فلما كانت الليلة ١٦٨

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية قالت للجوهري: إن سيدتي لم يكن عندها أحفظ لكتمان السر مني، فتوجه يا سيدي إلى علي بن بكار سريعًا، وأخبره بذلك؛ لأجل أن يكون على أهبة، فإذا انكشف الأمر نتدبر في شيء نفعله لنجاة أنفسنا. قال الجوهري: فأخذني من ذلك همٌّ عظيم، وصار الكون في وجهي ظلامًا من كلام الجارية، وهمَّت الجارية بالانصراف، فقلت لها: وما الرأي؟ فقالت لي: الرأي أن تبادر إلى علي بن بكار إنْ كان صديقك وتريد له النجاة، وأنت عليك تبليغ هذا الخبر له بسرعة، وأنا عليَّ أن أتقيد باستنشاق الأخبار. ثم ودعتني وخرجت. فلما خرجت الجارية قمت وخرجت في إثرها، وتوجَّهت إلى علي بن بكار فوجدته يحدِّث نفسه بالوصال، ويعلِّلها بالمحال، فلما رآني رجعت إليه عاجلًا قال لي: إني أراك رجعت إليَّ في الحال. فقلت له: أقصر من التعلق المطال، ودَعْ ما أنت فيه من الاشتغال، فقد حدث حادث يفضي إلى تلف نفسك ومالك. فلما سمع هذا الكلام تغيَّر حاله، وانزعج وقال للجوهري: يا أخي، أخبرني بما وقع. فقال له الجوهري: يا سيدي، اعلم أنه قد جرى ما هو كذا وكذا، وأنك إن أقمت في دارك هذه إلى آخر النهار فأنت تالف ولا محالة. فبُهت علي بن بكار، وكادت روحه أن تفارق جسده، ثم استرجع بعد ذلك، وقال له: ماذا أفعل يا أخي، وما عندك من الرأي؟ قال الجوهري: فقلت له: الرأي أن تأخذ معك من مالك ما تقدر عليه، ومن غلمانك مَن تثق به، وأن تمضي بنا إلى ديار غير هذه قبل أن ينقضي هذا النهار. فقال لي: سمعًا وطاعة.

ثم وثب وهو متحيِّر في أمره، فتارةً يمشي وتارةً يقع، وأخذ ما قدر عليه واعتذر إلى أهله وأوصاهم بمقصوده، وأخذ معه ثلاثة جمال محملة وركب دابته، وقد فعلت أنا كما فعل، ثم خرجنا خفية وسرنا، ولم نزل سائرين باقي يومنا وليلتنا، فلما كان آخر الليل حططنا حمولنا، وعَقَلنا جمالنا ونمنا، فحلَّ علينا التعب، وغفلنا عن أنفسنا، وإذا باللصوص أحاطوا بنا، وأخذوا جميع ما كان معنا، وقتلوا الغلمان لما أرادوا أن يمنعوا عنَّا، ثم تركونا مكاننا، ونحن في أقبح حال بعد أن أخذوا المال وساروا، فلما قمنا مشينا إلى أن أصبح الصباح، فوصلنا إلى بلد فدخلناه وقصدنا مسجده ونحن عرايا، وجلسنا في جنب المسجد باقي يومنا، فلما جاء الليل بتنا في المسجد تلك الليلة، ونحن من غير أكل ولا شرب، فلما أصبح الصباح صلينا الصبح وجلسنا، وإذا برجل داخل فسلم علينا، وصلى ركعتين ثم التفت إلينا وقال: يا جماعة، هل أنتم غرباء؟ قلنا: نعم، وقطع اللصوص علينا الطريق وعرَّونا، ودخلنا هذا البلد ولا نعرف فيه أحدًا نأوي عنده. فقال لنا الرجل: هل لكم أن تقوموا معي إلى داري؟ قال الجوهري: فقلت لعلي بن بكار: قم بنا معه فننجو من أمرين؛ الأول: أننا نخشى أن يدخل علينا أحد يعرفنا في هذا المسجد فنفتضح، والثاني: أننا ناس غرباء، وليس لنا مكان نأوي إليه. فقال علي بن بكار: افعل ما تريد. ثم إن الرجل قال لنا ثاني مرة: يا فقراء أطيعوني وسيروا معي إلى مكاني. قال الجوهري: فقلت له: سمعًا وطاعة.

ثم إن الرجل خلع لنا شيئًا من ثيابه وألبسنا ولاطفنا، فقمنا معه إلى داره فطرق الباب فخرج إلينا خادم صغير وفتح الباب، فدخل الرجل صاحب المنزل ودخلنا خلفه، ثم إن الرجل أمر بإحضار بقجة فيها أثواب وشاشات، فألبسنا حلَّتين وأعطانا شاشين، فتعمَّمنا وجلسنا، وإذا بجارية أقبلت إلينا بمائدة، ووضعتها بين أيدينا فأكلنا شيئًا يسيرًا، ورفعت المائدة، ثم أقمنا عنده إلى أن دخل الليل فتأوَّه علي بن بكار، وقال للجوهري: يا أخي، اعلم أنني هالك لا محالة، وأريد أن أوصيك وصية، وهي أنك إذا رأيتني مت تذهب إلى والدتي، وتخبرها أن تأتي إلى هذا المكان؛ لأجل أن تأخذ عزائي، وتحضر غسلي، وأوصها أن تكون صابرة على فراقي. ثم وقع مغشيًّا عليه، فلما أفاق سمع جارية تغني من بعيد وتنشد الأشعار، فصار يصغي إليها ويسمع صوتها، وهو تارةً يسكر، وتارةً يصحو، وتارةً يبكي شجنًا وحزنًا مما أصابه، فسمع الجارية تطرب بالنغمات، وتنشد هذه الأبيات:

عَجَّلَ الْبَيْنُ بَيْنَنَا بِالْفِرَاقِ
بَعْدَ إِلْفٍ وَجِيرَةٍ وَاتِّفَاقِ
فَرَّقَتْ بَيْنَنَا صُرُوفُ اللَّيَالِي
لَيْتَ شِعْرِي مَتَى يَكُونُ التَّلَاقِي
مَا أَمَرَّ الْفِرَاقَ بَعْدَ اجْتِمَاعٍ
لَيْتَهُ مَا أَضَرَّ بِالْعُشَّاقِ
غَصَّةُ الْمَوْتِ سَاعَةً ثُمَّ تَقْضِي
وَفِرَاقُ الْحَبِيبِ فِي الْقَلْبِ بَاقِ
لَوْ وَجَدْنَا إِلَى الْفِرَاقِ سَبِيلًا
لَأَذَقْنَا الْفِرَاقَ طَعْمَ الْفِرَاقِ

فلما سمع ابن بكار الجارية شهق شهقة ففارقت روحه جسده، قال الجوهري: فلما رأيته مات أوصيت عليه صاحب الدار، وقلت له: اعلم أنني متوجه إلى بغداد لأخبر والدته وأقاربه حتى يأتوا ليجهِّزوه. ثم إني توجهت إلى بغداد ودخلت داري وغيَّرت ثيابي، وبعد ذلك ذهبت إلى دار علي بن بكار، فلما رآني غلمانه أتوا إليَّ وسألوني عنه، وسألتهم أن يستأذنوا والدته في الدخول عليها، فأذنت لي بالدخول، فدخلت وسلمت عليها، وقلت: إن الله إذا قضى أمرًا لا مفر من قضائه، وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابًا مؤجلًا. فتوهَّمَتْ أمُّ علي بن بكار من هذا الكلام أن ابنها قد مات، فبكت بكاءً شديدًا، ثم قالت: بالله عليك أن تخبرني، هل توفي ولدي؟ فلم أقدر أن أرد عليها جوابًا من كثرة الجزع، فلما رأتني على تلك الحالة انخنقت بالبكاء، ثم وقعت على الأرض مغشيًّا عليها، فلما أفاقت من غشيتها قالت: ما كان من أمر ولدي؟ فقلت لها: أعظم الله أجرك فيه. ثم إني حدثتها بما كان من أمره من المبتدأ إلى المنتهى، قالت: هل أوصاك بشيء؟ فقلت لها: نعم. وأخبرتها بما أوصاني به، وقلت لها: أسرعي في تجهيزه. فلما سمعت أم علي بن بكار كلامي سقطت مغشيًّا عليها، فلما أفاقت عزمت على ما أوصيتها به. ثم إني رجعت إلى داري، وصرت في الطريق أتفكر في حسن شبابه؛ فبينما أنا كذلك، وإذا بامرأة قد قبضت على يدي. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤