الفصل الأربعون

برشلونة

هذه البلدة هي أعظم بلدة تجارية وصناعية في الجزيرة الأيبيرية، وعدد سكانها يزيد على سبعمائة ألف نسمة وستين ألفًا. وهي قاعدة بلاد كتلونية، ولها مقاطعة خاصة بها، حدودها من الشمال الشرقي مقاطعة جيرندة أو جيرونة، ومن الغرب مقاطعة لاردة، ومن الجنوب مقاطعة طركونة، وفي برشلونة مركز القائد العام والوالي المدني على جميع كتلونية، وفيها أيضًا كرسي رئيس أساقفة، وفيها مدرسة جامعة ومن جهة العرض والطول هي في موقع رومة، وهي تصعد بتدريج من ساحل البحر إلى مرتفع يقال له تيبيدابو Tibidabo إلى الشمال الغربي منها علوه ٥٣٢ مترًا، وهذا المرتفع يتصل بجبال مالاس، وجبال مونت جويك Montjuich وبين مالاس ومرتفع تيبيدابو وادٍ يقال له بيزوس Besos. وإلى الجنوب من مونتجويك، يجري نهر لو بريقات. فيتكون على ضفتيه واد مربع. كله مزارع ومباقل وبساتين، تأخذ منه هذه المدينة العظيمة جميع ما يلزم من الخضرة والفواكه.
ولبرشلونة أرباض صناعية متعددة، منها: سَنس Sans. وغراسية Gracia، وسان اندري بالومار Plaomar، وسان مرتين بروفنسال Provensals، وفي هذه الأرباض معامل القطن الكثيرة، ومعامل أخرى للآلات الميكانيكية وللكهرباء. والمترفون من أهل برشلونة يختارون السكنى في ضواحيها. التي أشهرها بونانوفا Bonanova وسان جرفازيو Gervasio.
وإذا نظر الإنسان إلى برشلونة يجدها مجموعة من ثلاث مدن: الأولى برشلونة الأصلية وهي التي على سيف البحر. وبرشلونة المحدثة في القرون الوسطى وهي التي تتألف منها المدينة العظمى اليوم. وبرشلونة الحديثة وهي التي أحدثت في هذا العصر واتصلت بالضواحي والقرى. وقد كان كثير من القرى منفصلًا عن المدينة فاتصل بها باشتباك العمارة وامتداد خطوط العجلات الكهربائية. وقلّ أن يوجد في أوروبا حواضر تفوق برشلونة، في حسن فنادقها، ونظافة شوارعها، وإتقان مبانيها. وقلما انشرح صدري برؤية ساحة من سوح المدن العظام كما انشرح عند رؤية الساحة الكبرى، التي يقال لها ساحة كتلونية. تحف بها المقاهي الواسعة التي تموج فيها المئات، وأحيانا الألوف من الخلق، لاسيما في الليالي، ويبقى الناس في فصل الصيف جلوسًا في تلك المقاهي إلى ما بعد الساعة الثالثة من الليل. ويقال للشارع في برشلونة وجميع بلاد كتلونية «رملة»، ويكتبونها هكذا: Rambla وهي لفظة عربية كما ترى.
fig38
شكل ٦٥-١: حديقة مونتجويك ببرشلونة.
fig39
شكل ٦٥-٢: بناية التليفون ببرشلونة.
fig40
شكل ٦٥-٣: رملة كتلونية ببرشلونة.

ورملات برشلونة موصوفة بسعتها وانتظامها، وكلها تحف بها الظلال، وتتناسق الأشجار على جانبيها. ولا يوجد شوارع يحلو السير فيها أكثر من شوارع برشلونة. وأينما توجه المسافر يجد مقاعد يستريح عليها تحت ظلال الأشجار الوارفة، وشمس برشلونة حادة كسائر البلاد الحارة، فبسبب حدة الشمس يجد السائر من لذة اللياذ بظل الدوح الفينان ما لا يجده في حواضر الأقاليم الباردة. ومما يحلو في برشلونة للسائح الشرقي، وللغربي أيضًا، ما فيها من شجر النخل، وأجملها النخيلات التي في ساحة المرفأ. ويجد المسافر في برشلونة من أنواع الفواكه ما لا يجده في غيرها، لأنها تجمع فواكه البلادين الحارة والباردة.

ومن أعظم مباني هذه الحاضرة كنيستها الكبرى، وقد بنيت مكان المسجد الجامع. وهذا المسجد بني على آثار هيكل روماني قديم. وقد بدأ الكتلان ببناء هذه البيعة سنة ١٢٩٨، ويقال إن فيها عظام القديسة «أولاليه» مدفونة تحت المذبح الأعظم، تتقد فوق قبرها الشموع ليلًا ونهارًا. وهذه القديسة هي شفيعة برشلونة، ولها عندهم مزيد الحرمة.١ وبجانب الكنيسة دير مبني منذ القرن الخامس عشر. وتحيط بالكنيسة أبنية عمومية، منها خزانة أوراق مملكة أراغون، تشمل على أربعة ملايين قطعة من الوثائق التي أنجتها الأقدار من عوادي الحروب والفتن. وفي برشلونة خزانة أخرى لهذه البقايا القديمة، في متحف خاص، جعلوه في كنيسة سانتا أغيدا Agueda. وفي الساحة المسماة بالساحة الملوكية قصر أقماط برشلونة، الذين في الأصل كانوا عمالًا للإمبراطور شارلمان وأولاده على برشلونة، ثم استقلوا عنهم، ولبثوا أكثر من قرن ونصف قرن أمراء على كتلونية، لا يخضعون لأحد إلا لخلفاء قرطبة، بالصورة الظاهرة، إذا خافوا عاديتهم. وقد تقدم لنا ذكر اتحاد مملكتي كتلونية وأراغون، بواسطة رامون بيرانجة الرابع الذي تزوج بوارثة ملك أراغون، وصير المملكتين مملكة واحدة، فجَنتْ من هذا الاتحاد سيادة عظيمة، لا سيما في البحر. وفي برشلونة أبنية كثيرة موصوفة بالزخرف، مثل كنيسة سانتا ماريه دلبينو Delpeno، وكنيسة سانتاحنه، التي هي من القرن الثاني عشر، وغيرهما. وفيها بناية عظيمة للبورصة أو المصفق. وأما المرفأ فأول سد بُني فيه لمصادمة الأمواج تاريخه سنة ١٤٧٤، وهو في غاية السعة لا تقل مساحتهُ عن ١٢٤ هكتارًا. وعدد البواخر التي تزور هذا المرفأ في دور السنة يزيد على أربعة آلاف وخمسمائة باخرة، والوارد من المواد الأولية على برشلونة هو الحنطة، والشعير، والذرة، والأرز، والحديد، والقطن، والقهوة، والبترول، وغيرها. وبين برشلونة وسائر مراسي أسبانية حركة تجارية عظيمة، ولهذا كانت لها منزلة عليا في درجة الملاحة، وقد عدّلوا سنة ١٩٢١ محمول سفن التجارة الأسبانية بما يقارب مليونًا ومائتي ألف طن.
fig41
شكل ٦٥-٤: شارع غراسيا ببرشلونة.
fig42
شكل ٦٥-٥: ساحة ماسيا ببرشلونة.
وأهم ما تمتاز به برشلونة من العوامل الاقتصادية هو معامل القطن التي يشتغل بها مائة ألف عامل، ويأتي بعد القطن صناعة الصوف، التي أكثرها في سابادل Sabadel وتاراسّا Tarrassa وفي الدرجة الثالثة صناعة الحرير التي حفظت شيئًا من ازدهارها الذي كانت قد بلغته في أيام العرب.
fig43
شكل ٦٥-٦: ساحة كتلونية ببرشلونة.
fig44
شكل ٦٥-٧: شارع أبريل ببرشلونة.
وفي برشلونة حديقة كبيرة من أبهى حدائق أوروبا، تبلغ مساحتها ٣٠ هكتارًا، وبالقرب منها متحف عظيم فيه نماذج خاصة بالتاريخ الطبيعي، ومتحف آخر بجانبه، بناهما تاجر كبير اسمه «مارتوريل بينيه» Mertorell Piena وبإزاء المتحف الطبيعي تمثال للشاعر الكتلاني المشهور آريبو Aribau. وهناك شلال صناعي يتصبب في مغارة محدثة. وبالقرب منها تمثال آخر للكاتب الكتلاني فيلانوفا، ويوجد متحف للعاديات القديمة، فيه خزانة كتب نفيسة، ووثائق تاريخية، ومصنوعات من قبل التاريخ، فضلا عما بعده، من أنواع الخزف، والنسيج، والزجاج، والسلاح، والمسكوكات، وغيرها. وفي برشلونة متحف للصنائع النفيسة والتصاوير. ومن المباني الفخمة المعدودة قصر العدلية، إنشاؤه سنة ١٩٠٣. ومن الكنائس القديمة كنيسة سان بترُه، في القسم القديم من البلدة، تاريخ بنائها سنة ٩٤٥. ومن التماثيل الشهيرة في برشلونة تمثال كريستوف كولمبس، وعلوه ستون مترًا، وقد أنشئوه في أواخر القرن الماضي، وهو في فم شارع الرملة الشهير، الذي طوله ١١٨٠ مترًا.
وضواحي برشلونة مثل «مونت جويك» و«فال فيدر بروه» و«تيبيدادو» هي من أجمل ما يوجد للنزهة، ولا سيما تيبيدادو، وقمة هذا الجبل علوها ٥٣٢ مترًا، ومنها يشرف الرائي على البلدة كلها، وعلى جميع ضواحيها، ويشاهد جبال البرانس ومونت شرَّات، من جهة البر، وقمم جبال ميورقة، من جهة البحر. ويقال إن اسم برشلونة أو برسلونة مشتق من اسم «ماسيلكار بارسا» القائد القرطاجني، وقيل في الاسم خلاف ذلك. وقد أعطى أغسطس قيصر هذه البلدة لقب «مستعمرة رومانية» وقيل لها «جوليافافنتيا» Julia Faventia.

وفي القرن الثاني قبل المسيح صارت برشلونة تناظر طرّكونة في العظمة، وكان بناء المدينة القديمة على القمة التي فيها اليوم الكنيسة الكبرى. ويوجد من آثار سورها وأبوابها بين الكنيسة المذكورة وساحة «إنجل» وساحة «ريغومير» وشارع «آفينو» وكان استيلاء القوط عليها في أوائل القرن الخامس للمسيح. واستولى عليها العرب سنة ٧١٣. ثم استرجعها لويس الحليم ملك فرنسا سنة ٨٠١ ومع أنها كانت في زمن العرب مدينة عظيمة فلم أعثر إلى الآن على أسماء علماء ينتسبون إليها. مع أننا عثرنا على أسماء رجال من أهل العلم ينتسبون إلى مدن وقصاب، بل إلى قرى ليست شيئا بالنسبة إلى برشلونة. أما في دور الكتلان فقد نبغ فيها مشاهير في كل فن.

fig45
شكل ٦٥-٨: منظر عمومي لمدينة برشلونة.
fig46
شكل ٦٥-٩: مرسى ميرامار ببرشلونة.

هوامش

(١) لقد ظهر في الحرب الأهلية، التي اشتعلت في هذه المدة الأخيرة في أسبانية، وبدأت في ١٧ يوليو/تموز من هذه السنة، أن برشلونة أكثر مدن أسبانية عداوة للكثلكة فإن العامة ثارت على رجال الكنيسة، وقتلوا كل من وقع في أيديهم منهم، وهدموا جميع الكناس والأديار بدون استثناء، ليس في برشلونة فحسب، بل في جميع مقاطعة كتلونية، ولم يعفوا إلا عن كنيسة برشلونة الكبيرة، ضنًّا بنفائس صنعتها، وبعض كنائس نادرة أخرى، ولقد وقع من هدم الكنائس والأديار في كل أسبانية ما لا يقع تحت حصر، إلا أن كتلونية امتازت بذلك على غيرها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤