مسماه، وكلَّت العقول فيما أظهره وأبداه، الطَّود الراسخ المتين، حافظ الدولة الحسينية وهو في نصحها الأمين، أمير الأمراء سيدي خير الدين، لا زال خيره يزيد، وأسبابه بربه لا تنقطع ولا تبيد.

أما بعد؛ فقد شرفتني بكتابك «أقوَم المسالك في معرفة أحوال الممالك»، فأمعنت نظري فيه فوجدته للرتق فاتقا، وبمقتضى حال الوقت لائقا، جامعًا لموجبات العدل والسياسة، اللذين يستضيء بهما العالم نبراسه، إذ السياسة من علم الشريعة محسوبة، وعليها تصرفات الحكام منصوبة، كما قال خامس الخلفاء المشهور: تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور. وقال بعض أئمة الأنام، لا بأس بالحِيل المتوصل بها لبلوغ المرام، وتؤخذ السياسة والحيل، من كل عارف من جميع الملل، متضمنًا أن التفات الأمير للرعية، يحصل ما تكون به أحوال إيالته مرضية، مفصحًا عما عليه الدول العظام، وما حصل للمتأخر منهم من القوة بحسن التدبير والاهتمام، فمن تأمل في كتابك، وما يعطيه صرح خطابك، وجده من الشوائب خالصا، وعلى ما يحصل به قوة الأمير والمأمور حارصا، دلَّت عليه النقول، وشهدت بصحة ما تضمنه رواجح العقول، فلله دَرُّك من إنسان، مهدت مناهج العدل والإحسان، فأغنيت بعد الفقر، وأنتجت بعد العقر، فما أنت في هذه الأيام إلَّا شمس ضحاها، وقطب رحاها، وبدر تمامها، وغيث غمامها، مدَّت عليك السعادة رواقها، وشدَّت بك السياسة نطاقها، وزانت بمآثرك هذه العمالة أعناقها، فما أنت إلَّا رجل العالَم، وملاذ الجاهل والعالِم، نسأل الله أن يجعل ما ألفتَه نافعا، وعلى موضع الأدواء واقعا، بإسعاد ولي نعمنا المولى المشير، ومَن له الحظ الوافر في التدبير، لا زال عزُّه المتزايد، محفوظًا من كل خادع وحاسد، ولو بسطت محاسن كتابك، لضاق الطرس عما حواه من نصحك وآدابك؛ فلقد فقت الأوائل، بما جمعته من شتيت الفضائل، ورحم الله شمس المعارف في كل النواحي، العارف بربه سيدي إبراهيم الرياحي، حيث ردَّ على مَن قال في شيخه أنه متأخر كيف يفوق المتقدم بمنظومة منها:

إن تقل: كيف ذاك وهو أخير
هل يفوق المأموم قدر إمام؟!
قلت: فاق النبيءُ وهو أخير
كل ذي رتبة سمت في الأنام
ليس للقدرة القديمة عجزٌ
وكذا الفضل لم يزل في انسجام
خلِّ وصف النبيء فهو محال
والسوى جائز بغير ملام

وهذا، وما أخَّرني عن الجواب، إلَّا ضعفي عن إدراك مواقع الصواب، ومعلومكم أن الهدية على قدر مهديها، وإلَّا فأي غرية لديكم أبديها، وعليكم أزكى السلام من مخلص ودِّكم، وحافظ عهدكم، الداعي لكم بمزيد التهاني، عبد الله بن محمد السوداني، الخطبي عامله الله بلطفه الخفي. في صفر الخير من عام ۱۲۸٥.

ومنها ما نَثَرَ منظومه على بساط الآداب، ونَظَمَ منثوره عقودًا لجيد هذا الكتاب، اللوذعيُّ النقَّاب، ومبدي لطائف المعارف وما على وجهها نقاب، ذو الفكر الثاقب النقَّاد، ومن لسواه نواد النوادر لا تنقاد، ومن له المعلى من أعشار الكيس واللسن، أبو عبد الله الشيخ التطاوني سيدي محمد بن الحسن أحد أعيان كتبة الإنشا، لا زال لكل أطروفة ونصح منشا. ونصه:

الحمد لله وحده وصلَّى الله على مَن لا نبيء بعده:

هو العدل يحيي كل ميْت من الأرضِ
ألا هكذا فليقضِ مَن رام أن يقضي
هو العدل والإحسان توءمه الذي
ينوءُ به عند الإقامة والنهضِ
وإعطاءُ كل من ذوي الحق حقه
ألا إن ذا الإحسان وهْو الذي يرضي
بذا تعمر الدنيا وتحسن لا بما
يجود به النيسان من مائه الفضي
وليس لعمران البلاد وخصبها
وجر انتصاب الرفع للعيش بالخفضِ
سوى أمل في الأمن ينمو غراسه
وأعمال برٍّ لا تئول إلى الدحضِ
وهل أمل أم هل أمان وكلنا
يغلب حفظ النفس في الحب والبغضِ؟
فيأخذ من هذا لهذا مرجحًا
ولا وجه للترجيح غير الهوى المحضِ
ويجعل ذا مستهترًا في مكان ذا
وهذا إلى إخلا المكانين قد يفضي
خليليَّ إن الحق يعلو بناؤه
وليس بناء الحق يومًا بمنقضِّ
وفي الأخذ والإعطاء بالحق معقل
لتأمين ذي خوف وبسطة ذي قبضِ
وما الحق إلَّا في اتباع شريعة
مطهرة جاءَت بحكم لها مرضي
يروح لها المقضي عليه مسلمًا
بلا حرج في النفس مما به تقضي
وفي حسن أخذ بالمداراة رغبت
وحضت على تهذيبنا أيما حضِّ
أمان وإيمان نتيجة هديها
فعض عليها جاهدًا أيما عضِّ
وليس مراد الشرع غير استقامة
يكون عليها الحق في العالم الأرضي
يقول: استقم كما أمرت وأن لو اسـ
ـتقاموا لأسقيناهم غير ذي برضِ
خليليَّ إن الإستقامة منهج
قويم لحفظ النفس والمال والعرضِ
فثابر عليها واعيًا نصح حازم
عليم بإمرار العزائم والنقضِ
هدانا منَ اقوَم المسالك مسلكًا
لدى السبق يكفي في مداها عنا الركض
كتاب لخير الدين جاءَ محررًا
أتانا من التحرير بالنفل والفرضِ
دعانا إلى حرية عزَّ نيلها
ومن دونها قلب السماء على الأرضِ
ولكن عساها أن تروض صعابها
سياسة رحب الصدر ذي أدب غضِّ
خبير بأدواء الأمور وطبها
فلا نكس مهما جس منها على نبض
فيا فخر دنيانا ويا خير ديننا
ويا ذخر من يُمنى من الدهر بالدحضِ
كتابك أجناني ثمارًا عرضتها
بأول شعر قد أجدت له عرضي
وأبرزت ما أحرزت منها جواهرًا
بسلك نظام عقده غير مُرفضِّ
وحبَّرتها تحبير واعٍ لنصحكم
ومبصر ما أبداه برقك من ومضِ
كتاب حوى سر التوصل للعلا
ونبه جفن الإغترار من الغمضِ
تقاضاني التقريظ حقًّا مرتبًا
عليَّ له لا كالتعامل بالقرضِ
فجدت بهذا النزر من شكر صنعكم
بحقك فانظره بعين الذي يغضي
ثنائي عليك أنك اليوم أوحد الز
مان فدم واسلم من الهضم والهضِّ
جزاك عن الإسلام كافل نصره
وأرضاك عنَّا بالذي لك قد يرضي

سيدي، أنجح الله مساعيك، وأخصب بِمَنِّه رياض مراعيك، أتحفني بعض الأعزة من الإخوان بأن رفع إليَّ وأنا بحال مرضٍ نسخة مما طبع من كتابكم الموسوم بأقوَم المسالك في معرفة أحوال الممالك، فلما وقفت عليه أكبرته بعد ما كبرت، واستفدت ما به اتعظت واعتبرت، واستعبرت عيني أولًا لما ضاع من ذمام الإسلام وأهله، ثم انشرح صدري لما تحققته من توجه همتكم لجمع شملهم وشمله، علمًا بأنك من أساة الدين؛ ولذا دعيت بخيره، ومن سوانح دعاته المهتدين الذي بشر بيمن طيره، فالله تعالى يبقيك عَلما، ويجعل قصدك أَمما، ويتلافى بك من أهل هذه الملة الحنيفية أُمما، إنه ولي ذلك والملي به.

ولما قرأت في رائد الأسبوع الأول من هذه السنة المباركة جملة ما كتبه فضلاء العصر، وأعيان المصر، في تقريظ هذا الكتاب، رأيت من ذلك ما يبهر الأفكار ويسحر الألباب، وما منهم إلَّا مَن أتى في مدحه باللباب، وأظهر من نفثات سحره العجب العجاب، وإن كانوا يتفاضلون في مراتب الترجيح عند إدارة الانتخاب، فحدثتني نفسي أن أدخل فيهم وأكون منهم، وإن كنت لست بأهل لأن أجلس بين أيديهم وآخذ عنهم، فأتيت بما أظنه يستجاد، وجعلته لعاتق كتابك كالنجاد، وهي القصيدة المثبتة في صدر هذا الرقيم، والأمل أن سيدي يقبلها بفضله العميم، ويقابلها بما هو أهله من التبجيل والتكريم، ويتصفحها بعين الناقد البصير، ويصفح عما بها من القصور والتقصير، وإن لم يرها من مطامح آماله، ولا من صوادح رياض أعماله، فليتخذها تميمة لكتابه وعوذة لكماله، والسلام الأتم عليه، ما حن قلبي إليه، كتبه آخر المقرِّظين إملاء، وأولهم خلوصًا وولاءً عُبَيْدُ ربه محمد بن الحسن التطاوني في ۲۳ صفر الخير سنة ۱۲۸٥.

ومنها ما رصع به تاج ذا التأليف، المتحلي من مطارف المعارف بالتليد والطريف، سلالة العلم والعمل، وخلاصة المجد النازح عن الأمل، فرع الدوحة المتأرجة بطيب ذكرها سائر النواحي، أبو عبد الله الشيخ سيدي محمد الرياحي، أحد أعيان كتبة الدولة التونسية، لا زالت محفوفة بألطاف الله الخفية، ونصه:

الحمد لله وصلَّى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وسلم، الجهبذ الذي انتهت إليه الرئاسهْ، وألقت إليه مقاليدها السياسهْ، ودعم بناء قواعد العرفان وأحكم أساسهْ، إنسان عين أهل المعالي، وواسطة عقدهم الغالي، وقطب فلكهم العالي، الهمام الأفخم أمير الأمراء سيدي خير الدين لا زالت العناية لاحظة عزيز جنابه، والسعادة لاثمة لأعتاب أبوابه.

أما بعد، سلام تصاحبه غاية الاحترام، ونهاية التعظيم والإكرام، فقد وصل إليَّ — أوصل الله إليكم أسباب العلا، وألبسكم رائق الحُلى — تأليفُكم الخطير، العديم النظير، المسمى بأقوَم المسالك في معرفة أحوال الممالك، واطلعت عليه فإذا هو كتاب تستوقف بدائعه الناظر، ويخجل بحسنه الروض الناضر، حيث جمع بين حسن الترتيب، والتعريف بأحوال السياسة في أسلوب غريب، وبيان أسباب التقدم في المعارف، وتحريض أبناء الوطن للتفيؤ تحت ظلها الوارف، إلى غير ذلك من الفوائد الجمة، والتحريرات المهمة، التي تتنافس فيها القلوب والعيون، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون قد أديت معانيه في ألفاظ، تفعل في النفوس فعل سحر الألحاظ، فلله درُّك من مؤلف مجيد، نسخت من صيت ولي الدين ولسانه الطارف والتليد، وتفردت بالكمالات الظاهرة دون إضمار، وسابق الحلبة إنما يعرف آخر المضمار، جزاك الله جزاء من استغرق بفواضله لمراتب الأعداد بما لا يعتريه نفاد، وقرن أعمالك بالنجاح والسداد، وبلغك في الدارين نهاية المراد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، من معظِّم قدركم، اللاهج بذكركم، المثابر على شكركم، محمد الرياحي وفقه الله بِمنِّه. في ربيع الأنور سنة ۱۲۸٥.

ومنها ما جادت به قريحة الفاضل العمدهْ، والمدخر لكل مهم عدة الأثيل مجده، والواري في ميادين الآراء زنده، الثقة الأمين المترائي في مرآة المروءة لكل عين، الغني عرفانه عن التعريف، الأعز المنتخب أبي عبد الله سيدي محمد عريف، لا زال يتفيأ من نِعم الله وألطافه كل ظلٍّ وريف.

الحمد لله، سبحانه مَن أحكم أحكام الشريعهْ، وجعلها لمصالح الدارين أقوى باعثٍ وذريعهْ، وخصَّ مَن شاء من عبيده، بتوفير العقل وتأييده، ليغوصوا في بحورها على درر المدارك، ويسلكوا لجلب تلك المصالح أقوَم المسالك، وصان عن النسخ أحكامها، وأدام إلى فناء العالم احترامها، لاقتضاء حكمته أن تكون خاتمة الشرائع، ويوجد بها لمقتضى حال كل جيل مجال واسع؛ فلذلك اختلفت فروعها باختلاف الأنظار والأعصار، وقال تعالى إرشادًا لذلك: فاعتبروا يا أولي الأبصار، نحمده حمدًا يليق بحضرة قدسه، ونثني عليه بما أثنى به على نفسه، ونصلي على رسوله إنسان عين الحكمة والرحمهْ، صلاة تشمل الصحب والآل وتعود بالنفع على سائر الأمهْ.

هذا وإن من أهم المهمات، معرفة أحوال الوقت وما يناسبها من التصرفات، على وجه يفضي إلى نمو العمران، واستجلاب مرضاة الملك الديان، وممن حدا على هذا المقصد المهم، وأزاح عن عقول القاصرين عن إدراكه كل حندس وهَمٍّ مدلهم، نادرة العصر، ومن جرَّت به الخضراء ذيول التيه والفخر، الهمام الأفخم، والملاذ الأضخم، جناب أمير الأمراء سيدي خير الدين، بتأليفه الذي سماه «أقوَم المسالك في معرفة أحوال الممالك»؛ فلقد كشف فيه من كنوز السياسهْ، ما لو رآه مثل ولي الدين في هذا الوقت لطوى قرطاسه، وقال لسياسته ليس ذا بعشك فادرجي، ولسياسات هذا الكتاب تدرَّجي، وفي حوالك الحوادث الوقتية ادلجي. وبالجملة فهو كتاب لم يؤلف مثله ببابه، ولا خاض أحد قبله في تياره وعبابه؛ كيف لا ومدار أمره على إقامة ميزان العدل، وسبر تنزيل النصوص الشرعية بمسبار العقل، وجبر خلل البلاد والعباد، والتعريف بحال الأضداد، ليتيسر القيام بواجب الاستعداد؟ فأي عاقل خلص عن عوائق العناد، لا يلقى لهذا الكتاب بعد فهمه زمام القبول والانقياد، بل ما له إلَّا الاعتراف لمن دعم على العرفان أساسه، بأنه من أرسخ الناس قدمًا في النصح والسياسهْ، فالله المسئول أن يجازيه عن جميل صنعه، بإجراء ثواب العمل بالكتاب ونفعه، وعن تشريفي بنسخة مما نجز من طبعه، بمقتضى كمال فضله ووسعه. وكتبه محمد عريف في ۲۰ ربيع الأنور بمولده عام ۱۲۸٥.

•••

ومنها ما رقمته أقلام ذي النسب الطاهر، والحسب الشامخ والكمال الباهر، ليث العرين، ومَن ليس له من غير أهل البيت في الكمال قرين، أبو عبد الله سيدي محمد بن محمد الشريف، أبقاه الله مصدرًا لكل مكرمة ومنزع لطيف، ونصه:

الحمد لله وصلَّى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، جناب وحيد العصر، ومَن جلت مآثره عن الحصر، الهمام أمير الأمراء سيدي خير الدين، خلد الله مفاخره، ولا عدم الحق منه موئده وناصره.

أما بعد السلام، المحفوف بواجب الاحترام، فإني قد اطلعت على ما تم طبعه ووصلني به ودُّكم من تأليفكم الموسوم بأقوَم المسالك في معرفة أحوال الممالك، فرأيته قائمًا للأمة بالنصح السديد، صادعًا فيهم بالحق الذي لا عنه محيد، مُعلمًا لهم بما لو اتبعوه لأرشدوا، وعلى حسن عواقبه حمدوا، فجزاك الله المنان، عن بث ما يثمر العدل والعمران، والأمر بالمعروف والإحسان، الحاث عليه شرع الإيمان، المبلغ صاحبه غاية النصح بقوله: «إنما أنا النذير العريان»، وهو تعالى المرجو أن يحمد مساعيك، وينجح أمانيك، والسلام من محمد بن محمد الشريف. في ۲٥ ربيع الأنور سنة ۱۲۸٥.

ومنها ما جاب به المهامه الشواسع، وخاض العريض من البحور الواسع، حتى أوصله إلى حاضرتنا، وانخرط في سلك تقاريظ الفضلاء من جماعتنا، مدير المعارف العموميهْ، ومنفق أسواقها بعد الكساد بسوريَّهْ، الشيخ خليل الخوري، أبقاه الله لكل غريبة لنا يوري، ونصه:

الحمد لله، حضرة صاحب السعادة مولاي الأفخم سيدي خير الدين، لا جرم أن لسان القلم قاصر عن بيان ما ليدكم الغراء من المنن، كما أن اللسان عاجزٌ عن تبيان ما لذلك اليراع الجليل من الجميل في جِيد الزمن، فإن تأليفكم المفيد المسمى بأقوَم المسالك، جدير بأن يكون إكليلًا لمجد الممالك، فقد أفاضت به معارفكم الجليلة أنوار الفطنة وأبكار الرشاد، فجاءَ من أعظم التصانيف التي أهدتها الحكمة لتهذيب العباد، فآمل أن تجتني من حسن تأثيره الأمة الإسلامية تمام الأرب، وأرتجي أن يكون مصباحًا في أفق العلا لإعادة تمدن العرب، وأن يصبحوا بما أبنتموه فيه من الطريقة المستقيمة مقتفين، وبأدوية نصائحه من أدواء الغفلة مشتفين.

ولما سرحت بمطالعته النظر، وبلغت من مراجعته الوطر، بادرت لإشهار ما تبين له عنه في غزتة سورية الرسمية المطبوعة في دمشق تحت إدارة هذا العبد، وزينت بما لخصته منه غزتتي حديقة الأخبار، مع تأدية بعض ما يجب للجناب من فروض الحمد، وتجاسرت بإرسالها مع هذه البوسطة الفرنساوية لأعتاب مهابتكم، مع بعض نسخ من مؤلفات عبدكم، آملًا أن تتشرف بأنظار سعادتكم، راجيًا التعطف بالعفو عن القصور وحسن القبول، ذلك أحسن منة وأعظم مأمول، سائلًا المولى المتعالي، أن يحفظكم غرة في جبين المعالي. كتبه عبدكم خليل الخوري مدير المعارف العمومية في ولاية سورية في ۱۲ صفر سنة ۱۲۸٥.

ومنها ما للكاتب الأبرع، الرزيز اليلمع، من لم تزل نفسه الزكية في رياض التهذيب سائمهْ، وفي شواسع مناهج الآداب دائبة غير سائمهْ، مولعة بجوب البلدان، للاتجار في أسواق العرفان، المعنعن حديث فضله على لسان كل راوي، أبي العباس الشيخ سيدي أحمد البصراوي، من أهل المدينة النبويهْ، على صاحبها أفضل الصلاة والتحيهْ، ونصه:

الحمد لله حمدَ مَن عرف الفضل لأهله فشكره بين الأمم، وتوج منابر ذكره بحسن الثناء في محافل أولي أرباب السياسة من دول العرب والعجم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد القاطع برهانه ما قام في مخيلة الفكر من شبه الأذهان، وعلى آله وأصحابه المتمسكين منه بخير الأديان، فعلموا به حكم كل أمة حسب ما يحدث في كافة الأزمان.

وبعد، فحيث إن مظهر شرف النوع الإنساني هو نتيجة فكره، وتاج عزه في سلطان فضله تمسكه بالرفق في نهيه والعدل في أمره، فلا ريب أن تسجد شمس المعرفة لهذا المحقق تحت عرشه، ويدور فلك سماء العقل على قطب فضله ونبله، ويتميز عن أقرانه برتبة المجدد لهذه الأمة أمر دينها، ويحوز تاج فخر من أسس للملوك نظام رعيها بإيضاح تنظيمها، وحقيق بأن يرتقي إلى مقام رفرف مقام مقعد الصدق من لسان كل شاكر، ويترجم في طبقات العلماء الراسخين الأكابر، إذ ما أبداه في مؤلفه هذا كشف به قناع الغفلة عن أرباب القلوب، وفتح به أعينًا عميًا ضلت طريق الإنصاف الذي هو لكافة عباد الله غاية المطلوب، وقد ظهر به ينبوع الحكمة النافعهْ، وأشرقت منه شمس المعرفة في سماء الفضل السابعهْ، فصار لأهل الاقتداء حجة يعول عليه، ولأرباب السياسة مركزًا تنتهي دائرة العدل إليه، ولم يَرْتَبِ المنصف عند تأمل مفرداته وجُمله أن يعيه بأذنٍ واعيهْ، وينثر جواهره في مجالس أرباب المعرفة لتكون ألسنة أهل الخير له داعيهْ، وحيث كانت هذه النبذة منه تذكرة وموعظة لمن ألقى السمع وهو شهيد، وعلم أن المرجع إلى الحق طريق ليس عنه محيد، فالواجب حينئذٍ على من تحلَّى بحلية الإمارة أن يعرف لهذا المحقق هذه النعمهْ، ويقوم عنه بوظيفة أداء هذه الأمانة لرعاة كافة الأمهْ، وما ذلك إلَّا لما تقرر عند ذوي الإرشاد، أن الدين النصيحة لله ولرسوله ولكافة المسلمين من العباد، وقد تحقق بما سطر من البراهين قول القائل، لم تُبقِ هذه الحسنة قولًا لقائل. هذا، وليعلم الناظر في هذا المؤلِّف أنه حصن لا يدخله الباهل، وروضة أنس لا يحول حول حماها مكابد ومجادل، شكر الله صنيع مؤلفه يوم يجزي المحسنين، وأجلسه على مناص أولي المناقب يوم لا يضيع أجر المؤمنين وهو تعالى على ما يشاءُ قدير وبالإجابة جدير. حرره الفقير خديم العلم الشريف أحمد البصري الحنفي المدني.

ومنها ما للنبيه النجيب، اللوذعي الزكي الأديب، الصارف همته لنيل العلوم، ذي القريحة الجيدة في المنثور والمنظوم، السابق أقرانه في الميادين، أبي العباس سيدي أحمد جمال الدين، من أعيان نجباء الطلبة بالجمع الأعظم، وفي سلك الماهرين البارعين ينظم، ونصه:

حمدًا لمن قيض لجلب المصالح ودرء المفاسد مَن شاء من عباده، وطبعه على نشر عوارف المعارف حتى أهَّله للتأسي به في أرضه وبلاده، كما نحمدك اللهم على ما به خصصتنا من أشرف الشرائع، المتكلفة على اختلاف الليالي بجميع المنافع، المبنية على سد الذرائع، ونصلي على نبيك أشرف مبعوث أبرزته للعالم متحليًا بملابس العدل، ومفحمًا بملته كل من رام المكابرة أو نوى الدخل، وعلى آله وأصحابه ذوي الفضل الباد، المنادين لطرق شريعته كل حاضر وباد.

هذا وإني صرفت الهمة يومًا إلى خلو الفكرهْ، واستجلبت الخواطر لما بي من تلهف الحيرهْ، متنفسًا تنفس الصعدا، ومتأوهًا تأوه الغربا، على الحالة التي آل إليها أمر الإسلام، وما أحاط به من حوادث الأيام، إذ ناداني هاتف لسان الحال، وهو كما قيل أفصح من لسان المقال: يا من توقدت جمراته، وتضاعفت حرقه وحسراته، ألم ترَ هبوب نسيم البشارهْ، وتسمع تغني خطيب النجاح على منابره بأفصح عبارهْ، واضحًا كالقمر لاهتداء السالك، معنونًا بكتاب «أقوَم المسالك في معرفة أحوال الممالك»، فلعمري لو رآه لارتضاه لزماننا إمام الأئمة مالك، فتصفحتُ ما أودع في بطون أوراقه، واستضأتُ بأنوار إشراقه، فألفيته محشوًّا بجواهر المعاني، مشحونًا بلطائف يعترف بها من لعبءِ المكابرة يعاني، وسكن حب مؤلفه صميم الجنان، فقلت مبتهلًا: اللهم أسكنه فراديس الجنان، إذ نظم في سلكه علم السياسة وفوائدها، وجمع فيه شتاتها وقيد شوارد عوائدها، أزهار معارفه مختلفة الأجناس، وأنهار مشاربه مجلوة كئوسها على اختلاف الناس، فحقيق كتبه بماءِ العين، كيف لا وقد أبدعته أفكار من تطابق اسمه والعين، أعني جناب الواقف بسيفه الباتر في حماية الدين، الحلاحل الجهبذ سيدي خير الدين، فجزاه الله عن الإسلام خيرا، إذ قام على ساقِ الجِدِّ ناصحًا ليذود عنه ضيرا، ولا زالت الألسن بالثناءِ على صنعه لاهجهْ، وتجارته بحول الله رابحة رايجهْ. كتبه عُبَيْدُ ربه أحمد جمال الدين في ربيع الثاني سنة ۱۲۸٥.

ومنها ما زان جيد الكتاب بقلائد عقيانه، وشاد ببيانه المستطاب مشيد بنيانه، الهمام النحرير، كشاف غوامض العلوم بمزيد تحقيق وتحرير، الفاضل الأورع، والعلامة الأبرع، مَن لم يزل يدأب في مهامه العرفان جواد جده، غير قانع بمرتبة الإمامَين المقدسَين والده وجده، إلى أن كسا الطروس بمطارف من طريف معارف على منوال التهذيب منسوجه، جناب أبي العباس الشيخ سيدي أحمد ابن الخوجه، ثالث المفاتي الحنفيهْ، لا زال رافلًا في برود الألطاف الخفيهْ، والنِّعَم الضافية الوفيهْ، ونصه:

الحمد لله وصلَّى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلم، نحمدك يا مَن جعلت الشريعة المحمدية عقد واسطة الشرائع، وأبديتها لعمران الدارين أقوَم المسالك وأقوى الذرائع، ورفعت على أعمدة المصالح سَمْكَها، ورصعت بزواهر الحِكم فَلَكَها، حتى صلحت تاجًا لمفرق كل زمان، وغرة ميمونة لجبين كل أوان. ونصلي ونسلِّم على رسولك محمد الذي بعثته بمكارم الأخلاق، عند تلاشيها وبلوغها حد الأخلاق، وأيدته بالمعارف المتلألئة الأنوار، وعززته بالمعجزات التي ساجلت الشمس في رابعة النهار، وننظم في سلك الصلاة والتسليم، آله وأصحابه فرسان الخيل ورهبان الليل وكهف دينه القويم.

أما بعد، فإن شريعتنا الغراءَ قد رصع الله بمصالح العباد تاجها، وأوضح بها لمكارم الأخلاق منهاجها، ومن فضله عزَّ اسمه العميم ونائله العتيد، أن كلياتها إجمالًا وتفصيلًا تصيب كل غرض قريب وبعيد، فليس فيها بمنة الله سائبة، للأنظار الصحيحة والأفهام الصائبة، وممن اهتدى بمنارها، وعشا إلى ضوء نارها، وانتصب لحماية ذمارها، العالم الفاضل الماجد أمير الأمراء السيد خير الدين، فهذا كتابه أقوَم المسالك شاهد عدل له على امتداد الباع وسعة الذرع، وحسن الاقتدار على ربط السياسة المدنية بالشرع، كتاب ضرب في الإبداع بسهم مصيب، ونزع ناظم عقوده المتناسقة المنزع الحسن الغريب، خامر الألباب بسلاف البيان، وطبق المفصل في تنزيل البرهان على حوادث الزمان، أوضح رسوم الإفادة، وسبق في مضمار الإجادة، وكشفت عن أسارير الحقائق قريحة مؤلفه الوقَّادة، مَحَّض فيه صفو نصحه، وسفر عن محاسن صبحه، وشعشع المعارف بتحريره وروقها، وبقلائد الذكر الجميل طوقها، أسمت سرح اللحظ في مقدماته فإذا هي بديهية الإنتاج، صحيحة الاحتجاج، بحيث تتأكد إليه الحاجة لا سيما حين زلت الأحلام، وولت شبيبة الإسلام، بعد أن مد على مراكز النجوم أطنابه، وأناخ بساحة العزة القعساء ركابه، سكَّن الله زلزاله، وبلغه في أنصاره آماله، ولا سيما والحربي اليوم قد كاثرت الحصباء جموعه، وراع القلوب مرآه ومسموعه، بما أبداه من الآلات المخترعهْ، وتنويع المكائد والحرب خدعهْ، فلا جرم أن مكافحته تفتقر إلى النسج على منواله، ومسابقته في سجال احتياله، وهذا إنما يُجتنى من دوحة الغنى، فتوفير المال ظهير لبلوغ الآمال، وبه تذب عن بيضة الإسلام حماتها، وتدافع عن حوزته كماتها، وهو بمزاولة الحِرف المباحة على اختلافها، وخوض لجج المعارف وارتضاع أخلافها، حتى يستبحر العمران، حكمة الله في الإيثار على الملائكة للخلافة نوع الإنسان، وقد تعاضد العقل والشرع والتجارب، أن سدل الأمان عنصر هاته الرغائب، ومما صدع به القرآن، أن يأمر بالعدل والإحسان، وقد بينت السنة أن الإحسان يختلف باختلاف الأمور، وأنه على صفحة كل شيء مسطور، وفتور العزائم يحذر منه السم الناقع، والخرق الذي يحار فيه الراقع، والرعاة إذا لم يوردوا سوائمهم المناهل العذبهْ، وينتجعوا لها مساقط الغمائم الخصبهْ، ويصلحوا خللها، ويعالجوا عللها، ويسعوا لها في النماء والتثمير، يعزب لا محالة حصول التعمير، فسبحان مَن بيده مقاليد التدبير، ولا يسأل عما يفعل وإليه المصير! حرره فقير ربه خادم الشريعة المطهرة أحمد بن الخوجه كان الله له، في الحادي عشر من ثاني ربيعَي عام ۱۲۸٥.

ومنها ما كان لها مسك ختام، وبزغ إثر كواكبها بزوغ بدر التمام، وتأخر عنها تأخر ثقال السحب عن الجهام، وليلة القدر من شهر الصيام، من در الآداب البديعهْ، الذي بدده على بساط سياسة الشريعهْ، قلم العيلم العلامهْ، والنحرير الجهبذ الفهامهْ، مطرز مطارف المعارف، بطوارف الطُّرف واللطائف، من لا يجارى في ميدان البيان، بغير التسليم له والإذعان:

إذا أقرَّ على رَقٍّ أنامله
أقرَّ بالرِّقِّ كتاب الأنام له
جناب ذي الروض الممطور، والثناء المعطور، الشيخ سيدي محمود الشريف القاضي بباردو المعمور، فسبحان من ألان له حديد الكلام، فلم يستوعر من أي غرض رامه طريقه، وخصه فيه بالنقض والإبرام، فاسترق حره وحرر رقيقه، كما يشاهد ذلك بالعيان، من حسن هذا التأبين الذي ليس بعده بيان، حيث يقول، ظفر بنيل المأمول:

بسم الله الرحمن الرحيم

يا من أرسل رُسله بالبينات وأنزل معهم الكتاب، ليقوم الناس بالقسط وليتذكر أولو الألباب، نحمدك على أن خصصتنا من بين سائر الأمم، بالكتاب الذي يهدي إلى التي هي أقوَم، أنزلته من المقام الجامع فارقًا بين الرد والغي، وأوعيته مناهج الدارين فما فرطت فيه من شي، لا يشب عمر حادثة عن طوق عباراته، ولا يبلغ غواص فكرة غور إشاراته، واستمنح من ديم جودك الواكفهْ، وفيوض إحسانك المترادفهْ، أن توالي صلات صلواتك البهيجهْ، وتهب نفحات تسليماتك الأريجهْ، على مظهر ذلك الكتاب المكنون، الذي لا يمسه إلا المطهرون، المستنبط من ظهوره والبطون، علم ما كان وحكم ما يكون، من أخذت له ميثاق النبيئين قبل بعثته ووجوده إعظاما، وشرفتهم ببيعته وعهوده إكراما، وقررتهم شاهدين على أنفسهم وهم الأمناء، آخذين إصرك وأنت معهم من الشهداء، تنويهًا بأنهم حلفاؤه وخلفاؤه، فملاذهم في الدارين ولاؤه ولواءُه، شرعه الإصباح، المغني عن المصباح، في العادة والعبادهْ، والمحجة السمحاء، السابلة الفيحاء، التي هي قصد السعادهْ، وكتابه القرآن، المتلقَّى من لدن حكيم عليم، روحًا من أمره يوحى، والفرقان، الهادي إلى صراط مستقيم، نورًا يبهر يوحا، ونستتبع أسكوب رضوان، في رياض روح وريحان، لحُماته وحزبه، القائمين بسلمه وحربه، الفائزين بأعظم قربه، من القربى والصحبهْ، هداة العباد، وفتَحة البلاد، ما أضاء الشرع لقادة الأمة كل مدلهمهْ، فاستبانوا أنه تفصيل لكل شيء وهدًى ورحمهْ.

هذا، ولما كان العدل نظامًا لعقد العمران، وعهدًا لخلافة الإنسان، وجب أن يتحرى في تحصين سياجه عن تطرق الظنن، وترصين معقله بتظاهر المنن، ووزع نوازع الأهواء عن استباحته، والأخذ بحُجز الآراء إلى حماية ساحته، ولغلبة سلطان الهوى بما له من الأصالهْ، على وزعة الدين والمروءة والحياء المعبر عنه مجموعها بالعدالهْ، تعسَّر أن يستعصم غير المعصوم عن داعية هواه، إلَّا بالانقياد لسواه، فالرئيس مفتقر في شد أزره، إلى الإشراك في أمره، والمرءوس مكلف بانشراح صدره، للإذعان في المنشط والمكره، ومن ثم كانت يد الله مع الجماعهْ، وعصم الإجماع إلى قيام الساعهْ، ولم تزل الشورى في كل مُلمَّهْ، ديدن السلف الصالح من قادة هاته الأُمَّهْ، حتى أثنى عليهم بها الكتاب المجيد، إشارة إلى أنها من سنتهم التي تنكَّبها ضلال بعيد، ومثَّل في الإنجيل ما لهم من الموازرهْ، بزرع أخرج شطأه فآزره، ومن سبر بمسبار الروية أغوار السير، وجس بأنامل الألمعية نوابض البدو والحضر، واستشرف على استشراء الممالك الأوروباوية وتغطرفها، واستئسادها وتصلفها، بما فوفته من أبراد الحضارهْ، وما أورفته من ظلال العمارهْ، لا تخامره ريبة في أنها نتائج متناسقة الكعوب، ومغارس متضامة الجنوب، سنخها تضافر العزائم والألبب، وانعطاف بنات البب، على إطراح الأغراض الشخصيهْ، للمصالح الكليهْ.

ثم إذا عطف أعنة النظر إلى الممالك الإسلامية وتقرَّاها، وجاس خلال مدنها وقراها، وتبين ما منيت به من تزايد الغمرات، وتناقص الأموال والأنفس والثمرات، لا يتمارى في أن حَورها بعد الكور، وارتدادها عن النجد في حافرة الغَور، ليس إلَّا لعدم رعاية الحقوق العامة حق الرعايهْ، وفشل الحمية بالتنازع المفضي إلى ذهاب ريح الحمايهْ، فكأنها مساوح جياد ركبت أرسانها، وألفت مرحها واستنانها، لا تكاد تسمح لرعاتها بالتخلي عن مألوفاتها، فهي مفتقرة إلى تدبير سياسي، في تأليف إيناسي، يلهب حميتها إلى مساعفة الراضهْ، ويهب أريحيتها، إلى مساهمة الأمة المرتاضهْ، وبينا ذلك دَين على الأيام تماطل بإنجازه، وتعلل عن حقيقته بمجازه، إذ انتدب لتوفيته ابن إحداها، الخبير بلحمة السياسة وسداها، المدره المماحل، الذي فعله لِلقبه خَدِين، الهمام الحلاحل، السيد خير الدين، فإنه لما قتلها خبرهْ، وتعمقها سبرهْ، جلا أناسي عيونها، ومعالم سهولها وحزونها، في مؤلف مهذب، هو عذيقها المرجب، وسمه بأقوَم المسالك في معرفة أحوال الممالك، فيا له من كتاب أوفى به المجد نَذْرَه، وأبلغ الحفاظ عُذْرَه، ونظرت عيون السياسة قررها، واستنصرت جباه الرئاسة غررها، يأتزر صيته بالسحب، ويتعمم بمجرة الشهب، أصاب شواكل الرمي، ولين أخادع المعنى الأبي، بألفاظ أغض من الزهر الجني، وأبهى من الحلي على صدر الهدي، فما هو إلَّا روضة مفوفة في حَزن، تجودها نطفة مروقة من مزن، تثلج فؤاد الحران، وتنفث في روعه بسحر من البيان، يسفر عن صفحات حجج بيض، لفرند جوهرها وميض، متبرجة المعارف، في مضرجة المطارف، ترشف الأرية المشورهْ، من خلايا المشورهْ، نهضة محتسب، لا تسري التهم بليله، وعزمة منتدب، لا يعلق الفتور بذيله، قام بواجب النصح والعزائمُ قواعد، وشاد بنيان النجح على أوطد القواعد، خاض دونه المكاره، فاردًا بعزمٍ فاره، متقحمًا لقاتم أعماق مصفر، لا تنصبغ فيه الأهواء بعصفر، صنيع لا يغض عنه طرفه، ويثني دونه عطفه، إلَّا الذي هراق ماء حيائه، فلم يبالِ باتباع أهوائه، وليقدرنه حق قدره، من نُزعت السخائم من صدره، غير قائم بمستحق شكره، ولا طاوي كشح دون نشره، نسأله سبحانه بلسان الضراعهْ، ونرغب إليه بمبلغ الاستطاعهْ، أن يجعل أفئدة من الناس تهوي إليه، ليشهدوا منافع لهم، كما جعل ألسنة من الهداة تثني عليه، يعزز آخرهم أولهم، وأن يبلغ مؤلفه غاية الآمال، ونهاية الكمال، بمنه آمين. حرره خادم الكتاب والسنهْ، المستضيء بهما في كل دجنَّهْ، العبد الضعيف محمود الشريف، أحسن الله عواقبه، وجعل التوفيق مصاحبه، في السادس والعشرين من ربيع الثاني سنة ۱۲۸٥.

انتهت التقاريظ النفيسة بحمد الله تعالى وحُسْنِ عونه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤