فلما كانت الليلة ١٤٩

حكاية الثعلب والذئب

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الذئب قال للثعلب: لا تتكلم فيما لا يعنيك، تسمع ما لا يرضيك. فقال له الثعلب: سمعًا وطاعة، فأنا بمعزل عمَّا لا يرضيك، فقد قال الحكيم: لا تخبر عمَّا لا تُسأل عنه، ولا تُجِب ما لا تُدعَى إليه، وذَرِ الذي لا يعنيك إلى ما يعنيك، ولا تبذل النصيحة للأشرار فإنهم يجزونك عليها شرًّا. فلما سمع الذئب كلام الثعلب تبسَّم في وجهه، ولكنه أضمر له مكرًا، وقال: لا بد أن أسعى في هلاك هذا الثعلب. وأما الثعلب فإنه صبر على أذى الذئب، وقال في نفسه: إن البطر والافتراء يجلبان الهلاك، ويوقعان في الارتباك، فقد قيل: من بطر خسر، ومن جهل ندم، ومن خاف سلم، والإنصاف من شيم الأشراف، والآداب أشرف الاكتساب، ومن الرأي مُداراة هذا الباغي، ولا بد له من مصرع. ثم إن الثعلب قال للذئب: إن الربَّ يعفو ويتوب على عبده إن اقترف الذنوب، وأنا عبد ضعيف، وقد ارتكبت في نصحك التعسيف، ولو علمتَ بما حصل لي من ألم لطمتك، لَعلمتَ أن الفيل لا يقوم به ولا يقدر عليه، ولكني لا أشتكي من ألم هذه اللطمة بسبب ما حصل لي بها من السرور، فإنها وإن كانت قد بلغت مني مبلغًا عظيمًا عاقبتها سرور، وقد قال الحكيم: ضرب المؤدِّب أوله صعب شديد، وآخره أحلى من العسل المصفَّى. فقال الذئب: غفرت ذنبك، وأقلت عثرتك، فكن من قوَّتي على حذر، واعترف لي بالعبودية، فقد علمت قهري لمن عاداني. فسجد له الثعلب، وقال له: أطال الله عمرك، ولا زلت قاهرًا لمن عاداك.

ولم يزل الثعلب خائفًا من الذئب مصانعًا له، ثم إن الثعلب ذهب إلى كَرْم يومًا ما، فرأى في حائطه ثلمة فأنكرها، وقال في نفسه: إن هذه الثلمة لا بد لها من سبب، وقد قيل: مَن رأى خرقًا في الأرض فلم يجتنبه ويتوقَّ عن الإقدام عليه، كان بنفسه مُغَرًّا، وللهلاك متعرِّضًا. وقد اشتهر أن بعض الناس يعمل صورة الثعلب في الكَرْم حتى يقدم إليه العنب في الأطباق؛ لأجل أن يرى ذلك الثعلب فيقدم إليه فيقع في الهلاك، وإني أرى هذه الثلمة مكيدة، وقد قيل: إن الحذر نصف الشطارة. ومن الحذر أن أبحث عن هذه الثلمة وأنظر، لعلي أجدها أمرًا يؤدي إلى التلف، ولا يحملني الطمع على أن ألقي نفسي في الهلكة. ثم دنا منها وطاف بها وهو محاذر، فرآها، فإذا هي حفرة عظيمة قد حفرها صاحب الكَرْم ليصيد فيها الوحش الذي يفسد الكَرْم، ورأى عليها غطاءً رقيقًا، فتأخَّرَ عنها وقال: الحمد لله حيث حذرتها، وأرجو أن يقع فيها عدوي الذئب الذي نغَّص عيشي، فأستقل بالكرم وحدي، وأعيش فيه آمنًا. ثم هزَّ رأسه وضحك ضحكًا عاليًا، وأطرب بالنغمات، وأنشد هذه الأبيات:

لَيْتَنِي أَبْصَرْتُ هَذَا الْـ
ـوَقْتَ فِي ذِي الْبِئْرِ ذِئْبَا
طَالَمَا قَدْ سَاءَ قَلْبِي
وَسَقَانِي الْمُرَّ غَصْبَا
لَيْتَنِي مِنْ بَعْدِ ذَا أَبْـ
ـقَى وَيَقْضِي الذِّئْبُ نَحْبَا
ثُمَّ يَخْلُو الكَرْمُ مِنْهُ
وَأَرَى لِي فِيهِ نَهْبَا

فلما فرغ من شعره انطلق مسرعًا حتى وصل إلى الذئب، وقال: إن الله سهَّل لك الأمور إلى الكَرْم بلا تعب، وهذا من سعادتك، فهنيئًا لك بما فتح الله عليك، وسهَّل لك من تلك الغنيمة والرزق الواسع بلا مشقة. فقال الذئب للثعلب: وما الدليل على ما وضعت؟ قال: إني انتهيت إلى الكَرْم فوجدت صاحبه قد مات، ودخلت البستان فرأيت الأثمار زاهية على الأشجار. فلم يشكَّ الذئب في قول الثعلب، وأدركه الشره، فقام حتى انتهى إلى الثلمة وقد غرَّه الطمع، ووقف الثعلب متهافتًا كالميت، وتمثَّلَ بهذا البيت:

أَتَطَمْعُ مِنْ لَيْلَى بِوَصْلٍ وَإِنَّمَا
تَضُرُّ بِأَعْنَاقِ الرِّجَالِ الْمَطَامِعُ

فلما انتهى الذئب إلى الثلمة، قال له الثعلب: ادخل إلى الكرم فقد كُفيت مئونة هدم حائط البستان، وعلى الله تمام الإحسان. فأقبل الذئب ماشيًا يريد الدخول إلى الكرم، فلما توسَّط غطاء الثلمة وقع فيها، فاضطرب الثعلب اضطرابًا شديدًا من السرور والفرح، وزال عنه الهم والترح، وأطرب بالنغمات وأنشد هذه الأبيات:

رَقَّ الزَّمَانُ لِحَالَتِي
وَرَثَى لِطُولِ تَحَرُّقِي
وَأَنَالَنِي مَا أَشْتَهِي
وَأَزَالَ مِمَّا أَتَّقِي
فَلَأَصْفَحَنْ عَمَّا جَنَا
هُ مِنَ الذُّنُوبِ السُّبَّقِ
حَتَّى جِنَايَتُهُ بِمَا
فَعَلَ الْمَشِيبُ بِمَفْرَقِي
فَالذِّئْبُ لَيْسَ لَهُ خَلَا
صٌ مِنْ هَلَاكٍ مُوبِقِ
وَالْكَرْمُ لِي وَحْدِي وَمَا
لِي مِنْ شَرِيكٍ أَحْمَقِ

ثم إنه تطلَّع في الحفرة، فرأى الذئب يبكي ندمًا وحزنًا على نفسه، فبكى الثعلب معه، فرفع الذئب رأسه إلى الثعلب وقال له: أمن رحمتك لي بكيت يا أبا الحصين؟ قال: لا، والذي قذفك في هذه الحفرة، إنما بكيت لطول عمرك الماضي، وآسفًا على كونك لم تقع في هذه الثلمة قبل اليوم، ولو وقعت فيها قبل اجتماعي بك لَكنت أرحت واسترحت، ولكن أُبقِيت إلى أجلك المحتوم، ووقتك المعلوم. فقال له الذئب: رُح أيها المسيء في فعله لوالدتي، وأخبرها بما حصل لي، لعلَّها تحتال على خلاصي. فقال له الثعلب: لقد أوقعك في الهلاك شدة طمعك، وكثرة حرصك، حيث سقطت في حفرة لستَ منها بسالم، ألم تعلم أيها الذئب الجاهل أن صاحب المثل يقول: مَن لم يفكِّر في العواقب لم يأمن المعاطب؟ فقال الذئب للثعلب: يا أبا الحصين، إنما كنت تُظهِر محبتي، وترغب في مودتي، وتخاف من شدة قوتي، فلا تحقد عليَّ بما فعلتُ معك، فمَن قدر وعفا كان أجره على الله، وقد قال الشاعر:

ازْرَعْ جَمِيلًا وَلَوْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ
مَا ضَاعَ قَطُّ جَمِيلٌ أَيْنَمَا زُرِعَ
إِنَّ الْجَمِيلَ وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ بِهِ
فَلَيْسَ يَحْصُدُهُ إِلَّا الَّذِي زَرَعَ

فقال له الثعلب: يا أجهل السباع وأحمق الوحوش في البقاع، هل نسيتَ تجبُّرَك وعتوَّك وتكبُّرك؟ وأنت لم ترعَ حقَّ المعاشرة، ولم تنتصح بقول الشاعر:

لَا تَظْلِمَنَّ إِذَا مَا كُنْتَ مُقْتَدِرًا
إِنَّ الظَّلُومَ عَلَى حَدٍّ مِنَ النَّقَمِ
تَنَامُ عَيْنُكَ وَالْمَظْلُومُ مُنْتَبِهٌ
يَدْعُو عَلَيْكَ وَعَيْنُ اللهِ لَمْ تَنَمِ

فقال له الذئب: يا أبا الحصين، لا تؤاخذني بسابق الذنوب، فالعفو من الكرام مطلوب، وصنع المعروف من أحسن الذخائر، وما أحسن قول الشاعر:

بَادِرْ بِخَيْرٍ إِذَا مَا كُنْتَ مُقْتَدِرًا
فَلَيْسَ فِي كُلِّ حِينٍ أَنْتَ مُقْتَدِرَا

وما زال الذئب يتذلل للثعلب ويقول له: لعلك تقدر على شيء تخلِّصني به من الهلاك. فقال له الثعلب: أيها الذئب الماكر المخادع الغادر، لا تطمع في الخلاص، فإن هذا جزاء لقبيح فعلك وقصاص. ثم ضحك بالشدقين وأنشد هذين البيتين:

لَا تُكْثِرَنَّ خِدَاعِي
فَلَنْ تَنَالَ مَنَالَا
مَا رُمْتَ مِنِّي مُحَالٌ
زَرَعْتَ فَاحْصُدْ وَبَالَا

فقال الذئب للثعلب: يا حليم السباع، أنت عندي أوثق من أن تتركني في هذه الحفرة. ثم أفاض دمع العين، وأنشد هذين البيتين:

يَا مَنْ أَيَادِيهِ عِنْدِي غَيْرُ وَاحِدَةٍ
وَمَنْ مَوَاهِبُهُ تَنْمُو عَنِ الْعَدَدِ
مَا نَابَنِي مِنْ زَمَانِي قَطُّ نَائِبَةٌ
إِلَّا وَجَدْتُكَ فِيهَا آخِذًا بِيَدِي

فقال الثعلب: أيها العدو الأحمق، كيف صرت إلى التضرُّع والخشوع، والذلة والخضوع، بعد الأنفة والتكبُّر، والظلم والتجبُّر؟ لقد صحبتك خائفًا من عدوانك، وتملقت لك لا رغبة في إحسانك، والآن نزلت بك الرجفة وحلَّت بك النقمة. وأنشد هذين البيتين:

يَا أَيُّهَا الْمُلْتَمِسُ الْخَدِيعَةْ
وَقَعْتَ فِي نِيَّتِكَ الشَّنِيعَةْ
فَذُقْ وَبَالَ الْمِحْنَةِ الْفَظِيعَةْ
وَكُنْ مَعَ الذِّئَابِ فِي قَطِيعَةْ

فقال له الذئب: أيها الحليم، لا تكن بلسان العداوة ناطقًا وبعينها محدِّقًا، وكن وافيًا بعهد ائتلافي قبل أن يفوت وقت التلاقي، وقم وتسبَّب لي في حبلٍ تشدُّ طرْفَه في شجرة، وتدلِّي طرفه الآخر إليَّ حتى أتعلَّق به، لعلي أنجو مما أنا فيه، وأدفع لك جميع ما حوته يدي من الذخائر. فقال له الثعلب: لقد أكثرتَ من المحاورة فيما ليس فيه خلاصك، فلا ترجُ مني نجاةَ نفسك، واذكر ما سلف من سوء فعلك، وما تُضمِره لي من الغدر والمكر، وأين أنت من الرجم بالحجارة؟ واعلم بأن ذاتك للدنيا مفارقة، ومنها زائلة، وعنها راحلة، ثم تصير إلى الدمار وسوء الدار. فقال له الذئب: يا أبا الحصين، كن قريب الرجوع إلى الوداد، ولا تصرَّ على ضغائن الأحقاد، واعلم أن مَن خلَّص نفسًا من الهلاك فقد أحياها، ومَن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا، ولا تتبع الفساد؛ فإن الحكماء تكرهه، ولا فساد أظهر من كوني في تلك الحفرة أتجرع غصص الموت، وأنظر إلى الهلاك وأنت قادر على خلاصي من الارتباك. فقال له الثعلب: أيها الفظ الغليظ، إني أشبِّهك في حسن علانيتك وقبح نيتك بالباز مع الحَجَل. قال له الذئب: وما حديث الباز والحجل؟ قال الثعلب: دخلتُ يومًا كَرْمًا لآكل من عنبه، فبينما أنا فيه إذ رأيت بازًا انقضَّ على حجل، فلما اقتنصه انفلت منه الحجل ودخل وَكْره واختفى فيه، فتبعه الباز وناداه: أيها الجاهل إني رأيتك في البرية جائعًا فرحمتك، والتقطت لك حبًّا وأمسكتك لتأكل فهربت مني، ولم أعرف لهروبك وجهًا إلا الحرمان، فاظهر وخذ ما آتيتك من الحب فكُلْه هنيًّا مريئًا. فلما سمع الحجل قول الباز صدَّقه وخرج إليه، فأنشب مخالبه فيه ومكَّنها منه. فقال له الحَجَل: أهذا الذي ذكرتَ أنك أتيتني به من البرية وقلت لي كله هنيًّا مريئًا، فكذبتَ عليَّ؟ جعل الله ما تأكله من لحمي في جوفك سمًّا قاتلًا. فلما أكله وقع ريشه، وسقطت قوته، ومات لوقته.

ثم قال له الثعلب: اعلم أيها الذئب أن مَن حفر لأخيه قليبًا وقع فيه قريبًا، وأنت غدرتَ بي أولًا. فقال الذئب للثعلب: دعني من هذا المقال وضرب الأمثال، ولا تذكر لي ما سلف مني من قبيح الفعال، يكفيني ما أنا فيه من سوء الحال؛ حيث وقعت في ورطة يرثي لي منها العدو فضلًا عن الصديق، وانظر لي حيلة أتخلَّص بها، وكن فيها غياثي، وإن كان عليك في ذلك مشقة، فقد يحتمل الصديق لصديقه أشد النصب، ويقاسي فيما فيه نجاته العطب، وقد قيل: إن الصديق الشفيق خير من الأخ الشقيق، وإن تسببتَ في نجاتي لَأجمعن لك من الآلة ما يكون لك عدة، ثم لَأعلمنك من الحِيَل الغريبة ما تفتح به الكروم الخصبة، وتجني الأشجار المثمرة، فطِبْ نفسًا وقرَّ عينًا. فقال له الثعلب وهو يضحك: ما أحسن ما قالته العلماء في كثير الجهل مثلك! قال الذئب: وما قالت العلماء؟ قال الثعلب: ذكر العلماء أن الغليظ الجثة، الغليظ الطبع، يكون بعيدًا من العقل قريبًا من الجهل؛ لأن قولك أيها الماكر الأحمق «قد يتحمَّل الصديقُ المشقةَ في تخليص صديقه»؛ صحيحٌ كما ذكرتَ، ولكن عرِّفني بجهلك وقلة عقلك كيف أصادقك مع خيانتك؟ أحسبتني لك صديقًا وأنا لك عدو شامت؟ وهذا الكلام أشد من رشق السهام إن كنت تعقل. وأما قولك إنك تعطيني من الآلات ما يكون عدة لي، وتعلمني من الحِيَل ما أصل به إلى الكروم المخصبة، وأجتني به الأشجار المثمرة، فما لك أيها المخادع الغادر لا تعرف لك حيلة تتخلص بها من الهلاك؟ فما أبعدك من المنفعة لنفسك، وما أبعدني من القبول لنصيحتك! فإن كان عندك حِيَلٌ فتحيَّلْ لنفسك في الخلاص من هذا الأمر، الذي أسأل الله أن يبعد خلاصك منه، فانظر أيها الجاهل إن كان عندك حيلة، فخلص نفسك بها من القتل قبل أن تبذل التعليم لغيرك، ولكنك مثل إنسان حصل له مرض فأتاه رجل مريض بمثل مرضه ليداويه، فقال له: هل لك أن أداويك من مرضك؟ فقال له الرجل: هلَّا بدأتَ بنفسك في المداواة! فتركه وانصرف. وأنت أيها الذئب كذلك، فالزم مكانك، واصبر على ما أصابك.

فلما سمع الذئب كلام الثعلب علم أنه لا خير له عنده، فبكى على نفسه وقال: قد كنت في غفلة من أمري، فإن خلَّصني الله من هذا الكرب لأتوبنَّ من تجبُّري على مَن هو أضعف مني، ولَألبسنَّ الصوف، ولأصعدنَّ الجبلَ ذاكرًا الله تعالى، خائفًا من عقابه، وأعتزل سائرَ الوحوش، ولأُطعِمنَّ المجاهدين والفقراء. ثم بكى وانتحب، فرَقَّ له قلب الثعلب، وكأنه لما سمع تضرُّعه، والكلام الذي يدل على توبته من العتو والتكبُّر، أخذته الشفقة عليه، فوثب من فرحته، ووقف على شفير الحفرة، ثم جلس على رجليه وأدلى ذَنَبه في الحفرة، فعند ذلك قام الذئب ومدَّ يده إلى ذَنَب الثعلب وجذبه إليه، فصار في الحفرة معه، ثم قال له الذئب: أيها الثعلب القليل الرحمة، كيف تشمت بي وقد كنتَ صاحبي وتحت قهري؟ وقد وقعت معي في الحفرة، وتعجلت لك العقوبة، وقد قالت الحكماء: لو عايَرَ أحدكم أخاه برضاع كلبة لارتضعها. وما أحسن قول الشاعر:

إِذَا مَا الدَّهْرُ جَرَّ عَلَى أُنَاسٍ
كَلَاكِلَهُ أَنَاخَ بِآخَرِينَا
فَقُلْ لِلشَّامِتِينَ بِنَا: أَفِيقُوا
سَيَلْقَى الشَّامِتُونَ كَمَا لَقِينَا

ثم قال الذئب للثعلب: فلا بد أن أعجِّل قتلك قبل أن ترى قتلي. فقال الثعلب في نفسه: إني وقعت مع هذا الجبار، وهذا الحال يحتاج إلى المكر والخداع، وقد قيل: إن المرأة تصوغ حليها ليوم الزينة. وفي المثل: ما ادَّخرتُكِ يا دمعتي إلا لشدَّتي. وإن لم أتحيَّل في أمر هذا الوحش الظالم هلكتُ لا محالةَ، وما أحسن قول الشاعر:

عِشْ بِالْخِدَاعِ فَأَنْتَ فِي
زَمَنٍ بَنُوهُ كَأُسْدِ بِيشَهْ
وَأَدِرْ قَنَاةَ الْمُكْرِ حَتَّى
تَسْتَدِيرَ رَحَى الْمَعِيشَهْ
وَاجْنِ الثِّمَارَ فَإِنْ تَفُتْكَ
فَرَضِّ نَفْسَكَ بِالْحَشِيشَهْ

ثم إن الثعلب قال للذئب: لا تعجل عليَّ بالقتل فتندم أيها الوحش الصنديد، صاحب القوة والبأس الشديد، وإن تمهلت وأمعنت النظر فيما أحكيه لك عرفتَ قصدي الذي قصدته، وإن عجَّلتَ بقتلي فلا فائدةَ لك فيه، ونموت جميعًا ها هنا. فقال له الذئب: أيها الخادع الماكر، وما الذي ترجوه من سلامتي وسلامتك حتى تسألني التمهُّلَ عليك؟ فأخبرني بقصدك الذي قصدته. فقال له الثعلب: أما قصدي الذي قصدته فما ينبغي أن تحسن عليه مجازاتي؛ لأني سمعت ما وعدت من نفسك، واعترافك بما سلف منك، وتلهُّفك على ما فاتك من التوبة وفعل الخير، وسمعت ما نذرته على نفسك من كفِّ الأذى عن الأصحاب وغيرهم، وتركك أكل العنب وسائر الفواكه، ولزومك الخشوع، وتقليم أظفارك، وتكسير أنيابك، وأن تلبس الصوف، وتقرب القربان لله تعالى إنْ نجَّاك مما أنت فيه؛ أخذتني الشفقة عليك، مع أنني كنت على هلاكك حريصًا، فلما سمعت منك توبتك وما نذرته على نفسك إن نجاك الله لزمني خلاصك مما أنت فيه، فأدليت إليك ذَنَبي لكيما تتعلق به وتنجو، فلم تترك الحالة التي أنت عليها من العنف والشدة، ولم تلتمس النجاة والسلامة لنفسك بالرفق، بل جذبتني جذبةً ظننتُ منها أن روحي قد خرجت، فصرت أنا وأنت في منزلة الهلاك والموت، وما ينجِّيني أنا وأنت إلا شيء إنْ قبلته مني خلصت أنا وأنت، وبعد ذلك يجب عليك أن تفي بما نذرته، وأكون رفيقك. فقال له الذئب: وما الذي أقبله منك؟ قال له الثعلب: تنهض قائمًا، ثم أعلو أنا فوق رأسك حتى أكون قريبًا من ظاهر الأرض، فإني حين أصير فوقها أخرج وآتيك بما تتعلق به، وتخلص أنت بعد ذلك. فقال له الذئب: لست بقولك واثقًا؛ لأن الحكماء قالوا: مَن استعمل الثقة في موضع الحقد كان مخطئًا. وقيل: مَن وثق بغير ثقة كان مغرورًا، ومَن جرَّب المجرَّب حلَّتْ به الندامة، ومَن لم يفرِّق بين الحالات فيعطي كلَّ حالة حظها، بل حمل الأشياء كلها على حالة واحدة؛ قلَّ حظه، وكثُرت مصائبه، وما أحسن قول الشاعر:

لَا يَكُنْ ظَنُّكَ إِلَّا سَيِّئًا إنَّ
سُوءَ الظَّنِّ مِنْ أَقْوَى الْفِطَنْ
مَا رَمَى الْإِنْسَانَ فِي مَهْلَكَةٍ
مِثْلُ فِعْلِ الْخَيْرِ وَالظَّنُّ الْحَسَنْ

وقول الآخَر:

أَلْزِمْ يَقِينَكَ سُوءَ الظَّنِّ تَنْجُ بِهِ
مَنْ عَاشَ مُسْتَيْقِظًا قَلَّتْ مَصَائِبُهُ
وَالْقَ الْعَدُوَّ بِوَجْهٍ بَاسِمٍ طَلْقٍ
وَانْصُبْ لَهُ فِي الْحَشَى جَيْشًا يُحَارِبُهُ

وقول الآخر:

أَعْدَى عَدُوِّكَ أَدْنَى مَنْ وَثِقْتَ بِهِ
فَحَاذِرِ النَّاسَ وَاصْحَبْهُمْ عَلَى دَخَلِ
وَحُسْنُ ظَنِّكَ بِالْأَيَّامِ مُعْجِزَةٌ
فَظُنَّ شَرًّا وَكُنْ مِنْهَا عَلَى وَجَلِ

فقال له الثعلب: إن سوء الظن ليس محمودًا في كل حال، وحسن الظن من شيم الكمال، وعاقبته النجاة من الأهوال، وينبغي لك أيها الذئب أن تتحيَّل على النجاة مما أنت فيه، ونسلم جميعًا خير من موتنا، فارجع عن سوء الظن والحقد؛ لأنك إن أحسنتَ الظن بي لا أخلو من أحد أمرين؛ إما أن آتيك بما تتعلَّق به وتنجو مما أنت فيه، وإما أن أغدر بك فأخلص وأدعك، وهذا مما لا يمكن؛ فإني لا آمن أن أُبتلَى بشيء مما ابتُلِيتَ به، فيكون ذلك عقوبةَ الغدر، وقد قيل في الأمثال: الوفاء مليح والغدر قبيح. فينبغي أن تثق بي، فإني لم أكن جاهلًا بحوادث الدهر، فلا تؤخر حيلة خلاصنا؛ فالأمر أضيق من أن نطيل فيه الكلام. فقال الذئب: إني مع قلة ثقتي بوفائك قد عرفت ما في خاطرك، من أنك أردت خلاصي لما عرفت توبتي، فقلت في نفسي: إن كان محقًّا فيما زعم فإنه استدرك ما أفسد، وإن كان مبطلًا فجزاؤه على ربه. وها أنا أقبل منك ما أشرتَ به عليَّ، فإن غدرتَ بي كان الغدر سببًا لهلاكك. ثم إن الذئب انتصَبَ قائمًا في الحفرة، وأخذ الثعلب على أكتافه حتى ساوى به ظاهر الأرض، فوثب الثعلب عن أكتاف الذئب حتى صار على وجه الأرض، ووقع مغشيًّا عليه. فقال له الذئب: يا خليلي لا تغفل عن أمري، ولا تؤخر خلاصي. فضحك الثعلب وقهقه وقال: أيها المغرور، لم يوقعني في يدك إلا المزح معك، والسخرية بك، وذلك أني لما سمعت توبتك استخفني الفرح فطربت ورقصت، فتدلى ذَنَبي في الحفرة فجذبتني فوقعت عندك، ثم أنقذني الله تعالى من يدك، فما لي لا أكون عونًا على هلاكك وأنت من حزب الشيطان؟ واعلم أنني رأيت البارحة في منامي أني أرقص في عرسك، فقصصت الرؤيا على مُعبِّرٍ فقال لي: إنك تقع في ورطة وتنجو منها. فعلمت أن وقوعي في يدك ونجاتي هو تأويل رؤياي، وأنت تعلم أيها المغرور الجاهل أني عدوك، فكيف تطمع بقلة عقلك وجهلك في إنقاذي إياك مع ما سمعت من غلظ كلامي؟ وكيف أسعى في نجاتك وقد قالت العلماء: إن في موت الفاجر راحة للناس، وتطهيرًا للأرض؟ ولولا مخافة أن أحتمل من الألم في الوفاء لك ما هو أعظم من ألم الغدر؛ لتدبَّرت في خلاصك. فلما سمع الذئب كلام الثعلب، عضَّ على كفِّه ندمًا. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤