فلما كانت الليلة ٢٩٨

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن خالدًا بعد أن تحدَّثَ مع الشاب، أمر به إلى السجن فمكث فيه ليلته، فلما أصبح الصباح حضر الناس ينظرون قطْعَ يد الشاب، ولم يَبْقَ أحد في البصرة من رجل ولا امرأة إلا وقد حضر ليرى عقوبة ذلك الفتى، وركب خالد ومعه وجوه أهل البصرة وغيرهم، ثم استدعى القضاء، وأمر بإحضار الفتى، فأقبل يحجل في قيوده، ولم يره أحد من الناس إلا بكى عليه، وارتفعت أصوات النساء بالنحيب؛ فأمر القاضي بتسكيت النساء، ثم قال له: إن هؤلاء القوم يزعمون أنك دخلت دارهم، وسرقت مالهم، لعلك سرقت دون النصاب. قال: بل سرقت نصابًا كاملًا. قال: لعلك شريك القوم في شيء منه. قال: بل هو جميعه لهم لا حقَّ لي فيه. فغضب خالد، وقام إليه بنفسه وضربه على وجهه بالسوط، وقال متمثِّلًا بهذا البيت:

يُرِيدُ الْمَرْءُ أَنْ يُعْطَى مُنَاهُ
وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا مَا يُرِيدُ

ثم دعا بالجزار ليقطع يده، فحضر وأخرج السكين ومد يده ووضع عليها السكين؛ فبادرت جارية من وسط النساء عليها أطمار وسخة، فصرخت ورمت نفسها عليه، ثم أسفرت عن وجه كأنه القمر، وارتفعت في الناس ضجة عظيمة، وكاد أن يقع بسبب ذلك فتنة طائرة الشرر، ثم نادت تلك الجارية بأعلى صوتها: ناشدتك الله أيها الأمير، لا تعجِّلْ بالقطع حتى تقرأ هذه الرقعة. ثم دفعت إليه رقعة؛ ففتحها خالد وقرأها، فإذا مكتوب فيها هذه الأبيات:

أَخَالِدُ هَذَا مُسْتَهَامٌ مُتَيَّمٌ
رَمَتْهُ لِحَاظِي عَنْ قَسِيِّ الْحَمَالِقِ
فَأَصْمَاهُ سَهْمُ اللَّحْظِ مِنِّي لِأَنَّهُ
حَلِيفُ جَوًى مِنْ دَائِهِ غَيْرُ فَائِقِ
أَقَرَّ بِمَا لَمْ يَقْتَرِفْهُ كَأَنَّهُ
رَأَى ذَاكَ خَيْرًا مِنْ هَتِيكَةِ عَاشِقِ
فَمَهْلًا عَنِ الصَّبِّ الْكَئِيبِ فَإِنَّهُ
كَرِيمُ السَّجَايَا فِي الْوَرَى غَيْرُ سَارِقِ

فلما قرأ خالد الأبيات تنحَّى، وانفرد عن الناس، وأحضر المرأة، ثم سألها عن القصة؛ فأخبرته بأن هذا الفتى عاشق لها، وهي عاشقة له، وإنما أراد زيارتها فتوجَّه إلى دار أهلها، ورمى حجرًا في الدار ليُعلِمها بمجيئه، فسمع أبوها وإخوتها صوت الحجر فصعدوا إليه، فلما أحسَّ بهم جمع قماش البيت كله وأراهم أنه سارق سترًا على معشوقته، فلما رأوه على هذه الحالة أخذوه وقالوا: هذا سارق. وأتوا به إليك فاعترف بالسرقة، وأصرَّ على ذلك حتى لا يفضحني، وقد ارتكب هذه الأمور مَن رمى نفسه بالسرقة لفرْطِ مروءته وكرم نفسه. فقال خالد: إنه لَخليق بأن يُسعَف بمراده. ثم استدعى الفتى إليه فقبَّله بين عينيه، وأمر بإحضار أبي الجارية، وقال له: يا شيخ، إنَّا كنا عزمنا على إنفاذ الحكم في هذا الفتى بالقطع، ولكن الله — عز وجل — قد حفظه من ذلك، وقد أمرت له بعشرة آلاف درهم لبذله يده حفظًا لعرضك وعرض بنتك، وصيانتكما من العار، وقد أمرت لابنتك بعشرة آلاف درهم حيث أخبرتني بحقيقة الأمر، وأنا أسألك أن تأذن لي في تزويجها منه. فقال الشيخ: أيها الأمير، قد أذنت لك في ذلك. فحمد اللهَ خالدٌ وأثنى عليه، وخطب خطبة حسنة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤