الفصل التاسع والعشرون

سلسلة جبال البرانس

هذه هي الجبال الفاصلة بين فرنسة وأسبانية. ولما انتخب الأسبان حفيد لويس الرابع عشر ملك فرنسة ملكًا عليهم قال له جده: يا ولدي لم يبق برانس. وذلك إشارة إلى أن هذه الجبال هي الحد الحاجز بين المملكتين.

وهي ممتدة من البحر المتوسط الاطلانطيكى، وبدايتها من جهة البحر المتوسط رأس «كريوس» Créus في أرض أسبانية، وهو متصل «برأس سربار» Cerbére من أرض فرنسة شمالي مرسى «بو» Port-Bou ونهايتها عند الأطلانتيكي نهر «بيداسوا» Bidassoua الذي يصب ماؤه في خليج غشقونية Gascogne وفي وسط هذا النهر جزيرة الحجال التي اصطلحت المملكتان أن تجعلها منطقة متحايدة بينهما.
عرض هذه الجبال هو من الغرب ٣٠ و٤٢ إلى ٢٠ و٤٣، ومن الشرق من ٢٠ و٤١ إلى ٤٣، فهي مائلة من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي. وكلما تقدمت نحو البحر الرومي يزداد عرضها. وثخانة هذه السلسلة الجبلية هي ٥٥٣٨٠ كيلومترًا مربعًا، من أصلها ٣٨٥٦٥ كيلومترًا مربعًا في المنحدر الإسبانيولي، و١٦٨١٥ في المنحدر الفرنسي، فمنها إذن الثلثان في أرض أسبانية، والثلث في أرض فرنسة. وهذه السلسلة حفظت في الجنوب هيئتها الأصلية أكثر مما حفظت في الشمال، وذلك بسبب كون الجنوب أصفى أفقًا، وأكثر شعاع شمس، بحيث إن المياه تتبخر فيه بسرعة. فأما في الشمال فالرطوبة الزائدة، والرياح الشديدة الهابة من الشمال، أحدثت في هذه الجبال بكرور الدهارير تغييرات عظيمة. وكثيرًا ما تبددت النجود لاحقة بالسهول. ويزداد هذا التفكك في البرانس الشمالية، كلما قربت من الأوقيانوس. وارتفاع البرانس يتدرج من المكان الذي يقال له «رون» Rhune وعلوه تسعمائة مترًا مقابلًا للأوقيانوس إلى قمة «أنيتو» Anto، وعلوها ٣٤٠٤ أمتار، وهي أعلى قمة في الجبال المسماة بالجبال الملعونة Maidits وفي جميع السلسلة. وهناك قمم أقل ارتفاعًا، مثل قمة «آني» Anie التي علوها ٢٥٠٤ أمتار، وقمة «أوساو» Ossau وعلوها ٢٨٨٥ مترًا، وقمة «بلايطس» Balaitous وعلوها ٣١٤٦ مترًا، وذروة «فينمال» Vignemale، وعلوها ٣٢٩٨ مترًا، وذروة الجبل الضائع Mont Perdin وعلوها ٣٣٥٢ مترًا، وقمة «بوزالس» Posels وعلوها ٣٣٦٧ مترًا.
وإلى الشرق من الجبال الملعونة، ومن قمة أنيتو، تهبط الارتفاعات إلى ٢٧٥٨ مترًا، ولكن يبقى ارتفاع كبير لا يهبط، فإن جبل كانيفو Canigou المشرف على البحر المتوسط لا يقل ارتفاعه عن ٢٧٨٥ مترًا.
أما المعابر التي في جبال البرانس، والتي يقال لها عند العرب أنفسهم «البرتات» فهي تعلو بحسب علو الجبال، وتكثر عقابها، ويمر السائر فيها بكثير من مناسب الثلج. وفيها طرق معبدة أحيانًا، تمر عليها العربات إلا أنه يوجد أماكن ليست فيها طرق صالحة للعربات، وإنما هي شعاب يصعب حتى على البغال العبور منها. ومن هذه المعابر أو البرتات،، معبر مركادو Marcadau ارتفاعه ٢٥٥٦ مترًا، وهو يفضي من المكان الذي يسمى كونريه Cauterets إلى حمامات بانتيكوزه Panticosa التي علوها ١٦٧٣ مترًا في جوف نهر كالدارس Caldares وهو من الأنهر التي تنصب في جلق، نهر سرقسطة. وقبل الوصول إلى بنتيكوز يمر السائح ببحيرات ماشيماسة Machi Massa ويرى شلالًا عظيمًا يقال له ليفازه Levaza وكثيرًا ما يذهب السياح إلى هناك لمشاهدة جمال الطبيعة.
وكل شيء يراه الإنسان هناك يراه صغيرًا بالنظر لعظمة الجبال الشماء، فالبشر أشبه بالنمل، والمباني التي لو كانت في أماكن أخرى لكانت شاهقة، لا يكاد الرائي يبصرها. وفي أوسط جبال البرانس نقطة يقال لها غافارني Gavarnie علوها ١٣٤٦ مترًا، منها ينفذون من مضيق يقال له مضيق رولان Breche de Roland علوه ٢٨٠٤ أمتار، وهو مضيق وعر، يمرون منه على مثلجة لا تخلو من خطر، لأنها أبدًا تقذف بالصخور، وبقطع الثلج الكبار، وقد سبق هلاك المارة من هناك.
ومن المعابر المشهورة البروت المسمى فينسك Venasque علوه ٢٤٤٨ مترًا، ويذهبون إليه من لوشون، وفي أيام الصيف تكثر القوافل المارة منه بالسياح أو بالتجار، وهناك معبر يقال له البرش La Peereche بين سردانية Cerdagne وكابسير Capcir وكانت تمر به بينهما طرق رومانية قديمة، وعلوه ١٦٠٠ متر، ثم معبر برتوس Perthus يفيض الناس منه على سهول أمبوردانية Ampurdan ومن هنا يقع المرور بين باربينيان Perpignan في فرنسة، وجيرونة Girona في أسبانية. وهذا المعبر هو البورت الأعظم، والأقدم، وطالما مرت به جيوش العرب في غزواتها للأرض الكبيرة.
أما الحدود هناك بين فرنسة وأسبانية فلا تسل عنها، بل هي مما يصح أن يقال فيه: كيفما اتفق. فأية هيئة سياسية تقدر أن تسير أشهر في تلك الجبال الشامخة في جوار المثالج الهائلة، حتى تعين حدودًا معقولة بين المملكتين؟ فلذلك تجد أنهارًا إسبانيولية منابعها فرنسية، وأخرى فرنسية منابعها إسبانيولية، وترى كثيرًا من الجبال والوهاد متشابكة بين فرنسة وأسبانية تشابكًا فظيعًا. ولجميع أقسام أسبانية حظ من البرانس، ولكن أوفرها حظًّا منها مملكة أراغون، فإن الجبل الضائع، وجبل مالاديتا Maladeta، هما أراغونيان. والفاصل بين برانس أراغون وبرانس كتلونية واد يقال له ريباغورزانة Ribagorzana.

أما الجبال المسماة بالجبال الملعونة، فهي تابعة لبلاد أراغون، وأعالي ذراها تبلغ ثلاثة ألاف متر، فهي من شواهق جبال أوربة. ولو كانت هذه الجبال في آسية أو أمريكا لما كانت بهذه الجلالة، لأن جبال حملايا في آسية ترعى فيها الغنم إلى ارتفاع ستة آلاف متر. وفي أمريكا الجنوبية توجد بلاد مسكونة في الجبال على ارتفاع أربعة آلاف متر. وفي جزيرة العرب تجد قرى وقصبات عامرة على ارتفاع ثلاثة آلاف متر. فكوكبان من اليمن بلدة تعلو عن سطح البحر ثلاثة آلاف متر، وصنعاء اليمن تعلو ٢٣٤٢ مترًا. وصعدة مدينة تعلو ٢٢١٦ مترًا، والروضة ٢٣٠٦ أمتار، وتلا ٢٨٦١ مترًا، وزمرمر ٢٦٩٨ مترًا. وشبام ٢٦٣٥ مترًا. وذمار ٢٤٣١ مترًا وبوعان ٢٩٣٦ مترًا. وسوق الخميس ٢٣٧٢ مترًا، ومناخة ٢٣٢١ مترًا. وعمران ٢٣٠٢ أمتار. وأبها من عسير ٢٢٧٥ مترًا. وغامد من عسير ٢١١٠ أمتار.

والسبب في كون ارتفاعات كهذه توجد عليها المساكن، هو قربها من خط الاستواء،١ وعدم نزول الثلوج عليها إلا النادر الأندر. فلو كانت هذه الجبال في سورية لما استطعت سكناها أصلًا، لأنها تكون مغمورة بالثلج أكثر أشهر السنة. هذا وإن غلظ جبال البرانس هو أعظم من غلظ جبال الألب، فمسافاتها بعيدة، والسفر فيها متعذر جدًّا، لعدم وجود مراكز يمكن استمداد الغذاء ولوازم المعيشة منها. فمن أراد أن يتوقل جبال البيرانس، لزمه أن يحمل معه جميع اللوازم إلى مدة مديدة، وليس هذا بالأمر السهل. لهذا بقيت أكثر أراضي البيرانس مجهولة طول الدهر، ولم يبدأ الناس أن يعرفوا عنها ما يجب العلم به إلا من خمسين سنة. وأعلى قمم الجبال الملعونة من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي هي قمة ألب، علوها ٣١١٩ مترًا، وقمة روسل  Russel وعلوها ٣١٩٨ مترًا. والقمة المسماة «مالديتا» علوها ٢٣١٢ مترًا. وأكثر ما يتراكم الثلج ويستمر هو في نواحي قمة مالديتا. وأما القمة العليا على الجميع وهي أنيتو، فإن الثلج المحيط بها من كل الجهات، وقد وصل إليها السياح بشق الأنفس، ومن جملتهم الكونت روسل  Russel الذي كتب عن سياحته هذه تذكرة بديعة.
أما الجبل الضائع فعلوه ٣٣٥٢ مترًا، ومكانه متوسط بين حرارة الجنوب، وبرد الشمال، وبين أشعة الشمس المحرقة من جهة أسبانية، والضباب الكثيف المطبق من جهة فرنسة. وفي حذاء الجبل الضائع يوجد مزارع لفلاحي الأراغون، ويبدأ العمران، وهناك نهر يقال له «آره» Ara عليه بلدة يقال لها بروتو Broto وحولها قرى، وتجد قرى وقصابًا، وهناك مكان غربي شاردة بارسيز Berciz يقال له «بارنكومسكون» Berranco de Mascum وفيه بلدة يقال لها القصر Alquezar وسواء كان القصر أو المسكون فلفظه عربي، ولا تزال في هذه البلدة آثار من زمن العرب، وقد قرأت أنه في القرن التاسع كان للعرب مسلحة في هذه البلدة، ومنها كانوا يحرسون معابر جبال البيرانس، وكانوا قد جعلوا محارس على القمم المشرفة على تلك المعابر، وهي أبراج، كل برج منها يقابل أخاه، فإذا أحسوا عدوًّا أوقدوا النيران من برج إلى برج، فكانوا دائمًا على حذر وأهبة. ومن هذه الأبراج برج مديانو Mediano المشرف على وادي انترمون Eutremon وأبراج أبيزنده Abizanda وأرتازونه Artasona واستاديلا Estadilla على وادي الغراده Elgrado وأبراج أولفينا Olvena وبينابار Benebarre والساموره Alsamora وهي في وادي «ريبا وغورزانه» المتقدم ذكرها، وكانت على وادي بلاريزا Pallaresa قلاع للعرب لأن هؤلاء طاردوا الإسبانيول، لأوائل الفتح، إلى أن أقبعوهم في الكهوف والمغاور. وسيأتيك خبر صخرة بيلاي التي آوى إليها بيلاي، ولم يبق معه سوى ثلاثين علجًا، والإسبانيول يقولون لهذه الصخرة صخرة «كوفا دونقه» Covalouga وكان بطل آخر يسمى غرسي شيمنيس Gerci-Jimenez قد لجأ بجماعة إلى أعالي بلاد أراغون، فطاردهم عبد الرحمن الأموي، وأرسل جيشًا، فاستولى على بلدة جاقة Jaca واكتسح وادي أراغون، ودمر قصبة أنسة Ainsa عند ملتقى نهري «آره» و«سنكه».
ولكن إلى الغرب من جاقة، في بربة عاصية، اجتمع فل المشردين، على رأسهم جوان أتارس Alares وكان من رفاق لذريق آخر من ملوك القوط، وصار كل من انهزم ينضم إلى هؤلاء الشذاذ.
ثم زحف غرسي المذكور ومعه خمسمائة مقاتل، فاجتاز وادي جلق إلى وادي آره، وهجم على العرب بغتة بقرب «أنسة» فهزمهم، وانتعش بذلك أصحابه، وبايعوه باسم ملك سوبراربه Sobrarbe وجعلوا أنسة قاعدة للمملكة الجديدة. ولما كان عددهم قليلًا لم يكونوا في بادئ الأمر يجرءون على الخروج من جبالهم التي كانت تقاتل معهم، ولكن بفتن العرب بعضهم مع بعض بصورة مستمرة، وكانت تلوح للأراغونيين كل يوم غرة فينتهزونها، وينحدرون إلى الأمام، ويأخذون قلعة بعد قلعة، ويدمرون حصنًا بعد حصن، إلى أن بلغوا مدينة وشقة Huesca، وجعلوها قاعدة مملكة سوبراربه، ثم صارت بعد ذلك تسمى مملكة أراغون، وكان استرجاع الإسبانيول لوشقة سنة ١٠٩٦ بعد حصار شهير قتل فيه ملك أراغون شانجه راميريس. وفي وشقة آثار قديمة كثيرة.

هوامش

(١) في نفس أسبانية قد صعدت إلى ارتفاعات ٢٥٠٠ متر في جبال غرناطة المشرفة على البحر المتوسط وذلك في شهر أغسطس، فوجدتني كأنني أسير في ارتفاعات لا تزيد على ألف وثلاثمائة متر من سورية مثل عين صوفر مثلا، ووجدت هناك قرى معمورة ونباتات لا تنبت عندنا في الشام في جبال بهذا العلو، ونحن في جبال الشام لا نعلم عمرانًا دائمًا في ارتفاع يزيد على ١٥٠٠ متر إذ لو زاد على ذلك لتعذر السكن فيه أيام الشتاء. والذي يلوح لي والله أعلم أن مهب الرياح الحارة الجنوبية من جهة القطب الجنوبي على جبال أسبانية وجبال أمريكا هو الذي يخفف صقيعها ويجعل السكن فيها ممكنا على ارتفاعات لا تمكن السكنى عليها في أماكن أخرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤