لغز خاص

كان الشاويش «فرقع» في ذلك اليوم، هو أسعد رجلٍ على ظهر الأرض … فقد توقَّع أن يضع يده على عصابةٍ خطيرةٍ، وسيكون هذا بدون معونةٍ من أحدٍ. فلن يعلم المغامرون الخمسة باللغز الذي يعمل فيه … وبخاصةٍ أن صديقهم المفتش «سامي» سافر في مهمةٍ إلى «بيروت» ولن يعرفوا شيئًا عن اللغز إلا بعد أن يكون قد حلَّه وانتهى الأمر … وهكذا يسجل نقطة ضدهم … ويثبت له أنه أذكى منهم …

وأخذ الشاويش «فرقع» يقرأ البلاغ الذي أمامه … إنه بلاغٌ هامٌ من أم خطفت عصابةٌ مجهولةٌ وحيدها … والعصابة تطلب ٣ آلاف جنيه لإعادة الطفل.

وتذكَّر الشاويش «فرقع» وجه الأم المبلل بالدموع وهي تروي له مأساتها مع العصابة … لقد ظلت العصابة تهددها بخطف طفلها شهورًا طويلة … وكانت تدفع لهم ما يطلبون حتى نفذ كل ما تملك …

فانتقلت إلى المعادي واستأجرت شقةً مفروشةً أقامت فيها وحدها بلا خدمٍ … ولكن العصابة عرفت طريقها … وطالبتها بمزيدٍ من المال، وعندما امتنعت عن الدفع، لأنها لا تملك ما تدفعه، لم تتردد العصابة في خطف الطفل.

وتذكَّر الشاويش أيضًا وجه الأم … وجه سيدة في الخمسين ولكنها مازالت تحتفظ بجمالها … وملابسها برغم ظروفها القاسية كانت نظيفةً وأنيقةً وتدل على أصلٍ رفيعٍ …

وتصور الشاويش «فرقع» نفسه عندما يسترد الطفل من العصابة، ويعيده إلى أمه الملهوفة … كم تكون سعيدةً … وكم تشكره.

ورفع يده إلى شاربه وأخذ يبرمه …

وقال في نفسه: سأكون أكثر سعادةٍ منها … فسوف أسترد الطفل … وأوقع بالعصابة … وأضحك على المغامرين الخمسة … وبخاصة ذلك الولد السمين «تختخ».

وأخذ الشاويش يكتب تقريره إلى نائب مدير المباحث الجنائية الذي يقوم بعمل المفتش «سامي» في أثناء غيابه … كتب التقرير بعنايةٍ كبيرة. ووصف السيدة «كريمان يسري» الأم … وأرفق بالتقرير صورة الطفل المخطوف «هشام» وأخذ يتأمل صورة الطفل الجميل … وأحسَّ بالألم لأن العصابة خطفته، وحُرِمت الأم المسكينة وحيدها …

وكتب في نهاية التقرير اقتراحه بكيفية القبض على العصابة: «أقترح أن تعطي الأم الثلاثة آلاف جنيه المطلوبة … ثم نصنع كمينًا للعصابة … فإذا ما حضر مندوبها لتسلم المبلغ قبضنا عليه … وعن طريقه يمكن الوصول إلى العصابة.»

وكانت الأم المسكينة قد وصفت له الطريقة التي طلبت العصابة بها تسليم الفدية … تحضر المبلغ، وتضعه في كيس من «النايلون» ثم تلفه في نسخة من جريدة الأهرام تكون قد صدرت في اليوم نفسه … ثم تذهب إلى برج القاهرة في تمام الساعة العاشرة صباحًا … وسوف يظهر لها شخصٌ في مصعد البرج … أو في البرج ذاته … أو في المطعم الدائري … وسيلبس معطفًا أسود، ويمسك بيده نسخة أهرام صدرت في اليوم نفسه أيضًا وعندما يقترب منها سيقول لها إن الأخبار اليوم طيبةٌ … وعليها بعد أن تسمع هذه الجملة أن تجلس في طرف المطعم وتضع الجريدة الملفوف بها المبلغ أمامها … وسيأتي مندوبٌ آخر غير الأول يلبس معطفًا رماديًّا … ومعه جريدة الأهرام التي صدرت في اليوم نفسه … وسيقول لها الجملة نفسها وهو يقرؤها … ثم يطوي الجريدة ويضعها بجوار الصحيفة الموضوع بها النقود، بعد لحظاتٍ يأخذ الجريدة التي بها النقود ويترك جريدته وينصرف … وبعد ساعة تنزل السيدة من البرج، وتقف أمام مبنى المعارض، وستجد طفلها هناك …

وأخذ الشاويش «فرقع» يفرك يديه في ابتهاجٍ … سيكون الكمين مضبوطًا وبخاصة في البرج … ولن يستطيع المندوب الهرب … وسيعود الطفل … وستفرح الأم المسكينة وتكتب الجرائد القصة كاملةً … وكيف دبَّر الشاويش الخطة … كيف وافق رؤساؤه عليها … كيف تم القبض على العصابة وعاد الطفل الوحيد إلى أمه التعسة …

كان أمام الشاويش ٢٤ ساعة يتصرَّف فيها … وهي مدةٌ كافية جدًّا لوضع الخطة … وأسرع يتصل بمكتب الضابط «فوزي» نائب مدير البحث الجنائي … وروى له القصة بصوت يرتعش تأثرًا … وأصغى الضابط في اهتمامٍ شديدٍ، ثم قال للشاويش: اتصل بالسيدة تليفونيًّا واطلب إليها أن تجلس في «كازينو» على شاطئ النيل بعد ساعة من الآن … لا تظهر أنت مطلقًا … سوف ألبس أنا ملابس مدنية … فإذا كانت العصابة تتابعها فسوف لا تعرفني وأنا بهذه الملابس … وإذا اتصلوا بها فلتقل لهم أنها سوف تدفع المبلغ في الزمان والمكان المتفق عليهما … ولا تنس أن تصفني لها … وستكون معي كاميرا!

ووضع الشاويش السماعة وقد بدأ الشك يدبُّ في نفسه … لماذا يريد الضابط «فوزي» مقابلة السيدة «كريمان»؟ هل يريد أن يضع خطة أخرى؟ هل يريد أن يكسب المعركة وأن تكتب الجرائد عنه؟

كانت هذه شكوك الشاويش «فرقع»، ولكن ذلك لم يمنعه من تنفيذ الأمر، وسرعان ما أبلغ السيدة رسالة قصيرة طلب إليها فيها مقابلة الضابط في «الكازينو» … ووصفه لها وصفًا دقيقًا وقال إنه سيحمل بيده كاميرا.

•••

بعد ساعة كان الضابط «فوزي» يجلس في «الكازينو»، وبيده كاميرا وقد أمسكها بطريقة واضحة حتى تتعرف عليه السيدة … وجاءت في موعدها ودارت بنظرها في «الكازينو»، ورأت الضابط والكاميرا فاتجهت إليه رأسًا … وقف الضابط، وسلَّم عليها، وعندما جلست شجَّعها قائلًا: لا تخافي شيئًا … سوف يمضي كل شيءٍ على ما يرام، وسنقبض على العصابة، ونعيد إليك الطفل … وأريد منك أن تروي لي القصة من البداية …

انسابت دموع الأم في هدوءٍ وأخذت تروي له القصة: كنت متزوجةً من رجل أعمال ناجح … وأنجبت منه «هشام» وسارت حياتنا على ما يرام … كان يكسب كثيرًا، وكنا سعداء … وفجأة مات زوجي … فتفرغت لتربية «هشام» وسكتت قليلًا وانسابت دموعها، وظل الضابط ينتظر في صمت حتى عادت إلى الحديث قائلة: ترك لي زوجي عملًا ناجحًا … لكني أعترف أنني لم أستطع إدارته، فأخفق … واضطررت أن أصفي أعمالي وأضع ما جمعته من مال في البنك … أنفق منه!

قال الضابط: هل كان لزوجك شركاء؟

قالت السيدة: لا … كان يعمل وحده.

الضابط: والعمال الذين كانوا عنده، هل كان بينه وبينهم خلافات؟

السيدة: على العكس … لقد كان طيبًا معهم … وكان يعطيهم حقوقهم كاملةً.

ومضت السيدة: وذات يوم حدثني شخصٌ تليفونيًّا، وقال إنه يعرف ما أملك من أموال في البنوك، وطلب مني إعطاءه ألف جنيه حتى لا يخطف ابني!

وسكتت السيدة، فقال الضابط: وماذا حدث … هل أبلغت الشرطة؟

عادت السيدة إلى البكاء، ثم قالت: لا … لقد خشيت أن ينفذ وعيده، فسلَّمته الألف جنيه …

الضابط: وكيف كانت الطريقة؟

السيدة: قال إنه سيقطع تذكرتين في سينما مترو، وسيدخل قبلي، وسيترك لي واحدة على الباب أدخل بها، وفي الظلام سيحدثني وأعطيه المبلغ!

الضابط: ونفذت ما قاله؟

السيدة: نعم … أعطيته المبلغ!

الضابط: ألم تلمحي شكله؟

السيدة: أعتقد أنه كان متنكرًا، فقد كانت له لحيةٌ كثيفةٌ، ويلبس نظارةً سميكةً!

الضابط: هل عرفت نبرات صوته؟

السيدة: نعم!

الضابط: وبعد ذلك؟

السيدة: وبعد فترةٍ طالبني بمبلغٍ آخر …

الضابط: الرجل نفسه؟

السيدة: نعم … فقد عرفت صوته!

وروت السيدة للضابط بقية التهديدات التي تلقتها من الرجل، وكانت كلها متشابهة … وكان في كل مرة يزيد في المبلغ الذي يطلبه … وقالت السيدة: وهكذا كاد يستولي على كل ما أملك … فقررت أن أترك الشقة التي أسكن فيها، وأبحث عن مكانٍ بعيدٍ … وهكذا اخترت المعادي … واستأجرت شقة على النيل، وانتقلت إليها أنا وولدي … ولكن لم يمض سوى يوم واختفى ابني … وقبل أن أعرف ماذا سأفعل اتصل بي الرجل …

الضابط: الشخص نفسه؟

السيدة: لا … شخصٌ آخر … ولكنه قال لي إنه من طرف الرجل الأول!

الضابط: شيءٌ مدهشٌ … كيف عرفوا مكانك؟ وكيف خطفوا الطفل بهذه السرعة؟

السيدة: هذا ما يحيرني … إن الرجل المجهول يعرف كل خطواتي … وكأنه يعيش معي.

الضابط: من هم الأشخاص الدين عرفوا انتقالك من القاهرة إلى المعادي؟

السيدة: لا أحد سوى السمسار الذي وجد الشقة!

الضابط: وجيرانك وأصدقاؤك وأقاربك؟

السيدة: إنني أعيش وحيدة … ولي بعض الأصدقاء ولكن لا أختلط بهم كثيرًا!

الضابط: ماذا كان اسم زوجك؟

السيدة: المهندس «عزت علي»!

قال الضابط: وما اسم السمسار؟

السيدة: اسمه «إبراهيم»، وله مكتبٌ قرب المحطة.

الضابط: هل موعد دفع النقود غدًا كما قال الشاويش؟

السيدة: نعم … وقد حذرني الرجل من إبلاغكم، وقال إنهم يراقبون منزلي مراقبةً دقيقةً!

الضابط: إنهم أكثر من واحد!

السيدة: ذلك واضحٌ، فالرجل الثاني الذي اتصل بي غير الرجل الأول، وطريقة تسلم المبلغ في البرج سيقوم بها اثنان!

الضابط: لا تقلقي … سوف نضع كمينًا محكمًا، وسوف يقع من سيأتي لأخذ الفدية في أيدينا … وعن طريقه سنعرف الباقين!

السيدة: أرجوكم … لا أريد أن يشعروا مطلقًا أنني اتصلت بكم … إن «هشام» وحيدي … وإذا أصابه مكروه فإنني …

وعادت السيدة إلى البكاء، فقال الضابط يطمئنها: لا تخافي … وستصل إليك النقود الليلة مع بائع لبن زبادي … فاحتفظي بها حتى الصباح، ثم اذهبي في الموعد المحدد … وسنكون هناك …

السيدة: قد يتعرف عليكم الرجل ولا يحضر!

ابتسم الضابط قائلًا: سنلبس ملابس السفرجية … ولن يتعرف علينا … المهم كوني ثابتة الأعصاب!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤