فلما كانت الليلة ١٦٢

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن شمس النهار قالت للجوهري: لا تحصل راحة إلا بعد تعب، ولا يظهر نجاح إلا من ذوي مروءة، وقد أَطْلَعتك الآن على أمرنا، وصار بيدك هتكنا وسترنا، ولا زيادة لما أنت عليه من المروءة، فأنت قد علمت أن جاريتي هذه كاتمة لسري، وبسبب ذلك لها رتبة عظيمة عندي، وقد اختصصتُها لمهمات أموري، فلا يكن عندك أعز منها، وأطلِعْها على أمرك، وطِبْ نفسًا فأنت آمِن ممَّا تخافه من جهتنا، وما يسدُّ عليك موضع إلا وتفتحه لك، وهي تأتيك من عندي بأخبار علي بن بكار، وتكون أنت الواسطة في التبليغ بيني وبينه. ثم إن شمس النهار قامت وهي لا تستطيع القيام، ومشت فتمشى بين يديها الجوهري حتى وصلت إلى باب الدار، ثم رجع وقعد في موضعه بعد أن نظر من حسنها ما بهره، وسمع من كلامها ما حيَّر عقله، وشاهد من ظُرفها وأدبها ما أدهشه، ثم استمر يتفكر في شمائلها حتى سكنت نفسه، وطلب الطعام فأكل ما يمسك رمقه، ثم غيَّرَ ثيابه وخرج من داره، وتوجَّه إلى علي بن بكار، فلاقاه غلمانه، ومشوا بين يديه إلى أن أوصلوه إلى سيدهم، فوجده ملقًى على فراشه، فلما رأى الجوهري قال له: أبطأت عليَّ فزدتني همًّا على همي. ثم صرف غلمانه وأمر بغلق أبوابه وقال له: والله ما غمضت عيني من يوم فارقتني، فإن الجارية جاءتني بالأمس ومعها رقعة مختومة من عند سيدتها شمس النهار. وحكى له ابن بكار على جميع ما وقع له معها، ثم قال: لقد تحيَّرت في أمري، وقلَّ صبري، وكان لي أبو الحسن أنيسًا؛ لأنه يعرف الجارية. فلما سمع الجوهري كلام ابن بكار ضحك، فقال له ابن بكار: كيف تضحك من كلامي، وقد استبشرت بك واتَّخذتك عدةً للنائبات؟ ثم بكى، وأنشد هذه الأبيات:

وَضَاحِكٍ مِنْ بُكَائِي حِينَ أَبْصَرَنِي
لَوْ كَانَ قَاسَى الَّذِي قَاسَيْتُ أَبْكَاهُ
لَمْ يَرْثِ لِلْمُبْتَلَى مِمَّا يُكَابِدُهُ
إِلَّا شَجٍ مِثْلُهُ قَدْ طَالَ بَلْوَاهُ
وَجْدِي حَنِينِي أَنِينِي فِكْرَتِي وَلَهِي
إِلَى حَبِيبٍ زَوَايَا الْقَلْبِ مَأْوَاهُ
حَلَّ الْفُؤَادَ مُقِيمًا لَا يُفَارِقُهُ
وَقْتًا وَلَكِنَّهُ قَدْ عَزَّ لُقْيَاهُ
مَا لِي سِوَاهُ خَلِيلٌ أَرْتَضِي بَدَلًا
وَمَا اصْطَفَيْتُ حَبِيبًا قَطُّ إِلَّاهُ

فلما سمع الجوهري منه هذا الكلام، وفهم الشعر والنظام، بكى لبكائه، وأخبره بما جرى له مع الجارية من حين فارقه، فصار ابن بكار يصغي إلى كلامه، وكلما سمع منه كلمة يتغيَّر لون وجهه من صفرة إلى احمرار، ويقوى جسمه مرةً ويضعف أخرى، فلما انتهى إلى آخِر الكلام بكى ابن بكار، وقال له: يا أخي، أنا على كل حال هالك، فليت أجلي قريب! وأسألك من فضلك أن تكون ملاطفي في جميع أموري إلى أن يريد الله بما يريد، وأنا لا أخالف لك قولًا. فقال له الجوهري: لا يطفئ عنك هذه النار إلا الاجتماع بمَن شغفتَ بها، ولكن في غير هذا المكان الخطير، وإنما يكون ذلك عندي في بيت جنب بيتي، جاءتني إليه الجارية هي وسيدتها، وهو الموضع الذي اختارته لنفسها، والمقصود اجتماعكما ببعضكما، وفيه تشكوان لبعضكما ما قاسيتما. فقال علي بن بكار: افعل ما تريد، والذي تراه هو الصواب. قال الجوهري: فأقمتُ عنده تلك الليلة أسامره إلى أن أصبح الصباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤