الباب الأول

في الكلام على الدولة العلية العثمانية

(١) في تاريخها

اعلم أن السلطنة العثمانية كان مبدأ تأسيسها في أيام السلطان غِياث الدين السلجوقي، وانتقلت إليها الخلافة في سنة تسع وتسعين وستمائة هجرية على صاحبها أزكى الصلاة والتحية، وأول مَن تقلَّدها السلطان عثمان الذي كان قبل ذلك التاريخ أميرًا على إيالات بأرض أناطولي، افتتحها بسيفه الباتر بعد أخذه الرخصة في ذلك من السلطان السلجوقي عند مجاورته لأرضه بارتحال أسلافه مما وراء النهر، ثم امتدت السلطنة العثمانية واتسع بالفتوحات نطاق ممالكها إلى أن انتشرت رايات صيتها في الآفاق، وامتلأت بمآثرها الباهرة بطون الأوراق. ولاشتهار ذلك في التواريخ الإسلامية والتحاقه بالمعلومات الضرورية رأينا أن نقتصر على ذكر أسماء سلاطين الدولة المذكورة وتاريخ ولادتهم وجلوسهم على سرير الملك وانتقالهم إلى الدار الباقية، ومدة سلطنتهم وأعمارهم الشريفة، ثم نثني عِنان القلم لبيان المهم من أحوال تلك المملكة الوقتية كأصولها السياسية وإدارتها وعدد رعاياها ونحو ذلك مما ينساق إليه الكلام، فهاكَ برنامجًا في بيان أسماء الخلفاء من آل عثمان وما ذكر بعدها:

أسماء السلاطين العظام ولادتهم ولايتهم وفاتهم مدتهم أعمارهم
السلطان الغازي عثمان خان ٦٥٦ ٦۹۹ ۷۲٦ ۲۷ ۷۰
السلطان الغازي أورخان خان ٦۸۰ ۷۲٦ ۷٦۱ ۳٥ ۸۱
السلطان الغازي مراد خان ۷۲٦ ۷٦۱ ۷۹۱ ۳۰ ٦٥
السلطان الغازي يلدرم با يزيد خان ۷٦۱ ۷۹۱ ۸۰٥ ۱٤ ٤٤
السلطان محمد خان ۷۸۱ ۸۱٦ ۸۲٤ ۸ ٤۳
السلطان الغازي مراد خان الثاني ۸۰٦ ۸۲٤ ۸٥٥ ۳۱ ٤۹
السلطان الفاتح محمد خان الثاني ۸۳٥ ۸٥٥ ۸۸٦ ۳۱ ٥۱
السلطان الغازي با يزيد خان ۸٥٦ ۸۸٦ ۹۱۸ ۳۲ ٦۲
السلطان الغازي سليم خان ۸۷٤ ۹۱۸ ۹۲٦ ۸ ٥۲
السلطان الغازي سليمان خان ۹۰۱ ۹۲٦ ۹۷٤ ٤۷ ۷٤
السلطان الغازي سليم خان الثاني ۹۲۹ ۹۷٤ ۹۸۲ ۸ ٥۳
السلطان الغازي مراد خان الثالث ۹٥۳ ۹۸۲ ۱۰۰۳ ٢۱ ٥۰
السلطان الغازي محمد خان الثالث ۹۷٤ ۱۰۰۳ ۱۰۱۲ ۹ ۳۸
السلطان الغازي أحمد خان ۹۹۸ ۱۰۱۲ ۱۰۲٦ ۱٤ ۲۸
السلطان مصطفى خان ابن محمد خان ۱۰۰۱ ۱۰۲٦ ۳ش
السلطان عثمان خان الثاني ۱۰۱۲ ۱۰۲۷ ۱۰۳۱ ٤ ۱۹
ولاية السلطان مصطفى خان الثانية ۱۰۳۱ ۱۰۳۲ ٤ش ۱ ۳۱
السلطان الغازي مراد خان الرابع ۱۰۲۱ ۱۰۳۲ ۱۰٤۹ ۱۷ ٦ش ۲۸
السلطان إبراهيم خان ۱۰۲٤ ۱۰٤۹ ۱۰٥۸ ۹ ۳٤
السلطان الغازي محمد خان الرابع ۱۰٥۱ ۱۰٥۸ ۱۱۰٤ ٦ش ٤۰ ٥۳
السلطان سليمان خان الثاني ۱۰٥۲ ۱۰۹۹ ۱۱۰۲ ٦ش ۳ ٦ش ٥۱
السلطان أحمد خان الثاني ۱۰٥۲ ۱۱۰۲ ۱۱۰٦ ٦ش ٤ ٥٤
السلطان مصطفى خان الثاني ۱۰۷٤ ۱۱۰٦ ۱۱۱٥ ٩ ٤۱
السلطان الغازي أحمد خان الثالث ۱۰۸۳ ۱۱۱٥ ۱۱٤۳ ۲۸ ٦۰
السلطان الغازي محمود خان ۱۱۰۸ ۱۱٤۳ ۱۱٦۸ ۲٥ ٦۰
السلطان عثمان خان الثالث ۱۱۱۰ ۱۱٦۸ ۱۱۷۱ ۳ ٦ش ٦۰
السلطان مصطفى خان الثالث ۱۱۲۹ ۱۱۷۱ ۱۱۸۷ ۱٦ ٦ش ٥۸
السلطان الغازي عبد الحميد خان ۱۱۳۷ ۱۱۸۷ ۱۲۰۳ ۱٦ ٦٦
السلطان الغازي سليم خان الثالث ۱۱۷٥ ۱۲۰۳ ۱۲۲۳ ۱۹ ٤۸
السلطان مصطفى خان الرابع ۱۱۹۳ ۱۲۲۲ ۱۲۲۳ ۱ ۳۰
السلطان الغازي محمود خان الثاني ۱۱۹۹ ۱۲۲۳ ۱۲٥٥ ۳۲ ٦ش ٥٥
السلطان الغازي عبد المجيد خان ۱۲۳۸ ۱۲٥٥ ۱۲۷۷ ٦ش ۲۲ ۳۹

(٢) في أصول قوانين الدولة العلية

قد سلف في المقدمة أن المرحوم المنعم السلطان الغازي عبد المجيد خان استدرك الخلل الواقع في سياسة الدولة بضبطه للسياسات الشرعية بالتنظيمات الخيرية سنة خمس وخمسين ومائتين وألف هجرية، وأصدر المنشور الموشح بالخط السلطاني المبيَّن به أصول التنظيمات المشار إليها التي صارت أساسًا لتصرفات الدولة وضمانًا لحقوق الرعية، وخلاصة ترجمة المنشور المذكور:

من المعلوم عند الجميع أن دولتنا العلية لم تزل من مبدأ ظهور أمرها معتنية بكمال الرعاية للأحكام القرآنية الشريفة والقوانين الشرعية المنيفة، وأن سلطتننا السَّنيَّة قد وصلت بذلك إلى الدرجة القصوى من القوة والمكانة ورفاهية الرعايا وعمارة المدن والقرى. إلَّا أنها منذ مائة وخمسين سنة تناقصت قوتها ومعمورية ممالكها وأخذت في التأخر والضعف؛ وذلك لغوائل متعاقبة وأسباب متنوعة نشأ منها تجاوز الحدود الشرعية والقوانين المرعية. ولا يخفى أن الممالك التي لا تنسج إدارتها على منوال القوانين الشرعية لا تدوم استقامتها؛ فلذلك لم تزل أفكارنا منذ جلوسنا على سرير الملك مصروفة إلى تدبير وسائل عمارة الممالك ورفاهية الأهالي؛ مما يحصل به المطلوب في مدة يسيرة بعون الله تعالى، نظرًا إلى حسن الموقع الجغرافي المحتوي على ممالك دولتنا العلية ذات الأراضي الخصبة والأهالي ذوي الاستعداد وتمام القابلية، إلى أن رأينا من المهم وضع قوانين جديدة مؤسسة على القواعد الشرعية المشيدة، واعتمادنا في وضع ذلك على العناية الربانية متوسلين بحرمة سيد البرية .

ومدار القوانين المشار إليها على وجوب حفظ النفس والعرض والمال، وعلى بيان المرجع في تعيين الأداء وجلب العساكر اللازمة. أما وجوب حفظ النفس والعرض فلكونهما أعز الأمور الدنيوية، فإذا خشي الإنسان عليهما اضطر إلى التشبث بمَن يرجو به وقايتهما كائنًا مَن كان، وإن لم يكن في أصل فطرته مجبولًا على الخيانة. ولا يخفى أن ذلك مما يضر بالدولة والمملكة، بخلاف ما إذا كان آمنًا على نفسه وعرضه، فإنه لا يحيد عن طريق الصدق والاستقامة وصرف الهمة إلى حُسن الخدمة لدولته وملته. وأما المال فإن مَن فقد الأمن عليه لا يتأتى له القيام بحقوق دولته؛ إذ لا يخلو دائمًا من شغل بال واضطراب حال، بخلاف ما إذا كان آمنًا على ماله فإنه يَشغَل نفسه بما يعنيه في دينه ودنياه وينظر في توسيع دائرة معارفه وعيشه، وبذلك يتمكن من قلبه حب الوطن، وتشتد غَيرته عليه وعلى دولته ويكون سعيه على حسب ذلك. وأما تعيين الأداء فالمرجع فيه أن كل دولة تحتاج في حفظ ممالكها إلى القوة العسكرية، كما تحتاج في ضبط تصرفاتها إلى مصاريف لازمة، فلا بدَّ لها من مبلغ وافر من المال بحسب احتياجها، وإنما يتحصل ذلك بما يُضرب على أتباع تلك الدولة، فلزم أن يوضع للأداء المشار إليه طريقة مستحسنة؛ وذلك أن الاستبداد وإن بقيت معه ممالكنا المحروسة سالمة والحمد لله على ذلك، لكن ظهرت آثاره من الاختلال والخراب، وذلك لأن جعل زمام مصالح المملكة السياسية وأمورها المالية بيد شخص واحد موكولة إلى اختياره، بل لا مانع أن يقال موكولة إلى قهره وجبره، يتسبب عنه ما ذُكر، خصوصًا إذا لم يكن ذلك الشخص من أهل الخير، فإنه يؤثر منفعته على منفعة الغير وتكون تصرفاته مبنية على الظلم والضير، فوجب لذلك أن نبادر بترتيب معيار مضبوط يعتبر في توزيع الأداء على الأهالي، مراعًى فيه قدر المكاسب واليسار، بحيث لا يؤخذ من أحد ما فوق مقدوره بعد أن يُجعل لمصاريف الدولة اللازمة للعساكر وغيرها حد محدود بقوانين لا تتعداها، وأما جلب العساكر فهو من أهم ما يتوقف عليه حفظ الدين والوطن والذَّب عنهما، فيلزم الأهالي أن يقدموا أشخاصًا منهم للخدمة العسكرية، لكن الطريقة الجارية في ذلك إلى الآن مع ما فيها من عدم الانتظام تؤدي إلى اختلال أصول الزراعة والتجارة وإلى قلة التناسل (فيقع النقص في الأموال والأنفس والثمرات).

ومنشأ ذلك عدم اعتبار عدد النفوس الموجودة ببلدان المملكة، فيؤخذ من بعضها أكثر من المقدور ومن بعضها أقل من الميسور، واستمرار الجندي في الخدمة العسكرية مدة حياته، وبذلك يقل النسل ويحصل الضجر المخل بفوائد الخدمة المذكورة، فبناءً على ذلك نرى من اللازم إذا مست الحاجة لأخذ العسكر من الممالك أن يوضع لذلك أصول مناسبة جارية على منهج المساواة المطلوبة، ثم يسلك في الاستخدام العسكري طريقة المناوبة، بحيث لا يبقى الشخص في الخدمة المذكورة أكثر من خمسة أعوام مثلًا، فبهذه الأصول التي عليها مدار القوانين والتنظيمات يحصل بمعونة الله نمو العمران والقوة والأمن والراحة. فلذلك نقول: يلزم من الآن فصاعدًا أن لا يعامل أحد من أرباب الجرائم والجنايات بما يفضي إلى إتلاف نفسه من سم ونحوه بدون مبالاة، بل لا يحكم عليهم إلَّا بما تقتضيه القوانين الشرعية، وأن لا يسلط أحد على الوقوع في عرض آخر وهتك حرمته، وأن يتصرف كل إنسان في أمواله وأملاكه بغاية الحرية وعدم المعارضة، وإنَّ مَن جنى جناية لا يحرم ورثته من حق وراثته بالاستيلاء على أمواله للجناية التي هُم برآء منها. وهذه المساعدة منَّا جارية في حق المسلمين وغيرهم من أهل الملل التابعين لسلطتنا بدون استثناء أحد منهم، ولإتمام الأمان وتعميم الاطمئنان يزاد في أعضاء مجلس الأحكام العدلية قدر ما يلزم للنظر في سائر النوازل وفصلها بما يتفق عليه الأكثر، وعلى وكلاء دولتنا العليَّة أن يحضروا المجلس المذكور في بعض الأيام ويبدي كل واحد ما يستصوبه دون تحاشٍ ولا مداراة.

وأما المفاوضة في شأن التنظيمات العسكرية فإنها تكون بدار الشورى الكائنة بمحل السر عسكر، وكل ما يستقر عليه الرأي من القوانين يعرض علينا لنوشحه بالخط الميمون ويكون دستور العمل إلى ما شاء الله، وحيث كان وضع القوانين الشرعية المشار إليها إنما هو لإحياء الدين والدولة والملك والملة، أكدنا ذلك بالعهد والميثاق من طرفنا الملكي، على أن لا يصدر منَّا شيء يخالفها، وأقسمنا على ذلك في بيت الخرقة الشريفة بمحضر جميع العلماء والوكلاء، وسيحلف كل منهم على ذلك، فإذا صدر بعد ذلك من أحد الوزراء أو العلماء ما يخالف تلك القوانين الشرعية فإنه يجازى بالتأديب المناسب لجريمته الثابتة بدون الْتفات لرتبته ولا مراعاة لذاته، وحيث إن مأموري الدولة لهم مرتبات كافية، ومَن ليس له ذلك الآن سيرتَّب له ما يكفيه، وجب أن نشدد في قطع مواد الرشوة المستبشعة طبعًا وشرعًا بوضع قانون يخص عقوبتها، ولاستبقاء التنظيمات المشار إليها والأصول المبنية هي عليها المغيِّرة للعوائد الجورية القديمة وجب أن ننشر هذه الأوراق السلطانية إلى سفراء الدول المتحابة المقيمين بالأستانة العلية؛ ليكونوا شاهدين على إمضائها، كما ننشرها إلى أهالي الأستانة وسائر ممالكنا المحمية، فمَن سعى في حل عرى هاته القوانين الموضوعة على أساس شرعي متين فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ولا ينال فلاحًا إلى يوم الدين. ونسأل الله تعالى أن يوفقنا لإجراء هذا الخير العميم، آمين.

ثم أصدر المنشور الثاني المؤرخ بجمادى الثانية سنة اثنتين وسبعين ومائتين وألف هجرية مخاطبًا به الصدر الأعظم في بيان حقوق غير المسلمين من رعايا الدولة العلية، ملخصه: إن أصناف الرعية كلهم وديعة الله في يد المَلك، فالواجب أن يكونوا كلهم حاصلين على الحالة الحسنة من العدل والإحسان، وإذا اتحدت وتآلفت قلوب بني الوطن قويت شوكة الدولة وعزة المملكة. ومن أسباب تأليف قلوب السكان من سائر أتباع الدولة أَمْنُ غير المسلم منهم على نفسه وماله كما أَمِنَ المسلمون؛ فلذلك نجعل لهم مجالس تحت نظر الباب العالي للنظر في أمورهم الدينية. ثم بيَّن كيفية تصرُّف رؤساء ديانتهم في ذلك، ثم ذكر أن القانون مانع لسائر الناس من ارتكاب ما يَزري بشرف الإنسان من أوصاف الشين والعار، وأن كل امرئ له الحرية التامة في دينه ومذهبه، فلا يُمنع أحد من رعايا السلطنة عن عبادته، ولا يُجبر على تبديل دينه أو مذهبه. ثم ذكر أن الدعاوي التي تحدث بين المسلمين وغيرهم من أهل الملل تفصل في مجالس يكون أعضاؤها من المسلمين وغيرهم، وإذا تنازع اثنان من غير المسلمين في مثل الميراث وتراضيا على التحاكم لدى رؤساء ديانتهما أو مجلس ينعقد لخصوص النازلة، فلهما ذلك. ثم قال: ولتضبط قوانين الجزاء والتجارة ويصلح حال السجون ويعامل المساجين بمقتضى تنظيماتها، بحيث لا يُرام أحد بما يؤلم بدنَه أو نحو ذلك. ثم قال: ويستوي سائر الرعايا في ضرائب الأداء والمطالبة بالخدمة العسكرية، وقد يعافى غير المسلم من مباشرة الخدمة المذكورة إذا أقام عوضًا عنه أو أعطى دراهم نقدًا معروفة المقدار.

ثم أشار إلى تنظيم الإدارة وأحوال البلاد … إلى أن قال: ولمراعاة النفع العام سيتعين من لدن دولتنا مبلغ من المال لتمهيد الطرقات. ثم تكلم على كيفية استخلاص المجابي، وبيَّن أن المجلس الذي ينظر في مصالح السلطنة تتولى اختيار أعضائه الذات الشاهانية، ومدة بقائهم في العضوية عام واحد، ويستوثق منهم باليمين عند دخولهم، وعليهم أن يذكروا ما يظهر لهم من غير تخوُّف من شيء غير ربهم … إلى أن قال: فلتفتح الطرق والجداول لنقل محاصيل المملكة، وليمنع كل ما يحول دون الزراعة والتجارة، وليكن تمام الاعتناء بتعليم المعارف والفنون، وبالتفتيش كلما أمكنت فرصة عن أسباب وضع الشيء بمحله في جميع الأمور. ثم ختمه بقوله: إليك يا صدر دولتنا الأعظم عنوان أمرنا الجليل الملكي، وأنت المشار عليه بتكميل ما نبا عنه البيان بالشرح الشافي، وإشاعته بدار خلافتنا وجميع بلدان سلطنتنا الجليلة ليعلمه الناس قاطبة من الآن، فعليك ببذل الجهد واستفراغ الهمة لإنفاذه والقيام بحقوقه، وعلى علامتنا الشريفة اعتمادك. هذا ما أمكن تلخيصه من ترجمة المنشورَين المذكورين، ولا يعزب عمَّن كابد تهذيب المعاني المنقولة من لغة إلى لغة عذر محررها في قلق العبارة، وما يقتضيه ضيقها في بعض التراكيب من الإخلال ببعض مقاصد الأصل.

(٣) في أحوال وزراء الدولة العلية ومجالسها السياسية والعسكرية

فأولها الصدارة العظمى، وهو وزير التفويض المطلق النائب عن الحضرة السلطانية والحافظ لطابع السلطنة العلية، وله رئاسة سائر الإدارات الداخلية والخارجية وجميع الوزراء عيالٌ عليه، لا سيما وزير الخارجية ووزير المال، ولا يُعرض شيء لإمضاءِ السلطان على غير طريقه، ولا يُمضى شيء بغير واسطته، يرأس المجلس الخاص ويجمع أعضاءَه للمفاوضة متى شاءَ، وبواسطته تكون ولاية سائر المتوظفين وعزلهم. ومقره الباب العالي، وهو قَصر ضخم بالتخت يقال له بلسان الترك باشا قبوسي، وبه يجتمع المجلس الخاص ومجلس الأحكام العدلية والوزارة الخارجية. وبالجملة فالباب العالي هو مركز سياسة الدولة، إليه تنتهي الأمور ومنه تصدر الأوامر الملكية، وقد تحل به الحضرة السلطانية أحيانًا، إما لتكون مفاوضة المجلس بمحضره أو لتعرض عليه مهمات السياسة غير التي تعرض عليه بقصره الخاص، على أنه يحضر به مرة في السنة حضورًا رسميًّا لتعرض على حضرته كليات الأمور التي وقعت في السنة الماضية، وهو يخاطبهم بما يقتضي استحسان ما وقع منهم أو بتحريضهم وتنبيه هممهم إلى ما يكون أحسن.

وللصدر الأعظم مستشار في الباب العالي معدود من ذوي المراتب الرفيعة، ومن وظيفته تلخيص جميع النوازل قبل عرضها على الصدر. ثم إن تصرفات الصدر على ثلاثة أقسام؛ قسم يأمر فيه الصدر بما يراه من غير عرض على أحد، وقسم يعرضه على إمضاء السلطان، وقسم يعرضه على المجلس الخاص أو مجلس الأحكام العدلية، وما يستقر عليه الرأي يعرضه على الإمضاء السلطاني إن كان مما يتوقف على الإمضاء، وإلَّا فيمضيه وحده بمقتضى قوانين الدولة، وبقية الوزارات كل منها مركَّب من وزير ومستشار وكتَّاب ووَزَعَة بقدر الحاجة. وبكل وزارة ما عدا الخارجية مجلس مركَّب من رئيس وأعضاء وكَتَبَة للتأمل وإعطاء الرأي في النوازل التي تعرض عليهم من الوزير، وما يستقر عليه الرأي يصحح عليه المجلس والوزير ثم يرسل إلى الصدارة العظمى، فإن كانت النازلة حسابية مثلًا يرسلها الصدر إلى مجلس المحاسبات، فإن ثبتت عنده صحتها وموافقتها لقوانين الدولة يرسلها إلى وزارة المال لتبقى هناك، وإن وُجدت فيها مخالفة عمدية فإن النازلة تنقل إلى مجلس الأحكام العدلية، ويحضر نواب من الوزارة التي وجد الخلل في حسابها للمدافعة عنها، ونواب من مجلس المحاسبات للمدافعة عن حقوق الدولة والقانون.

(٤) في بيان مجالس الدولة

  • فأولها: المجلس الخاص، وهو مُركَّب من شيخ الإسلام وسائر الوزراء وبعض أعيان المتوظفين تحت رئاسة الصدر الأعظم، ويسمى مجلس الباب العالي، ومجلس الوكلاء ويكون انعقاده مرتين في الأسبوع، إلَّا إذا عرضت نازلة مهمة فللصدر عقده متى شاء. وعلى هذا المجلس تُعرض جميع النوازل السياسية المهمة، وما يستقر عليه الرأي فيه يعرض على موافقة السلطان إن كان مما يتوقف على موافقته، وإلَّا يأمر الصدر بإمضائه. ومما يعرض على المجلس المذكور أمر المجابي دخلًا وخرجًا في كل سنة للمفاوضة وتعيين أصول المصاريف.
  • الثاني: مجلس الأحكام العدلية، وهو مركَّب من أكابر المتوظفين وأعيان أهل المملكة، يرأسه أحد أعضاء المجلس الخاص ممن له رتبة وزير. وينقسم ثلاثة أقسام بكل قسم منها رئيس ثانٍ تحت إشراف الرئيس الأول. فمأمورية القسم الأول النظر في الأمور الملكية السياسية، ومأمورية القسم الثاني تهذيب القوانين الجديدة وشرح مشكلاتها، حيث يقع الخلاف في الفهم، والقسم الثالث مأموريته التأمل والحكم فيما يصدر من المتوظفين من الجنايات ونحوها وتحقيق الأحكام الصادرة من سائر المجالس في سائر جهات المملكة بالعقوبة الثقيلة المتوقفة على إمضاء السلطان كالقتل والسجن بالخدمات الشاقة ونحو ذلك، بحيث لا يصدر إمضاء السلطان فيه إلا بعد حكم غالب هذا القسم. وفي المهمات تجتمع الأقسام الثلاثة تحت رئاسة الرئيس الكبير.
  • الثالث: مجلس مركَّب من عشرة علماء تحت رئاسة قاضٍ لتدقيق الأحكام الشرعية.
  • الرابع: مجلس مركَّب من ثمانية علماء تحت رئاسة مفتٍ لانتخاب الحكام الشرعية بعد امتحانهم.
  • الخامس: مجلس المعارف العمومية، وهو مركَّب من اثني عشر عضوًا تحت رئاسة مشير، ومأمورية هذا المجلس إدارة المكاتب والمدارس من الرتبة الأولى والثانية والثالثة عدا مكاتب العسكر بتقديم المدرسين بعد الامتحان وإجرائهم، وإجراء التلاميذ في الدروس على ما تقتضيه القوانين المرتبة لذلك، والتعريف بالمجتهد من المدرسين وعرض حاله على الدولة ليُعتنى به ولو بالإحسان إليه؛ للترغيب في طلب العلم والجِد فيه، ومن مأموريته امتحان التلاميذ والتأمل فيما يؤلَّف من الكتب والرسائل والمنع من إشهار ما اشتمل على شيء ينافي الديانة ومكارم الأخلاق.
  • السادس: مجلس وزارة الحرب، وهو مركَّب من خمسة عشر عضوًا تحت رئاسة أمير أمراء، ومأموريته إدارة المصالح العسكرية كتعيين مَن وجَب تقديمه للولاية من الضباط على اختلاف مراتبهم والنظارة على الأطعمة واللباس والأسلحة وتحرير حسابات الوزارة وغيرها من المهمات العسكرية.
  • السابع: مجلس الطوبخانة، وهو مركَّب من سبعة أعضاء تحت رئاسة أمير أمراء ومأموريته إدارة مهمات الطوبجية وفبريكات السلاح والبارود وخزائنهما وحراسة الحصون وتحرير الحسابات.
  • الثامن: مجلس وزارة البحر، وهو مركَّب من أحد عشر عضوًا ومأموريته النظر في متعلقات أحوال البحر بمثل ما ذُكر بمجلس وزارة الحرب نصًّا سواءً.
  • التاسع: مجلس المحاسبات، وهو مركَّب من اثني عشر عضوًا تحت رئاسة أحد المتوظفين السياسية من الرتبة الأولى، ومأموريته تحقيق حسابات سائر المتوظفين في الدولة من الوزارات وغيرها وتطبيقها على القوانين المرتبة في ذلك.
  • العاشر: مجلس التحقيق، وهو مركب من عشرة أعضاء تحت رئاسة أحد المتوظفين من الرتبة الأولى، ومن أعضائه ثلاثة أشخاص من رعايا الدولة غير المسلمين.
  • الحادي عشر: مجلس الضابطية، وهو مركَّب من أحد عشر عضوًا تحت رئاسة أحد المتوظفين من الرتبة الأولى، ومن أعضائه إغريقي وكاثوليكي ويهودي من رعايا الدولة، ومأموريته فصل النوازل الخفيفة من الجنايات.
  • الثاني عشر: المجلس البلدي ويسمى مجلس إدارة الضابطية، وهو مركَّب من ثمانية أعضاء تحت رئاسة أحد المتوظفين السياسية من الرتبة المتمايزة، ومأموريته إدارة مصالح البلد، وتحته خمسة مجالس صغار، كل منها مركَّب من أربعة أعضاء ورئيس، ثم ديوان استئناف مركَّب من خمسة أعضاء منهم مفتٍ يرأسه وزير المتجر لتحقيق الأحكام الصادرة من بقية مجالس المتجر بين الأهالي، ثم مجلس أول لفصل النوازل المتجرية مركَّب من خمسة أعضاء تحت رئاسة أحد متوظفي الرتبة المتمايزة. ومجلس ثانٍ لذلك مركب من أربعة أعضاء تحت رئاسة أحد متوظفي الرتبة الثانية من المتمايزة، ومجلس ثالث لذلك أيضًا مركَّب من ثلاثة أعضاء تحت رئاسة مثل رئيس المجلس الثاني، ووظيفتهم فصل سائر نوازل المتجر بين رعايا الدولة، وإن كان في النازلة أجنبي يضاف للمجلس أشخاص من الأجانب على مقتضى الترتيب المتفق عليه مع دولهم. ثم مجلس المعادن، وهو مركَّب من أربعة أعضاء تحت رئاسة أمير أمراء، ومأموريته إدارة المعادن المعلومة والبحث عما لم يعلم بعدُ منها. ثم مجلس المرسومات؛ أي المجابي، وهو مركَّب من ستة أعضاء تحت رئاسة أحد المتوظفين من الرتبة الأولى. ثم مجلس المعابر، وهو مركَّب من سبعة أعضاء تحت رئاسة أمير أمراء، وكلفته عمل الطرقات والقناطر ونحوها من الأبنية العمومية. ثم مجلس مكلف بتدبير صرف المبلغ المعين للحضرة السلطانية، وهو مركَّب من ستة أعضاء تحت رئاسة أحد المتوظفين من الرتبة المتمايزة، ومقر المجالس المذكورة كلها دار الخلافة.

(٥) في مقدار سعة ممالك الدولة العلية وعدد سكانها

اعلم أن سكان الممالك العثمانية على مقتضى كتب الجغرافيا يبلغ عددهم سبعة وثلاثين مليونًا إلى أربعين، منها في قسم أوروبا ستة عشر مليونًا وسبعمائة وثلاثون ألفًا، وفي قسمي آسيا وأفريقية أحد وعشرون مليونًا. فمن سكان قسم أوروبا أربعة ملايين وتسعمائة وخمسون ألفًا من المسلمين وأحد عشر مليونًا وسبعون ألفًا من الإغريق والأرمن، وستمائة وأربعون ألفًا من النصارى الكاثوليك وسبعون ألفًا من اليهود. ومن سكان قسمي آسيا وأفريقية ستة عشر مليونًا ومائة وسبعون ألفًا من الإسلام، وأربعة ملايين وثمانمائة وثلاثون ألفًا من الإغريق والأرمن واليهود وغيرهم. فجملة الرعايا من الإسلام واحد وعشرون مليون نفس ومائة وعشرون ألفًا، وجملة الرعايا من غيرهم ستة عشر مليونًا وستمائة وعشرة آلاف. وإذا نسبنا مبلغ الصنف الثاني إلى الأول واعتبرنا أنه وإن نقص عن الأول في الكمية فعنده من أسباب التمدن ما يجبر به ذلك النقص، مع وجود العلاقة الجنسية بينه وبين الدول الأوروباوية ومساعفتها له على الإلحاح في طلب المساواة في سائر المنح من الدولة العلية؛ لكونه من جملة رعاياها وأبناء وطنها لم يبقَ لنا توقف في تصويب ما تضمنه المنشور الثاني المتقدم آنفًا، والجزم بأن سريان خلاف ذلك إلى بعض العقول القاصرة منشؤه عدم الاطلاع على ما في الخارج المُلجئ إلى وجوب ارتكاب أخف الضررين.

وأما المساحة فقدر سطح أرض تلك الممالك أربعة ملايين وخمسمائة وسبعة وثلاثون ألفًا وثلاثمائة كيلومتر، منها في قسم أوروبا خمسمائة واثنان وأربعون ألفًا وثلاثمائة كيلومتر، والباقي في قسمي آسيا وأفريقية وهو ثلاثة ملايين وتسعمائة وخمسة وتسعون ألف كيلومتر، والكيلومتر عبارة عن ألف متر، والمتر ذراع ونصف تركيان. ثم إن الممالك العثمانية تنقسم إلى إيالات، والإيالات تنقسم إلى أعمال ألوية، وكل من أعمال الألوية ينقسم إلى أوطان قضاة، والأوطان يحتوي كل منها على بلدان وقرى، وفي مركز كل إيالة والٍ مكلَّف بإمضاء القوانين وأوامر الدولة بمثل الإعانة على استخلاص المجابي وتنزيل العسكر وغير ذلك من مصالح الدولة، وهو المكلف بحفظ راحة السكان والسعي في تنمية الفلاحة وتسهيل طرق المتجر ورفع العوائق عن سائر الصناعات وتمهيد الطرقات وبناء القناطر ونحو ذلك بمشاركة مجلس الإيالة، وهو المسئول عن سيرة متوظفي إيالته، حيث إن من مأموريته منعهم من ارتكاب ما يخالف واجباتهم وإعلام الدولة بذلك حالًا، كما أن من واجباته إعانة الحكام الشرعية والمجالس العرفية. ومع هذا الوالي مجلس تحت رئاسته لفصل النوازل التي تقع بين السكان والنظر في سائر مصالح الإيالة من أعضائه الدفتر دار المكلف من الدولة بأحوال المجابي، وقاضي الإيالة مع خمسة وعشرين عضوًا منتخبين من الأهالي، وقد شهد المنصفون من أهل أوروبا بحسن هذا الترتيب ولياقته بمصالح الإيالات. ثم في كل مركز عمل لواء قائم مقام تحت رئاسته مجلس تنتخب أعضاؤه من الأهالي، وتصرف هذا القائم مقام ومجلسه في العمل كتصرف الوالي ومجلسه في الإيالة، إلا أنه تحت نظر والي الإيالة. وفي كل وطن من أوطان القضاة مدير تحت رئاسته مجلس تنتخب أعضاؤه من الأهالي، وتصرف المدير ومجلسه في الوطن كتصرف القائم مقام ومجلسه في عمل اللواء، إلا أنه تحت إذنه. ثم في كل بلد أو قرية قوجه باشي أو مختار ينتخبه أهل البلد مكلَّف بإدارة البلد. وفي كل بلد من بلدان المملكة يوجد مجلس جنايات لفصل سائر نوازل الجنايات الواقعة بين السكان عدا ما يلزم إنهاؤها لمجلس الأحكام العدلية بالتخت، فإن عمل مجلس الجنايات المذكور فيها سماع الدعوى وتحرير الحجج، ثم إرسال جميع ذلك لمجلس الأحكام العدلية بواسطة الوالي.

كما يوجد بكل بلدة كبيرة مجلس متجري مركَّب من رئيس وأعضاء من الأهالي لفصل النوازل المتجرية بين رعايا الدولة، وإن كان في النازلة أجنبي يضاف لذلك المجلس أعضاء من الأجانب، وقد بلغ عدد المجالس المتجرية اثنين وخمسين مجلسًا. أما المجالس العسكرية فاعلم أن الجيوش البرية بالممالك العثمانية مقسومة إلى ستة أقسام، يسمى كل منها عرضيًّا تحت إمارة مشير وبه مجلس لفصل نوازل العسكر وتدبير مصالح الجيش، وللدولة رجال تنتخبهم من أعيانها الموسومين بالمعرفة والنجابة والمروءة، والديانة تكلفهم بالبحث عن كيفية إجراء القوانين وسائر الإدارات الملكية والمدنية إجمالًا وتفصيلًا، وتفوض لهم عزل مَن يستوجب العزل أو سجنه أو توبيخه أو توجيهه إلى تخت المملكة، وقد نتج من هذه الخدمة مصالح مهمة من تحسين الإدارة واستقامة تصرفات الولاة والقضاة والمجالس؛ إذ المكلفون بالتفقد في الحالة الراهنة ممن لا تأخذهم فيما وكل لأمانتهم لومة لائم، وبالجملة فخدمة هاته الطائفة المكلفة بالبحث والتفقد من أهم الخدمات النافعة للإيالات خصوصًا البعيدة عن دار الخلافة.

(٦) في بيان ما للدولة من الاعتناء بتهذيب أخلاق رعاياها من الإسلام وغيرهم بتوسيع دوائر المعارف وتسهيل طرق اكتسابها

فمن ذلك اعتناؤها بمكاتب العلوم، لا سيما الرياضية التي كادت تنقطع من أرض الإسلام مع شدة الاحتياج إليها في هذا الوقت، فقد نفق الآن سوقها بممالك الدولة العلية حتى صار مدرسوها من ضباط العساكر السلطانية وأعز أبناء الوطن، وبذلك يرتجى عود الدر لمعدنه لما أشرنا إليه في المقدمة من أن الإسلام كان منبع غالب تلك العلوم، ومن ذلك اعتناؤها بمطابع الجرنالات اليومية وغيرها المطلعة على حوادث الأيام في سائر المعمور. ولا شك أن ذلك من أقوى أسباب التهذيب والتمدن، كما يقتضيه العقل والتجربة؛ أما العقل فلأن القادر على الاختراع قليل، فشأن الأمم السالكين سبيل الحضارة اقتداء بعضهم ببعض في الأعمال الحميدة حتى يكونوا من الذين يرعون الحسن من الأحوال ولا يتركونه في زوايا الإهمال، وأما التجربة فبمشاهدة تقدم الإفرنج في المعارف الذي من أعظم أسبابه انكبابهم على مطالعة الجرنالات في كل آنٍ. وليس بعد العيان بيان فمن الجرنالات التي تطبع بدار الخلافة الجرنال المسمى تقويم الوقائع الملكية، ثم جريدة الحوادث، ثم ترجمان الأحوال، وهذه الثلاثة باللغة التركية، ومنها الجوائب الذي هو عربي العبارة، ثم المسمى تصوير الأفكار والمسمى بمجموع الفنون، ثم جريدة عسكر وفروعها التي تُصدر في كل شهر مجموعة تشتمل على فنون عسكرية تُطبع بالمكتب الحربي. ويوجد بالقسطنطينية جرنالات غير ما ذكر بلغات عديدة كلغة الأرمن والبلغر والإغريق، واللغة الفرنساوية والإنكليزية وغيرها.

ولنرجع إلى بيان المكاتب وعدد تلامذتها إجمالًا، فأولها المكتب الحربي السلطاني بالقسطنطينية يحتوي على أربعمائة وثمانية وخمسين من التلاميذ، يُتعلَّم به الجبر الأعلى من العلوم الرياضية واستخراجُ سطوح المثلثات البسيطة المستوية وزواياها والكزموغرافيا؛ أي فن الهيئة وفنُّ الاستحكامات والتوبوغرافيا؛ أي رسم البلدان والأسوار، وفنُّ الحكمة والطبيعيات والبيطرة واللسان الفرنساوي والهندسة الرسمية واستعمالُ السيف وعلم المناظر والأظلال وفنون الطوبجية والبناء العسكري والرمايةُ والفروسية وسرعة المشي ونحو ذلك من الفنون الحربية على اختلاف أنواعها. كما يوجد بها سبعة عشر مكتبًا يدرس في جميعها علوم العربية كالنحو والبيان والرسم والإنشاء وعلم التاريخ والجغرافيا والمنطق والحساب والهندسة والعلوم الشرعية، كما يدرس بها علم الإدارة المالية والقوانين واللسان الفارسي والفرنساوي والفنون الرياضية. ومبلغ ما بها من التلاميذ ألف وثمانمائة وستة وعشرون تلميذًا، كما يوجد بها مكتب لترشيح الطلبة للتدريس بالمكاتب الرشدية عدد تلامذته اثنان وعشرون. وهناك مكاتب أخرى لترشيح الطلبة للخدمات الملكية.

وبالجملة فمكاتب الدولة العثمانية آخذة في التقدم، وهي منقسمة إلى ثلاث مراتب؛ المرتبة الأولى للمبتدئين من التلاميذ، والثانية للمتوسطين، والثالثة للمنتهين، وقد بلغ عدد مكاتب المرتبة الأولى في العام المنصرم وهو سنة ثلاث وثمانين ومائتين وألف هجرية خمسة عشر ألفًا وأربعين مكتبًا في سائر جهات المملكة، بها من التلامذة خمسمائة ألف وستة آلاف وثلاثمائة وستة عشر، فمن تلك المكاتب اثنا عشر ألفًا وأربعمائة وثمانية وسبعون مكتبًا للإسلام بها من التلاميذ ثلاثمائة وثمانية وستون ألفًا، وباقي المكاتب والتلاميذ لرعايا الدولة من غير الإسلام، وغالب معلمي تلك المكاتب من المسلمين وأبناء الوطن، كما أن غالب أطبائهم كذلك، وقد فتحت في العام الفارط مدرسة تعرف بدار الفنون يقرأ بها فن الكيمياء والطبيعة الحكمية، وكان المباشر للتدريس بها أحد أعيان الباشوات، ومن مزايا الدولة العلية ترتيب الجمعيات العلمية التي منها الجمعية الكائنة بمقر خزائن الكتب الجامعة للتآليف الإسلامية والإفرنجية، ويؤخذ عن علمائها فنون مختلفة بلغات عديدة، وبمحل هاته الجمعية مكان مخصوص بمطالعة الجرنالات، ثم جمعية المدرسين من علماء الإسلام المنقسمة إلى قسمين؛ قسم يكون اجتماعهم بمكتب معين لهم تؤخذ به عنهم علوم العقائد وفن الرياضيات وعلم الحساب والهندسة والجغرافيا وفن التاريخ، والقسم الثاني موقوف أمره الآن على إنجاز خصوصيات وستتهيأ إن شاء الله قريبًا، ومن مزاياها الاعتناء بالطرق الحديدية وسلك التلغراف، ففي سنة أربع وثمانين ومائتين وألف الحالة بلغ طول المنجز من الطرق المذكورة أربعمائة وأربعة وعشرين كيلومترًا، ومن سلك التلغراف أربعة عشر ألفًا ومائة وخمسة وعشرين كيلومترًا.

(٧) في القوة المالية والعسكرية بالمملكة العثمانية

اعلم أن قيمة جميع السلع الداخلة إلى ممالك الدولة والخارجة منها على ما حرره صاحب قاموس السياسة بلغت منذ سبع عشرة سنة، وهي مدة رسوخ التنظيمات، اثنتي عشرة مائة مليون فرنك في السنة بعد أن كانت لا تتجاوز أربعمائة وخمسين مليونًا، وهذا أوضح دليل على لياقة التنظيمات بالمملكة، حيث ازداد بتأسيسها في نتائج المملكة ورفاهية أهاليها ما يقرب من ضعفي الأصل، وقد تحقق بذلك ما ترجاه السلطان عبد المجيد نعمه الله من إجراء القوانين لممالكه ذات الأراضي الخصبة والأهالي الذين هم في غاية القابلية، كما أشار لذلك بطالعة منشور تأسيس القوانين المتقدم ذكره، كما أن سفن المتجر الداخلة في مراسي المملكة لم تزل تتضاعف، وفي سنة ثلاث وستين وثمانمائة وألف بلغ قدر ما دخل منها بخصوص مرسى القسطنطينية ما يأتي بيانه:

جدول في بيان عدد السفن التي دخلت بمرسى القسطنطينية سنة ۱۸٦۳.
طونلاتة مراكب أصناف المراكب
۸٥۸۰۳٤ ۱۹۳۲۸ مراكب براية التُّرك
٦۲۱٥۸ ۸۲٤ مراكب براية الممالك التابعة للدولة المستقلة في إدارتها الداخلية بأداء سنوي
۹۲۰۱۹۲ ۲۰۱٥۲ الجملة
٥۳٤٦۰۳۷ ۲۰٦۷۰ مراكب أجنبية
٦۲٦٦۲۲۹ ٤۰۸۲۲ الجملة
بيان دخل الدولة السنوي وخرجها بمقتضى المضبطة الرسمية المنشورة في عام ۱۲۸۱.
فرنك   
٤۰٥۰۹۱۸۷٥ جملة الدخل
٤۰۰٥۰۷٥۰۰ جملة الخرج
جدول في بيان القوة العسكرية البرية سنة ۱۸٦۱.
وقت الحرب وقت الصلح أصناف العساكر
۱۱۷۳٦۰ ۱۰۰۸۰۰ عسكر تريس
۲۲٤۱٦ ۱۷۲۸۰ خيالة
۷۸۰۰ ۷۸۰۰ طوبجية الأمحال
٥۲۰۰ ٥۲۰۰ طوبجية الحصون
۱٦۰۰ ۱٦۰۰ مهندسون
۸۰۰۰ ۸۰۰۰ عساكر في كريد
٤۰۰۰ ٤۰۰۰ عساكر في طرابلس الغرب
۱٤۸٦۸۰ عسكر رديف
۱۰۰۰۰۰ عساكر الممالك التابعة للدولة التي لها استقلال في إدارتها الداخلية
عسكر غير مرتب
٥۰۲۰٥٦ ۱٤٤٦۸۰ الجملة
جدول في بيان القوة العسكرية البحرية سنة ۱۸٦٦.
جملة المدافع جملة المراكب مراكب قلاع فابورات فابورات حديد بحرية أصناف البحرية
٥ أمراءُ البحر
۱۱ أمراءُ ألوية
۱۰۹۰۰ جملة القبطانات والفسيالات والبحرية
۲۲۱۰۰ الرديف
أصناف السفن
٤۷۰ ٥ ٥ بوارج أي أجفان
۲۱٦ ٦ ٦ فراقط مدرعة بالحديد منها ثلاث مشرفة على التمام
٤۷٤ ۱۰ ۱۰ فراقط
۱٥٥ ۹ ۹ قرابط
۳٦ ٦ ٦ شالوب أي قوارب
۸۰ ۸۰ أبركة وسكاين ونحوها
۱۲ ۱۲ مراكب لحمل الأثقال عدا الفابورات لما ذكر؛ إذ لم يتيسر لنا معرفة عددها الآن
۱۳٥۱ ۱۲۸ ۹۲ ۳۰ ٦ ۳۳۰۱٦ الجملة

وبما بيناه من تنظيمات الدولة العليَّة السياسية والعرفانية حصل لها من قوة الشوكة وظهور النمو في عمران ممالكها بالنسبة لما كان قبل التنظيمات ما لم يكن يُظن حصولُه في هذه المدة القليلة، ولا يستطيع المنصف جحده ولا يجد المكابر سبيلًا لإنكاره، وقد كان يمكنها الحصول على أكثر من ذلك لولا العوائق التي أعظمها إغراء بعض الدول الأجنبية لبعض رعايا الدولة من غير الإسلام بالامتناع وعدم الرضا ونحو ذلك مما أوضحنا أسبابه في المقدمة. هذا ما أمكن تحريره من تراتيب الدولة العلية على ما فيه من إجمال؛ لأن الكتب التي لخصنا منها هذا المختصر أكثرها إفرنجية، فلم نجد بها مزيد إيضاح لأحوال الممالك الإسلامية، خصوصًا ما يتعلق بالمجابي والخرج والقوة العسكرية ولم نعثر الآن من الكتب الإسلامية على ما يفيدنا إفادة شافية.

هذا وقد اشتُهر في هذه الأيام بميادين السياسة أن عزيز مصر إسماعيل باشا الأفخم رتَّب مجلسًا شوريًّا يحتوي على خمسة وسبعين عضوًا تنتخبهم الأهالي للنظر في أحوالهم الداخلية دون الخارجية لتكفل الدولة العليَّة بها، وتفويض الأمور الداخلية لنظر ولاة مصر من آل محمد علي باشا، بشرط أن لا يحيدوا في تصرفهم عن مقاصد الشريعة الإسلامية، ثم التنظيمات السياسية المؤسسة عليها من تلقاء الدولة العلية، وذلك بمقتضى المنشور الصادر لمحمد علي باشا الممنوح بالمنشور المذكور تخليدَ ولاية مصر في نسله، وجعلها وراثة في ذريته على شروط مقررة به كأداء مقدار معلوم من دخل مصر للدولة العلية في كل سنة، وتوجه الوالي لدار الخلافة عند ولايته، وأن لا يعطي شيئًا من أراضي المملكة لأجنبي إلَّا بترخيص من الدولة، وأن تكون ولاية المتوظفين في المراتب العالية عن إذن السلطان، إلى غير ذلك. وقد وقع أول اجتماع للمجلس المصري المشار إليه في نوفمبر سنة ثلاث وثمانين ومائتين وألف هجرية، ولا يُمترى أن ذلك مما يحصل به إن شاء الله الفوائد الجمة لسكان تلك البلاد إذا قام أهله بواجباتهم وعرف أهل المملكة مواقع الانتخاب من أهل الفضل والمروءة والتجربة والفطنة والغَيرة على الوطن؛ كي لا يغتروا بزخارف أرباب الأغراض ويعرضوا عن دسائسهم كل الإعراض، واستمر أميرهم الداعي إلى هذا التعاضد من تلقاء نفسه على التزام العمل بما يتفق عليه أهل المشورة، إلى غير ذلك مما يجب اعتباره في إنجاح هذا السعي الحميد العواقب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤