فلما كانت الليلة ٢٨٨

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الخليفة هارون الرشيد قال للشيخ: خذ هذه العشرة دنانير، وسر بنا في محاذاتهم. فقال: سمعًا وطاعة. ثم أخذ الدنانير وسار بهم، وما زالوا سائرين في ظلام الزورق إلى البساتين، فلما وصلوا إلى البساتين رأوا زربية فرسى عليها الزورق، وإذا بغلمان واقفين ومعهم بغلة مسرجة ملجمة، فطلع الخليفة الثاني وركب البغلة، وسار بين الندماء، وصاحت المشاعلية، واشتغلت الغاشية بشأن الخليفة الثاني، فطلع هارون الرشيد هو وجعفر ومسرور إلى البر، وشقُّوا بين المماليك، وساروا قدَّامهم، فلاحت من المشاعلية التفاتة فرأوا ثلاثة أشخاص لبسهم لبس تجار، وهم غرباء الديار، فأنكروا عليهم، وغمزوا عليهم، وأحضروهم بين يدي الخليفة الثاني، فلما نظرهم قال لهم: كيف وصلتم إلى هذا المكان؟ وما الذي جاء بكم في هذا الوقت؟ قالوا: يا مولانا، نحن قوم من التجار غرباء الديار، وقدمنا في هذا اليوم، وخرجنا نتمشى الليلة، وإذا بكم قد أقبلتم فجاء هؤلاء وقبضوا علينا، وأوقفونا بين يديك، وهذا خبرنا. فقال الخليفة الثاني: لا بأس عليكم، لأنكم قوم غرباء، ولو كنتم من بغداد ضربت أعناقكم. ثم التفت إلى وزيره وقال له: خذ هؤلاء صحبتك فإنهم ضيوفنا في هذه الليلة. فقال: سمعًا وطاعةً لك يا مولانا. ثم سار وهم معه إلى أن وصلوا إلى قصر عالٍ عظيم الشأن، محكم البنيان، ما حواه سلطان قام من التراب، وتعلق بأكتاف السحاب، وبابه من خشب الساج، مرصَّع بالذهب الوهَّاج، يصل منه الداخل إلى إيوان بفسقية وشاذروان، وبسط ومخدَّات من الديباج، ونمارق وطوالات، وهناك ستر مسبول، وفرش يذهل العقول، ويعجز مَن يقول، وعلى الباب مكتوب هذان البيتان:

قَصْرٌ عَلَيْهِ تَحِيَّةٌ وَسَلَامٌ
خَلَعَتْ عَلَيْهِ جَمَالَهَا الْأَيَّامُ
فِيهِ الْعَجَائِبُ وَالْغَرَائِبُ نُوِّعَتْ
فَتَحَيَّرَتْ فِي فَنِّهَا الْأَقْلَامُ
figure
فأمَرهم الخليفةُ بالسير، وما زالوا سائرين في ظلام الزورق إلى البساتين.

ثم دخل الخليفة الثاني والجماعة صحبته إلى أن جلس على كرسي من الذهب مرصَّع بالجواهر، وعلى الكرسي سجادة من الحرير الأصفر، وقد جلست الندماء، ووقف سيَّاف النقمة بين يديه، فمدوا السماط وأكلوا، ورُفِعت الأواني، وغُسِلت الأيادي، وأحضروا آلة المدام، واصطفَّت القناني والكاسات، ودار الدور إلى أن وصل إلى الخليفة هارون الرشيد فامتنع من الشراب، فقال الخليفة الثاني لجعفر: ما بال صاحبك لا يشرب؟ فقال: يا مولاي، إن له مدة ما شرب من هذا. فقال الخليفة الثاني: عندي مشروب غير هذا يصلح لصاحبك، وهو من شراب التفاح. ثم أمر به فأحضروه في الحال، فتقدَّم الخليفة الثاني بين يدي هارون الرشيد وقال له: كلما وصل إليك الدور فاشرب من هذا الشراب. وما زالوا في انشراح وتعاطي أقداح الراح إلى أن تمكَّنَ الشراب من رءوسهم، واستولى على عقولهم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤