فلما كانت الليلة ١٥٦

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أبا الحسن ودَّعه، فقال له علي بن بكار: يا أخي، لا تقطع عني الأخبار. فقال: سمعًا وطاعة. ثم إن أبا الحسن قام من عنده، وأتى دكانه وفتحها، وصار يرتقب خبرًا من الصبية فلم يأته أحدٌ بخبر، فبات تلك الليلة في داره، فلما أصبح الصباح، قام إلى أن أتى دار علي بن بكار ودخل عليه، فوجده ملقًى على فراشه، وأصحابه حوله، والحكماء عنده، وكل واحد يصف له شيئًا ويجسُّون يده، فلما دخل أبو الحسن ورآه، تبسَّمَ، ثم إن أبا الحسن سلَّم عليه وسأله عن حاله وجلس عنده حتى خرج الناس، فقال له: ما هذه الحال؟ فقال علي بن بكار: قد شاع خبري أني مريض وتسامع بذلك أصحابي، وليس لي قوة أستعين بها على القيام والمشي حتى أكذِّب مَن جعلني ضعيفًا، ولم أزل ملقًى مكاني كما تراني، وقد أتى أصحابي إلى زيارتي. يا أخي، هل رأيت الجارية أو سمعت بخبر من عندها؟ فقال: ما جاءتني من يوم فارقتنا على شاطئ الدجلة. ثم قال أبو الحسن: يا أخي، احذر الفضيحة وتجنَّبْ هذا البكاء. فقال علي بن بكار: يا أخي، لا أملك نفسي. ثم صعَّد الزفرات، وأنشد هذه الأبيات:

نَالَتْ عَلَى يَدِهَا مَا لَمْ تَنَلْهُ يَدِي
نَقْشٌ عَلَى مِعْصَمٍ أَوْهَتْ بِهِ جَلَدِي
خَافَتْ عَلَى يَدِهَا مِنْ نَبْلِ مُقْلَتِهَا
فَأَلْبَسَتْ يَدَهَا دِرْعًا مِنَ الزَّرَدِ
جَسَّ الطَّبِيبُ يَدِي جَهْلًا فَقُلْتُ لَهُ
إِنَّ التَّأَلُّمَ فِي قَلْبِي فَخَلِّ يَدِي
قَالَتْ لِطَيْفِ خَيَالٍ زَارَنِي وَمَضَى
بِاللهِ صِفْهُ وَلَا تَنْقِصْ وَلَا تَزِدِ
فَقَالَ خَلَّفْتُهُ لَوْ مَاتَ مِنْ ظَمَأٍ
وَقُلْتُ قِفْ عَنْ وُرُودِ الْمَاءِ لَمْ يَرِدِ
فَاسْتَمْطَرَتْ لُؤْلُؤًا مِنْ نَرْجَسٍ وَسَقَتْ
وَرْدًا وَعَضَّتْ عَلَى الْعُنَّابِ بِالْبَرَدِ

فلما فرغ من شعره قال: قد بُلِيت بمصيبة كنتُ في أمن منها، وليس لي أعظم راحة من الموت. فقال له أبو الحسن: اصبر لعل الله يشفيك. ثم نزل أبو الحسن من عنده وتوجَّه إلى دكانه وفتحها، فما جلس غير قليل حتى أقبلت إليه الجارية وسلَّمت، فردَّ عليها السلام، ونظر إليها فوجدها خافقة القلب يظهر عليها أثر الكآبة، فقال لها: أهلًا وسهلًا، كيف حال شمس النهار؟ فقالت: سوف أخبرك بحالها، كيف حال علي بن بكار؟ فأخبرها أبو الحسن بجميع ما كان من أمره، فتأسَّفَتْ وتأوَّهَتْ وتعجَّبَتْ من ذلك الأمر، ثم قالت: إن حال سيدتي أعجب من ذلك، فإنكما لما توجَّهْتُما، رجعت وقلبي يخفق عليكما، وما صدقت بنجاتكما، فلما رجعتُ وجدتُ سيدتي مطروحة في القبة لا تتكلم ولا تردُّ على أحد، وأمير المؤمنين جالس عند رأسها لا يجد مَن يخبره بخبرها، ولم يعلم ما بها، ولم تزل في غشيتها إلى نصف الليل، ثم أفاقت، فقال لها أمير المؤمنين: ما الذي أصابك يا شمس النهار؟ وما الذي اعتراكِ في هذه الليلة؟ فلما سمعت شمس النهار كلام الخليفة قبَّلت أقدامه، وقالت له: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك، إنه خامرني خلط فأضرم النار في جسدي فوقعت مغشيًّا عليَّ من شدة ما بي، ولا أعلم كيف كانت حالي. فقال لها الخليفة: ما الذي استعملته في نهارك؟ قالت: أفطرت على شيء لم آكله قطُّ. ثم أظهرَتِ القوة، واستدعت بشيء من الشراب فشربته، وسألت أمير المؤمنين أن يعود إلى انشراحه، فعاد إلى الجلوس في القبة، فلما جئت إليها سألتني عن أحوالكما، فأخبرتها بما فعلت معكما، وأخبرتها بما أنشده علي بن بكار فسكتت، ثم إن أمير المؤمنين جلس وأمر الجارية بالغناء، فأنشدت هذين البيتين:

وَلَمْ يَصْفُ لِي شَيْءٌ مِنَ الْعَيْشِ بَعْدَكُمُ
فَيَا لَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ حَالُكُمُ بَعْدِي
يَحِقُّ لِدَمْعِي أَنْ يَكُونَ مِنَ الدِّمَا
إِذَا كُنْتُمُ تَبْكُونَ دَمْعًا عَلَى بُعْدِي

فلما سمعَتْ هذا الشعر وقعت مغشيًّا عليها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤