فلما كانت الليلة ٢٤٥

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن نعمة لما نظر إلى جاريته نعم قام إليها، وضمَّ كلُّ واحد منهما صاحبه إلى صدره، ثم وقعا على الأرض مغشيًّا عليهما. فلما أفاقا قالت لهما أخت الخليفة: اجلسا حتى نتدبر في الخلاص من الأمر الذي وقعنا فيه. فقالا لها: سمعًا وطاعة، والأمر لك. فقالت: والله ما ينالكما منا سوء أبدًا. ثم قالت لجاريتها: أحضري الطعام والشراب. فأحضرت ذلك فأكلوا بحسب الكفاية، ثم جلسوا يشربون، فدارت عليهم الأقداح، وزالت عنهم الأتراح، فقال نعمة: ليت شعري بعد ذلك ما يكون. فقالت له أخت الخليفة: نعمة، هل تحب نِعم جاريتك؟ فقال لها: يا سيدتي، إن هواها هو الذي حملني على ما أنا فيه من المخاطرة بروحي. ثم قالت لنِعم: يا نِعم هل تحبين سيدك نعمة؟ قالت: يا سيدتي، إن هواه هو الذي أذاب جسمي وغيَّر حالي. فقالت: والله إنكما متحابان، فلا كان مَن يفرِّق بينكما، فقرَّا عينًا وطيبَا نفسًا. ففرحا بذلك، وطلبت نِعم عودًا فأحضروه لها، فأخذته وأصلحته، وأطربت بالنغمات وأنشدت هذه الأبيات:

وَلَمَّا أَبَى الْوَاشُونَ إِلَّا فِرَاقَنَا
وَلَيْسَ لَهُمْ عِنْدِي وَعِنْدَكَ مِنْ ثَارِ
وَشَنُّوا عَلَى أَسْمَاعِنَا كُلَّ غَارَةٍ
وَقَلَّ حُمَاتِي عِنْدَ ذَاكَ وَأَنْصَارِي
غَزَوْتُهُمُ مِنْ مُقْلَتَيْكَ وَأَدْمُعِي
وَمِنْ نَفَسِي بِالسَّيْفِ وَالسَّيْلِ وَالنَّارِ

ثم إن نِعمًا أعطت العود لسيدها نعمة وقالت له: غنِّ لنا شعرًا. فأخذه وأصلحه، وأطرب بالنغمات، ثم أنشد هذه الأبيات:

الْبَدْرُ يَحْكِيكِ لَوْلَا أَنَّهُ كَلَفٌ
وَالشَّمْسُ مِثْلُكِ لَوْلَا الشَّمْسُ تَنْكَسِفُ
إِنِّي عَجِبْتُ وَكَمْ فِي الْحُبِّ مِنْ عَجَبٍ
فِيهِ الْهُمُومُ وَفِيهِ الْوَجْدُ وَالْكَلَفُ
أَرَى الطَّرِيقَ قَرِيبًا حِينَ أَسْلُكُهُ
إِلَى الْحَبِيبِ بَعِيدًا حِينَ أَنْصَرِفُ

فلما فرغ من شعره ملأت له قدحًا وناولته إياه، فأخذه وشربه، ثم ملأت قدحًا آخر وناولته لأخت الخليفة فشربته، وأخذت العود وأصلحته وشدت أوتاره، وأنشدت هذين البيتين:

غَمٌّ وَحُزْنٌ فِي الْفُؤَادِ مُقِيمُ
وَجَوًى تَرَدَّدَ فِي حَشَايَ عَظِيمُ
وَنُحُولُ جِسْمٍ قَدْ تَبَدَّى ظَاهِرًا
فَالْجِسْمُ مِنِّي بِالْغَرَامِ سَقِيمُ

ثم ناولت العود لنعمة بن الربيع، فأخذه وأصلح أوتاره، وأنشد هذين البيتين:

يَا مَنْ وَهَبْتُ لَهُ رُوحِي فَعَذَّبَهَا
وَرُمْتُ تَخْلِيصَهَا مِنْهُ فَلَمْ أُطِقِ
دَارِكْ مُحِبًّا بِمَا يُنْجِيهِ مِنْ تَلَفٍ
قَبْلَ الْمَمَاتِ فَهَذَا آخِرُ الرَّمَقِ

ولم يزالوا ينشدون الأشعار ويشربون على نغمات الأوتار، وهم في لذة وحبور وفرح وسرور. فبينما هم كذلك إذ دخل عليهم أمير المؤمنين، فلما نظروه قاموا إليه وقبَّلوا الأرض بين يديه، فنظر إلى نِعم والعود معها، فقال: يا نِعم، الحمد لله الذي أذهب عنك البأس والوجع. ثم التفت إلى نعمة وهو على تلك الحالة، وقال: يا أختي، مَن هذه الجارية التي في جانب نِعم؟ فقالت له أخته: يا أمير المؤمنين، إن هذه جارية من المحاظي أنيسة، لا تأكل نِعم ولا تشرب إلا وهي معها. ثم أنشدت قول الشاعر:

ضِدَّانِ وَاجْتَمَعَا افْتِرَاقًا فِي الْبَهَا
وَالضِّدُّ يَظْهَرُ حُسْنُهُ بِالضِّدِّ

فقال الخليفة: والله العظيم إنها مليحة مثلها، وفي غد أخلي لها مجلسًا بجانب مجلسها، وأُخرِج لها الفرش والقماش، وأنقل إليها جميع ما يصلح لها إكرامًا لنِعم. واستدعت أخت الخليفة بالطعام فقدَّمته لأخيها، فأكل وجلس معهم في تلك الحضرة، ثم ملأ قدحًا وأومأ إلى نِعم أن تنشد له شيئًا من الشعر، فأخذت العود بعد أن شربت قدحين، وأنشدت هذين البيتين:

إِذَا مَا نَدِيمِي عَلَّنِي ثُمَّ عَلَّنِي
ثَلَاثَةَ أَقْدَاحٍ لَهُنَّ هَدِيرُ
أَبِيتُ أَجُرُّ الذَّيْلَ تِيهًا كَأَنَّنِي
عَلَيْكَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَمِيرُ

فطرب أمير المؤمنين، وملأ قدحًا آخر وناوله إلى نِعم، وأمرها أن تغني، فبعد أن شربت القدح جست الأوتار، وأنشدت هذه الأبيات:

يَا أَشْرَفَ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَمَا
لَهُ مَثِيلٌ بِهَذَا الْأَمْرِ يَفْتَخِرُ
يَا وَاحِدًا فِي الْعُلَا وَالْجُودِ مَنْصِبُهُ
يَا سَيِّدًا مَلِكًا فِي الْكُلِّ مُشْتَهَرُ
يَا مَالِكًا لِمُلُوكِ الْأَرْضِ قَاطِبَةً
تُعْطِي الْجَزِيلَ وَلَا مَنٌّ وَلَا ضَجَرُ
أَبْقَاكَ رَبِّي عَلَى رَغْمِ الْعِدَا كَمَدًا
وَزَانَ طَالِعَكَ الْإِقْبَالُ وَالظَّفْرُ

فلما سمع الخليفة من نِعم هذه الأبيات قال لها: لله درك يا نِعم! ما أفصح لسانك وأوضح بيانك! ولم يزالوا في فرح وسرور إلى نصف الليل، ثم قالت أخت الخليفة: اسمع يا أمير المؤمنين، إني رأيت حكاية في الكتب عن بعض أرباب المراتب. قال الخليفة: وما تلك الحكاية؟ فقالت له أخته: اعلم يا أمير المؤمنين أنه كان بمدينة الكوفة صبي يُسمَّى نعمة بن الربيع، وكان له جارية يحبها وتحبه، وكانت قد تربت معه في فراش واحد، فلما بلغا وتمكَّن حبهما من بعضهما رماهما الدهر بنكباته، وجار عليهما الزمان بآفاته، وحكم عليهما بالفراق، وتحيَّلت عليهما الوشاة حتى خرجت من داره، وأخذوها سرقةً من مكانه، ثم إن سارِقَها باعَهَا لبعض الملوك بعشرة آلاف دينار، وكان عند الجارية لمولاها من المحبة مثل ما عنده لها؛ ففارق أهله وداره وسافر في طلبها، وتسبَّب في اجتماعه بها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤